الإكتفا - ج ١

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ١

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبدالقادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2943-0
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

قال ابن هشام : فخرج إلى دومة الجندل (١).

وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية إلى سيف البحر عليهم أبو عبيدة بن الجراح وزودهم جرابا من تمر فجعل يقوتهم إياه حتى صار إلى أن يعده لهم عددا حتى كان يعطى كل رجل منهم كل يوم تمرة فقسمها يوما فنقصت تمرة عن رجل فوجد فقدها ذلك اليوم!.

قال بعضهم : فلما جهدنا الجوع أخرج الله لنا دابة من البحر فأصبنا من لحمها وودكها وأقمنا عليها عشرين ليلة حتى سمنا وأخذ أميرنا ضلعا من أضلاعها فوضعها على طريقه ثم أمر بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منا فجلس عليه فخرج من تحتها وما مست رأسه فلما قدمنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرناه خبرها وسألناه عن أكلنا إياها فقال : «رزق رزقكموه الله» (٢).

وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمرو بن أمية الضمرى بعد مقتل خبيب وأصحابه إلى مكة وأمره ان يقتل أبا سفيان بن حرب وبعث معه جبار بن صخر الأنصاري ، فخرجا حتى قدما مكة وحبسا جمليهما بشعب من شعاب يأجج ثم دخلا مكة ليلا فقال جبار لعمرو : لو أنا طفنا بالبيت وصلينا ركعتين؟ فقال عمرو : إن القوم إذا تعشوا جلسوا بأفنيتهم ، فقال : كلا إن شاء الله. قال عمرو : فطفنا بالبيت وصلينا ثم خرجنا نريد أبا سفيان ، فو الله إنا لنمشى بمكة إذا نظر إلى رجل من أهل مكة فعرفنى فقال : عمرو بن أمية! والله إن قدمها إلا لشر. فقلت لصاحبى : النجاء. فخرجنا نشتد حتى أصعدنا فى جبل وخرجوا فى طلبنا حتى إذا علونا الجبل يئسوا منّا فرجعنا فدخلنا كهفا فى الجبل فبتنا وقد أخذنا حجارة فرضمناها دوننا. فلما أصبحنا غدا رجل من قريش يقود فرسا له ويختلى عليها فغشينا ونحن فى الغار فقلت : إن رآنا صاح بنا فأخذنا فقتلنا. قال : ومعى خنجر قد أعددته لأبى سفيان ، فأخرج إليه فأضربه على ثديه وصاح صيحة أسمع أهل مكة ، وأرجع فأدخل مكانى. وجاءه الناس يشتدون وهو بآخر رمق فقالوا : من ضربك؟ فقال : عمرو بن أمية. وغلبه الموت فمات مكانه ولم يدلل على مكاننا ، فاحتملوه فقلت لصاحبى لما أمسينا : النجاء.

فخرجنا ليلا من مكة نريد المدينة فمررنا بالحرس وهم يحرسون جيفة خبيب ابن

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٥٤).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح مسلم (٣ / ١٥٣٥ / ١٧ ، ١٨) ، مسند الإمام أحمد (٣ / ٣١١) ، مسند عبد الرزاق (٤ / ٨٦٦٨).

٥٨١

عدى فقال أحدهم : والله ما رأيت كالليلة أشبه بمشية عمرو بن أمية ، لو لا أنه بالمدينة لقلت هو عمرو بن أمية. فلما حاذى عمرو الخشبة شد عليها فاحتملها وخرج هو وصاحبه شدا وخرجوا وراءه حتى أتى جرفا بمبسط يأجج فرمى بالخشبة فى الجرف فغيبه الله عنهم فلم يقدروا عليه.

قال عمرو بن أمية : وقلت لصاحبى : النجاء حتى تأتى بعيرك فتقعد عليه فإنى شاغل عنك القوم وكان الأنصاري لا رجلة له. قال : ومضيت حتى اخرج على ضجنان ثم آويت إلى جبل فأدخل كهفا ، فبينا أنا فيه دخل على شيخ من بنى الديل أعور فى غنيمة فقال : من الرجل؟ فقلت : من بنى بكر فمن أنت؟ قال : من بنى بكر. قلت : مرحبا فاضطجع. ثم رفع عقيرته فقال :

ولست بمسلم ما دمت حيا

ولا دان لدين المسلمينا

فقلت فى نفسى : ستعلم. فأمهلته حتى إذا نام أخذت قوسى فجعلت سيتها فى عينه الصحيحة ثم تحاملت عليه حتى بلغت العظم. ثم خرجت النجاء حتى جئت العرج ثم سلكت ركوبه حتى إذا هبطت النقيع (١) إذا رجلان من قريش من المشركين كانت قريش بعثتهما عينا إلى المدينة ينظران ويتحسسان فقلت : استأسرا. فأبيا فأرمى أحدهما بسهم فأقتله واستأسر الآخر فأوثقته رباطا وقدمت به المدينة (٢).

وسرية زيد بن حارثة إلى مدين فأصاب سبيا من أهل ميناء وهى السواحل وفيها جماع من الناس فبيعوا ففرق بينهم يعنى بين الأمهات والأولاد فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يبكون فقال : ما لهم؟ فقيل : يا رسول الله ، فرق بينهم. فقال : «لا تبيعوهم إلا جميعا» (٣).

وغزوة سالم ؛ بن عمير أبا عفك أحد بنى عمرو بن عوف وكان نجم نفاقه حين قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحارث بن سويد بن صامت فقال :

لقد عشت دهرا وما إن أرى

من الناس دارا ولا مجمعا

__________________

(١) العرج : واد بالحجاز. ركوبة : ثنية بين الجرميت. النقيع : موضع ببلاد مزينة.

(٢) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٣ / ٣٣ ـ ٣٣٧) بطوله. وذكره الطبرى فى تاريخه (٢ / ٧٩ ، ٨٠) مختصرا ، والبيهقي فى السنن الكبرى (٩ / ٢١٣) ، ابن سعد فى الطبقات (٢ / ٩٣ ، ٩٤) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (٦٩ ـ ٧١).

(٣) انظر الحديث فى : سنن سعيد بن منصور (٢ / ٢٦٦١) ، الإصابة لابن حجر (٣ / ٢٧٥). وانظر السيرة (٤ / ٢٥٧) ، وفيه قال ابن هشام يعقب على الحديث : أراد الأمهات والأولاد.

