الإكتفا - ج ١

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ١

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبدالقادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2943-0
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

غسان وانتفائهم من المضرية. واليد التي ذكر هذا الشاعر أنها ترتبت عليه لأبى لهب : وذكر ابن إسحاق أنه كان أخذ بغرم أربعة آلاف درهم بمكة ، فوقف بها ، فمر به أبو لهب فافتكه.

ونسب الزبير هذا الشعر لحذافة بن غانم ، ودليله قوله فيه :

«أخارج إما أهلكن» ... البيت.

فإن خارجة هو ابن حذافة وحذيفة الذي نسب ابن إسحاق إليه الشعر هو أخو حذافة ، ولا يعرف له ابن يسمى خارجة ، وإنما هو والد أبى جهم بن حذيفة ، واسم أبى جهم عبيد (١) ، وهو الذي بعث إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخميصة ذات الأعلام التي ألهته عن صلاته ، وأمر أن يؤتى بأنبجانية.

ولما هلك عبد المطلب ، ولى زمزم والسقاية عليها ابنه العباس وهو يومئذ من أحدث إخوته سنا ، فلم تزل إليه حتى قام الإسلام وهى بيده ، فأقرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما مضى من ولايته ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجله إجلال الولد الوالد.

يقول كريب مولى ابن عباس : وما ينبغى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجل إلا والدا أو عما ، فضيلة خص الله بها العباس دون من سواه. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احفظونى فى عمى عباس ، فإن عم الرجل صنو أبيه» (٢).

وطلع يوما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «هذا العباس أجود قريش كفّا وأوصلها»(٣). ولم يزل العباس سيدا فى الجاهلية والإسلام ، يمنع الجار ويبذل المال ويعطى فى النوائب.

قال الزبير : وكان يقال : كان للعباس بن عبد المطلب ثوب لعارى بنى هاشم ، وجفنة

__________________

(١) هو : أبو جهم بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عبيد بن عويج بن عدى بن كعب القرشى العدوى ، قيل : اسمه عامر بن حذيفة ، وقيل : عبيد الله بن حذيفة.

انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٩٢٩) ، الإصابة الترجمة رقم (٩٧٠٣) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٥٧٨٠).

(٢) أخرجه الطبرانى فى الصغير (١ / ٢٠٧) ، الخطيب البغدادى فى التاريخ (١٠ / ٦٨) ، الهيثمى فى المجمع (٩ / ٢٦٩) ، المتقى الهندى فى الكنز (٣٣٣٨٩ ، ٣٣٣٩٥ ، ٣٣٣٩٦ ، ٣٣٤١١) ، ابن عدى فى الضعفاء (٢ / ٧٦٨).

(٣) أخرجه ابن كثير فى البداية والنهاية (٧ / ١٦١) ، السيوطى فى اللآلئ المصنوعة (١ / ٢٢٣) ، الحاكم فى المستدرك (٣ / ٣٢٨ ، ٣٢٩).

١٢١

لجائعهم ، ومقطرة لجاهلهم. والمقطرة : خشبة ذات سلسلة يحبس فيها الناس. وفى ذلك يقول إبراهيم بن على بن هرمة :

وكانت لعباس ثلاث نعدها

إذا ما جناب الحى أصبح أشهبا

فسلسلة تنهى الظلوم وجفنة

تناخ فيكسوها السنام المرغبا

وحلمة عصب ما تزال معدة

لعار ضريك ثوبه قد تهدبا

وقال ابن شهاب : لقد جاء الله بالإسلام وإن جفنة العباس لتدور على فقراء بنى هاشم ، وإن قيده وسوطه لمعد لسفهائهم. قال : فكان ابن عمر يقول : هذا والله الشرف ، يطعم الجائع ويؤدب السفيه!.

وكان أبو بكر وعمر فى ولايتهما لا يلقى العباس واحد منهما وهو راكب إلا نزل عن دابته وقادها ومشى مع العباس حتى يبلغ منزله أو مجلسه فيفارقه. وبقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد مهلك جده عبد المطلب مع عمه أبى طالب. وكان عبد المطلب يوصيه به فيما يزعمون.

وذلك أن عبد الله أبا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا طالب أخوان لأب وأم ، فكان أبو طالب هو الذي يلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد جده ، فكان إليه ومعه (١).

وذكر الواقدى أن أبا طالب كان مقلا من المال ، وكانت له قطعة من الإبل تكون بعرنة ، فيبدو إليها فيكون فيها ، ويؤتى بلبنها إذا كان حاضرا بمكة.

فكان عيال أبى طالب إذا أكلوا جميعا وفرادى لم يشبعوا ، وإذا أكل معهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شبعوا. فكان أبو طالب إذا أراد أن يعشيهم أو يغديهم يقول : كما أنتم حتى يأتى ابنى.

فيأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيأكل معهم فيفضلون من طعامهم ؛ وإن كان لبنا شرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولهم ، ثم يناول العيال القعب فيشربون منه فيروون من عند آخرهم من القعب الواحد ، وإن كان أحدهم ليشرب قعبا!. فيقول أبو طالب : إنك لمبارك!. وكان الصبيان يصبحون شعثا رمضا ويصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دهينا كحيلا.

وقالت أم أيمن (٢) ، وكانت تحضنه : ما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شكا جوعا قط ولا

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ١٥٩).

(٢) هى : بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان ، غلبت عليها كنيتها. انظر ترجمتها فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٣٢٨٧) ، الإصابة الترجمة رقم (١٠٩٢١).

١٢٢

عطشا ، وكان يغدو إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربة ، فربما عرضنا عليه الغذاء فيقول : لا أريده أنا شبعان.

قال ابن إسحاق (١) : ثم إن أبا طالب خرج فى ركب تاجرا إلى الشام ، فلما تهيأ للرحيل صب به (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يزعمون ، فرق له أبو طالب وقال : والله لأخرجن به معى ولا يفارقنى ولا أفارقه أبدا أو كما قال.

فخرج به معه ، فلما نزل الركب بصرى (٣) من أرض الشام ، وبها راهب يقال له بحيرى فى صومعة له ، وكان إليه علم أهل النصرانية ، ولم يزل فى تلك الصومعة منذ قط راهب إليه يصير علمهم عن كتاب فيها فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر.

فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم ، حتى كان ذلك العام ، فلما نزلوا به قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا ، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو فى صومعته ، يزعمون أنه رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الركب حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم ، ثم أقبلوا فنزلوا فى ظل شجرة قريبا منه ، فنظر إلى الغمامة حتى أظلت الشجرة وتهصرت (٤) أغصان الشجرة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى استظل تحتها ، فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع ، ثم أرسل إليهم فقال : إنى قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش وأحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبدكم وحركم. فقال له رجل منهم : والله يا بحيرى إن لك اليوم لشأنا! ما كنت تصنع هذا بنا ، وقد كنا نمر بك كثيرا ، فما شأنك اليوم؟.

قال له بحيرى : صدقت ، قد كان ما تقول ، ولكنكم ضيف ، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلوا منه كلكم. فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين القوم لحداثة سنه فى رحال القوم ، فلما نظر بحيرى فى القوم لم ير الصفة التي يعرف

__________________

(١) هذه قصة بحيرى ، وقد ذكرها ابن إسحاق فى السيرة (١ / ١٦٠ ـ ١٦٢).

(٢) صب به : الصبابة الشوق ، وقيل : رقته وحرارته ، وقيل : رقة الهواء ، وصب الرجل إذا عشق يصب صبابا. انظر : اللسان (مادة صبب).

(٣) بصرى : موضع بالشام من أعمال دمشق وهى قصبة كورة حوران مشهورة عند العرب. انظر : معجم البلدان (١ / ٤٤١).

(٤) تهصرت : قال الجوهرى : هصرت الفض بالكسر إذا أخذت برأسه فأملته إليك ، وتهصرت أغصان الشجر أى تهدلت عليه. انظر : اللسان (مادة هصر).

١٢٣

ويجد عنده ، فقال : يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامى.

فقالوا له : يا بحيرى ما تخلف عنك أحد ينبغى له أن يأتيك إلا غلام ، وهو أحدث القوم سنا ، فتخلف فى رحالهم. فقال : لا تفعلوا ، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم. فقال رجل من قريش : واللات والعزى ، إن كان للؤما بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا. ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم.

فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته ، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرى فقال : يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتنى عما أسألك عنه. وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما. فزعموا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تسألنى باللات والعزى شيئا ، فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما». فقال له بحيرى : فبالله إلا ما أخبرتنى عما أسألك عنه. قال له : سلنى عما بدا لك.

فجعل يسأله عن أشياء من حاله فى نومه وهيئته وأموره ، ويخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته وأموره ويخبره. ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده. فلما فرغ أقبل على عمه أبى طالب ، فقال : ما هذا الغلام منك؟ قال : ابنى ، قال : ما هو بابنك ، وما ينبغى لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا ، قال : فإنه ابن أخى. قال : فما فعل أبوه؟ قال : مات وأمه حبلى به.

قال : صدقت ، فارجع بابن أخيك إلى بلده ، واحذر عليه يهود ، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا ، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم ، فأسرع به إلى بلاده (١).

فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام. فزعموا أن نفرا من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رأى بحيرى فى ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبى طالب ، فأرادوه فردهم عنه بحيرى ، وذكرهم الله

__________________

(١) ذكر قصة بحيرى : الترمذى فى السنن (٣٦٢٠) ، ابن أبى شيبة فى المصنف (١١ / ٤٧٩ ، ١٤ / ٢٨٦) ، أبو نعيم فى الدلائل (١٢٩) ، الحاكم فى المستدرك (٢ / ٦١٦) ، ابن حجر فى الفتح (٨ / ٥٨٧) ، ابن هشام فى السيرة (١ / ١٦٠) ، ابن سعد فى الطبقات (١ / ١٢٠) ، الطبرى فى التاريخ (٢ / ٢٧٧) ، ابن عساكر فى تاريخ دمشق (١ ، ١٠) ، السهيلى فى الروض الأنف (١ / ٢٠٥ ـ ٢٠٨).

١٢٤

وما يجدون فى الكتاب من ذكره وصفاته ، وأنهم إن أجمعوا إلى ما أرادوا لم يخلصوا إليه ، حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال ، فتركوه وانصرفوا عنه.

فشب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكلؤه الله ويحفظه ، ويحوطه من أقذار الجاهلية لما يريد به من كرامته ورسالته. حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة ، وأحسنهم خلقا ، وأكرمهم حسبا ، وأحسنهم جوارا ، وأعظمهم حلما ، وأصدقهم حديثا وأعظمهم أمانة ، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال ، تنزها وتكرما. حتى ما اسمه فى قومه إلا الأمين ، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة.

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحدث عما كان الله يحفظه به فى صغره وأمر جاهليته ، أنه قال : لقد رأيتنى فى غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان ، كلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليها الحجارة ، فإنى لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمنى لاكم ما أراه لكمة وجيعة ، ثم قال : شد عليك إزارك. قال : فأخذته فشددته على ، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتى وإزارى على من بين أصحابى (١). وذكر البخاري عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما هممت بسوء من أمر الجاهلية إلا مرتين» (٢).

وروى غيره أن إحدى المرتين كان فى غنم يرعاها هو وغلام من قريش ، فقال لصاحبه : «اكفنى أمر الغنم حتى آتى مكة» ، وكان بها عرس فيها لهو ، فلما دنا من الدار ليحضر ذلك ألقى عليه النوم ، فنام حتى ضربته الشمس ، عصمة من الله له!. والمرة الأخرى مثل الأولى سواء.

وذكر الواقدى عن أم أيمن قالت : كانت بوانة صنما تحضره قريش وتعظمه وتنسك له وتحلق عنده وتعكف عليه يوما إلى الليل فى كل سنة ، فكان أبو طالب يحضره مع قومه ويكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحضر ذلك العيد معهم فيأبى ذلك.

قالت : حتى رأيت أبا طالب غضب عليه ورأيت عماته غضبن يومئذ أشد الغضب ، وجعلن يقلن : إنا لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا. ويقلن : ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمعا؟!

