الإكتفا - ج ١

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ١

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبدالقادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2943-0
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

فكان كذلك لم تغزوهم قريش بعد ذلك وكان هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغزوهم حتى فتح الله عليه مكة.

وقال حسان بن ثابت فى يوم الخندق يجيب عبد الله بن الزبعرى شاعر قريش عن كلمة قالها فى ذلك :

هل رسم دارسة المقام بباب

متكلم لمحاور بجواب

قفر عفا رهم السحاب رسومه

وهبوب كل مظلة مرباب

ولقد رأيت بها الحلول يزينهم

بيض الوجوه ثواقب الأحساب (١)

فدع الديار وذكر كل خريدة

بيضاء آنسة الحديث كعاب (٢)

واشك الهموم إلى الإله وما ترى

من معشر ظلموا الرسول غضاب

ساروا بأجمعهم إليه وألبوا

أهل القرى وبوادى الأعراب

جيش عيينة وابن حرب فيهم

متخمطين بحلية الأحزاب

حتى إذا وردوا المدينة وارتجوا

قتل الرسول ومغنم الأسلاب

وغدوا علينا قادرين بأيدهم

ردوا بغيظهم على الأعقاب

بهبوب معصفة تفرق جمعهم

وجنود ربك سيد الأرباب

فكفى الإله المؤمنين قتالهم

وأثابهم فى الأجر خير ثواب

من بعد ما قنطوا ففرق جمعهم

تنزيل نصر مليكنا الوهاب

وأقر عين محمد وصحابه

وأذل كل مكذب مرتاب

عاتى الفؤاد موقع ذى ريبة

فى الكفر ليس بطاهر الأثواب (٣)

علق الشقاء بقلبه ففؤاده

فى الكفر آخر هذه الأحقاب

وقال كعب بن مالك فى ذلك ـ أيضا ـ يجيب ابن الزبعرى عن كلمته :

أبقى لنا حدث الحروب بقية

من خير نحلة ربنا الوهاب

بيضاء مشرقة الذرى ومعاطنا

حم الجذوع غزيرة الأحلاب

كاللوب يبذل جمعها وحفيلها

للجار وابن العم والمنتاب

ونزائعا مثل السراج نمى بها

علف الشعير وجزة المقضاب

__________________

(١) الحلول : البيوت المجتمعة. وثواقب : أى مشرقة.

(٢) الخريدة : أى المرأة الناعمة. والكعاب : أى التي نهد ثديها فى أول ما نهد.

(٣) عاتى الفؤاد : أى قاسيه. وموقع ذى ريبة : أصله من التوقيع فى ظهر الدابة ، وهو انسلاخ يكون فيه.

٤٤١

عرى الشوى منها وأردف نحضها

جرد المتون وسار فى الآراب

قودا تراح إلى الصياح إذ غدت

فعل الضراء تراح للكلاب

وتحوط سائمة الذمار وتارة

تردى العدى وتؤوب بالأسلاب

يعدون بالزغف المضاعف شكة

وبمترصات فى الثقاف صياب

وصوارم نزع الصياقل غلبها

وبكل أروع ماجد الأنساب

يصل اليمين بمارن متقارب

وكلت وقيعته إلى خباب

وكتيبة ينفى القران قتيرها

وترد حد قواحز النشاب

أعيت أبا كرب وأعيت تبعا

وأبت بسالتها على الأعراب

ومواعظ من ربنا نهدى بها

بلسان أزهر طيب الأثواب

عرضت علينا فاشتهينا ذكرها

من بعد ما عرضت على الأحزاب

حكما يراها المجرمون بزعمهم

حرجا ويفهمها ذوو الألباب

جاءت سخينة كى تغالب ربها

فليغلبن مغالب الغلاب

ولما قال كعب بن مالك هذا البيت : «جاءت سخينة» إلى آخره. قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا» (١).

