الإكتفا - ج ١

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ١

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبدالقادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2943-0
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

ثم أصعد بى إلى السماء السابعة فإذا كهل جالس على كرسى إلى باب البيت المعمور ، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون فيه إلى يوم القيامة ، لم أر رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه. قلت : من هذا يا جبريل؟ قال : هذا أبوك إبراهيم.

ثم دخل بى الجنة فرأيت فيها جارية لعساء فسألتها لمن أنت؟ وقد أعجبتنى فقالت : لزيد بن حارثة. فبشر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيدا.

ومن حديث عبد الله بن مسعود (١) أن جبريل لم يصعد به إلى سماء من السموات إلا قالوا له حين يستأذن فى دخولها : من هذا يا جبريل؟ فيقول : محمد. فيقولون : أو قد بعث؟ فيقول : نعم. فيقولون حياه الله من أخ وصاحب. حتى انتهى به إلى السماء السابعة ، ثم انتهى به إلى ربه ، ففرض عليه خمسين صلاة كل يوم.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فأقبلت راجعا فلما مررت بموسى بن عمران ، ونعم الصاحب كان لكم ، سألنى : كم فرض عليك من الصلاة؟ فقلت : خمسين صلاة فى كل يوم. قال : إن الصلاة ثقيلة وإن أمتك ضعيفة ، فارجع إلى ربك فسله أن يخفف عنك وعن أمتك. فرجعت فسألت ربى فوضع عنى عشرا ، ثم انصرفت فمررت على موسى فقال لى مثل ذلك ، فرجعت فسألت ربى فوضع عنى عشرا ثم لم يزل يقول لى مثل ذلك كلما رجعت إليه ، فأرجع فأسأل حتى انتهيت إلى أن وضع عنى ذلك إلا خمس صلوات فى كل يوم وليلة.

ثم رجعت على موسى فقال لى مثل ذلك ، فقلت : قد راجعت ربى وسألته حتى استحييت منه ، فلما أنا بفاعل. فمن أداهن منكم إيمانا واحتسابا لهن كان له أجر خمسين صلاة (٢).

قال ابن إسحاق (٣) : فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمر الله صابرا محتسبا مؤديا إلى قومه النصيحة ، على ما يلقى منهم من التكذيب والأذى والاستهزاء ، وكان عظماء المستهزئين خمسة نفر من قومه ، وكانوا ذوى أسنان وشرف فى قومهم : الأسود بن المطلب الأسدي ، أبو زمعة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغنى قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه

__________________

(١) انظر : السيرة (٢ / ١٧).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح مسلم كتاب الإيمان ، باب الإسراء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١ / ٢٥٩).

(٣) انظر : السيرة (٢ / ١٩).

٢٤١

واستهزائه به فقال : «اللهم أعم بصره وأثكله ولده» (١).

والأسود بن عبد يغوث الزهرى ، والوليد بن المغيرة المخزومى ، والعاص بن وائل السهى ، والحارث بن الطلاطلة الخزاعى. فلما تمادوا فى الشر وأكثروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاستهزاء أنزل الله عليه : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر : ٩٤ ، ٩٦].

فأتى جبريل عليه‌السلام ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يطوفون بالبيت ، فقام وقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جنبه ، فمر به الأسود بن المطلب فرمى فى وجهه بورقة خضراء فعمى ، وسيأتى بعد أنه أصيب له يوم بدر ثلاثة من ولده ، ابناه زمعة وعقيل وابن ابنه الحارث بن زمعة ، فاستوفى الله سبحانه بذلك فيه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إجابة دعوته عليه بالعمى والثكل.

ثم مر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات منه حبنا ، وعن غير ابن إسحاق أنه لما نزل : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر : ٩٥] نزل جبريل عليه‌السلام ، فحنا ظهر الأسود بن عبد يغوث الزهرى ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالى خالى فقال له جبريل : خله عنك ، ثم حناه حتى قتله.

قال ابن إسحاق : ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله أصابه قبل ذلك بسنين وهو يجر سبله ، فانتقض به فقتله. ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله ، فخرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شبرقة فدخلت فى أخمص رجله شوكة فقتلته. ومر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتخض قيحا فقتله (٢).

قال (٣) : وكان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بيته أبو لهب ، والحكم بن أبى العاص بن أمية ، وعقبة بن أبى معيط ، وعدى ابن حمراء الثقفى ، وابن الأصداء الهذلى ، وكانوا جيرانه لم يسلم أحد منهم إلا الحكم.

فكان أحدهم فيما ذكر لى ، يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلى ، وكان أحدهم يطرحها فى برمته إذا نصبت له حتى اتخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجرا يستتر به منهم إذا

__________________

(١) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ١٠٥) ، تفسير الطبرى (١٤ / ٤٨) ، تفسير ابن كثير (٤ / ٤٧٠).

(٢) انظر الحديث فى : تفسير ابن كثير (٤ / ٤٧٠) ، تفسير الطبرى (١٤ / ٤٨).

(٣) انظر : السيرة (٢ / ٢٦).

٢٤٢

صلى. فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود فيقف به على بابه ثم يقول : يا بنى عبد مناف أى جوار هذا؟! ثم يلقيه فى الطريق (١).

قال ابن إسحاق (٢) : ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا فى عام واحد ، فتتابعت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المصائب بهلك خديجة ، وكانت له وزير صدق على الإسلام ، يسكن إليها ، وبمهلك أبى طالب عمه ، وكان له عضدا وحرزا فى أمره ومنعة وناصرا على قومه ، وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين.

فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به فى حياة أبى طالب ، حتى اعترضاه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيته والتراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهى تبكى ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لها : «لا تبكى يا بنية ، فإن الله مانع أباك. ويقول بين ذلك : ما نالت منى قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب» (٣).