٥٨٢

أبر عهودا وأوفى لمن

يعاقد فيهم إذا ما دعا

من أولاد قيلة فى جمعهم

تهد الجبال ولم تخضعا

فصدعهم راكب جاءهم

حلال حرام لشتى معا

فلو أن بالعز صدقتم

أو الملك تابعتم تبعا (١)

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لى بهذا الخبيث؟» فخرج سالم بن عمير أخو بنى عمرو ابن عوف ، وهو أحد البكائين ، فقتله (٢). فقالت أمامة المريدية فى ذلك :

تكذب دين الله والمرء أحمدا

لعمرى الذي امناك بئس الذي يمنى

حباك حنيف آخر الليل طعنة

أبا عفك خذها على كبر السن (٣)

وغزوة عمير بن عدى الخطمى وهو الذي يدعى القارئ عصماء بنت مروان من بنى أمية بن زيد ، وكانت تحت رجل من بنى خطمة يقال له : يزيد بن زيد ، فلما قتل أبو عفك نافقت فقالت تعيب الإسلام وأهله ، وتؤنب الأنصار فى اتباعهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

أطعتم أتاوى من غيركم

فلا من مراد ولا مذحج (*)

ترجونه بعد قتل الرءوس

كما يرتجى مرق المنضج

ألا آنف يبتغى غرة

فيقطع من أمل المرتجى (٤)

فلما بلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا [آخذ] (*) لى من ابنة مروان؟» فسمع ذلك من

__________________

(١) انظر الأبيات فى : السيرة (٤ / ٢٥٨).

(٢) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٥ / ٢٢١).

(٣) انظر الأبيات فى : السيرة (٤ / ٢٥٨).

(*) ذكر فى السيرة بيت قبل هذا وهو :

باشت بنى مالك والنبيت

وعوف وباست بنى الخزرج

انظر : السيرة (٤ / ٢٥٨).

(٤) وذمر فى السيرة أبيات أجابها به حسان بن ثابت فقال :

بنو وائل وبنو واقف

وخطمة دون بنى الخزرج

متى ما دعت سفها ويحها

بعولتها والمنايا تجى

فهزت فتى ما جدا عرقه

كريم المداخل والمخرج

فضرجها من نجيع الدما

ء بعد الهدو فلم يحرج

انظر : السيرة (٤ / ٢٥٨ ـ ٢٥٩).

(*) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل «أحد» ، وما أوردناه من السيرة.

٥٨٣

قوله عمير بن عدى فلما أمسى من تلك الليلة سما عليها فى بيتها فقتلها ثم أصبح مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إنى قد قتلتها : فقال : نصرت الله ورسوله يا عمير. فقال : هل على شيء من شأنها يا رسول الله؟ فقال : «لا ينتطح فيها عنزان» (١).

فرجع عمير إلى قومه وبنو خطمة يومئذ كثير فوجههم فى شأن بنت مروان ولها بنون خمسة رجال. فقال : يا بنى خطمة ، أنا قتلت بنت مروان فكيدونى جميعا ثم لا تنظرون. فذلك اليوم أول ما عز الإسلام فى دار بنى خطمة ، وكان يستخفى بإسلامه فيهم من أسلم. ويومئذ أسلم رجال منهم لما رأوا من عز الإسلام.

والسرية التي أسرت ثمامة بن أثال الحنفى سيد أهل اليمامة ، وذلك أن خيلا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرجت فأخذت رجلا من بنى حنيفة لا يشعرون من هو ، حتى أتوا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «أتدرون من أخذتم؟ هذا ثمامة بن أثال الحنفى ، أحسنوا إساره» ، ورجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهله. فقال : «اجمعوا ما كان عندكم من طعام ، فابعثوا به إليه» ، وأمر بلقحته أن يغدى عليه بها ويراح ، فجعل لا يقع من ثمامة موقعا ، ويأتيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول : «أسلم يا ثمامة» ، وفى رواية : «ما تقول يا ثمامة؟» فيقول : يا محمد ، إن تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن ترد الفداء فسل تعط منه ما شئت. فمكث ما شاء الله أن يمكث ثم قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما : أطلقوا ثمامة. فلما أطلقوه خرج حتى اتى البقيع فتطهر فأحسن طهوره ثم أقبل فبايع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإسلام ، فلما أمسى جاءوه بما كانوا يأتونه به من الطعام فلم ينل منه إلا قليلا ، وباللقحة فلم يصب من حلابها إلا يسيرا ، فعجب المسلمون من ذلك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مم تعجبون ، من رجل أكل فى أول النهار فى معى كافر وأكل آخر النهار فى معى مسلم ، إن الكافر يأكل فى سبعة أمعاء وإن المسلم يأكل فى معى واحد» (٢).

__________________

(١) انظر الحديث فى : كنز العمال للمتقى الهندى (٤٤١٣١) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (٢ / ٢٧ ، ٢٨).

(٢) هذا الحديث عند ابن إسحاق ، وإسناده عنده ضعيف ، وللحديث شواهد عن أبى هريرة من وجوه ، أخرجها الترمذى فى سننه (١٨١٩) ، ابن ماجه فى سننه (٣٢٥٦) ، النسائى فى السنن الكبرى (٤ / ١٧٨).

وأخرج البخاري فى كتاب المغازى (٧ / ٤٣٧٢) ، مسلم فى كتاب الجهاد (٣ / ٥٩) من طريق سعيد بن أبى سعيد أنه سمع أبا هريرة رضى الله عنه قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيلا قبل نجد الحيثد ، فذكره بطوله ، وفيه : إسلام ثمامة بن أثال ، وليس فى الحديث ذكر الطعام.

٥٨٤

وقال ثمامة حين أسلم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد كان وجهك أبغض الوجوه إلىّ فأصبح وهو أحب الوجوه إلىّ ، ولقد كان دينك أبغض الدين إلىّ فأصبح وهو أحب الأديان إلىّ ، ولقد كان بلدك أبغض البلاد إلىّ فأصبح وهو أحب البلاد إلىّ. ثم قال : يا رسول الله ، إن خيلك أخذتنى وأنا أريد العمرة فأذن لى يا رسول الله. فأذن له فخرج معتمرا فلما قدم مكة قالوا : صبأت يا ثمامة. قال : لا ولكنى اتبعت خير الدين دين محمد ، ولا والله لا تصل إليكم حبة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا ، فكتبوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك تأمر بصلة الرحم وإنك قد قطعت أرحامنا. فكتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن خل بين قومى وبين ميرتهم. ففعل (١).