وقال كعب أيضا :

لقد علم الأحزاب حين تألبوا

علينا وراموا ديننا ما نوادع

أضاميم من قيس بن عيلان أصفقت

وخندف لم يدروا بما هو واقع (٢)

يذودوننا عن ديننا ونذودهم

عن الكفر والرحمن راء وسامع

إذا غايظونا فى مقام أعاننا

على غيظهم نصر من الله واسع

وذلك حفظ الله فينا وفضله

علينا ومن لم يحفظ الله ضائع

هدانا لدين الحق واختاره لنا

ولله فوق الصانعين صنائع

وقال كعب أيضا :

ألا أبلغ قريشا أن سلعا

وما بين العريض إلى الصماد

نواضح فى الحروب مدربات

وخوص بقيت من عهد عاد

رواكد يزخر المران فيها

فليست بالجمام ولا الثماد

بلاد لم تثر إلا لكيما

نجالد إن نشطتم للجلاد

__________________

(١) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٣٤).

(٢) أضاميم : أى جماعات انضم بعضها إلى بعض. وأصفقت : أى اجتمعت وتوافقت على الأمر.

٤٤٢

أثرنا سكة الأنباط فيها

فلم نر مثلها جلهات وادى

قصرنا كل ذى حضر وطول

على الغايات مقتدر جواد

أجيبونا إلى ما نجتذيكم

من القول المبين والسداد

وإلا فاصبروا لجلاد يوم

لكم منا إلى شطر المذاد

نصبحكم بكل أخى حروب

وكل مطهم سلس القياد

وكل طمرة خفق حشاها

تدف دفيف صفراء الجراد

وكل مقلص الآراب نهد

تميم الخلق من أخر وهاد

خيول لا تضاع إذا أضيعت

خيول الناس فى السنة الجماد

ينازعن الأعنة مصغيات

إذا نادى إلى الفزع المنادى

إذا قالت لنا النذر استعدوا

توكلنا على رب العباد

وقلنا لن يفرج ما لقينا

سوى ضرب القوانس والجهاد

ولم فلم نر عصبة فيمن لقينا

من الأقوام من قار وباد

أشد بسالة منا إذا ما

أردناه وألين فى الوداد

إذا ما نحن أشرجنا عليها

جياد الجدل فى الأرب الشداد

قذفنا فى السوابغ كل صقر

كريم غير معتلث الزناد

أشم كأنه أسد عبوس

غداة بدا ببطن الجزع غادى

ليظهر دينك اللهم إنا

بكفك فاهدنا سبل الرشاد

وقال حسان بن ثابت يذكر بنى قريظة :

تفاقد معشر نصروا قريشا

وليس لهم ببلدتهم نصير (١)

هم أوتوا الكتاب فضيعوه

وهم عمى من التوراة بور

فهان على سراة بنى لؤيّ

حريق بالبويرة مستطير

ولما سمع ذلك أبو سفيان بن الحارث قال :

أدام الله ذلك من صنيع

وحرق فى طرائقها السعير

فى أبيات ذكرها ابن إسحاق لم يأل قائلها أن صدق حسان.

وقال فى ذلك ـ أيضا ـ جبل بن جوال الثعلبى ، وبكى النضير وقريظة ونعى على سعد بن معاذ إسلامه مواليه منهم خلاف ما فعل عبد الله بن أبى فى بنى قينقاع :

__________________

(١) تفاقد : أى فقد بعضهم بعضا.

٤٤٣

ألا يا سعد سعد بنى معاذ

لما لقيت قريظة والنضير

لعمرك إن سعد بنى معاذ

غداة تحملوا لهو الصبور

فأما الخزرجى أبو حباب

فقال لقينقاع لا تسيروا

ويقول فى آخرها :

تركتم قدركم لا شيء فيها

وقدر القوم حامية تفور

فقال سعد حين بلغه هذا الشعر : من لقيهم فليحدثهم أنهم خانوا الله ورسوله فأخزاهم الله.

مقتل سلام بن أبى الحقيق

وكان سلام بن أبى الحقيق أبو رافع فيمن حزب الأحزاب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكان مما صنع الله به لرسوله أن هذين الحيين من الأنصار ـ الأوس والخزرج ـ كانا يتصاولان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تصاول الفحلين ، لا تصنع الأوس شيئا فيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عناء إلا قالت الخزرج : والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفى الإسلام. فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها ، وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك.

وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الأشرف فى عداوته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتحريضه عليه ، فقالت الخزرج : والله لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا.

