الإكتفا - ج ١

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ١

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبدالقادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2943-0
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

تعاور أيمانهم بينهم

كئوس المنايا بحد الظبينا

شهدنا فكنا أولى بأسه

وتحت العماية والمعلمينا

بخرس الحسيس حسان رواء

وبصرية قد أجمن الجفونا

فما ينفللن وما ينحنين

وما ينتهين إذا ما نهينا

كبرق الخريف بأيدى الكماة

يفجعن بالطل هاما سكونا

وعلمنا الضرب آباؤنا

وسوف نعلم أيضا بنينا

جلاد الكماة وبذل التلا

د عن جل أحسابنا ما بقينا

إذا مر قرن كفى نسله

وأورثه بعده آخرينا

تشب وتهلك آباؤنا

وبينا نربى بنينا فنينا

وقال حسان بن ثابت يبكى حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه :

أتعرف الدار عفا رسمها

بعدك صوب السبل الهاطل (١)

بين السراديح فأدمانة

فمدفع الروحاء فى حائل (٢)

سألتها عن ذاك فاستعجمت

لم تدر ما مرجوعة السائل (٣)

دع عنك دارا قد عفا رسمها

وابك على حمزة ذى النائل (٤)

المالئ الشيزى إذا أعصفت

غبراء فى ذى الشبم الماحل (٥)

والتارك القرن لدى لبدة

يعثر فى ذى الخرص الذابل (٦)

واللابس الخيل إذ أجحمت

كالليث فى غابته الباسل

أبيض فى الذروة من هاشم

لم يمر دون الحق بالباطل

مال شهيدا بين أسيافكم

شلت يدا وحشى من قاتل (٧)

أى امرئ غادر فى ألة

مطرورة مارنة العامل (٨)

__________________

(١) عفا : أى غير ودرس. ورسمها : أى أثرها.

(٢) السراديح : جمع سرادح ، وهو الوادى. وأدمانة : اسم موضع. والروحاء : اسم موضع. وحائل : جبل.

(٣) استعجمت : أى لم ترد جوابا. ومرجوعة السائل : أى رجوع جوابه.

(٤) النائل : أى العطاء.

(٥) الشيزى : الجفان التي تصنع من خشب الشيز.

(٦) القرن : الذي يقاومك فى القتال. واللبدة : أى الغبار الملبد.

(٧) وحشى : هو قاتل حمزة.

(٨) والألة : الحربة التي لها سنان طويل. والمطرورة : أى المحددة. والمارنة : أى اللينة. والعامل : أعلى

٤٠١

أظلمت الأرض لفقدانه

واسود نور القمر الناصل

صلى عليه الله فى جنة

عالية مكرمة الداخل

كنا نرى حمزة حرزا لنا

فى كل أمر نابنا نازل

وكان فى الإسلام ذا تدرأ

يكفيك فقد القاعد الخاذل

لا تفرحى يا هند واستحلبى

دمعا وأذرى عبرة الثاكل

وابك على عتبة إذ قطه

بالسيف تحت الرهج الجائل

إذا خر فى مشيخة منكم

من كل عات قلبه جاهل

أرداهم حمزة فى أسرة

يمشون تحت الحلق الفاضل

غداة جبريل وزير له

نعم وزير الفارس الحامل

وقال عبد الله بن رواحة يبكى حمزة ، وتروى ـ أيضا ـ لكعب بن مالك رضى الله عنهم أجمعين :

بكت عينى وحق لها بكاها

وما يغنى البكاء ولا العويل

على أسد الإله غداة قالوا

أحمزة ذاكم الرجل القتيل

أصيب المسلمون به جميعا

هناك وقد أصيب به الرسول

أبا يعلى لك الأركان هدت

وأنت الماجد البر الوصول

عليك سلام ربك فى جنان

مخالطها نعيم لا يزول

وقالت صفية بنت عبد المطلب تبكى أخاها حمزة رضى الله عنهما :

أسائلة أصحاب أحد مخافة

بنات أبى من أعجم وخبير

فقال الخبير إن حمزة قد ثوى

وزير رسول الله خير وزير

دعاه الإله الحق ذو العرش دعوة

إلى جنة يحيا بها وسرور

فذلك ما كنا نرجى ونرتجى

لحمزة يوم الحشر خير مصير

فو الله لا أنساك ما هبت الصبا

بكاء وحزنا محضرى ومسيرى

على أسد الله الذي كان مدرها

يذود عن الإسلام كل كفور

فيا ليت شلوى عند ذاك وأعظمى

لدى أضبع تعتادنى ونسور

أقول وقد أعيى النعى عشيرتى

جزى الله خيرا من أخ ونصير

وقالت نعم امرأة شماس بن عثمان تبكى زوجها شماسا وأصيب يوم أحد :

__________________

أعلى الرمح.

٤٠٢

يا عين جودى بفيض غير إبساس

على كريم من الفتيان لباس

صعب البديهة ميمون نقيبته

حمال ألوية ركاب أفراس (١)

أقول لما أتى الناعى له جزعا

أودى الجواد وأودى المطعم الكاسى (٢)

وقلت لما خلت منه مجالسه

لا يبعد الله عنا قرب شماس

فأجابها أخوها يعزيها فقال :

اقنى حياءك فى ستر وفى كرم

فإنما كان شماس من الناس (٣)

لا تقتلى النفس إذ حانت منيته

فى طاعة الله يوم الروع والباس (٤)

قد كان حمزة ليث الله فاصطبرى

فذاق يومئذ من كأس شماس

وقالت هند بنت عتبة حين انصرف المشركون عن أحد :

رجعت وفى نفسى بلابل جمة

وقد فاتنى بعض الذي كان مطلبى (٥)

من أصحاب بدر من قريش وغيرهم

بنى هاشم منهم ومن أهل يثرب

ولكنني قد نلت شيئا ولم يكن

كما كنت أرجو فى مسيرى ومركبى

وهذه هند أم معاوية بن أبى سفيان ، وكانت امرأة فيها مكارة وذكورة ولها نفس وأنفة ، وكان المسلمون قد أصابوا يوم بدر أباها عتبة وعمها شيبة وأخاها الوليد ، فأصابها من ذلك ما يصيب من مثله النفوس الشهمة والقلوب الكافرة ، فخرجت إلى أحد مع زوجها أبى سفيان تبتغى الانتصار وتطلب الأوتار ، فهذا قولها ـ يرحمها الله ـ والوتر يقلقها والكفر يحنقها والحزن يحرقها والشيطان ينطقها.