ويقال : إنه لما كان ببطن مكة فى عمرته لبى فكان اول من دخل مكة يلبى ، فأخذته قريش فقالوا : لقد اجترأت علينا. وهموا بقتله ثم خلوه لمكان حاجتهم إليه وإلى بلده فقال بعض بنى حنيفة :

ومنا الذي لبى بمكة معلنا

برغم أبى سفيان فى الأشهر الحرم

وبعث علقمة بن مجزز المدلجى لما قتل وقاص بن مجزر اخوه يوم ذى قرد ، وسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبعثه فى آثار القوم ليدرك ثأره فيهم ، فبعثه فى نفر من المسلمين ، قال أبو سعيد الخدرى : وأنا فيهم ، حتى إذا بلغنا رأس غزاتنا أو كنا ببعض الطريق أذن لطائفة من الجيش واستعمل عليهم عبد الله بن حذافة السهمى وكانت فيه دعابة ، فلما كان ببعض الطريق أوقد نارا ثم قال للقوم : أليس لى عليكم السمع والطاعة؟ قالوا : بلى. قال : فما آمركم بشيء إلا فعلتموه؟ قالوا : نعم. قال : فإنى أعزم عليكم بحقى وطاعتى إلا تواثبتم فى هذه النار. فقام بعض القوم يحتجز حتى ظن أنهم واثبون فيها. فقال لهم : اجلسوا فإنما كنت أضحك معكم. فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «من أمركم منهم بمعصية فلا تطيعوه»(٢).

ويقال : إن علقمة بن مجزر رجع هو وأصحابه ولم يلق كيدا (٣).

وبعث كرز بن جابر. وذلك أن نفرا من قيس كبة من بجيلة قدموا على رسول الله

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٦٠ ـ ٢٦١).

(٢) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٣ / ٦٧) ، سنن ابن ماجه (٢ / ٢٨٦٣) ، طبقات ابن سعد (٢ / ١٦٣) ، صحيح ابن حبان (٧ / ٤٥٤٠).

(٣) انظر : السيرة (٤ / ٢٦٢).

٥٨٥

صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستوبئوا المدينة وطلحوا وكانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقاح ترعى ناحية الجماء يرعاها عبد له يقال له : يسار ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصابه فى غزوة بنى محارب وبنى ثعلبة ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو خرجتم إلى اللقاح فشربتم من ألبانها وأبوالها» ، فخرجوا إليها فلما صحوا وانطوت بطونهم عكنا عدوا على راعى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذبحوه وغرزوا الشوك فى عينيه واستاقوا اللقاح فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى آثارهم كرزا فلحقهم ، فأتى بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرجعه من غزوة ذى قرد فقطع أيديهم وسمل أعينهم ، وألقوا فى الحرة يستسقون ، فلا يسقون حتى ماتوا (١).

وغزوة على بن أبى طالب اليمن ، غزاها مرتين. وقال أبو عمر المدينى : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بن أبى طالب إلى اليمن وبعث خالد بن الوليد فى جند آخر وقال : «إن التقيتما فالأمير على بن أبى طالب» (٢).

ثم بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسامة بن زيد بن حارثة إلى الشام وأمره ان يوطىء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، وهو آخر بعث أمر به رسول الله صلى الله عليه و

سلم. فتجهز الناس وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون. فبينا الناس على ذلك ابتدئ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشكواه الذي قبضه الله فيه إلى ما أراد من رحمته وكرامته ، فلم ينفذ بعث أسامة إلا بعد وفاته صلوات الله عليه ورحمته وبركاته (٣).

وسيأتى ذكر ذلك مستوفى إن شاء الله.

فهذه مغازى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعوثه وسراياه التي أعز الله بها الدين ودوخ بها الكافرين ، وشد أزره فيها بمن اختاره لصحبته ونصرته من الأنصار والمهاجرين رضى الله عنهم أجمعين وتلك أيام الله التي يجب بها التذكر والتذكير ، ويتأكد شكر الله سبحانه على ما يسرته منها المقادير.

وقال حسان بن ثابت يعدد أيام الأنصار مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويذكر مواطنهم معه فى

__________________

(١) انظر الحديث فى : مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ٢٩٤) ، سنن النسائى (٧ / ٤٠٤١) ، مسند الإمام أحمد (٣ / ١٠٧ ، ١٦٣ ، ١٧٠ ، ١٧٧ ، ١٨٦ ، ١٩٨ ، ٢٠٥ ، ٢٣١ ، ٢٨٧ ، ٢٩٠) ، سنن أبى داود (٤ / ٤٣٦٤ ـ ٤٣٦٨).

(٢) انظر الحديث فى : تاريخ الطبرى (٢ / ٢٩٧) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٨ / ٩٨).

(٣) انظر : السيرة (٤ / ٢٦٣ ـ ٢٦٤).

٥٨٦

أيام غزوه وتروى لابنه عبد الرحمن (١) :

ألستم خير معد كلها نفرا

ومعشرا إن هم عموا وإن حصلوا

قوم هم شهدوا بدرا بأجمعهم

مع الرسول فما آلوا وما خذلوا

وبايعوه فلم ينكث به أحد

منهم ولم يك فى أيمانهم دخل

ويوم صبحهم فى الشعب من أحد

ضرب رصين كحر النار مشتعل

ويوم ذى قرد يوم استثار بهم

على الجياد فما خاموا وما نكلوا

وذا العشيرة جاسوها بخيلهم

مع الرسول عليها البيض والأسل

ويوم ودان أجلوا اهله رقصا

بالخيل حتى نهانا الحزن والجبل

وليلة طلبوا فيها عدوهم

لله والله يجزيهم بما عملوا

وغزوة يوم نجد ثم كان لهم

مع الرسول بها الأسلاب والنفل

وليلة بحنين جالدوا معه

فيها يعلّهم بالحرب إذ نهلوا

وغزوة القاع فرقنا العدو به

كما تفرق دون المشرب الرسل

ويوم بويع كانوا أهل بيعته

على الجلاد فآسوه وما عدلوا

وغزوة الفتح كانوا فى سريته

مرابطين فما طاشوا وما عجلوا

ويوم خيبر كانوا فى كتيبته

يمشون كلهم مستبسل بطل

بالبيض ترعش فى الأيمان عارية

تعوج فى الضرب أحيانا وتعتدل

ويوم سار رسول الله محتسبا

إلى تبوك وهم راياته الأول

وساسة الحرب إن حرب بدت لهم

حتى بدا لهم الإقبال فالقفل

أولئك القوم أنصار النبيّ وهم

قومى أصير إليهم حين أتصل

ماتوا كراما ولم تنكث عهودهم

وقتلهم فى سبيل الله إذ قتلوا

وقال حسان أيضا (٢) :

وكنا ملوك الناس قبل محمد

فلما أتى الإسلام كان لنا الفضل

وأكرمنا الله الذي ليس غيره

إله بأيام مضت مالها شكل

بنصر الإله والرسول ودينه

وألبسناه اسما مضى ماله مثل

أولئك قومى خير قوم بأسرهم

فما كان من خير فقومى له أهل

يربون بالمعروف معروف من مضى

وليس عليهم دون معروفهم قفل

__________________

(١) انظر الأبيات فى : السيرة (٤ / ١٨١ ـ ١٨٢).