فتذاكروا بعد أن انقضى شأن الخندق وبنى قريظة : من رجل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى العداوة كابن الأشرف؟ فذكروا ابن أبى الحقيق وهو بخيبر ، فاستأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قتله فأذن لهم ، فخرج إليه من الخزرج من بنى سلمة خمسة نفر : عبد الله بن عتيك ، ومسعود بن سنان ، وعبد الله بن أنيس ، وأبو قتادة الحارث بن ربعى ، وخزاعى بن أسود حليف لهم من أسلم.

فخرجوا ، وأمر عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن عتيك ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة.

فخرجوا حتى إذا قدموا خيبر أتوا دار ابن أبى الحقيق ليلا ، فلم يدعوا لهم بيتا فى الدار إلا أغلقوه على أهله ، وكان فى علية له إليها عجلة فأسندوا فيها حتى قاموا على بابه ، فاستأذنوا ، فخرجت عليهم امرأة فقالت من أنتم؟ فقالوا : أناس من العرب نلتمس

٤٤٤

الميرة. قالت : ذاكم صاحبكم فادخلوا إليه. قال : فلما دخلنا أغلقنا علينا وعليها الحجرة تخوفا أن يكون دونه مجادلة تحول بيننا وبينه. قال : وصاحت امرأته فنوهت بنا ، وابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا ، والله ما يدلنا عليه فى سواد الليل إلا بياضه كأنه قبطية ملقاة. قال : ولما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه ثم يذكر نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكف يده ، ولو لا ذلك لفرغنا منها بليل ، فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبد الله ابن أنيس بسيفه فى بطنه حتى أنفذه وهو يقول : قطنى قطنى ، أى حسبى حسبى.

قال : وخرجنا وكان عبد الله بن عتيك رجلا سيئ البصر ، فوقع من الدرجة فوثئت يده وثئا شديدا ، قال ابن هشام : ويقال : رجله ، وحملناه حتى نأتى منهرا من عيونهم فندخل فيه. قال : وأوقدوا النيران واشتدوا فى كل وجه يطلبون ، حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم فاكتنفوه وهو يقضى بينهم. فقلنا كيف لنا بأن نعلم أن عدو الله قد مات؟ فقال رجل منا : أنا أذهب فأنظر لكم. فانطلق حتى دخل فى الناس ، قال : فوجدتها ورجال يهود حوله وفى يدها المصباح تنظر فى وجهه وتحدثهم وتقول : أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك ثم أكذبت وقلت أنى ابن عتيك بهذه البلاد. ثم أقبلت عليه تنظر فى وجهه ثم قالت : فاظ وإله يهود. فما سمعت من كلمة كانت ألذ إلى نفسى منها.

قال : ثم جاءنا فأخبرنا الخبر ، فاحتملنا صاحبنا فقدمنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرناه بقتل عدو الله واختلفنا عنده فى قتله ، كلنا ندعيه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هاتوا أسيافكم». فجئناه بها فنظر إليها ، فقال لسيف عبد الله بن أنيس : «هذا قتله ، أرى فيه أثر الطعام» (١).

وقال حسان بن ثابت يذكر قتل كعب بن الأشرف وقتل سلام بن أبى الحقيق :

لله در عصابة لاقيتهم

يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الأشرف

يسرون بالبيض الخفاف إليكم

مرحا كأسد فى عرين مغرف (٢)

حتى أتوكم فى محل بلادكم

فسقوكم حتفا ببيض ذفف (٣)

مستنصرين لنصر دين نبيهم

مستصغرين لكل أمر مجحف

__________________

(١) انظر الحديث فى : الطبقات الكبرى لابن سعد (٢ / ١ / ٦٦).

(٢) مغرف : ملتف الشجر.

(٣) ذفف : سريعة القتل.

٤٤٥

ذكر إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد

رضى الله عنهما

حدث عمرو بن العاص ـ رحمه‌الله ـ قال : لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيى ويسمعون منى فقلت لهم : تعلموا والله إنى أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا ، وإنى قد رأيت أمرا فما ترون فيه؟ قالوا : وما ذا رأيت؟ قال : رأيت أن نلحق بالنجاشى فنكون عنده ، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشى ، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا أن نكون تحت يدى محمد ، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير.