قال : ولما اشتكى أبو طالب وبلغ قريشا ثقله قال بعضها لبعض : إن حمزة وعمر قد أسلما ، وقد فشا أمر محمد فى قبائل قريش كلها ، فانطلقوا بنا إلى أبى طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه ولنعطه منا فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا (٤) أمرنا.

فمشوا إلى أبي طالب فكلموه ، وهم أشراف قومه ، عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل ابن هشام ، وأمية بن خلف ، وأبو سفيان بن حرب فى رجال من أشرافهم ، فقالوا : يا أبا طالب ، إنك منا حيث قد علمت ، وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك ، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك ، فادعه وخذ له منا وخذ لنا منه ليكف عنا ونكف عنه وليدعنا وديننا وندعه ودينه ، فبعث إليه أبو طالب فجاء فقال : يا ابن أخى ، هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم. فقال أبو جهل : نعم وأبيك ، وعشر كلمات ، قال : تقولون : لا إله إلا الله ، وتخلعون ما تعبدون من دونه.

__________________

(١) انظر الحديث فى : طبقات ابن سعد (١ / ٢٠١) ، تاريخ الطبرى (١ / ٥٥٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ١٣٤ ، ١٣٥).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٢٧).

(٣) انظر الحديث فى : تاريخ الطبرى (١ / ٥٥٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ١٢٢).

(٤) يبتزونا : البز هو السلب ومعناه يسلبوننا إياه ويغلبوننا عليه.

٢٤٣

قال : فصفقوا بأيديهم ثم قالوا : أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؟! إن أمرك لعجب. ثم قال بعضهم لبعض : والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون ، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه. ثم تفرقوا (١).

فقال أبو طالب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والله يا ابن أخى ما رأيتك سألتهم شططا. فلما قالها طمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه فجعل يقول له : أى عم ، فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة. فلما رأى حرص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يا ابن أخى والله لو لا مخافة السبة عليك وعلى بنى أبيك من بعدى ، وأن تظن قريش أنى إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها ، لا أقولها إلا لأسرك به. فلما تقارب من أبى طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بأذنيه ، فقال : يا ابن أخى ، والله لقد قال أخى الكلمة التي أمرته أن يقولها. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم أسمع» (٢).

وخرج مسلم بن الحجاج فى صحيحه من حديث المسيب بن حزن قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبى أمية بن المغيرة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عم قل : لا إله إلا الله ، كلمة أشهد لك بها عند الله» ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فلم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» (٣).

فأنزل الله عزوجل : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) [التوبة : ١١٣]. وأنزل فى أبى طالب فقال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص : ٥٦].

وفى الصحيح أيضا أن العباس قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أبا طالب كان يحوطك

__________________

(١) انظر الحديث فى : المستدرك للحاكم (٢ / ٤٣٢) ، تفسير الطبرى (٢٣ / ٧٩) ، البيهقي فى السنن الكبرى (٩ / ١٨٨) ، أسباب النزول للواحدى (ص ٣٠٩).

(٢) انظر الحديث فى : فتح البارى لابن حجر (٧ / ٢٣٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ١٢٣).

(٣) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٢ / ١١٩) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (٣٩) ، طبقات ابن سعد (١ / ١ / ٧٧) ، تفسير ابن كثير (٦ / ٢٥٦) ، الدر المنثور للسيوطى (٥ / ١٣٤) ، تفسير القرطبى (٨ / ٢٧٢) ، تفسير الطبرى (١١ / ٣٠).

٢٤٤

وينصرك ويغضب لك ، فهل ينفعه ذلك؟ قال : «نعم ، وجدته فى غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح» (١).

وفيه أيضا من حديث أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب ، فقال : «لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلى منه دماغه» (٢).

وعن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أهون أهل النار عذابا أبو طالب ، وهو منتعل بنعلين يغلى منهما دماغه» (٣).

ويروى أن أبا طالب لما حضرته الوفاة جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال : يا معشر قريش ، أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب ، فيكم السيد المطاع وفيكم المقدم الشجاع والواسع الباع ، واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب فى المآثر نصيبا إلا احتزتموه ، ولا شرفا إلا أدركتموه ، فلكم بذلك على الناس الفضيلة ، ولهم به إليكم الوسيلة ، وإنى أوصيكم بتعظيم هذه البنية فإن فيها مرضاة للرب وقواما للمعاش وثباتا للوطأة ، صلوا أرحامكم ولا تقطعوها فإن فى صلة الرحم منسأة فى الأجل وزيادة فى العدد ، واتركوا البغى والعقوق ففيهما هلكت القرون قبلكم ، أجيبوا الداعى وأعطوا السائل فإن فيهما شرف الحياة والممات ، عليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة ، فإن فيها محبة فى الخاص ومكرمة فى العام ، وإنى أوصيتم بمحمد خيرا فإنه الأمين فى قريش والصديق فى العرب ، وهو الجامع لكل ما أوصيتكم به ، وقد جاء بأمر قبله الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنآن ، وأيم الله لكأنى أنظر إلى صعاليك العرب وأهل البر فى الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا كلمته وعظموا أمره ، فخاض بهم غمرات الموت

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح مسلم (١٩٥) ، مسند الحميدى (٤٦٠).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٥ / ٦٦ ، ٨ / ١٤٤) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (١٠ / ٥١٣) ، دلائل النبوة للبيهقى (٢ / ٣٤٧) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٣٤٠٩٢) ، البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ١٢٥) ، تفسير القرطبى (٨ / ١٦٣) ، فتح البارى لابن حجر (١١ / ٤١٧) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (١ / ٥٤).

(٣) انظر الحديث فى : صحيح مسلم كتاب الإيمان (٣٦٢) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٢٩٠) ، مستدرك الحاكم (٤ / ٥٨١) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (٥٦٦٨) ، مسند أبو عوانة (١ / ٩٨) ، دلائل النبوة للبيهقى (٢ / ٣٤٨) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٩١٥١٢) ، البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ١٢٥).