ثم إن الله سبحانه هداها إلى الإسلام وأخذ بحجزتها عن سواء النار ، فصلحت حالها وتبدلت أقوالها ، حتى قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما قالت له : والله يا رسول الله ، ما كان على الأرض أهل خباء أحب إلى أن يذلوا من أهل خبائك ، وما أصبح اليوم الأرض خباء أحب إلى أن يعزوا من أهل خبائك. أو نحو هذا من القول.

فالحمد لله الذي هدانا برسوله أجمعين ، وإياه سبحانه نسأل أن يميتنا على خير ما هدانا إليه ، لا مبدلين ولا مغيرين.

* * *

__________________

(١) البديهة : أول الأمر والرأى. وميمون نقيبته : أى مسعود الفأل. والألوية : جمع لواء ، وهو العلم.

(٢) الناعى : الذي يأتى بخبر الميت.

(٣) اقنى حياءك : أى حافظى عليه ولا تخرجى عنه.

(٤) المنية : أى الموت. والروع : أى الفزع. والبأس : أى الشجاعة.

(٥) البلابل : أى الأحزان.

٤٠٣

غدر عضل والقارة بأصحاب

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أحد رهط من عضل والقارة ، وهم بنو الهون ابن خزيمة بن مدركة ، فقالوا له : يا رسول الله ، إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا فى الدين ويقرءوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام.

فبعث معهم ستة من أصحابه : مرثد بن أبى مرثد الغنوى (١) وأمره عليهم ، وخالد بن البكير (٢) ، وعاصم بن ثابت بن أبى الأقلح ، وخبيب بن عدى (٣) ، وزيد بن الدثنة (٤) ، وعبد الله بن طارق (٥).

فخرجوا حتى إذا كانوا على الرجيع ، ماء لهذيل بناحية الحجاز من صدر الهدأة (٦) ، غدروا بهم فاستصرخوا عليهم هذيلا فلم يرع القوم وهم فى رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم ، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم فقالوا لهم : إنا والله ما نريد قتلكم ، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة ، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم.

فأما مرثد وخالد وعاصم فقالوا : والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا. وقال عاصم :

ما علتى وأنا جلد نابل

والقوس فيها وتر عنابل (٧)

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٧٨٩٥) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤٨٣١) ، البداية والنهاية (٦ / ٣٥٣) ، تجريد أسماء الصحابة (٢ / ٦٨) ، تهذيب الكمال (٣ / ١٣١٤) ، تهذيب التهذيب (١٠ / ٨٢).

(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٢١٥٣) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٣٤٨) ، طبقات ابن سعد (٣ / ١ / ٢٨٣).

(٣) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٢٢٢٧) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٤١٧) ، حلية الأولياء (١ / ١١٢ ، ١١٤).

(٤) انظر ترجمته فى : أسد الغابة ترجمة رقم (١٨٣٥) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ١٩٩) ، الإصابة ترجمة رقم (٢٦٠٥).

(٥) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٤٧٨٧) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٣٠٢٦).

(٦) الهدأة : موضع بين عسفان ومكة.

(٧) النابل : صاحب النبل. وعنابل : أى غليظ شديد.

٤٠٤

تزل عن صفحتها المعابل

الموت حق والحياة باطل

وكل ما حم الإله نازل

بالمرء والمرء إليه آثل

إن لم أقاتلكم فأمى هابل

ثم قاتل القوم حتى قتل وقتل صاحباه رحمهم‌الله.

فلما قتل عاصم ارادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد بمكة ، وكانت حين أصاب ابنيها يوم أحد نذرت لئن قدرت على راس عاصم لتشربن فى قحفة الخمر ، فمنعه الدبر فقالوا : دعوه حتى يمسى فتذهب عنه فنأخذه. فبعث الله الوادى فاحتمل عاصما فذهب به.

وقد كان عاصم أعطى الله عهدا أن لا يمس مشركا وألا يمسه مشرك أبدا ، تنجسا!

فكان عمر بن الخطاب يقول : يحفظ الله العبد المؤمن! كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا فى حياته ، فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه فى حياته.

وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدى وعبد الله بن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا فى الحياة ، فأعطوا بأيديهم فأسروهم ، ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها ، حتى إذا كانوا بالظهران (١) انتزع عبد الله بن طارق يده من القرآن ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم ، فرموه بالحجارة حتى قتلوه ، فقبره بالظهران.

وأما خبيب بن عدى وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة فابتاع خبيبا حجير بن أبى إهاب التميمى لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل ليقتله بأبيه.

وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف ، فبعث به مع مولى له يقال له : نسطاس إلى التنعيم ، فأخرجوه من الحرم ليقتلوه ، واجتمع رهط من قريش منهم أبو سفيان بن حرب ، فقال له أبو سفيان لما قدم ليقتل : أنشدك الله يا زيد ، أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنك فى أهلك؟ فقال : والله ما أحب أن محمدا الآن فى مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنى جالس فى أهلى!

يقول أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا.

ثم قتله ـ رحمه‌الله ـ نسطاس مولى صفوان.

__________________

(١) الظهران : واد قرب مكة عنده قرية يقال لها : مرّ ، تضاف إلى هذا الوادى ، فيقال : واد الظهران.

انظر : معجم البلدان (٤ / ٦٣).

٤٠٥

قال ابن عقبة : وزعموا أنهم رموه بالنبل وأرادوا فتنته فلم يزده إلا إيمانا ويقينا.

وأما خبيب بن عدى فجلس بمكة فى بيت ماوية مولاة حجير بن أبى إهاب ، فكانت تخبر بعد ما أسلمت ، قالت : لقد اطلعت عليه يوما وإن فى يده لقطفا من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه ، وو الله ما أعلم فى أرض الله عنبا يؤكل!

قالت : وقال لى حين حضره القتل : ابعثى إلى بحديدة أتطهر بها للقتل ، فأعطيت الموسى غلاما من الحى فقلت : ادخل بها على هذا الرجل ، قالت : فو الله ما هو إلا أن ولى الغلام بها إليه ، فقلت : ما ذا صنعت؟ أصاب والله الرجل ثأره يقتل هذا الغلام ، فيكون رجلا برجل. فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ثم قال : لعمرك ما خافت أمك غدرى حين بعثتك بهذه الحديدة إلىّ؟ ثم خلى سبيله.