فلم يزالوا به حتى ذهب ، فغاب عنهم ما شاء الله ثم رجع مرعوبا فزعا ، فقلن له : ما

__________________

(١) ذكره ابن إسحاق فى السيرة (١ / ١٦٢ ـ ١٦٣) ، البيهقي فى دلائل النبوة (٢ / ٣١) ، ابن حجر فى فتح البارى (٧ / ١٨١) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (٢ / ٢٨٧).

(٢) أخرجه الهيثمى فى المجمع (٨ / ٢٢٦) ، المتقى الهندى فى الكنز (٣٥٤٣٨).

١٢٥

دهاك؟ قال : إنى أخشى أن يكون بى لمم. فقلن : ما كان الله عزوجل ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك ، فما الذي رأيت؟.

قال : إنى كلما دنوت من صنم منها تمثل لى رجل أبيض طويل يصيح بى : وراءك يا محمد لا تمسه. قالت : فما عاد إلى عيد لهم حتى نبئ صلوات الله عليه وعلى آله.

ولما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسا وعشرين سنة تزوج خديجة بنت خويلد ، فيما ذكره غير واحد من أهل العلم (١).

وذكر الواقدى بإسناد له إلى نفيسة بنت منية أخت يعلى بن منية ، وقد رويناه أيضا من طريق أبى على بن السكن ، وحديث أحدهما داخل فى حديث الآخر مع تقارب اللفظ ، وربما زاد أحدهما الشيء اليسير ، وكلاهما ينمى إلى نفيسة.

قالت : لما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خمسا وعشرين سنة وليس له بمكة اسم إلا الأمين ، لما تكاملت فيه من خصال الخير ، قال أبو طالب : يا ابن أخى أنا رجل لا مال لى ، وقد اشتد الزمان علينا وألحت علينا سنون منكرة ، وليست لنا مادة ولا تجارة ، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام ، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك فى عيراتها فيتجرون لها فى مالها ويصيبون منافع.

فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك وفضلتك على غيرك ، لما يبلغها عنك من طهارتك ، وإن كنت لأكره أن تأتى الشام وأخاف عليك من يهود ، ولكن لا تجد من ذلك بدا.

وكانت خديجة امرأة تاجرة ذات شرف ومال كثير وتجارة تبعث بها إلى الشام ، فتكون عيرها كعامة عير قريش ، وكانت تستأجر الرجال وتدفع إليهم المال مضاربة. وكانت قريش قوما تجارا ، ومن لم يكن تاجرا من قريش فليس عندهم بشيء.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فلعلها ترسل إلى فى ذلك. فقال أبو طالب : إنى أخاف أن تولى غيرك ، فتطلب أمرا مدبرا. فافترقا ، وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له ، وقبل ذلك ما قد بلغها من صدق حديثه ، وعظم أمانته وكريم أخلاقه ، فقالت : ما علمت أنه يريد هذا.

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ١٦٥) ، طبقات ابن سعد (٨ / ١٤ ـ ١٩) ، الروض الأنف للسهيلى (٤ / ٢٦٧) ، تاريخ الطبرى (٣ / ١٦١).

١٢٦

ثم أرسلت إليه فقالت : إنه دعانى إلى البعث إليك ما بلغنى من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك ، وأنا أعطيك ضعف ما أعطى رجلا من قومك. ففعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولقى أبا طالب فذكر له ذلك ، فقال : إن هذا لرزق ساقه الله إليك.

فخرج مع غلامها ميسرة حتى قدم الشام ، وجعل عمومته يوصون به أهل العير ، حتى قدم الشام فنزلا فى سوق بصرى فى ظل شجرة قريبا من صومعة راهب يقال له : نسطورا. فاطلع الراهب إلى ميسرة وكان يعرفه ، فقال : يا ميسرة ، من هذا الذي نزل تحت هذه الشجرة؟.

فقال ميسرة : رجل من قريش من أهل الحرم. فقال له الراهب : ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبى. ثم قال له : فى عينيه حمرة. قال ميسرة : نعم ، لا تفارقه.

فقال الراهب : هو هو ، وهو آخر الأنبياء ، ويا ليت أنى أدركه حين يؤمر بالخروج. فوعى ذلك ميسرة. ثم حضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوق بصرى ، فباع سلعته التي خرج بها واشترى ، فكان بينه وبين رجل اختلاف فى سلعة ، فقال الرجل : احلف باللات والعزى. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما حلفت بهما قط. فقال الرجل : القول قولك.

ثم قال لميسرة ، وخلا به : يا ميسرة ، هذا نبى ، والذي نفسى بيده إنه لهو ، تجده أحبارنا منعوتا فى كتبهم فوعى ذلك ميسرة. ثم انصرف أهل العير جميعا. وكان ميسرة يرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كانت الهاجرة واشتد الحر ، يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو على بعيره.

قال : وكان الله عزوجل قد ألقى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المحبة من ميسرة ، فكان كأنه عبد لرسول الله. فلما رجعوا وكانوا بمر الظهران تقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى دخل مكة فى ساعة الظهيرة ، وخديجة فى علية لها ، معها نساء فيهن نفيسة بنت منية ، فرأت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دخل وهو راكب على بعيره ، وملكان يظلان عليه ، فأرته نساءها ، فعجبن لذلك.

ودخل عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخبرها بما ربحوا ، فسرت بذلك. فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت ، فقال لها ميسرة : قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام. وأخبرها بقول الراهب نسطورا ، وقول الآخر الذي خالفه فى البيع. قالوا : وقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتجارتها ، فربحت ضعف ما كانت تربح ، وأضعفت له ما سمت له. فلما استقر عندها هذا ، وكانت امرأة حازمة شريفة لبيبة ، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير ، وهى

١٢٧

يومئذ أوسط نساء قريش نسبا ، وأعظمهن شرفا ، وأكثرهن مالا ، وكل قومها كان حريصا على نكاحها لو يقدر عليه ، عرضت عليه نفسها.

فقالت له فيما يزعمون : يا ابن عم ، إنى قد رغبت فيك لقرابتك وصيتك فى قومك وأمانتك ، وحسن خلقك ، وصدق حديثك. فلما قالت له ذلك ، ذكر ذلك لأعمامه ، فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب يرحمه‌الله حتى دخل على خويلد بن أسد ، فخطبها إليه فتزوجها. هكذا ذكر ابن إسحاق (١).