٢٤٥

فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا ودورها خرابا وضعفاؤها أربابا وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه ، وأبعدهم منه أخطأهم عنده ، قد محضته العرب ودادها وأعطته قيادها ، دونكم يا معشر قريش ابن أبيكم ، كونوا له ولاة ولحزبه حماة ، والله لا يسلك أحد منهم سبيله إلا رشد ، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد ، ولو كان لنفسى مدة ولأجلى تأخير لكففت عنه الهزاهز ولدافعت عنه الدواهى.

ذكر خروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الطائف

بعد مهلك عمه أبى طالب

قال ابن إسحاق (١) : ولما هلك أبو طالب ونالت قريش من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لم تكن تنال منه فى حياته ، خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الطائف وحده يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه ، ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله.

فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ ، سادة ثقيف وأشرافهم ، وهم إخوة ثلاثة ، عبد ياليل ومسعود وخبيب ، بنو عمرو بن عمير بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف ، وعند أحدهم امرأة من قريش من بنى جمح ، فجلس إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام على من خالفه من قومه ، فقال له أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك ؛ وقال الآخر : أما وجد الله أحدا يرسله غيرك! وقال الثالث : والله لا أكلمك أبدا! لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغى لى أن أكلمك ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف ، وقد قال لهم فيما ذكر لى : إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا على. وكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبلغ قومه فيذئرهم ذلك عليه. فلم يفعلوا ، أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس.

قال موسى بن عقبة : وقعدوا له صفين على طريقه ، فلما مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين صفيهم جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة ، حتى أدموا رجليه. وزاد سليمان التيمى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أذلقته الحجارة قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه ، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون!.

__________________

(١) انظر : السيرة (٢ / ٢٩).

٢٤٦

قال ابن عقبة : فخلص منهم ورجلاه تسيلان دما فعمد إلى حائط من حوائطهم فاستظل فى ظل حبلة منه وهو مكروب موجع ، وإذا فى الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ورسوله.

وذكر ابن إسحاق (١) : أن الحائط كان لهما ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما اطمأن ، يعنى فى ظل الحبلة ، قال : «اللهم إليك أشكو ضعف قوتى ، وقلة حيلتى ، وهوانى على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربى ، إلى من تكلنى؟ إلى بعيد يتجهمنى أم إلى عدو ملكته أمرى؟ إن لم يكن بك على غضب فلا أبالى ولكن عافيتك هى أوسع لى ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بى غضبك أو يحل على سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك»(٢).

قال : فلما رآه ابنا ربيعة وما لقى ، تحركت له رحمهما ، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له : عداس ، فقالا له : خذ قطفا من هذا العنب ، فضعه فى هذا الطبق ، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل ، فقل له يأكل منه. ففعل عداس ، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : له : كل. فلما وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه يده قال : بسم الله ثم أكل ، فنظر عداس فى وجهه ثم قال له : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أى البلاد أنت يا عداس وما دينك؟ قال : نصرانى وأنا من أهل نينوى (٣). فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمن قرية الرجل الصالح يونس ابن متى؟ قال له عداس : وما يدريك ما يونس ابن متى؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ذاك أخى كان نبيا وأنا نبى. فأكب عداس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه. فلما جاءهما عداس قالا له : ويلك ، مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال : يا سيدى ما فى الأرض شيء خير من هذا ، لقد أعلمنى بأمر لا يعلمه إلا نبى. قالا : ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه (٤).

__________________

(١) انظر : السيرة (٢ / ٣٠).

(٢) انظر الحديث فى : تفسير الطبرى (١ / ٨٠ ، ٨١) ، وضعفه الألبانى فى ضعيف الجامع (١ / ٣٥٨).

(٣) نينوى : هى قرية يونس بن متى عليه‌السلام بالموصل وبسواد الكوفية ، ناحية يقال لها نينوى منها كربلاء.

(٤) انظر تخريج الحديث السابق.

٢٤٧

وقد خرج البخاري ومسلم من حديث عائشة رضى الله عنها ، أنها قالت للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ فقال : «لقد لقيت من قومك ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبنى إلى ما أردت ، فانطلقت على وجهى وأنا مهموم ، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسى فإذا أنا بسحابة قد أظلتنى ، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه‌السلام ، فنادانى وقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم». فنادانى ملك الجبال فسلم على فقال : يا محمد ذلك لك ، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا» (١).

وذكر ابن هشام (٢) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما انصرف عن أهل الطائف ، ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته ، سار إلى حراء ، ثم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره ، فقال : أنا حليف والحليف لا يجير. فبعث إلى سهيل بن عمرو فقال : إن بنى عامر لا تجير على بنى كعب. فبعث إلى المطعم بن عدى فأجابه إلى ذلك ، ثم تسلح المطعم وأهل بيته ، وخرجوا حتى أتوا المسجد ، ثم بعث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ادخل. فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فطاف بالبيت وصلى عنده ثم انصرف إلى منزله.

ولأجل هذه السابقة التي سبقت للمطعم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أسارى بدر : لو كان المطعم بن عدى حيّا ثم كلمنى فى هؤلاء النتنى ، لتركتهم له.

وفى انصراف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الطائف ، راجعا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف مر به النفر من الجن الذين ذكر الله تعالى ، فى كتابه ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنخلة (٣) قد قام من جوف الليل يصلى ، فمر به أولئك النفر من الجن فيما ذكر ابن إسحاق قال : وهم فيما ذكر لى سبعة نفر من جن أهل نصيبين ، فاستمعوا له ، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٤ / ١٣٩) ، صحيح مسلم كتاب الجهاد (١١٢) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (٩ / ٨٨) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (٥٨٤٨) ، فتح البارى لابن حجر (٧ / ١٦٦) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٣١٩٨٢) ، تفسير ابن كثير (٣ / ٢٥٩).