ثم خرجوا بخبيب حتى إذا جاءوا به التنعيم ليصلبوه قال لهم : إن رأيتم أن تدعونى حتى أركع ركعتين فافعلوا. قالوا له ؛ دونك فاركع. فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما ، ثم أقبل على القوم فقال : أما والله لو لا تظنوا أنى إنما طولت جزعا من القتل لا ستكثرت من الصلاة.

فكان خبيب أول من سن هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين.

ثم رفعوه على خشبة ، فلما أوثقوه قال : اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فبلغه الغداة ما يصنع بنا. ثم قال : اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا. ثم قتلوه.

فكان معاوية بن أبى سفيان يقول : حضرت ـ يومئذ ـ فيمن حضره مع أبى أبى سفيان ، فلقد رأيته يلقينى فى الأرض فرقا من دعوة خبيب ، وكانوا يقولون : الرجل إذا دعى عليه فاضطجع لجنبه زلت عنه.

وكان ممن حضره ـ يومئذ ـ سعيد بن عامر بن جذيم الجمحى (١) ، ثم أسلم بعد ذلك واستعمله عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ على بعض الشام ، فكانت تصيبه غشية بين ظهرى القوم ، فذكر ذلك لعمر وقيل : إن الرجل مصاب. فسأله عمر ـ رحمه‌الله ـ فى قدمة قدمها عليه فقال : يا سعيد ، ما هذا الذي يصيبك؟ قال : والله يا أمير

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٣٢٨٠) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٢٠٨٤) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢٢٣) ، شذرات الذهب (٢) ، الجرح والتعديل (٤ / ترجمة ٢٠٥) ، حلية الأولياء (١ / ٣٦٨) ، الطبقات الكبرى (٧ / ٢٤٢ ، ٤٠٢) ، صفة الصفوة (١ / ٦٦٠) ، الوافى بالوفيات (١٥ / ٣٢٠) ، البداية والنهاية (٦ / ١٠٣).

٤٠٦

المؤمنين ما بى من بأس ، ولكنى كنت فيمن حضر خبيب بن عدى حين قتل وسمعت دعوته ، فو الله ما خطرت على قلبى وأنا فى مجلس قط إلا وغشى على فزادته عند عمر خيرا.

وذكر ابن عقبة أن خبيبا وزيدا قتلا فى يوم واحد ، قال : وزعموا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال وهو جالس فى ذلك اليوم الذي قتلا فيه : «وعليكما أو وعليك السلام ، خبيب قتلته قريش» ، لا ندرى أذكر ابن الدثنة معه أم لا.

وقال خبيب ـ رحمه‌الله ـ لما اجتمع القوم لصلبه :

لقد جمع الأحزاب حولى وألبوا

قبائلهم واستجمعوا كل مجمع (١)

وكلهم مبدى العداوة جاهد

علىّ لأنى فى وثاق بمضيع

وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم

وقربت من جذع طويل ممنع

إلى الله أشكو غربتى ثم كربتى

وما أرصد الأحزاب لى عند مصرعى

فذا العرش صبرنى على ما يراد بى

فقد بضعوا لحمى وقد ياس مطمعى

وذلك فى ذات الإله وإن يشأ

يبارك على أوصال شلو ممزع

وقد خيرونى الكفر والموت دونه

وقد هملت عيناى من غير مجزع (٢)

وما بى حذار الموت إنى لميت

ولكن حذارى جحيم نار ملفع (٣)

ولست أبالى حين أقتل مسلما

على أى جنب كان فى الله مصرعى

فلست بمبد للعدو تخشعا

ولا جزعا إنى إلى الله مرجعى

وقال حسان بن ثابت يبكى خبيبا :

يا عين جودى بدمع منك منسكب

وابكى خبيبا مع الفتيان لم يؤب

صقرا توسط فى الأنصار منصبه

سمح السجية محضا غير مؤتشب

قد هاج عينى على علات عبرتها

إذ قيل نص إلى جذع من الخشب

يا أيها الراكب الغادى لطيته

أبلغ إليك وعيدا ليس بالكذب (٤)

بنى كهينة أن الحرب قد لقحت

محلوبها الصاب إذ تمرى لمحتلب

فيها أسود بنى النجار تقدمهم

شهب الأسنة فى معصوصب لجب

__________________

(١) ألبوا : أى جمعوا. ومجمع : مكان الاجتماع.

(٢) هملت عيناى : أى سال دمعها.

(٣) الجحيم : أى الملتهب المتقد. والملفع : أى المشتمل.

(٤) الطية : ما انطوت عليه نيتك من الجهة التي تريد أن تتوجه إليها.

٤٠٧

وقال حسان ـ أيضا ـ يهجو هذيلا :

لعمرى لقد شانت هذيل بن مدرك

أحاديث كانت فى خبيب وعاصم

أحاديث لحيان صلوا بقبيحها

ولحيان جرامون شر الجرائم (١)

أناس هم من قومهم فى صميمهم

بمنزلة الزمعان دبر القوائم

هم غدروا يوم الرجيع وأسلمت

أمانتهم ذا عفة ومكارم

رسول رسول الله غدرا ولم تكن

هذيل توقى منكرات المحارم

فسوف يرون النصر يوما عليهم

بقتل الذي يحميه دون المحارم

أبابيل دبر شمس دون لحمه

حمت لحم شهاد عظام الملاحم

لعل هذيلا أن يروا بمصابه

مصارع قتلى أو مقاما لمأتم

ويوقع فيهم وقعة ذات صولة

يوافى بها الركبان أهل المواسم

بأمر رسول الله إن رسوله

رأى رأى ذى حزم بلحيان عالم

قبيلته ليس الوفاء يهمهم

وإن ظلموا لم يدفعوا كف ظالم

إذا الناس حلوا بالقضاء رأيتهم

بمجرى مسيل الماء بين المخارم (٢)

محلهم دار البوار ورأيهم

إذا نابهم أمر كرأى البهائم

غزوة بئر معونة (٣)

وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحاب بئر معونة فى صفر على رأس أربعة أشهر من أحد.

وكان من حديثهم أن أبا براء ملاعب الأسنة ، واسمه عامر بن مالك بن جعفر قدم المدينة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعرض عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإسلام ودعاه إليه ، فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام ، وقال : يا محمد ، لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنى أخشى عليهم أهل نجد» (٤). قال : أنا لهم جار فابعثهم.

__________________

(١) صلوا بقبيحها : أى أصابهم شرها. وجرامون : أى كاسبون.

(٢) المخارم : مسائل الماء التي يخرمها السيل ، أى يقطعها.