وذكر الواقدى وغيره من حديث نفيسة ، أن خديجة أرسلت إليه دسيسا ، فدعته إلى تزوجها. فلما أجاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسلت إلى عمها عمرو بن أسد فحضر ، ودخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى عمومته فزوجه أحدهم. وقال عمرو : هذا الفحل لا يقدح أنفه.

قال ابن هشام : وأصدقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرين بكرة (٢). وكانت أول امرأة تزوجها ، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت.

قال ابن إسحاق فولدت خديجة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولده كلهم ، إلا إبراهيم : القاسم وبه كان يكنى والطاهر ، والطيب ، وزينب ، ورقية ، وأم كلثوم ، وفاطمة (٣).

فأما القاسم والطاهر والطيب فهلكوا فى الجاهلية. وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام ، فأسلمن وهاجرن معه. هذا قول ابن إسحاق فى ذكور البنين ، أنهم هلكوا فى الجاهلية (٤).

وقال الزبير بن بكار ، وهو من أئمة هذا الشأن : ولدت له القاسم ، وعبد الله وهو الطاهر والطيب ، ولد بعد النبوة ومات صغيرا (٥). وفى مسند الفريابى ، ما يدل على أنه مات قبل أن يتم رضاعه وبعد النبوة.

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ١٦٥ ـ ١٦٨).

(٢) انظر : السيرة (١ / ١٦٦).

(٣) انظر : السيرة (١ / ١٦٦).

(٤) انظر : السيرة (١ / ١٦٧).

(٥) قيل : أن عبد الله يسمى الطيب والطاهر وهو ولد بعد النبوة على الصحيح وهو الذي مات بمكة صغيرا ، فقال العاص بن وائل السهمى : قد انقطع ولده فهو أبتر ، يعنى النبيّ ، فنزل فيه قوله تعالى : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ). وانظر : المختصر الصغير (٦٨) ، تاريخ دمشق لابن عساكر (١ / ١٠٣ ـ ١٠٨) ، ابن الجوزى فى تلقيح فهوم أهل الأثر (٣٠).

١٢٨

وذلك أن خديجة دخل عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد موت القاسم وهى تبكى عليه ، فقالت : يا رسول الله ، لو كان عاش حتى تكمل رضاعته لهون على. فقال : إن له مرضعا فى الجنة تستكمل رضاعته. فقالت : لو أعلم ذلك لهون على. فقال : إن شئت أسمعتك صوته فى الجنة. فقالت : بل أصدق الله ورسوله.

قال ابن هشام (١) : وأما إبراهيم فأمه مارية سرية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي أهداها إليه المقوقس من حفن من كورة أنصنا. وهى قبطية من قبط مصر ، وهذا هو الصهر الذي ذكره لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قوله : «الله الله فى أهل الذمة ، أهل المدرة السوداء السحم الجعاد ، فإن لهم نسبا وصهرا» (٢).

قال مولى غفرة : نسبهم أن أم إسماعيل النبيّ عليه‌السلام منهم ، وصهرهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسرر فيهم. وفى حديث آخر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيرا ، فإن لهم ذمة ورحما».

قال ابن إسحاق (٣) : وكانت خديجة بنت خويلد قد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد ابن عبد العزى وكان ابن عمها وكان نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس ، ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه.

فقال ورقة : لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبى هذه الأمة ، قد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبى ينتظر ، هذا زمانه. أو كما قال. فجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول : حتى متى؟! وقال فى ذلك :

لججت وكنت فى الذكرى لجوجا

لهم طالما بعث النشيجا (٤)

ووصف من خديجة بعد وصف

فقد طال انتظارى يا خديجا

ببطن المكتين على رجائى

حديثك أن أرى منه خروجا

بما خبرتنا من قول قس

من الرهبان أكره أن يعوجا (٥)

بأن محمدا سيسود يوما

ويخصم من يكون له حجيجا

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ١٦٧).

(٢) أخرجه المتقى الهندى فى الكنز (٣٤٠٢٣) ، الهيثمى فى المجمع (١٠ / ٦٣) ، السيوطى فى جمع الجوامع (٩٦٥٩).

(٣) انظر : السيرة (١ / ١٦٧).

(٤) النشيجا : هو البكاء مع صوت ، والألف الملقحة للإطلاق.

(٥) القس : هو عابد النصارى.

١٢٩

ويظهر فى البلاد ضياء نور

يقيم به البرية أن تموجا

فيلقى من يحاربه خسارا

ويلقى من يسالمه فلوجا

فيا ليتى إذا ما كان ذاكم

شهدت فكنت أولهم ولوجا

ولوجا فى الذي كرهت قريش

ولو عجت بمكتها عجيجا

أرجى بالذى كرهوا جميعا

إلى ذى العرش إن سلفوا عروجا

وهل أمر السفاهة غير كفر

بمن يختار من سمك البروجا

فإن يبقوا وأبق تكن أمور

يضج الكافرون لها ضجيجا

وإن أهلك فكل فتى سيلقى

من الأقدار متلفة حروجا

وقال ورقة بن نوفل أيضا فى ذلك ، وهو مما رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق :

أتبكر أم أنت العشية رائح

وفى الصدر من إضمارك الحزن قادح

لفرقة قوم لا أحب فراقهم

كأنك عنهم بعد يومين نازح

وأخبار صدق خبرت عن محمد

يخبرها عنه إذا غاب ناصح

فتاك الذي وجهت يا خير حرة

بغدو وبالنجدين حيث الصحاصح

إلى سوق بصرى فى الركاب التي غدت

وهن من الأحمال قعص دوالح

فخبرنا عن كل حبر بعلمه

وللحق أبواب لهن مفاتح

بأن ابن عبد الله أحمد مرسل

إلى كل من ضمت عليه الأباطح

وظنى به أن سوف يبعث صادقا

كما أرسل العبدان هود وصالح

وموسى وإبراهيم حتى يرى له

بهاء ومنشور من الذكر واضح

ويتبعه حيا لؤيّ بن غالب

شبابهم والأشيبون الجحاجح

فإن أبق حتى يدرك الناس دهره

فإنى به مستبشر الود فارح

وإلا فإنى يا خديجة فاعلمى

عن أرضك فى الأرض العريضة سائح

ذكر بنيان قريش الكعبة

مع ذكر ما أحدثوه فى المناسك

ولما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسا وثلاثين سنة ، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة. قال موسى بن عقبة : وإنما حمل قريشا على ذلك أن السيل كان أتى من فوق الردم الذي صنعوا فأخربه ، فخافوا أن يدخلها الماء ، وكان رجل يقال له : مليح سرق طيب الكعبة.