(٢) انظر : السيرة (٢ / ٣١).

(٣) نخلة : موضع على ليلة من مكة ، وكان بها لقريش وبنى كنانة بعض الطواغيت التي كانت تعظمها مع الكعبة لأنهم قالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) فكانت لهم بيوت تعظمها وتطوف بها كطوافها بالكعبة. انظر الروض المعطار (ص ٥٧٦).

٢٤٨

قومهم منذرين ، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا ، فقص الله خبرهم عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ، قال عز من قائل : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الأحقاف : ٢٩ ، ٣١].

ذكر عرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه

على قبائل العرب

قال ابن إسحاق (٢) : ثم قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه ، إلا قليلا مستضعفين ممن آمن به.

فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرض نفسه فى المواسم إذا كانت على قبائل العرب ، يدعوهم إلى الله ويخبرهم أنه نبى مرسل ، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به(٣).

قال ربيعة بن عباد الدؤلى : إنى لغلام شاب مع أبى بمنى ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول : يا بنى فلان إنى رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد ، وأن تؤمنوا بى وتصدقونى وتمنعونى حتى أبين عن الله ما بعثنى به ، وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان ، عليه حلة عدنية ، فإذا فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله ، وما دعا إليه قال ذلك الرجل : يا بنى فلان إن هذا يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم ، وحلفاءكم من الجن من بنى مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه.

قال ربيعة : فقلت لأبى : من هذا الرجل الذي يتبعه يرد عليه ما قال؟ قال : هذا عمه

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٤ / ٢٤٠) ، سنن الترمذى (٣٣٧٩).

(٢) انظر : السيرة (٢ / ٣٣).

(٣) انظر الحديث فى : الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٩٣) ، عيون الأثر لابن سيد الناس (٢ / ٢٥٧).

٢٤٩

عبد العزى بن عبد المطلب ، أبو لهب (١).

وعن غير ربيعة (٢) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى كندة فى منازلهم ، فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم نفسه ، فأبوا عليه (٣).

وأتى كلبا فى منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله ، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه حتى إنه ليقول لهم : «يا بنى عبد الله : إن الله قد أحسن اسم أبيكم». فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم (٤).

وعرض نفسه على بنى حنيفة فلم يك أحد من العرب أقبح ردا عليه منهم (٥).

ذكر الواقدى بإسناد له عن عامر بن سلمة الحنفى ، وكان قد أسلم فى آخر عمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : نسأل الله عزوجل ، أن لا يحرمنا الجنة ، لقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءنا ثلاثة أعوام بعكاظ وبمجنة وبذى المجاز يدعونا إلى الله عزوجل ، وأن نمنع له ظهره حتى يبلغ رسالات ربه ، ويشرط لنا الجنة ، فما استجبنا له ولا رددنا جميلا ، لقد أفحشنا عليه وحلم عنا.

قال عامر : فرجعت إلى حجر فى أول عام فقال لى هوذة بن على : هل كان فى موسمكم هذا خبر؟ فقلت : رجل من قريش يطوف على القبائل ، يدعوهم إلى الله وحده ، وإلى أن يمنعوا ظهره حتى يبلغ رسالة ربه ولهم الجنة. فقال هوذة : من أى قريش؟ قلت : هو من أوسطهم نسبا من بنى عبد المطلب.

قال هوذة : أهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟ قلت : هو هو. قال : أما إن أمره سيظهر على ما هاهنا ، فقلت : هاهنا قط من بين البلدان؟ قال : وغير ما هاهنا.

ثم وافيت السنة الثانية فقدمت حجرا ، فقال : ما فعل الرجل؟ فقلت : رأيته على حاله فى العام الماضى. قال : ثم وافيت فى السنة الثالثة وهى آخر ما رأيته ، وإذا بأمره قد أمر،

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٣ / ٤٩٢ ، ٤٩٣) ، مستدرك الحاكم (١ / ١٥) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ٣٥) ، تاريخ الطبرى (١ / ٥٥٦) ، البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ١٣٨).

(٢) ذكر فى السيرة (٢ / ٣٤) هذا الحديث عن ابن شهاب الزهرى.

(٣) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ١٣٩) ، تاريخ الطبرى (١ / ٥٥٦).

(٤) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٢ / ٤١٨) ، البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ١٣٩) ، تاريخ الطبرى (١ / ٥٥٦).

(٥) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ١٣٩) ، تاريخ الطبرى (١ / ٥٥٦).

٢٥٠

وإذا ذكره كثير فى الناس ، وأسمع أن الخزرج تبعته ، فقدمت حجرا ، فقال لى هوذة : ما فعل الرجل؟ فقلت : رأيت أمره قد أمر ورأيت قومه عليه أشداء. فقال هوذة : هو الذي قلت لك ، ولو أنا تبعناه كان خيرا لنا ، ولكنا نضن بملكنا. وكان قومه قد توجوه وملكوه.

قال عامر : فمر بى سليط بن عمرو العامرى ، حين بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هوذة ، فضيفته وأكرمته وأخبرنى من خبر هوذة ، أنه لم يسلم ، وقد رد ردا دون رد. قال : فأخبرت سليطا خبرى لهوذة ، فأخبره سليط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأسلم عامر بن سلمة ، ومات هوذة بن على سنة ثمان من الهجرة كافرا على نصرانيته. ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنى عبس إلى الإسلام فلم يقبلوا.