قالوا : إن هذا لرأى. قلت : فاجمعوا ما نهدى له ، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم ، فجمعنا له أدما كثيرا ، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه ، فو الله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمرى ، بعثه إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى شأن جعفر وأصحابه ، قال : فدخل عليه ثم خرج من عنده فقلت لأصحابى : هذا عمرو بن أمية لو قد دخلت على النجاشى سألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه ، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أنى قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد : قال : فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع فقال لى : مرحبا بصديقى ، أهديت لى من بلدك شيئا؟ قلت : نعم أيها الملك ، قد أهديت لك أدما كثيرا. ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه ، ثم قلت له : أيها الملك ، إنى قد رأيت رجلا خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا فأعطنيه لأقتله فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.

قال : فغضب ثم مد يده وضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره ، فلو انشقت لى الأرض لدخلت فيها فرقا منه ، ثم قلت له : أيها الملك ، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه ، قال : أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتى موسى لتقتله؟! قلت أيها الملك أكذلك هو؟ قال : ويحك يا عمرو ، أطعنى واتبعه فإنه والله لعلى الحق وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. فقلت : أفتبايعني له على الإسلام؟ قال : نعم. فبسط يده فبايعته على الإسلام.

ثم خرجت إلى أصحابى وقد حال رأيى عما كان عليه ، وكتمت أصحابى إسلامى ، ثم خرجت عامدا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأسلم ، فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح ، وهو مقبل من مكة ، فقلت : أين يا أبا سليمان؟ قال : والله لقد استقام المنسم وإن الرجل

٤٤٦

لنبى ، أذهب والله فأسلم ، حتى متى؟! قلت : والله ما جئت إلا لأسلم.

فقدمنا المدينة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع ثم دنوت فقلت : يا رسول الله ، إنى أبايعك على أن يغفر لى ما تقدم من ذنبى ولا أذكر ما تأخر. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عمرو بايع ، فإن الإسلام يجب ما كان قبله ، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها» (١) ، قال : فبايعته وانصرفت.

وذكر ابن إسحاق عمن لا يتهم أن عثمان بن طلحة بن أبى طلحة أخا بنى عبد الدار كان معهما أسلم حين أسلما.

وذكر غيره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حين رآهم : «رمتكم مكة بأفلاذ كبدها».

وحدث الواقدى بإسناد له قال : قال عثمان بن طلحة : لقينى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة قبل الهجرة فدعانى إلى الإسلام فقلت : يا محمد ، العجب لك حين تطمع أن أتبعك وقد خالفت قومك وجئت بدين محدث ففرقت جماعتهم وألفتهم وأذهبت بهاءهم. فانصرف ، وكنا نفتح الكعبة فى الجاهلية يوم الاثنين والخميس ، فأقبل يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس ، فغلظت عليه ونلت منه وحلم عنى ثم قال : يا عثمان ، لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدى أضعه حيث شئت.

فقلت : لقد هلكت قريش ـ يومئذ ـ وذلت. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل عمرت وعزت يومئذ». ودخل الكعبة فوقعت كلمته منى موقعا ظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال : فأردت الإسلام ، فإذا قومى يزبروننى زبرا شديدا ويزرون برأيى ، فأمسكت عن ذكره. فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة جعلت قريش تشفق من رجوعه عليها ، فهم على ما هم عليه حتى جاء النفير إلى بدر ، فخرجت فيمن خرج من قومنا وشهدت المشاهد كلها معهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة عام القضية غير الله قلبى عما كان عليه ودخلنى الإسلام وجعلت أفكر فيما نحن عليه وما نعبد من حجر لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر ، وأنظر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وظلف أنفسهم عن الدنيا فيقع ذلك منى فأقول : ما عمل القوم إلا على الثواب لما يكون بعد الموت.

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٤ / ١٩٩) ، السنن الكبرى للبيهقى (٩ / ١٢٣) ، دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ٣٤٨) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٤٢) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٩ / ٣٥١).