(٣) راجع الغزوة فى : الطبقات الكبرى لابن سعد (٢ / ٥١ ، ٥٤) ، المنتظم لابن الجوزى (٣ / ١٩٨) ، المغازى للواقدى (١ / ٣٤٦).

(٤) انظر الحديث فى : مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ١٢٨) ، دلائل النبوة للبيهقى (٣ / ٣٣٩) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٧٣).

٤٠٨

فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنذر بن عمرو أخا بنى ساعدة ، المعنق ليموت ، فى أربعين رجلا من أصحابه ، منهم الحارث بن الصمة ، وحرام بن ملحان ، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمى ، ونافع بن بديل بن ورقاء ، وعامر بن فهيرة ، فى رجال مسمين من خيار المسلمين.

فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهى بين أرض بنى عامر وحرة بنى سليم ، كلا البلدين منها قريب ، وهى إلى حرة بنى سليم أقرب.

فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل ، فلما أتاهم لم ينظر فى كتابه حتى عدا على الرجل فقتله ، ثم استصرخ عليهم بنى عامر فأبوا أن يجيبوه ، وقالوا : لن نخفر أبا براء ، وقد عقد لهم عقدا وجوارا.

فاستصرخ عليهم قبائل من بنى سليم : عصية ورعلا وذكوان ، فأجابوه إلى ذلك ، فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم فى رحالهم فلما رأوهم أخذوا سيوفهم ثم قاتلوهم حتى قتلوا من عند آخرهم رحمهم‌الله ، إلا كعب بن زيد أخا بنى دينار بن النجار ـ يرحمه‌الله ـ فإنهم تركوه وبه رمق فارتث من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدا.

وكان فى سرح القوم عمرو بن أمية الضمرى ، ورجل من الأنصار من بنى عمرو بن عوف قيل : إنه المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح ، فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر فقالا : والله إن لهذا الطير لشأنا.

فأقبلا لينظرا فإذا القوم فى دمائهم وإذا الخيل التي اصابهم واقفة.

فقال الأنصاري لعمرو بن أمية : ما ترى؟

قال : أرى أن نلحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنخبره الخبر. فقال الأنصاري : لكنى ما كنت لأرغب بنفسى عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ، وما كنت لتخبرنى عنه الرجال.

ثم قاتل القوم حتى قتل.

وأخذوا عمرو بن أمية أسيرا ، فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه.

فخرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة أقبل رجلان من بنى عامر حتى نزلا معه فى ظل هو فيه فسألهما ممن أنتما؟ فقالا : من بنى عامر. فأمهلهما حتى

٤٠٩

إذا ناما عدا عليهما فقتلهما ، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثؤرة من بنى عامر فى ما أصابوه من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان مع العامريين عقد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجوار لم يعلم به عمرو بن أمية ، فلما قدم عمرو على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره الخبر قال : لقد قتيلين لأدينهما. ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا عمل أبى براء ، قد كنت لهذا كارها متخوفا» (١).

وكان فيمن أصيب ـ يومئذ ـ عامر بن فهيرة ، فكان عامر بن الطفيل يقول : من رجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء دونه؟ قالوا : هو عامر بن فهيرة.

وذكر ابن عقبة أنه لم يوجد جسد عامر بن فهيرة يومئذ ، فيرون أن الملائكة هى وارته ، رحمة الله عليه.

وكان جبار بن سلمى فيمن حضرها ـ يومئذ ـ مع عامر بن الطفيل ثم أسلم فكان يقول : إن مما دعانى إلى الإسلام أنى طعنت رجلا منهم بالرمح بين كتفيه ، فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره ، فسمعته يقول : فزت والله! فقلت فى نفسى : ما فاز! ألست قد قتلت الرجل؟! حتى سألت بعد ذلك عن قوله فقالوا : الشهادة. فقلت : فاز لعمر الله.

وأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهرا يدعو فى صلاة الغداة على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ، يدعو على رعل وذكوان وعصية الذين عصوا الله ورسوله ، وأنزل فيمن قتل هنالك قرآن ثم رفع : «بلغوا عنا قومنا أن لقينا ربنا فرضى عنا ورضينا عنه».

ذكر غزوة بنى النضير (٢) والسبب الذي هاج الخروج إليهم

وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إليهم يستعينهم فى دية العامرين ، اللذين قتل عمرة

__________________

(١) انظر الحديث فى : الطبقات الكبرى لابن سعد (٢ / ٣٧) ، دلائل النبوة للبيهقى (٣ / ٣٤١) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ١٢٩) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٧٣).

(٢) راجع هذه الغزوة فى : المغازى للواقدى (١ / ٣٦٣) ، طبقات ابن سعد (١ / ٢ / ٤٠) ، تاريخ الطبرى (٢ / ٥٥٠) ، الكامل (٢ / ٦٤) ، صحيح البخاري (٥ / ٨٨) ، فتح البارى (٧ / ٣٢٩) ، عيون الأثر (٢ / ٦١) ، الدرر لابن عبد البر (١٦٤) ، البداية والنهاية (٤ / ٧٤) ، دلائل النبوة للبيهقى (٣ / ١٧٦ ، ٣٥٤).

٤١٠

ابن أمية الضمرى ، للجور الذي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقد لهما ، فقالوا له لما كلمهم فى ذلك : نعم ، يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه ، اجلس حتى تطعم وترجع بحاجتك.

فجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ظل جدار من جدر بيوتهم معه نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلى ، ينتظرون أن يصلحوا أمرهم.

فخلا بعضهم ببعض والشيطان معهم لا يفارقهم ، فائتمروا بقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ، فمن رجل يعلو على هذا البيت فيقلى عليه صخرة فيريحنا منه.

فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب ، أحدهم ، فقال : أنا لذلك وصعد ليفعل.

فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم ، فقام راجعا إلى المدينة وترك أصحابه فى مجلسهم ، فلما استلبث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه قاموا فى طلبه ، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه فقال : لقيته داخلا المدينة ، فأقبلوا حتى انتهوا إليه فأخبرهم بما كانت يهود أرادت من الغدر به.

وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم ، ثم سار بالناس ونزل بهم ، فتحصنوا منه فى الحصون.

وعرض عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجلاء عن أوطانهم وأن يسيروا حيث شاءوا فراسلهم أولياؤهم من المنافقين ـ عبد الله بن أبى فى رهط من قومه ـ حين سمعوا ما يراد منهم : أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم ، إن قاتلتم قاتلنا معكم ، وإن خرجتم خرجنا معكم.