قال أبو وابصة العبسى فيما ذكر الواقدى : جاءنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى منزلنا بمنى ، فدعانا إلى الله ، فو الله ما استجبنا له ، وما خير لنا ، وكان معنا ميسرة بن مسروق العبسى فقال لنا : أحلف بالله لو صدقنا هذا الرجل وحملناه حتى نحل به وسط رحالنا لكان الرأى. فقال له القوم : من بين العرب نفعل هذا؟ قال : نعم من بين العرب ، فأحلف بالله ليظهرن أمره ، حتى يبلغ كل مبلغ. فقال له القوم : دعنا منك لا تعرضنا لما لا قبل لنا به.

وطمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ميسرة ، فكلمه ، فقال ميسرة : ما أحسن كلامك وأنوره ، ولكن قومى يخالفوننى ، وإنما الرجل بقومه. فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخرج القوم صادرين إلى أهليهم ، فقال لهم ميسرة : ميلوا بنا إلى فدك فإن بها يهود ، نسألهم عن هذا الرجل. فمالوا إلى يهود ، فأخرجوا سفرا لهم فوضعوه ، ثم درسوا ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الأمى العربى يركب الحمار ويجتزئ بالكسرة ، وليس بالطويل ولا بالقصير ، ولا بالجعد ولا بالبسط ، فى عينيه حمرة مشرب اللون. قالوا : فإن كان هذا الذي دعاكم فأجيبوه ، وادخلوا فى دينه ، فإنا نحسده ولا نتبعه ولنا منه فى مواطن بلاء عظيم ، ولا يبقى فى العرب أحد إلا تبعه أو قتله ، فكونوا ممن يتبعه.

قال ميسرة : يا قوم والله ما بقى شيء ، إن هذا لأمر بين. قال القوم : نرجع إلى الموسم ونلقاه ، ورجع القوم إلى بلادهم ، فأبى ذلك عليهم رجالهم ، فلم يتبعه أحد منهم ، فلما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة مهاجرا وحج حجة الوداع لقيه ميسرة ، فعرفه فقال : يا رسول الله ، والله ما زلت حريصا على اتباعك منذ يوم رأيتك أنخت بنا حتى

٢٥١

كان ما كان ، وأبى الله عزوجل ، إلا ما ترى من تأخر إسلامى ، وقد مات عامة النفر الذين كانوا معى ، فأين مدخلهم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مات على غير الإسلام فهو فى النار». فقال ميسرة : الحمد لله الذي تنقدنى. فأسلم ، فحسن إسلامه ، وكان له عند أبى بكر الصديق رضى الله عنه ، مكان.

وعن ابن إسحاق (١) : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بنى عامر بن صعصعة ، فدعاهم إلى الله عزوجل ، وعرض عليهم نفسه ، فقال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس : والله لو أنى أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ، ثم قال له : أرأيت إن تابعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال : «الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء». قال : أفنهدف نحورنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك (٢).

فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم أدركته السن حتى لا يقدر أن يوافى معهم موسمهم ، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون فى ذلك الموسم ، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان فى موسمهم ، فقالوا جاءنا فتى من قريش ثم أحد بنى عبد المطلب يزعم أنه بنى ، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا.

فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال : يا بنى عامر ، هل لنا من تلاف ، هل لذناباها من مطلب؟ (٣) والذي نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلى قط وإنها لحق ، فأين رأسكم كان عنكم؟!.

وزاد الواقدى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قام عن بنى عامر وانصرف إلى راحلته ليركبها أتاه بيجرة ، ونسبه الواقدى : بيجرة بن عبد الله بن سلمة ، ورجلان معه فنخسوا به راحلته حتى سقط عنها ، ويقال : قطعوا بطان راحلته.

قال : فقامت امرأة منهم يقال لها : ضباعة بنت قرط ، وكانت قد أسلمت وكانت تحت عبد الله بن جدعان ، فكرهته ففارقها وخلف عليها بعده هشام بن المغيرة ، وهى أم ابنه سلمة ، وصاحت : يا بنى عامر أيؤذى محمد وأنا شاهدة؟! فقام إليهم غطيف

__________________

(١) انظر : السيرة (٢ / ٣٤ ـ ٣٥).

(٢) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ١٣٩ ، ١٤٠) ، تاريخ الطبرى (١ / ٥٥٦).

(٣) قال السهيلى فى الروض الأنف (٢ / ١٨١) : هو مثل يضرب لما فاته منها ، وأصله : من ذنابى الطائر إذا أفلت من حباله فطلبت الأخذ بذنابيه.

٢٥٢

وغطفان ابنا سهيل وعذرة بن عبد الله بن سلمة بن قشير ، فضربوهم حتى هزموهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رآهم صنعوا ما صنعوا : اللهم بارك على هؤلاء ، والعن هؤلاء الآخرين. فأسلم الذين بارك عليهم جميعا ومات الذين لعن وهم كفار.

وذكر الواقدى أيضا ، من حديث جهم بن أبى جهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف على بنى عامر يدعوهم إلى الله ، فقام رجل منهم فقال له : عجبا لك والله ، أعياك قومك ثم أعياك أحياء العرب كلها ، حتى تأتينا وتردد علينا مرة بعد مرة! والله لأجعلنك حديثا لأهل الموسم.

ونهض إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان جالسا فكسر الله عزوجل ساقه ، فجعل يصيح من رجله ، وانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه. قال الواقدى بإسناد ذكره : وأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غسان فى منازلهم بعكاظ ، وهم جماعة كثيرة ، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله تعالى ، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا.

قال : وأن تمنعوا لى ظهرى حتى أبلغ رسالات ربى ولكم الجنة. فقال رجل منهم : هذا والله يا قوم الذي تذكر النصارى فى كتبها والذي يقولون : بقى من الأنبياء نبى اسمه أحمد ، فتعالوا نؤمن به ونتبعه فنكون من أنصاره وأوليائه ، فإنهم يزعمون أنه يظهر على ما بلغ الخف والحافر ، فيجتمع لنا شرف الدنيا مع ما يكون بعد الموت.