(٢) انظر الأبيات فى : السيرة (٤ / ١٨٤).

٥٨٧

إذا اختبطوا لم يفحشوا فى نديهم

وليس على سؤالهم عندهم بخل

وإن حاربوا أو سالموا لم يشبهوا

فحربهم حتف وسلمهم سهل

وجارهم موف بعلياء بيته

له ما ثوى فينا الكرامة والبذل

وحاملهم موف بكل حمالة

تحمل لا غرم عليه ولا خذل

وقائلهم بالحق إن قال قائل

وحلمهم عود وحكمهم عدل

ومنا أمير المسلمين حياته

ومن غسلته من جنابته الرسل

وقال حسان أيضا من قصيدة له أولها (١) :

وقومى أولئك إن تسألى

كرام إذا الضيف يوما ألم

عظام القدور لأيسارهم

يكبون فيها المسن السنم

يواسون جارهم فى الغنى

ويحمون مولاهم إن ظلم

فكانوا ملوكا بأرضيهم

يبادون غضبا بأمر غشم

ملوكا على الناس لم يملكوا

من الدهر يوما كحل القسم (*)

ملوكا إذا غشموا فى البلا

د لا ينكلون ولكن قدم

فأبنا بساداتهم والنساء

وأولادهم فيهم تقتسم

ورثنا مساكنهم بعدهم

وكنا ملوكا بها لم نرم

__________________

(١) انظر الأبيات فى : السيرة (٤ / ١٨٤).

(*) ذكر فى السيرة أبيات بعد هذا لم يذكرها هنا وهى :

أنبوا بعاد وأشياعهم

ثمود وبعض بقايا إرم

بيثرب قد شيدوا فى النخيل

حصونا ودجن فيها النعم

نواضح قد علمتها اليهو

د عل إليك وقولا هلم

وفيما اشتهوا من عصير القطا

ف والعيش رخوا على غيرهم

فسرنا إليهم بأثقالنا

على كل فحل هجان قطم

جنبنا بهن جياد الخيو

ل قد جللوها جلال الأدم

فلما أناخوا بجنبى صرار

وشدوا السروج بلى الحزم

فما راعهم غير معج الخيو

ل والزحف من خلفهم قد دهم

فطاروا سراعا وقد أفزعوا

وجئنا إليهم كأسد الأجم

على كل سلهبة فى الصبا

ن لا يشتكين نحول السأم

وكل كميت مطار الفؤاد

أمين الفصوص كمثل الزلم

عليها فوارس قد عودوا

قراع الكماة وضرب البهم

انظر : السيرة (٤ / ١٨٣ ـ ١٨٤).

٥٨٨

فلما اتانا الرسول الرشي

د بالحق والنور بعد الظلم

فقلنا صدقت رسول المليك

هلم إلينا وفينا أقم

فنشهد أنك عبد الإل

ه أرسلت نورا بدين قيم

فإنا وأولادنا جنة

نقيك وفى مالنا فاحتكم

فنحن أولئك إن كذبوك

فناد نداء ولا تحشم

وناد بما كنت أخفيته

نداء جهارا ولا تكتم

فسار الغواة بأسيافهم

إليه يظنون أن يخترم

فقمنا إليهم بأسيافنا

نجالد عنه بغاة الأمم

بكل صقيل له ميعة

رقيق الذباب عضوض خذم

إذا ما يصادف صم العظا

م لم ينب عنها ولم ينثلم

فذلك ما ورثتنا القرو

م مجدا تليدا وعزا أشم

إذا مر نسل كفى نسله

وغادر نسلا إذا ما انقصم

فما إن من الناس إلا لنا

عليه وإن خاس فضل النعم

ذكر الوفود على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

ملخصا من كتاب ابن إسحاق والواقدى

وغيرهما

وما زال آحاد الوافدين وأفذاذ الوفود من العرب يغدون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منذ أظهر الله دينه ، وقهر أعداه. ولكن انبعاث جماهيرهم إلى ذلك إنما كان بعد فتح مكة ، ومعظمه فى سنة تسع ، ولذلك كانت تسمى سنة الوفود.

وذلك (١) أن العرب كانت تربص بالإسلام ما يكون من قريش فيه ، إذ هم الذين كانوا نصبوا لحرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلافه ، وكانوا إمام الناس وهاديهم ، وأهل البيت والحرم ، وصريح ولد إسماعيل ، وقادة العرب ، لا ينكر لهم ذلك ، ولا ينازعون فيه. فلما افتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة ، ودانت له قريش ، ودوخها الإسلام ، عرفت العرب أنهم لا طاقة لهم بحربه ولا عداوته ، فدخلوا فى دين الله أفواجا ، يضربون إليه من كل وجه ، يقول الله عزوجل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) [النصر : ١] أى فتح مكة

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ١٨٥).

٥٨٩

(وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) جماعات جماعات (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أى فاحمد الله على ما ظهر من دينك (وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) إشارة إلى انقضاء أجله ، واقتراب لحاقه برحمة ربه ، (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء : ٦٩].

كذلك يقول عبد الله بن عباس ، وقد سأله عمر بن الخطاب عن هذه السورة ، فلما أجابه بنحو هذا المعنى ، قال له عمر رضى الله عنه : ما أعلم منها إلا ما تعلم.

فقدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفود العرب ، فمن ذلك :

وفد بنى تميم (١)

قدم عليه عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمى ، فى أشراف من قومه ، منهم : الأقرع بن حابس ، والزبرقان بن بدر ، وعمرو بن الأهتم ، والحتات بن يزيد ، ونعيم ابن يزيد ، وقيس بن الحارث ، وقيس بن عاصم فى وفد عظيم من بنى تميم.

فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء حجراته : أن أخرج إلينا يا محمد ، فآذى ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صياحهم ، وإياهم عنى الله سبحانه بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [الحجرات : ٤] ، فخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد ، جئناك نفاخرك ، فأذن لشاعرنا وخطيبنا ؛ قال : «قد أذنت لخطيبكم فليقل» ، فقام عطارد بن حاجب ، فقال :

الحمد لله الذي له علينا الفضل ، وهو أهله ، الذي جعلنا ملوكا ، ووهب لنا أموالا عظاما ، نفعل فيها المعروف ، وجعلنا أعزة أهل المشرق وأكثره عددا ، وأيسره عدة ، فمن مثلنا فى الناس؟ ألسنا برءوس الناس ، وأولى فضلهم؟ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددناه ، وإنا لو نشاء لأكثرنا الكلام ، ولكنا نحيا من الإكثار فيما أعطانا ، وإنا نعرف بذلك.

أقول هذا لأن تأتونا بمثل قولنا ، وأمر أفضل من أمرنا ، ثم جلس. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخى بنى الحارث بن الخزرج : «قم ، فأجب الرجل فى خطبته». فقام ثابت ، فقال :

الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه ، قضى فيهن أمره ، ووسع كرسيه علمه ،

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ١٨٦).

٥٩٠

ولم يك شيء قط إلا من فضله ، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكا ، واصطفى من خير خلقه رسولا ، أكرمه نسبا ، وأصدقه حديثا ، وأفضله حسبا ، فأنزل عليه كتابه ، وائتمنه على خلقه ، فكان خيرة الله من العالمين ، ثم دعا الناس إلى الإيمان به ، فآمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المهاجرون من قومه وذوى رحمه ، أكرم الناس أحسابا ، وأحسن الناس وجوها ، وخير الناس فعالا ، ثم كان أول الخلق إجابة ، واستجابة لله حين دعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنحن أنصار الله ووزراء رسول الله ، نقاتل الناس حتى يؤمنوا ، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه ، ومن كفر جاهدناه فى الله أبدا ، وكان قتله علينا يسيرا. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى وللمؤمنين والمؤمنات ، والسلام عليكم (١).

فقام الزبرقان بن بدر ، فقال (٢) :

نحن الكرام فلا حى يعادلنا

منا الملوك وفينا تنصب البيع (٣)

وكم قسرنا من الأحياء كلهم

عند النهاب وفضل العز يتبع

ونحن يطعم عند القحط مطعمنا

من الشواء إذا لم يؤنس القزع

بما ترى الناس تأتينا سراتهم

من كل أرض هوانا ثم [متبع] (*)

فننحر الكوم عبطا فى أرومتنا

للنازلين إذا ما أنزلوا [شيع] (*)

فلا ترانا إلى حى نفاخرهم

إلا استفادوا وكانوا الرأس يقتطع

فمن يفاخرنا فى ذاك نعرفه

فيرجع القوم والأخبار تستمع

إنا أبينا وما يأبى لنا أحد

إنا كذلك عند الفخر نرتفع

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استدعى حسان بن ثابت ليجيب شاعر بنى تميم ، قال حسان : فخرجت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنا أقول :

منعنا رسول الله إذ حل وسطنا

على أنف راض من معد وراغم

منعناه لما حل بين بيوتنا

بأسيافنا من كل باغ وظالم

ببيت حريد عزة وثراؤه

بجابية الجولان وسط الأعاجم

__________________

(١) انظر الحديث فى : مجمع الزوائد للهيثمى (٨ / ١١٦ ، ١١٧) ، الطبرى فى التاريخ (٢ / ١٨٨ : ١٩٠) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (٦ / ٢١٢ ، ٢١٣).

(٢) انظر الأبيات فى : السيرة (٤ / ١٨٨ ـ ١٨٩).

(٣) البيع : مواضع الصلاة والعبادات ، واحدتها بيعة.

(*) كذا فى الأصل ، وفى السيرة : «نصطنع».

(*) كذا فى الأصل ، وفى السيرة : «شبعوا».

٥٩١

هل المجد إلا السؤدد العود والندى

وجاه الملوك واحتمال العظائم

فلما فرغ الزبرقان ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قم يا حسان ، فأجب الرجل» ، فقال حسان :

إن الذوائب من فهر وإخوتهم

قد بينوا سنة للناس تتبع

يرضى بهم كل من كانت سريرته

تقوى الإله وكل الخير يصطنع

قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم

أو حاولوا النفع فى أشياعهم

سجية تلك منهم غير محدثة

نفعوا

إن كان فى الناس سباقون بعدهم

إن الخلائق فاعلم شرها البدع

لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم

فكل سبق لأدنى سبقهم تبع

إن سابقوا الناس يوما فاز سبقتهم

عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا

أعفة ذكرت فى الوحى عفتهم

أو وازنوا أهل مجد بالندى متعوا

لا يبخلون على جار بفضلهم

لا يطمعون ولا يرديهم طمع

إذا نصبنا لحى لم ندب لهم

ولا يمسهم من مطمع طبع

نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها

كما يدب إلى الوحشية الذرع

لا يفخرون إذا نالوا عدوهم

إذا الزعانف من أظفارها خشعوا

كأنهم فى الوغى والموت مكتنع

وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع

خذ منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا

أسد بحلبة فى أرساغها فدع

فإن فى حربهم فاترك عداوتهم

ولا يكن همك الأمر الذي منعوا

اكرم بقوم رسول الله شيعتهم

شرا يخاض عليه السم والسلع

أهدى لهم مدحتى قلب يوازره

إذا تفاوتت الأهواء والشيع

فإنهم أفضل الأحياء كلهم

فى ما أحب لسان حائك صنع

إن جد بالناس جد القول أو شمع

وذكر ابن هشام (١) عن بعض أهل العلم بالشعر من بنى تميم ، أن الزبرقان بن بدر لما قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى وفد بنى تميم ، قام فقال :

أتيناك كيما يعلم الناس فضلنا

إذا اختلفوا عند احتضار المواسم

بأنا فروع الناس فى كل موطن

وأن ليس فى أرض الحجاز كدارم

وأنا نذود المعلمين إذا انتخوا

ونضرب رأس الأصيد المتفاقم

وأن لنا المرباع فى كل غارة

نغير بنجد أو بأرض الأعاجم

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ١٩١).