فغرتهم أمانى المنافقين ، ونادوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه : إنا والله لا نخرج ، ولئن قاتلتنا لنقاتلنك.

فمضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمر الله فيهم ، فلما انتهى إلى أزقتهم وحصونهم كره أن يمكنهم من القتال فى دورهم وحصونهم ، فحفظ الله له أمره وعزم له على رشده ، فأمر بالأدنى فالأدنى من دورهم أن تهدم وبالنخيل أن تحرق وتقطع ، وكف الله أيديهم وأيدى المنافقين فلم ينصروهم ، وألقى الله فى قلوب الفريقين كليهما الرعب ، فهدموا الدور التي هم فيها من أدبارها ، فلما كادوا يبلغون آخر دورهم وهم ينتظرون المنافقين

٤١١

ويتربصون من نصرهم ما كانوا يمنونهم به حتى يئسوا مما عندهم ، سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كان عرض عليهم قبل ذلك.

فقاضاهم ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ على أن يجليهم ويكف عن دمائهم وعلى أن لهم ما استقلت به الإبل من أموالهم إلا الحلقة فقط.

فطاروا بذلك كل مطير وتحملوا بما أقلت إبلهم ، حتى إن الرجل ليهدم بيته عن نجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به. فخرجوا إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام ، وكان أشرافهم بنو أبى الحقيق وحيى بن أخطب فيمن سار إلى خيبر ، فلما نزلوها دان لهم أهلها.

وخلى بنو النضير الأموال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكانت له خاصة بحكم الله له بها ليضعها حيث شاء ، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار ، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرا فأعطاهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها.

وكانت اليهود قد عيروا المسلمين حين يهدمون الدور ويقطعون النخل فنادوا : أن محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه ، فما بال قطع النخيل وتحريقها؟ وما ذنب شجرة وأنتم تزعمون أنكم مصلحون فى الأرض؟!

فأنزل الله ـ سبحانه ـ فى قصتهم وما ذكروه من قولهم وبيان وجه الحكم فى أموالهم سورة الحشر بأسرها. فقال عز من قائل :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) ، للذى كان منهم من الهدم من أدبار بيوتهم وهدم المسلمين لما يليهم منها.

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) أى بالسيف (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) أى مع ما لقوه فى الدنيا من النقمة.

ثم قال ـ تعالى ـ فيما عابوه من قطع النخيل وعدوه من ذلك فسادا : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ) أى فبأمر الله قطعت ، لم يكن ذلك فسادا بل نقمة أنزلها بهم (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ).

٤١٢

ثم بين تعالى لرسوله الحكم فى أموالهم وأنها نفل له لا سهم لأحد فيها معه فقال عز ذكره وجل قوله : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍّ قَدِيرٌ) ، فقسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيمن أراه الله من المهاجرين الأولين كما تقدم ، وأعطى منها الرجلين المسميين من الأنصار.

وقال على بن أبى طالب يذكر إجلاء بنى النضير وما تقدم قبل ذلك من قتل كعب ابن الأشرف ، ويقال : بل قالها رجل من المسلمين غير علىّ :

عرفت ومن يعتدل يعرف

وأيقنت حقا ولم أصدف (١)

عن الكلم المحكم اللاء من

لدى الله ذى الرأفة الأرأف

رسائل تدرس فى المؤمنين

بهن اصطفى أحمد المصطفى

فأصبح أحمد فينا عزيزا

عزيز المقامة والموقف (٢)

فيا أيها الموعدوه سفاها

ولم يأت جورا ولم يعنف (٣)

ألستم تخافون أدنى العذاب

وما آمن الله كالأخوف

وأن تصرعوا تحت أسيافه

كمصرع كعب أبى الأشرف

غداة رأى الله طغيانه

وأعرض كالجمل الأحنف

فأنزل جبريل فى قتله

بوحى إلى عبده ملطف

فدس الرسول رسولا له

بأبيض ذى هبة مرهف

فباتت عيون له معولات

متى ينع كعب لها تذرف (٤)

وقلن لأحمد ذرنا قليلا

فإنا من النوح لم نشتف

فخلاهم ثم قال اظعنوا

دحورا على رغم الآنف

وأجلى النضير إلى غربة

وكانوا بدار ذوى زخرف

إلى أذرعات ردافى وهم

على كل ذى دبر أعجف (٥)

__________________

(١) لم أصدف : لم أعرض.

(٢) المقامة : موضع الإقامة.

(٣) السفاه : الضلال. لم يعتف : أى لم يأتى غير العفة.

(٤) معولات : باكيات بصوت مرتفع. ينعى : يذكر خبر قتله. تذرف : تسيل بالدموع.

(٥) أذرعات : بلد فى أطراف الشام يجاور أرض البلقاء ينسب إليها الخمر. انظر : معجم البلدان (١ / ١٣٠).

٤١٣

ولم يسلم من بنى النضير إلا رجلان : يامين بن عمير بن كعب (١) ، ابن عم عمرو بن جحاش ، وأبو سعد بن وهب (٢) ، أسلما خوفا على أموالهما فأحرزاها ، وحدث بعض آل يامين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ليامين : «ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأنى؟» (٣) فجعل يامين لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله ، فيما يزعمون.

غزوة ذات الرقاع (٤)

ثم أقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة بعد غزوة بنى النضير شهر ربيع وبعض جمادى ، ثم غزا نجدا يريد بنى محارب وبنى ثعلبة من غطفان حتى نزل نخلا.

وهى غزوة ذات الرقاع وسميت بذلك لأنهم رقعوا فيها راياتهم ، وقيل : لأجل شجرة بذلك الموضع يقال لها : ذات الرقاع. وقيل : لما كانوا يعصبون على أرجلهم من الخرق إذ نقبت أقدامهم.

فلقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هنالك جمعا من غطفان ، فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب وخاف الناس بعضهم بعضا ، حتى صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ بالناس صلاة الخوف ، ثم انصرف بهم.

وفى هذه الغزوة عرض له رجل من محارب يقال له : غورث ، وقد قال لقومه من غطفان ومحارب : ألا أقتل لكم محمدا؟ قالوا : بلى ، وكيف تقتله؟ قال : أفتك به. فأقبل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس وسيفه فى حجره فقال : يا محمد ، أنظر إلى سيفك هذا؟ قال : «نعم» (٥). فأخذه فاستله ثم جعل يهزه ويهم به فيكبته الله ، ثم قال : يا محمد ، أما

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٩٢٣٣).