١٣٠

فأرادوا أن يشدوا بنيانها ، وأن يرفعوا بابها ، حتى لا يدخلها إلا من شاءوا وأعدوا لذلك نفقة ، وعمالا ، ثم عمدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر من أن يمنعهم الله الذي أرادوا.

قال ابن إسحاق (١) : وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها ، وإنما كانت رضما (٢) فوق القامة ، فأرادوا رفعها وتسقيفها ، وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة ، وإنما كان يكون فى بئر فى جوف الكعبة.

قال : وكان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى لبنى مليح بن عمرو ، من خزاعة قال ابن هشام : فقطعت قريش يده. وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك.

قال : وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها ، وكان بمكة رجل قبطى نجار ، فتهيأ فى أنفسهم بعض ما يصلحها.

وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كان يطرح فيها ما يهدى لها ، فتتشرف على جدار الكعبة ، وكانت مما يهابون ، وذلك أنه كان لا يدخلها أحد إلا احزألت (٣) وكشت (٤) وفتحت فاها ، فكانوا يهابونها. فبينا هى يوما تتشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع ، بعث الله إليها طائرا فاختطفها ، فذهب بها.

فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون الله قد رضى ما أردنا ، عندنا عامل رفيق وعندنا خشب ، وقد كفانا الله الحية.

فلما أجمعوا أمرهم فى هدمها وبنيانها ، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران ابن مخزوم ، فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه ، فقال : يا معشر قريش ، لا تدخلوا فى بنيانها من كسبكم إلا طيبا ، لا تدخلوا فيها معر بغى ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس. والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم (٥).

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ١٦٨).

(٢) رضما : الرضم الحجارة يجعل بعضها على بعض.

(٣) احزألت : أى رفعت رأسها.

(٤) كشت : صوتت باحتكاك بعض جلدها ببعض.

(٥) ذكره الطبرى فى تاريخه (١ / ٥٢٥) ، البيهقي فى الدلائل (٢ / ٦١).

١٣١

ثم إن قريشا تجزأت الكعبة ، فكان شق الباب لبنى عبد مناف وزهرة ، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليمانى لبنى مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم ، وكان ظهر الكعبة لبنى جمح وبنى سهم ، وكان شق الحجر لبنى عبد الدار بن قصى ، ولبنى أسد بن عبد العزى بن قصى ، ولبنى عدى بن كعب رهو الحطيم.

ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه ، فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم فى هدمها ، فأخذ المعول ، ثم قام عليها وهو يقول : اللهم لم ترع ، ويقال : لم نزع اللهم إنا لا نريد إلا الخير.

ثم هدم من ناحية الركنين ، فتربص الناس تلك الليلة ، وقالوا : ننظر ، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت ، وإن لم يصبه شيء هدمنا ، فقد رضى الله ما صنعنا.

فأصبح الوليد من ليلته غاديا إلى عمله ، فهدم وهدم الناس معه ، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم أفضوا إلى حجارة خضر ، كالأسنة آخذ بعضها بعضا.

وقال ابن إسحاق (١) : فحدثنى بعض من يروى الحديث : أن رجلا من قريش ممن كان يهدمها ، أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما ، فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها ، فانتهوا عن ذلك الأساس.

قال (٢) : وحدثت أن قريشا وجدوا فى الركن كتابا بالسريانية ، فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من يهود ، فإذا هو : أنا الله ذو بكة ، خلقتها يوم خلقت السموات والأرض ، وصورت الشمس والقمر ، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء ، لا تزول حتى يزول أخشباها ، مبارك لأهلها فى الماء واللبن.

وحدثت أنهم وجدوا فى المقام كتابا فيه : مكة بيت الله الحرام ، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل ، لا يحلها أول من أهلها. وزعم ليث بن أبى سليم أنهم وجدوا حجرا فى الكعبة قبل مبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربعين سنة إن كان ما يذكر حقا ، مكتوبا فيه : من يزرع خيرا يحصد غبطة ، ومن يزرع شرا يحصد ندامة ، تعملون السيئات ، وتجزون الحسنات!! أجل كما لا يجتنى من الشوك العنب.

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ١٧٠ ـ ١٧١).

(٢) انظر : السيرة (١ / ١٧١).

١٣٢

قال ابن إسحاق (١) : ثم إن القبائل من قريش ، جمعت الحجارة لبنيانها ، كل قبيلة تجمع على حدة ، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن ، فاختصموا فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى ، حتى تجاوزوا وتحالفوا ، وأعدوا للقتال ، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ، ثم تعاقدوا هم وبنو عدى على الموت ، وأدخلوا أيديهم فى ذلك الدم فى تلك الجفنة ، فسموا لعقة الدم. فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا ، ثم إنهم اجتمعوا فى المسجد ، فتشاوروا وتناصفوا.

فزعم بعض أهل الرواية ، أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وكان عامئذ أسن قريش كلها ، قال : يا معشر قريش ، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه ، أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضى بينكم ؛ ففعلوا. فكان أول داخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما رأوه ، قالوا : هذا الأمين ، رضينا ، هذا محمد. فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هلم إلى ثوبا». فأتى به ، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال : «لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا». ففعلوا : حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم بنى عليه (٢).

وكانت الكعبة على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثمانى عشرة ذراعا ، كانت تكسى القباطى ، ثم كسيت البرود. وأول من كساها الديباج ، الحجاج بن يوسف. هذا قول ابن إسحاق (٣). وقال الزبير : أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير.