٤٤٧

وجعلت أحب النظر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى أن رأيته خارجا من باب بنى شيبة يريد منزله بالأبطح ، فأردت أن آتيه وآخذ بيده وأسلم عليه فلم يعزم لى على ذلك ، وانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم راجعا إلى المدينة ، ثم عزم لى على الخروج إليه ، فأدلجت إلى بطن يأجج فألقى خالد بن الوليد ، فاصطحبنا حتى نزلنا الهدة فما شعرنا إلا بعمرو بن العاص فانقمعنا عنه وانقمع منا ، ثم قال : أين يريد الرجلان؟ فأخبرناه فقال : وأنا أريد الذي تريدان.

فاصطحبنا جميعا حتى قدمنا المدينة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبايعته على الإسلام وأقمت حتى خرجت معه فى غزوة الفتح ودخل مكة ، فقال لى : «يا عثمان ، ايت بالمفتاح» ، فأتيته به فأخذه منى ثم دفعه إلى وقال : «خذوها تالدة خالدة ولا ينزعها منكم إلا ظالم ، يا عثمان ، إن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف» (١).

قال عثمان : فلما وليت نادانى فرجعت إليه فقال : «ألم يكن الذي قلت لك؟» فذكرت قوله لى قبل الهجرة بمكة : «لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدى أضعه حيث شئت» ، فقلت بلى ، أشهد أنك رسول الله!

قال الواقدى : فهذا أثبت الوجوه فى إسلام عثمان.

غزوة بنى لحيان (٢)

وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رأس ستة أشهر من فتح بنى قريظة إلى لحيان يطلبهم بأصحاب الرجيع ـ خبيب وأصحابه ـ وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة.

فلما انتهى إلى منازلهم بغران وهو واد بين أمج وعسفان وجدهم قد حذروا وتمنعوا فى رءوس الجبال. فلما أخطأه من غرتهم ما أراد قال : لو أنا هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة. فخرج فى مائتى راكب من أصحابه حتى نزل عسفان ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم ثم كرا وراح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قافلا.

__________________

(١) انظر الحديث فى : المعجم الكبير للطبرانى (١١ / ١٢٠) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٣ / ٢٨٥) ، الدر المنثور (٢ / ١٧٥) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٣٤٧٦٦).

(٢) راجع هذه الغزوة فى : طبقات ابن سعد (٢ / ١ / ٥٦) ، المغازى للواقدى (٢ / ٥٣٥) ، تاريخ الطبرى (٢ / ٥٩٥) ، البداية والنهاية (٤ / ٨١).

٤٤٨

فكان جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول حين وجه راجعا : «آئبون تائبون إن شاء الله ، لربنا حامدون ، أعوذ بالله من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر فى الأهل والمال» (١).

غارة عيينة بن حصن على سرح المدينة

وخروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أثره ، وهى غزوة ذى قرد (٢)

ولما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة من غزوة بنى لحيان لم يقم بالمدينة إلا ليال قلائل ، حتى أغار عيينة بن حصن فى جبل من غطفان على لقاح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغابة ، وفيها رجل من بنى غفار وامرأة له ، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة فى اللقاح.

وكان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمى ، غدا يريد الغابة متوشحا سيفه ونبله ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله معه فرس يقوده ، حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم فأشرف فى ناحية سلع ثم صرخ : وا صباحاه. ثم خرج يشد فى آثار القوم وكان مثل السبع ، حتى لحق القوم فجعل يردهم بالنبل ويقول إذا رمى :

خذها وانا ابن الأكوع

اليوم يوم الرضع

فإذا وجهت الخيل نحوه انطلق هاربا ثم عارضهم فإذا أمكنه الرمى رمى ثم قال :

خذها وانا ابن الأكوع

اليوم يوم الرضع

فيقول قائلهم : أأكيعنا هو أول النهار.

وبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صياح ابن الأكوع فصرخ بالمدينة : الفزع الفزع. فترامت الخيل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان أول من انتهى إليه من الفرسان المقداد بن عمرو ، وهو الذي يقال له : المقداد بن الأسود. ثم كان أول فارس وقف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد المقداد من الأنصار عباد بن بشر وسعد بن زيد الأشهليان وأسيد بن ظهير الحارثى ، يشك فيه ، وعكاشة بن محصن ، ومحرز بن نضلة الأسديان وأبو قتادة السلمى وأبو عياش ، الزرقى.