قال القوم : فنكون نحن أول العرب دخل فى هذا الأمر فتنصب لنا العرب قاطبة ويبلغ ملوك بنى الأصفر فيخرجوننا من ديارهم ، ولكننا نقف عنه وننظر ما تصنع العرب ، ثم ندخل فيما يدخل فيه الناس.

قال الرجل : يا محمد تأبى عشيرتى أن يتبعوا قولى فيك ، ولو أطاعونى رشدوا. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن هذه القلوب بيد الله عزوجل. فانصرف عنهم ، ثم عاد بعد ذلك إليهم فدعاهم إلى الإسلام فقالوا : نرجع إلى من وراءنا ثم نلقاك قابلا.

فرجعوا فوفد منهم نفر إلى الحارث بن أبى شمر ، فذكروا له أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال الحارث : إياكم أن يتبعه رجل منكم ، إذا يبيد ملكى من الشام ويتهمنى هرقل.

قال : فأمسكوا عن ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال : وأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنى محارب بن خصفة بعكاظ فوجدهم فى محالهم فيهم شيخ منهم وهو جالس فى أصحابه ، فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن راحلته ودعا إلى الله

٢٥٣

وطلب المنعة حتى يبلغ رسالات ربه ، فرد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقبح الرد وقال له : عجبا لك! يأبى قومك أن يتبعوك ، وتأتى إلى محارب تدعوهم إلى ترك ما كان عليه آباؤهم! اذهب فإنه غير متبعك رجل من محارب آخر الدهر.

ويقبل إليه سفيه منهم فقال : يا محمد ، ما فى بطن ناقتى هذه إن كنت صادقا؟ فلعمرى إنك لتدعى من العلم أعظم مما سألتك عنه ، تزعم أن الله يوحى إليك ويكلمك. فأسكت عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقبل إليه رجل منهم يقال له : سلمة بن قيس ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا قريبا من منزلهم ، فأراد أن يطرحه فى البئر ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتنحى عن البئر ، فجعل سلمة يقول : لو وقعت فى البئر استراح منك أهل الموسم. وأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزمام راحلته يقودها وهم يرمونها بالحجارة حتى توارى عنهم وهو يقول : «اللهم إنك لو شئت لم يكونوا هكذا ، وإن قلوبهم بيدك وأنت أعلم بهم ، فإن كان هذا عن سخط بك على فلك العتبى ، ولا حول ولا قوة إلا بك».

وذكر قاسم بن ثابت بن حزم العوفى من حديث عبد الله بن عباس ، عن على بن أبى طالب رضى الله عنه ، أنه قال : لما أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر الصديق ؛ حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر فسلم وكان رجلا نسابة ومقدما فى كل خير ، فقال : ممن القوم؟ قالوا : من ربيعة. قال : ومن رأى ربيعة؟ أمن هامتها أم من لهازمها : قالوا : بل من هامتها العظمى ، قال : وأى هامتها العظمى أنتم؟ قالوا : ذهل الأكبر (١).

فذكر الحديث فى مناسبة أبى بكر إياهم ومقاولته لهم ، وانبراء دغفل بن حنظلة النسابة إليهم من بينهم وهو يومئذ غلام حين بقل وجهه ، وموافقته لأبى بكر ، حتى اجتذب أبو بكر زمام الناقة ورجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو حديث مشهور تركته لشهرته ، مع أن المقصود فيما بعده.

قال على بن أبى طالب رضى الله عنه : ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار ، فتقدم أبو بكر فسلم وكان مقدما فى كل خير ، فقال : ممن القوم؟ قالوا : من شيبان بن ثعلبة ، فالتفت أبو بكر إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : بأبى أنت وأمى هؤلاء غرر فى قومهم. وفيهم مفروق بن عمرو وهانئ بن قبيصة والمثنى بن حارثة والنعمان بن شريك ، وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالا ولسانا ، وكانت له غديرتان تسقطان على تربيتيه وكان أدنى القوم مجلسا من أبى بكر.

__________________

(١) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٣ / ١٨٤ ـ ١٨٥).

٢٥٤

فقال له أبو بكر : كيف العدد فيكم؟ قال له مفروق : إنا لنزيد على ألف ولن تغلب ألف من قلة. فقال أبو بكر : فكيف المنعة فيكم؟ قال : علينا الجهد ولكل قوم جد ، قال أبو بكر : فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال مفروق : إنا لأشد ما نكون غضبا حين نلقى ، وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب ، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد والسلاح على اللقاح والنصر من عند الله ، يديلنا مرة ويديل علينا ، لعلك أخو قريش؟.

فقال أبو بكر : أو قد بلغكم أنه رسول الله؟ فها هو ذا. فقال مفروق : قد بلغنا أنه يذكر ذلك ، فإلام تدعو يا أخا قريش؟.

فتقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنى رسول الله ، وإلى أن تتؤونى وتنصرونى ، فإن قريشا قد ظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله ، واستغنت بالباطل عن الحق ، والله هو الغنى الحميد».

فقال مفروق : وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الأنعام : ١٥١].

فقال مفروق : وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل : ٩٠].

فقال مفروق : دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك. وكأنه أراد أن يشركه فى الكلام هانئ بن قبيصة. فقال : وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا.

فقال هانئ : قد سمعت مقالتك يا أخا قريش ، وإنى أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك ، لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر ، زلة فى الرأى وقلة نظر فى العاقبة ، وإنما تكون الزلة مع العجلة ، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا ، ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر. وكأنه أحب أن يشركه فى الكلام المثنى بن حارثة فقال : وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا.