(٢) انظر ترجمته فى : الإكمال (١ / ٣٩٦٠) ، الإصابة ترجمة رقم (١٠٠١٠) ، أسد الغابة (٥٩٥٥).

(٣) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٧٦).

(٤) راجع هذه الغزوة فى : المغازى للواقدى (١ / ٣٩٥) ، طبقات ابن سعد (٢ / ١ / ٤٣) ، تاريخ الطبرى (٢ / ٥٥) ، الكامل (٢ / ٦٦) ، دلائل النبوة (٣ / ٣٦٩) ، البداية والنهاية (٤ / ٨٣).

(٥) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٤ / ٩ ، ١٠ ، ١٣ ، ٧ / ١٨٩ ، ١ / ٥ ، ١٦ ، ٦٣ ، ١٥٣) ، صحيح مسلم (٤٢ ، ٤٤ ، ٥٦ ، ٦١ ، ١٦٧ ، ٢٥١ ، ٢٧٥) ، سنن الترمذى (٦٦٩ ، ٧٢٦ ، ١٢٠٤) ، سنن ابن ماجه (١٨١ ، ٥٥٧ ، ٨٤٢ ، ١٢٣٥ ، ١٤١٤ ، ٤٣٥ ، ٥٥٠ ، ٦٩٦ ، ٩٧٣ ، ١١٣٥ ، ١٢٥٤ ، ١٧٥٩ ، ١٨٣٥ ، ٢٧١٦ ، ٢٧١٧ ، ١٤٢٥ ، ١٤٧٥ ، ١٤٧٦ ، ـ

٤١٤

تخافنى؟ قال : «لا والله ما أخاف منك». قال : أما تخافنى وفى يدى السيف؟ قال : «بلى يمنعنى الله منك» (١). ثم عمد إلى سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرده عليه.

فأنزل الله تبارك وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [المائدة : ١١].

وقيل : إنها إنما نزلت فى عمرو بن جحاش وما هم به من إلقاء الحجر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم وصل إلى بنى النضير مستعينا بهم فى دية العامريين. فالله أعلم أى ذلك كان.

وحدث جابر بن عبد الله قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى غزوة ذات الرقاع من نخل فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين ، فلما انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قافلا أتى زوجها وكان غائبا ، فلما أخبر الخبر حلف أن لا ينتهى حتى يهريق فى أصحاب محمد دما ، فخرج يتبع أثر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزلا ، فقال : «من رجل يكلؤنا (٢) ليلتنا؟» (٣) قال : فانتدب رجل من المهاجرين ، قيل : هو عمار بن ياسر ، ورجل من الأنصار ، قيل : هو عباد بن بشر ، فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب قال الأنصاري

__________________

ـ ١٥١٠ ، ١٧١٨ ، ١٩١٥ ، ١٩٤٥ ، ٢٩٠٧ ، ٣٢٣٦ ، ٣٤٥١) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٢٧ ، ٢٠٤١ ، ٥ / ١٠٠) ، سنن الدارمى (١ / ١٢) ، السنن الكبرى للبيهقى (١ / ١٥٨ ، ١٦٨ ، ٤٤٢ ، ٩ / ٤٣) ، مستدرك الحاكم (٢ / ٢١٤) ، مصنف ابن أبى شيبة (٨ / ٤٣١ ، ٤٨٠ ، ٩ / ٨٨ ، ١٠ / ٥٢١ ، ٥٦٤ ، ١١ / ٨ ، ١٠ ، ١٢ / ٤١ ، ٤٢ ، ٤٥ ، ١٤١ ، ١٤ / ١٤٩ ، ٣٠٥ ، ٣٢٤ ، ٤٣٥ ، ٤٣٩ ، ٥٩٤) ، المعجم الكبير للطبرانى (١ / ١٧٢ ، ٢ / ٢٩ ، ٢٣١ ، ٧ / ٢١ ، ١١ / ٢٤٦ ، ٢٤٧ ، ٢٧٠ ، ٣٣١ ، ١٢ / ١٣٤ ، ١٥٣ ، ١٦٧ ، ١٦٨ ، ١٨٥ ، ١٩٩ ، ٢٠٠ ، ٤٣١ ، ٤٣٦ ، ٤٣٧) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٤٦٦٠ / ١٢٨٨٤٦ ، ١٢٨٥٥ ، ٣٥٣٤٦ ، ٣٥٤٤٦ ، ٣٥٤٨٨ ، ٣٥٤٩٣ ، ٣٥٨٦٦ ، ٣٧٥٢٧ ، ٣٧٥٦٦ ، ٣٧٦٦٩ ، ٤٥٨٩١) ، فتح البارى لابن حجر (١ / ٨٧ ، ١١ / ٤٩١) ، زاد المسير لابن الجوزى (٥ / ٦٩) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (٣ / ٥٩٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٣٤٠ ، ٣٥٤).

(١) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٨٤).

(٢) يكلؤنا : أى يحفظنا.

(٣) انظر الحديث فى : سنن أبى داود باب (٧٩) ، مسند الإمام أحمد (٣ / ٣٤٤) ، السنن الكبرى للبيهقى (١ / ١٤٠ ، ٩ / ١٥٠) ، مستدرك الحاكم (١ / ١٥٦) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٨٥).

٤١٥

للمهاجرى : أى الليل تحب أن أكفيكه أوله أو آخره؟ قال : بل اكفنى أوله فاضطجع المهاجرى فنام ، وقام الأنصاري يصلى ، وأتى الرجل فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئة القوم ، فرماه بسهم فوضعه فيه ، قال : فانتزعه عنه وثبت قائما ، ثم رماه بسهم آخر فوضعه فيه فنزعه فوضعه ، وثبت قائما ، ثم عاد له بثالث ، فوضعه فيه فنزعه ثم ركع وسجد ، ثم أهب صاحبه فقال : اجلس فقد أثبت. قال : فوثب ، فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذرا به فهرب ، فلما رأى المهاجرى ما بالأنصارى من الدماء ، قال : سبحان الله ، أفلا أهببتنى أول ما رماك؟ قال : كنت فى سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها فلما تابع على الرمى ركعت فآذنتك ، وأيم الله لو لا أن أضيع ثغرا أمرنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحفظه لقطع نفسى قبل أن أقطعها أو أنفذها!