__________________

(١) انظر الحديث فى : عمل اليوم والليلة لابن السنى (٥٢٥) ، مصنف ابن أبى شيبة (١٢ / ٥١٩ ، ٥٢٠).

(٢) راجع هذه الغزوة فى : البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٥٠) ، طبقات ابن سعد (٢ / ٨٠).

٤٤٩

فلما اجتمعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر عليهم سعد بن زيد وقال : «اخرج فى طلب القوم حتى ألحقك فى الناس» (١). وقال لأبى عياش : «يا أبا عياش لو أعطيت هذا الفرس رجلا هو أفرس منك فلحق بالناس». قال أبو عياش : فقلت : يا رسول الله ، أنا أفرس الناس. ثم ضربت الفرس فو الله ما جرى بى خمسين ذراعا حتى طرحنى ، فعجبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لو أعطيته أفرس منك» وأقول : أنا أفرس! فأعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرس أبى عياش هذا ـ فيما زعموا ـ معاذ ابن ماعص أو عائذ بن ماعص ، فكان ثامنا.

فخرج الفرسان فى طلب القوم حتى تلاحقوا ، وكان أول فارس لحق بالقوم محرز بن نضلة الأخرم ، ويقال له أيضا : قمير ، ولما كان الفزع جال فرس لمحمود بن مسلمة فى الحائط وهو مربوط بجذع نخل حين سمع صاهلة الخيل ، وكان فرسا صنيعا جاما ، فقال بعض نساء بنى عبد الأشهل : يا قمير ، هل لك فى أن تركب هذا الفرس فإنه كما ترى ، ثم تلحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالمسلمين؟ قال : نعم فأعطينه إياه فخرج عليه فلم يلبث أن بز الخيل بجمامه حتى أدرك القوم ، فوقف لهم بين أيديهم ثم قال : قفوا بنى اللكيعة حتى يلحق بكم من وراءكم من المهاجرين والأنصار ، وحمل عليه رجل منهم فقتله ، وجال الفرس فلم يقدر عليه حتى وقف على أرية فى بنى عبد الأشهل. فقيل : إنه لم يقتل من المسلمين ـ يومئذ ـ غيره ، وقد قيل : إنه قتل معه وقاص بن محرز المدلجى.

ولما تلاحقت الخيل قتل أبو قتادة حبيب بن عيينة بن حصن وغشاه برده ثم لحق بالناس ، وأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى المسلمين فإذا حبيب مسجى ببرد أبى قتادة ، فاسترجع الناس وقالوا : قتل أبو قتادة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس بأبى قتادة ، ولكنه قتيل لأبى قتادة وضع عليه برده ليعرفوا أنه صاحبه» (٢).

وأدرك عكاشة بن محصن أو بارا وابنه عمرو بن أوبار وهما على بعير واحد فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعا ، واستنقذوا بعض اللقاح.

وسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزل بالجبل من ذى قرد وتلاحق به الناس ، وأقام عليه يوما وليلة ، وقال له أبو سلمة بن الأكوع : يا رسول الله ، لو سرحتنى فى مائة رجل لاستنقذت بقية السرح وأخذت بأعناق القوم ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنهم الآن ليغبقون فى غطفان» (٣).

__________________

(١) انظر الحديث فى : المعجم الكبير للطبرانى (٧ / ٣٢) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ١٤٣).

(٢) انظر الحديث فى : المعجم الكبير للطبرانى (٧ / ٣١) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ١٤٣).

(٣) انظر الحديث فى : صحيح مسلم فى كتاب الجهاد (٣ / ١٣٢ / ١٤٣٣ ، ١٤٤١).

٤٥٠

فقسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فى أصحابه فى كل مائة رجل جزورا. وأقاموا عليها ثم رجع قافلا إلى المدينة.

وأفلتت ارمأة الغفارى على ناقة من إبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قدمت عليه فأخبرته الخبر ، فلما فرغت قالت : يا رسول الله ، إنى قد نذرت لله أن أنحرها إن نجانى الله عليها ، فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : «بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها ، إنه لا نذر فى معصية الله ولا فيما لا تملكين ، إنما هى ناقة من إبلى ، ارجعى إلى أهلك على بركة الله» (١).