وذكر جماعة سواهما منهم الدّارقطني : أن نتلة بنت جناب ، أم العباس بن عبد المطلب ، كانت قد أضلت العباس يومئذ وهو صغير ، فنذرت إن هى وجدته أن تكسو الكعبة الديباج ، ففعلت ذلك حين وجدته.

وذكر الزبير أن الذي أضلته نتلة بنت جناب إنما هو ابنها ضرار بن عبد المطلب شقيق العباس ، ونذرت أن تكسو البيت إن وجدته ، فكسته حين وجدته ثيابا بيضا ، فالله تعالى أعلم.

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ١٧١).

(٢) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٣ / ٤٢٥) ، مسند أبى داود الطيالسى (١١٣) ، مستدرك الحاكم (١ / ٤٥٨) ، دلائل النبوة للبيهقى (٢ / ٥٦ ، ٥٧) ، مصنف عبد الرزاق (٥ / ٩٨ ، ١٠٠) ، الهيثمى فى المجمع (٣ / ٢٩٢).

(٣) انظر : السيرة (١ / ١٧٣).

١٣٣

قال ابن إسحاق (١) : وكانت قريش لا أدرى أقبل الفيل أم بعده ابتدعت أمر الحمس (٢) ، رأيا رأوه وأداروه.

فقالوا : نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت ، وقاطن مكة وساكنها ، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ، ولا مثل منزلتنا ، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا ، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم ، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم ، وقالوا : قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم.

فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم ، ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها ، وأن يفيضوا منها ، إلا أنهم قالوا : نحن أهل الحرم ، وليس ينبغى لنا أن نخرج من الحرمة ، ولا نعظم غيرها كما نعظمها ، نحن الحمس ، والحمس أهل الحرم. ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم ، يحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم.

ثم ابتدعوا فى ذلك أمورا لم تكن لهم ، حتى قالوا : لا ينبغى للحمس أن يأتقطوا الأقط (٣) ، ولا يسألوا السمن (٤) وهم حرم ، ولا يدخلوا بيتا من شعر ، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا فى بيوت الأدم ما كانوا حرما.

ثم رفعوا فى ذلك فقالوا : لا ينبغى لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل إلى الحرم إذا جاءوا حجاجا أو عمارا ، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا فى ثياب الحمس ، فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة ، فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة ، ولم يجد ثياب أحمس فطاف فى ثيابه التي جاء بها من الحل ، ألقاها إذا فرغ من طوافه ، ثم لم ينتفع بها ، ولم يمسها هو ولا أحد غيره أبدا ، فكانت العرب تسمى تلك الثياب اللقى.

فحملوا على ذلك العرب فدانت به ، فوقفوا على عرفات وأفاضوا منها ، وطافوا بالبيت عراة ، أما الرجال فيطوفون عراة ، وأما النساء فتضع إحداهن ثيابها كلها إلا ثوبا مفرجا عليها ، ثم تطوف فيه.

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ١٧٣ ـ ١٧٧).

(٢) الحمس : جمع أحمس ، وهو شديد الصلب.

(٣) الأقط : شيء يتخذ من المخيض الغنمى ، وجمعه أقطان.

(٤) يسلئوا السمن : يقال سلأت السمن واستلأته إذا طبخ.

١٣٤

فكانوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله عليه حين أحكم له دينه وشرع له سنن حجه : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) الآية [البقرة : ١٩٩]. يعنى قريشا ، والناس العرب. فرفعهم فى سنة الحج إلى عرفات والوقوف عليها والإفاضة منها.

وأنزل عليه فيما كانوا حرموا على الناس من طعامهم ولبوسهم عند البيت ، حين طافوا عند البيت عراة وحرموا ما جاءوا به من الحل من الطعام : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) الآية كلها [الأعراف : ٣١ ـ ٣٢].

فوضع الله أمر الحمس ، وما كانت قريش ابتدعت منه عن الناس ، بالإسلام حين بعث الله به رسوله (١). ولم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالموافق قومه على تغيير مشاعر الحج والعدول عن مواقف الناس.

قال جبير بن مطعم : لقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن ينزل عليه الوحى ، وإنه لواقف على بعيره بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفع معهم ، توفيقا من الله له (٢).

وقد تقدم ما أحدثوه فى النسىء ، وما أبطل الله من حكمه بقوله سبحانه : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) [التوبة : ٣٧] ، فأغنى ذلك عن إعادته.

ذكر ما حفظ عن الأحبار والرهبان

والكهان من أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مبعثه

سوى ما تقدم من ذلك مع ذكر شيء مما سمع

من ذلك عند الأصنام أو هتفت به الهواتف

قال ابن إسحاق (٣) : وكانت الأحبار من يهود ، والرهبان من النصارى ، والكهان من العرب ، قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مبعثه لما تقارب من زمانه. أما الأحبار من اليهود ، والرهبان من النصارى ، فعما وجدوا فى كتبهم من صفته وصفة زمانه ، وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه.

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ١٧٧).

(٢) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٢ / ٣٠٥).

(٣) انظر : السيرة (١ / ١٧٧ ـ ١٨٢).

١٣٥

وأما الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين فيما تسترق من السمع ، إذ كانت لا تحجب عن ذلك ، وكان الكاهن والكاهنة ، لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره لا تلقى العرب لذلك فيه بالا ، حتى بعثه الله ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها.

فلما تقارب أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحضر مبعثه ، حجبت الشياطين عن السمع ، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد فيها لاستراقه ، فرموا بالنجوم ، فعرفت الجن أن ذلك لأمر حدث من أمر الله فى العباد.

يقول الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بعثه يقص عليه خبرهم إذ حجبوا : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) [الجن : ١ ، ١٠].

فلما سمعت الجن القرآن عرفت أنها منعت من السمع قبل ذلك لئلا يشكل الوحى بشيء من خبر السماء فيلتبس على أهل الأرض ما جاءهم من الله فيه ، لوقوع الحجة وقطع الشبهة ، فآمنوا به وصدقوا. ثم : (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأحقاف : ٢٩ ، ٣٠].