٥٩٢

فقام حسان بن ثابت فأجابه ، فقال :

هل المجد إلا السؤدد العود والندى

وجاه الملوك واحتمال العظائم

نصرنا وآوينا النبيّ محمدا

على أنف راض من معد وراغم

بحى حريد أصله وثراؤه

بجابية الجولان وسط الأعاجم

نصرناه لما حل وسط ديارنا

بأسيافنا من كل باغ وظالم

جعلنا بنينا دونه وبناتنا

وطبنا له نفسا بفىء المغانم

ونحن ضربنا الناس حتى تتابعوا

على دينه بالمرهقات الصوارم

ونحن ولدنا من قريش عظيمها

ولدنا نبى الخير من آل هاشم

بنى دارم لا تفخروا إن فخركم

يعود وبالا عند ذكر المكارم

هبلتم علينا تفخرون وأنتم

لنا خول ما بين ظئر وخادم

فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم

وأموالكم ان تقسموا فى المقاسم

فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا

ولا تلبسوا زيّا كزىّ الأعاجم

قال ابن إسحاق : فلما فرغ حسان من قوله ، قال الأقرع بن حابس : وأبى ، إن هذا الرجل لمؤتى له ، لخطيبه أخطب من خطيبنا ، ولشاعره أشعر من شاعرنا ، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا. فلما فرغ القوم أسلموا ، وجوزهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأحسن جوائزهم.

وكان عمرو بن الأهتم قد خلفه القوم فى ظهرهم ، وكان أصغرهم سنا ، فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ما أعطى القوم.

وقيس بن عاصم هو الذي ذكره له ذكرا أزرى به فيه ، فكان بينهما ما هو معلوم.

وفد بنى عامر (١)

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد بنى عامر ، فيهم بن الطفيل وأربد بن قيس وجبار بن سلمى ، وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم.

فقدم عامر بن الطفيل عدو الله ، على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يريد الغدر به ، وقد قال له قومه : يا عامر ، إن الناس قد أسلموا فأسلم ، قال : والله لقد كنت آليت أن لا أنتهي حتى تتبع العرب عقبى ، فأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش! ثم قال لأربد : إذا قدمنا

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ١٩٤ ـ ١٩٥).

٥٩٣

على الرجل ، فإنى سأشغل عنك وجهه ، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف. فلما قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له عامر بن الطفيل : يا محمد ، خالنى ، قال : «لا والله ، حتى تؤمن الله وحده». قال : يا محمد ، خالنى ، وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان امره به ، فجعل أربد لا يحير شيئا ؛ فلما أبى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا ؛ فلما ولى ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اكفنى عامر بن الطفيل» ، فلما خرجوا ، قال عامر لأربد : ويلك يا أربد ، أين ما كنت امرتك به؟ والله ما كان على وجه الأرض رجل اخوف عندى على نفسى منك ، وأيم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا. قال : لا أبا لك! لا تعجل على ، والله ما هممت بالذى امرتنى به إلا دخلت بينى وبين الرجل ، حتى ما أرى غيرك ، أفأضربك بالسيف؟ وخرجوا راجعين إلى بلادهم ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون فى عنقه ، فقتله الله فى بيت امرأة من بنى سلول ، فجعل يقول : يا بنى عامر ، أغدة كغدة البكر فى بيت امرأة من بنى سلول (١).

ويقال (٢) : إنه قال : أغدة كغدة الإبل ، وموتا فى بيت سلولية!

ثم خرج أصحابه حين واروه حتى قدموا أرض بنى عامر ، فأتاهم قومهم ، فقالوا : ما وراءك يا أربد؟ قال : لا شيء والله ، لقد دعانى إلى عبادة شيء لوددت انه عندى الآن ، فأرميه بالنبل حتى أقتله. فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يتبعه ، فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة ، فأحرقتهما. وأنزل الله جل قوله فى وقاية الله تعالى لنبيه عليه‌السلام مما أراده به عامر ، وفيما قتل به أربد : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أى أن المعقبات التي يحفظ الله بها نبيه هى من أمر الله (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) [الرعد : ١٠ ـ ١٣] (٣).

__________________

(١) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٥ / ٣٢٩ ـ ٣٢١) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ١٢٦).

(٢) هذا القول ذكره ابن هشام فى السيرة (٤ / ١٩٥).

(٣) ذكره الواحدى فى أسباب النزول الحديث رقم (٥٢٧).

٥٩٤

وفد تجيب (١)

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد تجيب ، وهم من السكون ، ثلاثة عشر رجلا ، قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم ، فسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم وأكرم منزلهم ، وقالوا : يا رسول الله ، سقنا إليك حق الله تعالى فى أموالنا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ردوها ، فاقسموها على فقرائكم». فقالوا : يا رسول الله ، ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا. فقال أبو بكر : يا رسول الله ، ما وفد علينا وفد من العرب بمثل ما وفد به هؤلاء الحى من تجيب. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الهدى بيد الله عزوجل فمن أراد به خيرا شرح صدره للإيمان».

وسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشياء ، فكتب لهم بها ، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن ، فازداد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رغبة فيهم ، وأمر بلالا أن يحسن ضيافتهم.

فأقاموا أياما ، ولم يطيلوا اللبث ، فقيل لهم : ما يعجلكم؟ فقالوا : نرجع إلى من وراءنا فنخبرهم برؤيتنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلامنا إياه ، وما رد علينا.

ثم جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يودعونه ، فأرسل إليهم بلالا ، فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود. قال : «هل بقى منكم أحد»؟ قالوا : غلام خلفناه على رحالنا هو أحدثنا سنا ، قال : «أرسلوه إلينا». فلما رجعوا إلى رحالهم قالوا للغلام : انطلق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاقض حاجتك منه ، فإنا قد قضينا حوائجنا منه. وودعناه. فأقبل الغلام حتى اتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إنى امرؤ من بنى أبذى.

قال الواقدى : هو أبذى بن عدى ، وأم عدى تجيب بنت ثوبان بن سليم من مذحج ، وإليها ينسبون يقول الغلام : من الرهط الذين أتوك آنفا ، فقضيت حوائجهم ، فاقض حاجتى يا رسول الله. «وما حاجتك؟» قال : إن حاجتى ليست بحاجة أصحابى ، وإن كانوا قدموا راغبين فى الإسلام ، وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم ، وإنى والله ما أعلمنى من بلادى إلا أن تسأل الله عزوجل أن يغفر لى ، وأن يرحمنى ، وأن يجعل غناى فى قلبى. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقبل إلى الغلام : «اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه فى قلبه». ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه.

فانطلقوا راجعين إلى أهليهم ، ثم وافوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الموسم بمنى سنة عشر ،

__________________

(١) راجع قدوم وفد تجيب فى : طبقات ابن سعد (١ / ٢ / ٦٠) ، البداية والنهاية (٤ / ٨٤) ، المنتظم لابن الجوزى (٣ / ٣٥٤).