فقال المثنى : قد سمعت مقالتك يا أخا قريش ، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة

٢٥٥

فى ترك ديننا واتباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر وإنما منزلنا بين صريى اليمامة والسمامة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هذان الصريان؟ فقال : أنهار كسرى ومياه العرب ، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول ، وأما ما كان من مياه العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول ، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا ولا نؤوى محدثا ، وإنى أرى أن هذا الأمر الذي تدعونا إليه هو مما تكرهه الملوك ، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلى مياه العرب فعلنا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أسأتم فى الرد إذ أفصحتم بالصدق ، وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه ، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم أتسبحون الله وتقدسونه؟» فقال النعمان : اللهم لك ذا.

فتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) [الأحزاب : ٤٥]. ثم نهض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذ بيدى فقال : يا أبا بكر ، يا أبا حسن ، أية أخلاق فى الجاهلية! ما أشرفها! بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض وبها يتحاجزون فيما بينهم (١).

قال ابن إسحاق (٢) : فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك من أمره كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الله تعالى من الهدى والرحمة ، ولا يسمع بقادم قدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له فدعاه إلى الله وعرض عليه ما عنده.

وقدم سويد بن صامت (٣) أخو بنى عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا ، فتصدى له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعاه إلى الله وإلى الإسلام فقال له سويد : فلعل الذي معك مثل الذي معى.

__________________

(١) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٣ / ١٨٤ ـ ١٨٥).

(٢) انظر : السيرة (٢ / ٣٥).

(٣) هو : سويد بن الصامت الأوسى ، لقى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسوق ذى المجاز من مكة فى حجة حجها سويد على ما كانوا يحجون عليه فى الجاهلية. انظر ترجمته فى : الاستيعاب (٢ / ٢٣٥ ، ٢٣٦) الترجمة رقم (١١٢١).

٢٥٦

قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما الذي معك؟» قال : مجلة لقمان (١) ، يعنى حكمة لقمان. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اعرضها على فعرضها عليه. فقال : «إن هذا الكلام حسن والذي معى أفضل من هذا ، قرآن أنزله الله على هو هدى ونور».

فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام ، فلم يبعد منه ، وقال : إن هذا القول حسن. ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه ، فلم يلبث أن قتلته الخزرج قبل بعاث. فإن كان رجال من قومه ليقولون : إنا لنراه قد قتل وهو مسلم (٢).

وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل ، لجلده وشعره وشرفه ونسبه وهو القائل :

ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى

مقاتله بالغيب ساءك ما يفرى

مقالته كالشهد ما كان شاهدا

وبالغيب مأثور على ثغرة النحر

يسرك باديه وتحت أديمه

نميمة غش تبترى عقب الظهر (٣)

تبين لك العينان ما هو كاتم

من الغل والبغضاء بالنظر الشزر

فرشنى بخير طال ما قد بريتنى

وخير الموالى من يريش ولا يبرى

ولما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بنى عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج ، سمع بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتاهم فجلس إليهم فقال لهم : هل لكم فى خير مما جئتم له؟ فقالوا له : وما ذاك؟ قال : أنا رسول الله بعثنى إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا وأنزل على الكتاب. ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.

__________________

(١) قال السهيلى فى الروض الأنف (٢ / ١٨٣) : مجلة لقمان وهى الصحيفة وكأنها مفصلة من الجلال والجلالة : أما الجلالة فمن صفة المخلوق ، والجلال من صفة الله تعالى وقد أجاز بعضهم أن يقاس المخلوق : جلا وجلالة وأنشد :

فلا ذا جلال هبته لجلالة

ولا ذا ضياع هن يتركن للفقر

ولقمان كان نوبيا من أهل آئلة ، وهو لقمان بن عنقاء بن سرور فيما ذكروا وابنه الذي ذكر فى القرآن هو ثاران فيما ذكر الزجاج وغيره ، وقد قيل فى اسمه غير ذلك ، وليس بلقمان بن عاد الحميرى. انتهى.

(٢) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٢ / ٤١٩) ، البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ١٤٧).

(٣) ذكر هذا البيت ابن عبد البر فى الاستيعاب (٢ / ٢٣٦) فذكر شطره الأول كما ورد هنا أما الثانى :

 ...

منحية شر يفترى عقب الظهر

وانظر الأبيات أيضا فى أسد الغابة الترجمة رقم (٢٣٤٨).

٢٥٧

فقال إياس بن معاذ ، وكان غلاما حدثا : أى قوم ، هذا والله خير لكم مما جئتم له.

فيأخذ أبو الحيسر جفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس وقال : دعنا منك ، فلعمرى لقد جئنا لغير هذا ، فصمت إياس ، وقام عنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانصرفوا إلى المدينة ، فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج (١).

ثم لم يلبث إياس أن هلك ، فأخبر من حضر من قومه عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات ، فما كانوا يشكون أن قد مات مسلما ، لقد كان استشعر الإسلام فى ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما سمع.

بدء إسلام الأنصار

وذكر العقبة الأولى

قال ابن إسحاق (٢) : فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه وإنجاز موعوده له ، خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الموسم الذي لقى فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع فى كل موسم ، فبينما هو عند العقبة لقى رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا ، فقال لهم : «من أنتم؟» قالوا : نفر من الخزرج ، قال : «أمن موالى يهود؟» قالوا : نعم ، قال : «أفلا تجلسون أكلمكم؟» قالوا : بلى ، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.

وكان مما صنع الله به فى الإسلام أن يهود كانوا معهم فى بلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان ، وكان قد عزوهم ببلادهم ، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم : «إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم».

فلما كلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض : يا قوم تعلموا والله إنه للنبى الذي توعدكم به يهود ، فلا يسبقنكم إليه.

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٥ / ٤٢٧) ، دلائل النبوة للبيهقى (٢ / ٤٢٠ ، ٤٢١) ، المستدرك للحاكم (٣ / ١٨٠ ، ١٨١).

(٢) انظر : السيرة (٢ / ٣٨).