وقال جابر بن عبد الله : خرجت إلى غزوة ذات الرقاع على جمل لى ضعيف ، فلما قفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعلت الرفاق تمضى وجعلت أتخلف ، حتى أدركنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ما لك يا جابر؟» قلت : يا رسول الله ، أبطأ بى جملى ، قال : «أنخه» (١) فأنخته وأناخ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : «أعطنى هذه العصا من يدك أو اقطع لى عصا من شجرة» (٢) ، ففعلت ، فأخذها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنخسه بها نخسات ثم قال : «اركب» (٣) ، فركبت فخرج ـ والذي بعثه بالحق ـ يواهق ناقته مواهقة ، وتحدثت معه فقال لى : «أتبيعنى جملك هذا يا جابر؟» (٤) قلت : يا رسول الله ، بل أهبه لك. قال : «لا ولكن بعينه». قلت : فسمنيه. قال : «قد أخذته بدرهم». قلت : لا إذن تغبننى يا رسول الله. قال : «فبدرهمين». قلت : لا. فلم يرفع لى حتى بلغ الأوقية فقلت : أقد رضيت؟ قال : «نعم». قلت : فهو لك. قال : «قد أخذته» (٥).

ثم قال : «يا جابر ، هل تزوجت بعد؟» (٦) قلت : نعم يا رسول الله ، قال : «أثيبا أم بكرا؟» قلت : بل ثيبا. قال : «أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟» قلت : يا رسول الله ، إن

__________________

(١) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٣ / ٣٨٢).

(٢) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٢ / ٥١٧ ، ٣ / ٣٧٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٨٦).

(٣) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٣ / ٣٧٦) ، المعجم الكبير للطبرانى (١٧ / ٣٣٦).

(٤) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٣ / ٣١٦) ، دلائل النبوة للبيهقى (٣ / ٣٨٢).

(٥) انظر الحديث فى : سنن الترمذى (٩١٦) ، مسند الإمام أحمد (٣ / ٣٧٦) ، سنن الدارقطنى (٣ / ٤٥).

(٦) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٦ / ٣٧٦) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (٣ / ٣٩٠).

٤١٦

أبى أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعا فنكحت امرأة جامعة تجمع رءوسهن وتقوم عليهن. قال : «أصبت إن شاء الله ، أما إنه لو قد جئنا صرارا أمرنا بجزور فنحرت وأقمنا عليها يومنا ذلك وسمعت بنا فنفضت نمارقها» (١). قلت : والله يا رسول الله مالها من نمارق. قال : «إنها ستكون ، فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيسا» (٢). قال : فلما جئنا صرارا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجزور فنحرت وأقمنا عليها ذلك اليوم ، فلما أمسى دخل ودخلنا ، فحدثت المرأة الحديث وما قال لى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت : فدونك فسمع وطاعة.

فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم جلست فى المسجد قريبا منه ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأى الجمل ، فقال : «ما هذا؟» (٣) فقالوا : يا رسول الله ، هذا جمل جاء به جابر. قال : «فأين جابر؟» فدعيت له. فقال : «يا ابن أخى خذ برأس جملك فهو لك». ودعا بلالا وقال : «اذهب بجابر فأعطه أوقية» (٤).

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٥ / ١٢٣) ، صحيح مسلم فى كتاب الفضائل (٨٤) ، سنن النسائى (١ / ١٧٢) ، السنن الكبرى للبيهقى (١ / ٢٥٤ ، ٦ / ٦٧) ، مستدرك الحاكم (٣ / ٣٠٦) ، سنن الدارقطنى (٤ / ٢٢٩) ، المعجم الكبير للطبرانى (١ / ٨٧ ، ٢ / ٢٩٠) ، موارد الظمآن للهيثمى (٩٩٩ ، ١٣٣٤) ، مسند الإمام أحمد (٣ / ٣٠٨ ، ٣٧٦) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (٦ / ٤٥٣) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١٣٥٦٧ ، ٤٥٦٣٢) ، الدر المنثور للسيوطى (١ / ٢٤٠) ، ٤ / ١١٠) ، منحة المعبود للساعاتى (١٠٤٩) ، تفسير الطبرى (١ / ١٣ ، ١٤) ، تفسير ابن كثير (٨ / ٤٧٥) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ٦٤) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (٣ / ١ / ٨٨ ، ٤ / ١ / ١٦٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٢٩) ، موطأ مالك (٣٦٦).

(٢) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٣ / ٣٧٦).

(٣) انظر الحديث فى : صحيح مسلم فى كتاب صلاة المسافرين (٢٩١) ، سنن الترمذى (١٠٩٤) ، سنن النسائى (٣ / ٧٢ ، ٤ / ٨٤ ، ٦ / ١٦٤ ، ٢٨٠ ، ٧ / ٣٠ ، ٢٧٣) ، مسند الإمام أحمد (٥ / ٤٣٨) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (١ / ٢ / ١٥٧ ، ٤ / ١ / ١٦ ، ٢٤ ، ٥٨ ، ٥٩) ، سنن الدارقطنى (٢ / ٥٥ ، ٨ / ٨٦ ، ٢١٥) ، مصنف ابن أبى شيبة (١ / ١٢٢ ، ٣٣٧ ، ٣ / ٢٢٥ ، ٦ / ٥٥٢ ، ٨ / ٧٦ ، ٨٠ ، ٣٧٩ ، ١١ / ٤٣٧ ، ١٤ / ٢٨٠ ، ٣٢٣) ، المعجم الكبير للطبرانى (١١ / ٣٢٠ ، ١٢ / ٥ ، ٩٤ ، ٩٥ ، ١٧ / ١٣ ، ٢٤٩ ، ١٨ / ١٧٢ ، ١٨٩) ، دلائل النبوة للبيهقى (٦ / ٩٩) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٥ / ٨٦ ، ٧ / ٢٦٠ ، ٨ / ٦٨ ، ١٢١ ، ٩ / ٣٥ ، ٨٥ ، ٨٦ ، ٩٦ ، ٣٣٦ ، ٣٣٨ ، ١٠ / ٢٤١ ، ٢٤٢ ، ٨٥٢) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (٣ / ١٧٩ ، ٤٤٧) ، سنن أبى داود (٤٠٦٨ ، ٥٢٣٦ ، ٤٧٤٨) ، سنن ابن ماجه (٢١٣٦ ، ٤١٦٠).

(٤) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٤ / ٢٠٩٧) ، مسند الإمام أحمد (٣ / ٣٧٥ ، ٣٧٦).

٤١٧

قال : فذهبت معه فأعطانى أوقية وزادنى شيئا يسيرا ، فو الله ما زال ينمى عندى ويرى مكانه من بيتنا حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا! يعنى يوم الحرة.