٥٩٥

فقالوا : نحن بنو أبذى. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما فعل الغلام الذي أتانى معكم؟» قالوا : يا رسول الله ، والله ما رأينا مثله قط ، ولا حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله عزوجل لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمد لله ، إنى لأرجو أن يموت جميعا». فقال رجل منهم: أو ليس يموت الرجل جميعا يا رسول الله؟! قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تشعب أهواؤه وهمومه فى أودية الدنيا ، فلعل أجله أن يدركه فى بعض تلك الأودية ، فلا يبالى الله عزوجل فى أيها هلك».

قالوا : فعاش ذلك الرجل فينا على أفضل حال وأزهده فى الدنيا وأقنعه بما رزق ، فلما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام ، قام فى قومه يذكرهم الله والإسلام ، فلم يرجع منهم أحد. وجعل أبو بكر الصديق رضى الله عنه يذكره ويسأل عنه ، حتى بلغه حاله وما قام به ، فكتب إلى زياد بن لبيد يوصيه به خيرا.

فروة بن مسيك المرادى (١)

وقدم فروة بن مسيك المرادى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفارقا لملوك كندة ، متابعا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال فى ذلك :

لما رأيت ملوك كندة أعرضت

كالرجل خان الرجل عرق نسائها

قربت راحلتى أؤم محمدا

أرجو فواضلها وحسن ثرائها

ثم خرج حتى أتى المدينة ، وكان رجلا له شرف ، فأنزله سعد بن عبادة عليه ، ثم غدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس فى المسجد ، فسلم عليه ، ثم قال : يا رسول الله ، أنا لمن ورائى من قومى ، قال : «أين نزلت يا فروة؟» قال : على سعد بن عبادة ، قال : «بارك الله على سعد بن عبادة». وكان يحضر مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلما جلس ، ويتعلم القرآن وفرائض الإسلام وشرائعه.

وكان بين مراد وهمدان قبيل الإسلام وقعة ، أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا ، حتى أثخنوهم فى يوم يقال له : «يوم الردم» ، وكان الذي قاد همدان إلى مراد «الأجدع ابن مالك» ، ففضحهم يومئذ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما وفد إليه : «يا فروة ، هل ساءك ما

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧).

٥٩٦

أصاب قومك يوم الردم؟» قال : يا رسول الله ، من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومى يوم الردم لا يسوؤه ذلك؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما إن ذلك اليوم لم يزد قومك فى الإسلام إلا خيرا».

وفى ذلك اليوم يقول فروة بن مسيك (١) :

مررنا باللفاة (*) وهن خوص

ينازعن الأعنة ينتحينا

فإن نغلب فغلابون قدما

وإن نغلب فغير مغلبينا

وما إن طبنا جبن ولكن

منايانا وطعمة آخرينا

كذاك الدهر دولته سجال

تكر صروفه حينا فحينا

فبينا ما نسر به ونرضى

ولو لبست غضارته سنينا

إذا انقلبت به كرات دهر

فألفى للأولى غبطوا طحينا

فمن يغبط بريب الدهر منهم

تجد ريب الزمان له خئونا

فلو خلد الملوك إذن خلدنا

ولو بقى الكرام إذا بقينا

فأفنى ذلكم سروات قومى

كما أفنى القرون الأولينا

واستعمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فروة بن مسيك (٢) على مراد وزبيد ومذحج كلها ، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة ، وكتب له فيها كتابا لا يعدوه إلى غيره ، فكان خالد مع فروة فى بلاده حتى توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

ولما كانت السنة التي توفى فيها صلوات الله وبركاته عليه ، وصدر عن مكة ، ورأت أبناء زبيد قبائل اليمن تقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقرين بالإسلام ، مصدقين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يرجع راجعهم إلى بلاده وهم على ما هم عليه ، قالوا لخالد بن سعيد (٤) : والله ،

__________________

(١) انظر الأبيات فى : السيرة (٤ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧).

(*) كذا فى الأصل ، وفى السيرة «مررن على لفاة».

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢١٠١) ، الإصابة الترجمة رقم (٦٩٩٦) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٤٢٢٤) ، تجريد أسماء الصحابة (٢ / ٧) ، تهذيب التهذيب (٨ / ٢٦٥) ، خلاصة تذهيب الكمال (٢ / ٣٣٣) ، تهذيب الكمال (٢ / ١٠٩٤).

(٣) ذكره الطبرى فى التاريخ (٥ / ١٩٨).

(٤) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٦١٧) ، الإصابة الترجمة رقم (٢١٧٢) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٣٦٥) ، العقد الثمين (٤ / ٢٦٧) ، شذرات الذهب (١ / ٣٠) ، طبقات ابن سعد (٤ / ١ / ٦٩) ، طبقات خليفة (١١ / ٢٩٨) ، التاريخ الكبير (٣ / ١٥٢) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (١٧٢) ، تاريخ الإسلام (١ / ٣٧٨).

٥٩٧

لقد دخلنا فيما دخل فيه الناس ، وصدقنا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلينا بينك وبين صدقات أموالنا ، وكنا لك عونا على من خالفك من قومنا.

قال خالد : قد فعلتم ، قالوا : فأوفد منا نفرا يقدمون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويخبرونه بإسلامنا ، ويقبسونا منه خيرا. قال خالد : ما أحسن ما دعوتم إليه ، وأنا أجيبكم ، ولم يمنعنى أن أقول لكم هذا إلا أنى رأيت الوفود تمر بكم فلا يهيجكم ذلك على الخروج ، فساءنى ذلك منكم حتى ساء ظنى بكم ، وكنتم على ما كنتم عليه من حداثة عهدكم بالشرك ، فخشيت أن يكون الإسلام لم يرسخ فى قلوبكم ، فأما إذا طلبتم ما طلبتم ، فأنا أرجو أن يكون الإسلام راسخا فى قلوبكم. قالوا : وما أنكرت منا؟ والله لقد كنا فى حيزك واخترناك على غيرك من عمال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما رأيت منا شيئا تكرهه ولا تنكره إلى يومنا هذا.