فهذا حديث ابن إسحاق عن غزوة ذى قرد.

وخرج مسلم بن الحجاج ـ رحمه‌الله ـ حديثا فى صحيحه بإسناده إلى سلمة بن الأكوع فذكر حديثا طويلا خالف به حديث ابن إسحاق فى مواضع منه ، فمن ذلك : أن هذه الغزوة كانت بعد انصراف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحديبية ، وجعلها ابن إسحاق قبل ذلك ، وكذلك فعل ابن عقبة.

وفيه أن سلمة بن الأكوع (٢) استنقذ سرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجملته ، قال سلمة : فو الله ما زلت أرميهم وأعقر بهم فإذا رجع إلى فارس أتيت شجرة فجلست فى أصلها ثم رميته فعقرت به حتى إذا تضايق الجبل فدخلوا فى تضايقه علوت الجبل فجعلت أرديهم بالحجارة. قال : فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا خلفته وراء ظهرى وخلوا بينى وبينه ، ثم اتبعتهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحا يستخفون ، ولا يطرحون شيئا إلا جعلت عليه آراما من الحجارة يعرفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حتى أتوا متضايقا من ثنية فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزارى ، فجلسوا يتضحّون ـ أى يتغدون ـ وجلست على رأس قرن. قال الفزارى : ما هذا الذي أرى؟ قالوا : لقينا من هذا البرح ، والله ما فارقنا منذ غلس يرمينا حتى انتزع كل شيء فى أيدينا. قال فليقم إليه نفر منكم أربعة ، قال : فصعد إلى

__________________

(١) انظر الحديث فى : مجمع الزوائد للهيثمى (٤ / ١٨٧).

(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٣٣٧٤) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٢١٥٥) ، طبقات ابن سعد (٣٠٥) ، طبقات خليفة ترجمة رقم (٦٨٩) ، التاريخ الكبير (٤ / ٦٩) ، المعارف (٢١٢) ، المعرفة والتاريخ (١ / ٣٣٦) ، مشاهير علماء الأنصار ترجمة رقم (٨٠) ، تهذيب الكمال (٥٢٥) ، تاريخ الإسلام (٣ / ١٥٨) ، العبر (١ / ٨٤) ، البداية والنهاية (٩ / ٦) ، تهذيب التهذيب (٤ / ١٥٠) ، شذرات الذهب (١ / ٨١) ، تهذيب ابن عساكر (٦ / ٢٣٢).

٤٥١

منهم أربعة فى الجبل ، فلما أمكنونى من الكلام قلت : هل تعرفوننى؟ قالوا : لا ، ومن أنت؟ قلت : أنا سلمة بن الأكوع والذي كرم وجه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا اطلب رجلا منكم إلا أدركته ولا يطلبنى فيدركنى. قال أحدهم : أنا أظن ذلك ، فرجعوا.

فما برحت مكانى حتى رأيت فوارس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتخللون الشجر ، فإذا أولهم الأخرم الأسدي ، على أثره أبو قتادة الأنصاري وعلى أثره المقداد بن الأسود الكندى فأخذت بعنان الأخرم فولوا مدبرين ، قلت : يا أخرم احذرهم لا يقتطعونك حتى يلحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، قال : يا سلمة ، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق فلا تحل بينى وبين الشهادة. قال : فخليته فالتقى هو وعبد الرحمن ، قال : فعقر بعبد الرحمن فرسه وطعنه عبد الرحمن فقتله ، وتحول على فرسه. ولحق أبو قتادة فارس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعبد الرحمن فطعنه فقتله ، فو الذي كرم وجه محمد لتبعتهم أعدو على رجلى حتى ما أرى من ورائى من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا غبارهم شيئا ، حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له : ذو قرد ليشربوا منه وهم عطاش فنظروا إلى أعدو وراءهم فحلأتهم عنه. فما ذاقوا منه قطرة ، ويخرجون فيشتدون فى ثنية فأعدو فألحق منهم فأمسكه بسهم فى نغض كتفه ، قلت :

خذها وانا ابن الأكوع

واليوم يوم الرضع

قال : يا ثكلته أمه أأكوعه بكرة؟ قلت : نعم يا عدو نفسه أكوعه بكرة.