٢٥٨

فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا له : إنا تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا (١).

وهم فيما ذكر لى (٢) ، ستة نفر من الخزرج : منهم من بنى النجار : أسعد بن زرارة أبو أمامة (٣) ، وعوف بن الحارث بن رفاعة وهو ابن عفراء (٤). ومن بنى زريق : رافع بن مالك بن العجلان (٥) ، ومن بنى سلمة : قطبة بن عامر بن حديدة (٦) وعقبة بن عامر بن نابى (٧) ، وجابر بن عبد الله بن رئاب (٨).

فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم ؛ فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا فيهم من الستة المسمين قبل : أبو أمامة وعوف ورافع وقطبة وعقبة ، ومن غير الستة من الخزرج أيضا :

__________________

(١) انظر الحديث فى : عيون الأثر لابن سيد الناس (١ / ٢٦٢) ، دلائل النبوة للبيهقى (٢ / ٤٣٣ ، ٤٣٤) ، تاريخ الطبرى (١ / ٥٨٨).

(٢) انظر : السيرة (٢ / ٣٩ ـ ٤٠).

(٣) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٣٠) ، الإصابة الترجمة رقم (١١١) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٩٨).

(٤) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٠٢٥) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٤١٢٨).

(٥) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٧٣٩) ، الإصابة الترجمة رقم (٢٥٥٠) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٥٩٨) ، الثقات (٣ / ١٢٣) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ١٧٤) ، تقريب التهذيب (١ / ٢٤١) ، الجرح والتعديل (٣ / ٢١٥٩) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٢٣٢) ، سير أعلام النبلاء (١ / ٢١٩) ، دائرة معارف الأعلميّ (١٨ / ٢٠٢).

(٦) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢١٤٠) ، الإصابة الترجمة رقم (٧١٧٣) ، أسد الغابة الترجمة (٤٣٠٨) ، الثقات (٣ / ٣٤٧) ، الطبقات الكبرى (٩ / ١٥٩) ، تجريد أسماء الصحابة (٢ / ١٥) ، الاستبصار (١٦٣).

(٧) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٨٤٤) ، الإصابة الترجمة رقم (٥٦١٩).

(٨) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٨٩) ، الإصابة الترجمة رقم (١٠٢٧) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٦٤٦) ، طبقات خليفة الترجمة رقم (٦٢٣) ، التاريخ الكبير (٢ / ٢٠٧) ، الجرح والتعديل (٢ / ٤٩٢) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (٢٥) ، تهذيب الكمال (١٨٢) ، تاريخ الإسلام (٣ / ١٤٣) ، تذكرة الحفاظ (١ / ٤٠) ، تذهيب التهذيب (١ / ٩٩) ، خلاصة تذهيب الكمال (٥٠) ، شذرات الذهب (١ / ٨٤) ، تهذيب ابن عساكر (٣ / ٣٨٩).

٢٥٩

ذكوان بن عبد قيس بن خلدة الزرقى (١) ، وعبادة بن الصامت (٢) ، ويزيد بن ثعلبة (٣) من بنى غصينة من بلى حليف لهم ، والعباس بن عبادة بن نضلة العجلانى (٤) ، ومعاذ بن الحارث بن رفاعة (٥) ، وهو ابن عفراء ، ومن الأوس : أبو الهيثم بن مالك بن التيهان (٦) ، وعويم بن ساعدة (٧) ، فلقوه بالعقبة ، وهى العقبة الأولى.

قال عبادة بن الصامت : كنت ممن حضر العقبة الأولى ، وكنا اثنى عشر رجلا ، بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض الحرب ، على أن لا نشرك بالله شيئا ، ولا نسرق ولا نزنى ولا نقتل أولادنا ولا نأتى بهتانا نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه فى معروف. قال : «فإن وفيتم فلكم الجنة ، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأصبتم بحد فى الدنيا فهو كفارة له ، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله ، إن شاء عذب وإن شاء غفر» (٨).

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٧١٠) ، الإصابة الترجمة رقم (٢٤٤٢) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٥٣١) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ١٦٧) ، الوافى بالوفيات (١٤ / ٣٨) ، الاستبصار (٤٧) ، الجرح والتعديل (٣ / ٢٠٣٨).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٣٨٠) ، الإصابة الترجمة رقم (٤٥١٥) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٧٩١).

(٣) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٧٩١) ، الإصابة الترجمة رقم (٩٢٦١) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٥٥٣٦) ، الثقات (٣ / ٤٤٥) ، تجريد أسماء الصحابة (٢ / ١٣٥) ، الطبقات الكبرى (١ / ٢٢٠).

(٤) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٣٨٥) ، الإصابة الترجمة رقم (٢٥٢٥) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٧٩٨) ، الوافى بالوفيات (١٦ / ٦٣٤) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢٩٥) ، الثقات (٣ / ٢٨٨).

(٥) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٤٥٠) ، الإصابة الترجمة رقم (٨٠٦٨).

(٦) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٣٢٤٦) ، الإصابة الترجمة رقم (١٠٦٨٩) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٦٣٣١) ، تجريد أسماء الصحابة (٢ / ٢١٠) ، التاريخ لابن معين (٢ / ١٤٨) ، تنقيح المقال (٣ / ٢٤).

(٧) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٠٧٥) ، الإصابة الترجمة رقم (٦١٢٧) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٤١٣٨) ، طبقات ابن سعد (٣ / ٢ / ٣٠) ، مشاهير علماء الأمصار (١٠٧) ، حلية الأولياء (٢ / ١١) ، تهذيب الكمال (١٠٦٨) ، تهذيب التهذيب (٨ / ١٧٤) ، خلاصة تذهيب الكمال (٣٠٦).

(٨) انظر الحديث فى : صحيح البخاري كتاب مناقب الأنصار (٣٨٩٢ ، ٣٨٩٣) ، صحيح ـ

٢٦٠