وقول الجن : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) الآية [الجن : ٦] ، هو أن الرجل من العرب من قريش وغيرهم كان إذا سافر فنزل بطن واد من الأرض ليبيت فيه قال : إنى أعوذ بعزيز هذا الوادى من الجن الليلة من شر ما فيه.

وذكر (١) أن أول العرب فزع للرمى بالنجوم ، حين رمى بها ، ثقيف ، وأنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له : عمرو بن أمية ، أحد بنى علاج ، وكان أدهى العرب وأنكرها رأيا فقالوا له : يا عمرو ، ألم تر ما حدث فى السماء من القذف بهذه النجوم؟.

قال : بلى ، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدى بها فى البر والبحر ، وتعرف

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ١٧٩).

١٣٦

بها الأنواء من الصيف والشتاء ، لما يصلح الناس فى معايشهم ، هى التي يرمى بها فهو والله طى الدنيا ، وهلاك هذا الخلق الذي فيها.

وإن كانت نجوما غيرها ، وهى ثابتة على حالها ، فهذا لأمر أراد الله به هذا الخلق. فما هو؟!.

وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنفر من الأنصار : «ما كنتم تقولون فى هذا النجم الذي يرمى به؟». قالوا : يا نبى الله ، كنا نقول حين رأيناها يرمى بها : مات ملك ، ملّك ملك ولد مولود ، مات مولود ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس ذلك كذلك ، ولكن الله تبارك وتعالى ، كان إذا قضى فى خلقه أمرا سمعه حملة العرش فسبحوا ، فسبح من تحتهم لتسبيحهم ، فسبح من تحت ذلك ، فلا يزال التسبيح يهبط حتى ينتهى إلى السماء الدنيا فيسبحوا. ثم يقول بعضهم لبعض : مم سبحتم؟ فيقولون : سبح من فوقنا فسبحنا لتسبيحهم. فيقولون : ألا تسألون من فوقكم مم سبحوا؟ فيقولون مثل ذلك ، حتى ينتهوا إلى حملة العرش ، فيقال لهم : مم سبحتم؟ فيقولون : قضى الله فى خلقه كذا وكذا؟ للأمر الذي كان. فيهبط به الخبر من سماء إلى سماء حتى ينتهى إلى السماء الدنيا ، فيتحدثوا به ، فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم واختلاف ، ثم يأتون به الكهان فيخطئون بعضا ويصيبون بعضا ، ثم إن الله حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها ، فانقطعت الكهانة اليوم ، فلا كهانة»(١).

وذكر أبو جعفر العقيلى بإسناد له ، إلى لهيب بن مالك اللهبى قال : حضرت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت عنده الكهانة ، فقلت : بأبى أنت وأمى نحن أول من عرف حراسة السماء وزجر الشياطين ، ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم ، وذلك أنا اجتمعنا إلى كاهن لنا يقال له : خطر بن مالك ، وكان شيخا كبيرا ، قد أتت عليه مائة سنة وثمانون سنة ، وكان من أعلم كهاننا ، فقلنا : يا خطر ، هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمى بها؟ فإنا قد فزعنا لها وخفنا سوء عاقبتها.

فقال : ائتونى بسحر ، أخبركم الخبر ، ألخير أم ضرر ، ولأمن أو حذر. قال : فانصرفنا عن يومنا ، فلما كان من غد فى وجه السحر أتيناه ، فإذا هو قائم على قدميه شاخص فى السماء بعينيه ، فناديناه : يا خطر ، يا خطر. فأومأ إلينا أن أمسكوا فأمسكنا.

__________________

(١) أخرجه مسلم فى صحيحه كتاب السلام باب تحريم الكهانة (٥٧١) ، الترمذى فى سننه (٣٢٢٤) ، الإمام أحمد فى المسند (١ / ٢١٨) ، البيهقي فى الدلائل (٢ / ٢٣٦ ، ٢٣٧).

١٣٧

فانقض نجم عظيم من السماء ، وصرخ الكاهن رافعا صوته : أصابه أصابه ، خامره عقابه ، عاجله عذابه ، أحرقه شهابه ، زايله جوابه ، يا ويحه ما حاله ، بلبله بلباله ، عاوده خباله ، تقطعت حباله ، وغيرت أحواله.

ثم أمسك طويلا وقال : يا معشر بنى قحطان ، أخبركم بالحق والبيان ، أقسمت بالكعبة والأركان ، والبلد المؤتمن السدان ، لقد منع السمع عتاة الجان ، بثاقب ، بكف ذى سلطان من أجل مبعوث عظيم الشأن يبعث بالتنزيل والقرآن وبالهدى وفاصل الفرقان ، تبطل به عبادة الأوثان. قال : فقلنا : يا خطر ، إنك لتذكر أمرا عظيما ، فما ذا ترى لقومك؟. فقال :

أرى لقومى ما أرى لنفسى

أن يتبعوا خير بنى الإنس

برهانه مثل شعاع الشمس

يبعث فى مكة دار الحمس

بمحكم التنزيل غير اللبس

فقلنا له : يا خطر ، وممن هو؟ فقال : والحياة والعيش ، إنه لمن قريش ، ما فى حلمه طيش ولا فى خلقه هيش يكون فى جيش وأى جيش! من آل قحطان وآل أيش. فقلنا : بين لنا من أى قريش هو؟. فقال : والبيت ذى الدعائم ، إنه لمن نجل هاشم ، من معشر أكارم ، يبعث بالملاحم ، وقتل كل ظالم. ثم قال : هذا هو البيان ، أخبرنى به رئيس الجان. ثم قال : الله أكبر ، جاء الحق وظهر ، وانقطع عن الجن الخبر. ثم سكت وأغمى عليه ، فما أفاق إلا بعد ثالثة ، فقال : لا إله إلا الله.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبحان الله ، لقد نطق عن مثل نبوة ، وإنه ليبعث يوم القيامة أمة وحده».

قال ابن إسحاق (١) : وحدثني بعض أهل العلم أن امرأة من بنى سهم يقال لها الغيطلة ، كانت كاهنة فى الجاهلية ، جاءها صاحبها ليلة من الليالى فانقض تحتها (٢) ، ثم قال : بدر ما بدر ، يوم عقر ونحر. فقالت قريش حين بلغها ذلك : ما يريد؟ ثم جاءها ليلة أخرى فانقض تحتها ، ثم قال : شعوب ما شعوب ، تصرع فيه كعب لجنوب. فلما بلغ

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ١٨٠).