قال : اللهم غفرا ، لو لا أنى أنكرت منكم بعض ما ينكر ما قلت هذا ، أما تعلمون أنى أخذت من شاب منكم فريضة بنت مخاض ، فعقلتها ووسمتها بميسم الصدقة ، فجئتم بأجمعكم فأخذتموها ، ثم قلتم : إن شاء خالد فليأخذها من مرعاها ، فأمسكت عنكم وخفت أن يأتى منكم ما هو شر من هذا؟! فقالوا : فقد كان ، ونزعنا وتبنا إلى الله ، فلا نحول بينك وبين شيء تريده ، فبعث معهم وفدا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفد زبيد عمرو بن معدى كرب (١)

وقدم عمرو بن معدى كرب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أناس من قومه بنى زبيد ، فأسلم ؛ وكان عمرو قد قال لقيس بن مكشوح المرادى ، حين انتهى إليهم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا قيس ، إنك سيد قومك ، وقد ذكر لنا أن رجلا من قريش يقال له : محمد خرج بالحجاز ، يقال : إنه نبى ، فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه ، فإن كان نبيا كما يقول ، فإنه لن يخفى علينا ، إذا لقيناه اتبعناه ، وإن كان غير ذلك علمنا علمه ، فإنه إن سبق إليه رجل من قومك سادنا وترأس علينا ، وكنا له أذنابا. فأبى عليه قيس وسفه رأيه ، فركب عمرو بن معدى كرب حتى قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقام أياما ، فأجازه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما كان يجيز الوفود ، وأنصرف راجعا إلى بلاده ، فأقام فى قومه بنى زبيد وعليهم فروة بن مسيك سامعا له مطيعا ، فلما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارتد عمرو ، ثم راجع الإسلام بعد ذلك.

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨).

٥٩٨

وقد كان قيس بن مكشوح لما بلغه خروج عمرو أوعده وتحطم عليه ، وقال : خالفنى وترك رأيى. فقال عمرو فى ذلك من أبيات :

أمرتك يوم ذى صنعاء

أمرا باديا رشده

أمرتك باتقاء الل

ه والمعروف تتعده

فكنت كذى الحمير غره

مما به وتده

تمنانى على فرس

عليه جالس أسده (*)

فلو لاقيتنى للقي

ت ليثا فوقه لبده

وطلب فروة بن مسيك قيس بن مكشوح كل الطلب ، حتى هرب من بلاده ، وكان مصمما فى طلب من خالفه ، فكان عمرو يقول لقيس : قد خبرتك يا قيس أنك تكون ذنبا تابعا لفروة بن مسيك.

وفد بنى ثعلبة

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد بنى ثعلبة سنة ثمان مرجعه من الجعرانة.

ذكر الواقدى عن رجل منهم قال : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الجعرانة قدمنا عليه وافدين مقرين بالإسلام ، ونحن أربعة نفر ، فنزلنا دار رملة بنت الحارث ، فجاءنا بلال ، فنظر إلينا ، فقال : أمعكم غيركم؟ قلنا : لا ، فانصرف عنا ، فلم يلبث إلا يسيرا حتى أتى بجفنة من ثريد بلبن وسمن ، فأكلنا حتى نهلنا ، ثم رحنا إلى الظهر ، فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد خرج من بيته ورأسه يقطر ماء ، فرمى ببصره إلينا ، فأسرعنا إليه ، وبلال يقيم الصلاة.

فسلمنا عليه ، وقلنا : يا رسول الله ، إنا رسل من خلفنا من قومنا ، مقرين بالإسلام ، وهم فى مواشيهم ، وما لا يصلحه إلا هم ، وقد قيل لنا يا رسول الله : لا إسلام لمن لا هجرة له ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حيثما كنتم ، واتقيتم الله فلا يضركم حيث كنتم». وفرغ بلال من الآذان ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكلمنا ، ثم تقدم فصلى بنا الظهر ، لم تصل وراء أحد قط أتم صلاة ولا أوجز منه ، ثم انصرف إلى بيته ، فدخل ، فلم يلبث أن خرج إلينا ، فقيل لنا : صلى فى بيته ركعتين ، فدعا بنا ، فقال : «أين أهلكم؟» فقلنا : قريبا يا رسول

__________________

(*) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت بيت لم يذكره هنا ، وهو :

علىّ مفاضة كالنه

ى أخلص ماءه جدده

انظر : السيرة (٤ / ٢٠٨).

٥٩٩

الله ، هم بهذه السرية فقال : «كيف بلادكم؟» فقلنا : مخصبون ، فقال : «الحمد لله».

فأقمنا أياما ، فتعلمنا من القرآن والسنن ، وضيافته تجرى علينا ، ثم جئنا نودعه منصرفين ، فقال لبلال : «أجزهم كما تجيز الوفد» ، فجاء بلال بنقر من فضة ، فأعطى كل واحد منا خمس أواق ، وقال : ليس عندنا دراهم مضروبة ، فانصرفنا إلى بلادنا (١).

وفد بنى سعد هذيم (٢)

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنو سعد هذيم ، من قضاعة فى سنة تسع.

ذكر الواقدى عن ابن النعمان منهم عن أبيه قال : قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وافدا فى نفر من قومى ، وقد أوطأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم البلاد غلبة ، وأداخ العرب ، والناس صنفان. إما داخل فى الإسلام راغب فيه ، وإما خائف من السيف ، فنزلنا ناحية من المدينة ، ثم خرجنا نؤم المسجد حتى انتهينا إلى بابه ، فنجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى على جنازة فى المسجد ، فقمنا خلفه ناحية ، ولم ندخل مع الناس فى صلاتهم ، وقلنا : حتى نلقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبايعه ، ثم انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنظر إلينا ، فدعا بنا ، فقال : «من أنتم؟» فقلنا : من بنى سعد هذيم ، فقال : «أمسلمون أنتم؟» قلنا : نعم ، قال : فهلا صليتم على أخيكم؟» قلنا : يا رسول الله ، ظننا أن ذلك لا يجوز لنا حتى نبايعك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أينما أسلمتم مسلمون».

قال : فأسلمنا وبايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأيدينا على الإسلام ، ثم انصرفنا إلى رحالنا ، وقد كنا خلفنا عليها أصغرنا ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى طلبنا ، فأتى بنا إليه ، فتقدم صاحبنا فبايعه على الإسلام ، فقلنا : يا رسول الله ، إنه أصغرنا ، وإنه خادمنا ، فقال : «أصغر القوم خادمهم ، بارك الله عليه» (٣).

قال : فكان والله خيرنا ، وأقرأنا للقرآن ، لدعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له ، ثم أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علينا ، فكان يؤمنا.

ولما أردنا الانصراف ، أمر بلالا فأجازنا بأواقى من فضة ، لكل رجل منا ، فرجعنا إلى قومنا ، فرزقهم الله الإسلام.

__________________

(١) ذكره ابن عساكر فى تهذيب تاريخ دمشق (٣ / ٣٠٢ ، ١٠ / ٢٩٦).

(٢) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٣ / ٣٥٦) ، طبقات ابن سعد (١ / ٢ / ٥٩ ، ٦٥).

(٣) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٥ / ٩٤).

٦٠٠