قال ابن إسحاق (١) : ولما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة ذات الرقاع أقام بها بقية جمادى الأولى الآخرة ورجب.

ثم خرج فى شعبان إلى بدر لميعاد أبى سفيان ، حتى نزله فأقام عليه ثمانى ليال ينتظره.

وخرج أبو سفيان ، فى أهل مكة ، حتى نزل مجنة من ناحية ، الظهران ـ وبعض الناس يقول غسفان ـ ثم بدا له فى الرجوع ، فقال : يا معشر قريش ، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن ، فإن عامكم هذا عام جدب ، وإنى راجع فارجعوا. فرجع الناس ، فسماهم أهل مكة جيش السويق يقولون : إنما خرجتم تشربون السويق.

وأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بدر ينتظر ابا سفيان لميعاده ، فأتاه مخشى بن عمرو الضمرى ، وهو الذي كان وادعه على بنى ضمرة فى غزوة ودان فقال : يا محمد ، أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟ قال : «نعم يا أخا بنى ضمرة ، وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك ثم جالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك» (٢). قال : لا والله يا محمد ، مالنا بذلك منك من حاجة.

ومر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو هناك ينتظر أبا سفيان معبد بن أبى معبد الخزاعى فقال وناقته تهوى به ، وقد رأى مكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

قد نفرت من رفقتى محمد

وعجوة من يثرب كالعنجد (٣)

تهوى على دين أبيها الأتلد

قد جعلت ماء قديد موعدى

وماء ضجان لها ضحى الغد

وقال عبد الله بن رواحة فى ذلك ، ويقال : إنها لكعب بن مالك :

وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد

لميعاده صدقا وما كان وافيا

فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا

لأبت ذميما وافتقدت المواليا

__________________

(١) انظر السيرة (٣ / ١٧٨).

(٢) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٨٨).

(٣) العنجد : حب الزبيب.

٤١٨

تركنا به أوصال عتبة وابنه

وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا

عصيتم رسول الله أف لدينكم

وأمركم السيئ الذي كان غاويا

فإنى وإن عنفتمونى لقائل

فدا لرسول الله أهلى وماليا

أطعناه لم نعدله فينا بغيره

شهابا لنا فى ظلمة الليل هاديا

وقال حسان بن ثابت فى ذلك :

دعوا فلجات الشام قد حال دونها

جلاد كأفواه المخاض الأوارك

بأيدى رجال هاجروا نحو ربهم

وأنصاره حقا وأيدى الملائك

إذا سلكت للغور من بطن عالج

فقولا لها ليس الطريق هنالك

أقمنا على الرس النزوع ثمانيا

بأرعن جرار عريض المبارك

بكل كميت جوزه نصف خلقه

وقب طوال مشرفات الحوارك

ترى العرفج العامى تذرى أصوله

مناسم أخفاف المطى الرواتك (١)

فإن نلق فى تطوافنا والتماسنا

فرات بن حيان يكن رهن هالك

وإن تلق قيس بن امرئ القيس بعده

يزد فى سواد لونه لون حالك

فأبلغ أبا سفيان عنى رسالة

فإنك من غر الرجال الصعالك

ثم انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة فأقام بها حتى مضى ذو الحجة ، وهى سنة أربع من مقدمه المدينة ، ثم غزا دومة الجندل (٢) ، ثم رجع قبل أن يصل إليها ولم يلق كيدا ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

غزوة الخندق (٣)

وكانت فى شوال من سنة خمس فى قول ابن إسحاق.

وكان من الحديث عن الخندق أنه لما أجلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنى النضير خرج نفر من اليهود ـ سلام بن أبى الحقيق وحيى بن أخطب وكنانة بن الربيع النضريون ، وهوذة بن

__________________

(١) مناسم : جمع منسم ، وهو طرف خف البعير. والرواتك : أى المسرعة.

(٢) راجع هذه الغزوة فى : المغازى للواقدى (١ / ٤٠٢) ، طبقات ابن سعد (٢ / ١ / ٤٤) ، تاريخ الطبرى (٢ / ٥٦٤) ، البداية والنهاية (٤ / ٩٢) ، دلائل النبوة (٣ / ٣٨٩).

(٣) راجع هذه الغزوة فى : المغازى للواقدى (٢ / ٤٤٠) ، طبقات ابن سعد (٢ / ١ / ٤٧) ، تاريخ الطبرى (٢ / ٥٦٤) ، الكامل (٢ / ٧٠) ، البداية والنهاية (٤ / ٩٢) ، دلائل النبوة (١٣ / ٣٩٢).

٤١٩

قيس وأبو عمارة الوائليان ـ فى نفر من بنى النضير وبنى وائل ، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين قدموا مكة على قريش فاستفزوهم واستنفروهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعوهم إلى حربه ، وقالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله.

فقالت لهم قريش : يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد ، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا : بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه ، فهم الذين الله عزوجل فيهم : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) [النساء : ٥١ ـ ٥٢].

فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاجتمعوا لذلك واتعدوا له.

ثم خرج أولئك النفر حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى مثل ما دعوا إليه قريشا ، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك.

وجعلت يهود لغطفان تحريضا على الخروج نصف تمر خيبر كل عام.

فزعموا أن الحارث بن عوف أخا بنى مرة قال لعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ولقومه من غطفان : يا قوم أطيعونى ، دعوا قتال هذا الرجل وخلوا بينه وبين عدوة من العرب ، فغلب عليهم الشيطان وقطع أعناقهم الطمع ونفذوا لأمر عيينة على قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكتبوا إلى حلفائهم من بنى أسد ، فأقبل طليحة الأسدي ، فيمن اتبعه من بنى أسد ، وهما الحليفان أسد وغطفان.

وكتبت قريش إلى رجال من بنى سليم أشراف بينهم وبينهم أرحام استمدادا لهم ، فأقبل أبو الأعور بمن اتبعه من سليم مددا لقريش.

فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن فى بنى فزارة والحارث بن عوف فى بنى مرة ومسعر بن رخيلة الأشجعى فيمن تابعه من قومه من أشجع ، وتكامل لهم ولمن استمدوه فأمدهم جمع عظيم ، هم الذين سماهم الله «الأحزاب».

فلما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخروجهم وبما أجمعوا له من الأمر أخذ فى حفر الخندق وضربه على المدينة ، فعمل فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترغيبا للمسلمين فى العمل والأجر وعمل معه المسلمون ، فدأب فيه ودأبوا حتى أحكموه.

٤٢٠