(٢) انقض تحتها : أى تكلم بصوت خفى.

١٣٨

ذلك قريشا ، قالوا : ما ذا يريد؟ إن هذا لأمر هو كائن فانظروا ما هو. فما عرفوه حتى كانت وقعة بدر وأحد بالشعب ، فعرفوا أنه كان الذي جاء به إلى صاحبته.

قال (١) : وحدثني على بن نافع الجرشى أن جنبا (٢) بطنا من اليمن ، كان لهم كاهن فى الجاهلية ، فلما ذكر أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانتشر فى العرب قالت له جنب : انظر لنا فى أمر هذا الرجل. واجتمعوا له فى أسفل جبله.

فنزل عليهم حين طلعت الشمس فوقف لهم قائما متكئا على قوس له ، فرفع رأسه إلى السماء طويلا ، ثم جعل ينزو ثم قال : أيها الناس ، إن الله أكرم محمدا واصطفاه ، وطهر قلبه وحشاه ، ومكثه فيكم أيها الناس قليل. ثم أسند فى جبله راجعا من حيث جاء.

وحدثني من لا أتهم (٣) ، أن عمر بن الخطاب بينا هو جالس فى الناس فى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ أقبل رجل من العرب يريد عمر ، فلما نظر إليه عمر قال : إن الرجل لعلى شركه ما فارقه ، أو لقد كان كاهنا فى الجاهلية ، فسلم عليه الرجل ، ثم جلس ، فقال له عمر : هل أسلمت؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، قال : فهل كنت كاهنا فى الجاهلية؟ فقال الرجل : سبحان الله يا أمير المؤمنين! لقد خلت فى واستقبلتنى بأمر ما أراك قلته لأحد من رعيتك منذ وليت ، فقال عمر : اللهم غفرا ، قد كنا فى الجاهلية على شر من هذا ، نعبد الأصنام ونعتنق الأوثان ، حتى أكرمنا الله برسوله وبالإسلام ، قال : نعم ، والله يا أمير المؤمنين ، لقد كنت كاهنا فى الجاهلية. قال : فأخبرنى ، ما جاء به صاحبك ، قال : جاءنى قبيل الإسلام بشهر أو شيعه ، فقال : ألم تر إلى الجن وإبلاسها (٤) وإياسها من دينها ، ولحوقها بالقلاص (٥) وأحلاسها (٦)!.

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ١٨٠).

(٢) جنبا : جنب من مزحش وهم عبد الله ، وأنس الله ، وزيد الله ، وأوس الله ، وجعفى والحكم وجروة بنو سعد العشيرة بن مزحش ، ومزحش هو مالك بن أدد وسموا جنبا لأنهم جانبوا بنى عمهم صداء ويزيد ابنى سعد العشيرة بن مزحش.

(٣) انظر : السيرة (١ / ١٨١).

(٤) إبلاسها : أبلس الرجل إذا سكت ذليلا أو مغلوبا.

(٥) القلاص : القلاص من الإبل : الفتية.

(٦) أحلاسها : جمع حلاس ، وهو كساء جلد يوضع على ظهر البعير ثم يوضع عليه الرجل ليقيه من الدبر.

١٣٩

قال ابن هشام : هذا الكلام سجع وليس بشعر ، وأنشدنى بعض أهل العلم بالشعر:

عجبت للجن وإبلاسها

وشدها العيس بأحلاسها

تهوى إلى مكة تبغى الهدى

ما مؤمن الجن كأنجاسها

فقال عمر رضى الله عنه ، عند ذلك ، يحدث الناس : والله إنى لعند وثن من أوثان الجاهلية فى نفر من قريش ، قد ذبح لهم رجل من العرب عجلا ، فنحن ننتظر قسمه ليقسم لنا منه ، إذ سمعت من جوف العجل صوتا ما سمعت قط أنفذ منه ، وذلك قبيل الإسلام بشهر أو شيعه يقول : يا ذريح أمر نجيح ، رجل يصيح يقول : لا إله إلا الله (١).

قال ابن هشام : ويقال : رجل يصيح بلسان فصيح يقول : لا إله إلا الله. وهذا الرجل الذي ظن به عمر رضى الله عنه ، ما ظن ، هو سواد بن قارب الدوسى (٢) ، وكان يتكهن فى الجاهلية.

وقد ذكر خبره غير ابن إسحاق ، فساقه سياقة أحسن من هذه وأتم ، وذكر فيه أنه كان نائما على جبل من جبال السراة ليلة من الليالى ، فأتاه آت ، فضربه برجله وقال : قم يا سواد بن قارب ، أتاك رسول من لؤيّ بن غالب. قال : فرفعت رأسى وجلست فأدبر وهو يقول :

عجبت للجن وتطلابها

وشدها العيس بأقتابها

تهوى إلى مكة تبغى الهدى

ما صادق الجن ككذابها

فارحل إلى الصفوة من هاشم

ليس قداماها كأذنابها (٣)

وأتاه فى الليلة الثانية ، فضربه برجله ، وقال : قم يا سواد بن قارب ، أتاك رسول من لؤيّ بن غالب. قال : فرفعت رأسى وجلست ، فأدبر وهو يقول :

عجبت للجن وأخبارها

ورحلها العيس بأكوارها

تهوى إلى مكة تبغى الهدى

ما مؤمنوها مثل كفارها

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري فى كتاب مناقب الأنصار ، باب إسلام عمر ، رضى الله عنه (٧ / حديث رقم ٣٨٦٦).

(٢) هو : سواد بن قارب الدوسى. كذا قال الكلبى ، وقال ابن أبى خيثمة : سواد بن قارب سدوسى من بنى سدوس. انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١١١٤) ، الإصابة الترجمة رقم (٣٥٩٦) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٣٣٤) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢٤٨) ، الوافى بالوفيات (١٦ / ٣٥) ، التاريخ الكبير (٤ / ٢٠٢) ، الأعلام (٣ / ١٤٤).

(٣) انظر الأبيات فى : الاستيعاب (٢ / ٢٢٤).

١٤٠