قال : وأردوا فرسين على ثنية فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولحقنى عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن وسطيحة فيها ماء فتوضأت وشربت ثم أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على الماء الذي حلأتهم عنه قد أخذ تلك الإبل وكل شيء استنقذته من المشركين وكل رمح وكل بردة ، وإذا بلال نحر ناقة من الإبل التي استنقذت من القوم ، وإذا هو يشتوى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كبدها وسنامها ، قلت : يا رسول الله ، خلنى فأنتخب من القوم مائة رجل فأتبع القوم فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته. فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بدت نواجذه فى ضوء النار قال : «يا سلمة ، أتراك كنت فاعلا؟» قلت : نعم ، والذي أكرمك ، قال : «إنهم الآن ليقرون بأرض غطفان». قال : فجاء رجل من غطفان فقال: نحر لهم فلان جزورا فلما كشطوا جلدها رأوا غبارا فقالوا : إياكم القوم فخرجوا هاربين.

فلما أصبحنا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة ، وخير رجالنا

٤٥٢

سلمة». ثم أعطانى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سهمين : سهم الفارس وسهم الراجل فجمعهما لى جميعا.

وذكر الزبير بن أبى بكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر فى غزوة قرد هذه على ماء يقال له : بيسان ، فسأل عنه فقيل : اسمه يا رسول الله : بيسان وهو مالح. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ : «لا ، بل اسمه نعمان وهو طيب». فغير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاسم وغير الله ـ تعالى ـ الماء. فاشتراه طلحة بن عبيد الله ثم تصدق به وجاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أنت يا طلحة إلا فياض». فسمى طلحة الفياض.

وكان مما قيل من الشعر فى يوم ذى قرد قول حسان بن ثابت :

أظن عيينة إذا زارها

بأن سوف يهدم فيها قصورا

فأكذبت ما كنت صدقته

وقلتم سنغنم أمرا كبيرا

وولوا سراعا كشد النعام

ولم يكشفوا عن ملط حصيرا

أمير علينا رسول الملي

ك أحبب بذاك إلينا أميرا

رسول نصدق ما جاءه

ويتلوا كتابا مضيئا منيرا

وقال كعب بن مالك :

أيحسب أولاد اللقيطة أننا

على الخيل لسنا مثلهم فى الفوارس

وإنا أناس لا نرى القتل سبة

ولا ننثنى عند الرماح المداعس

وإنا لنقرى الضيف من قمع الذرى

ونضرب رأس الأبلخ المتشاوس (١)

نرد كماة المعلمين إذا انتحوا

بضرب يسلى نخوة المتقاعس

بكل فتى حامى الحقيقة ماجد

كريم كسرحان الغضاة مخالس

يذودون عن أحسابهم وتلادهم

ببيض تقد الهام تحت القوانس

فسائل بنى بدر إذا ما لقيتهم

بما فعل الإخوان يوم التمارس

إذا ما خرجتم فاصدقوا من لقيتم

ولا تكتموا أخباركم فى المجالس

وقولوا زللنا عن مخالب خادر

به وحر فى الصدر ما لم يمارس

وقال شداد بن عارض الجشمى فى يوم ذى قرد لعيينة بن حصن وكان عيينة يكنى أبا مالك :

__________________

(١) القمع : جمع قمعة ، وهى أعلى سنام البعير. والذرا : أى الأسنمة. والأبلخ : أى المتكبر.

والمتشاوس : هو الذي ينظر بمؤخر عينه نظرة المتكبر.

٤٥٣

فهلا كررت أبا مالك

وخيلك مدبرة تقتل

ذكرت الإياب إلى عسجر

وهيهات قد بعد المقفل (١)

وطمنت نفسك ذا ميعة

مسح الفضاء إذا يرسل

إذا قبضته إليك الشما

ل جاش كما اضطرم المرجل

فلما عرفتم عباد الإل

ه لم ينظر الآخر الأول

عرفتم فوارس قد عودوا

طراد الكماة إذا أسهلوا

إذا طردوا الخيل تشقى بهم

فضاحا وإن يطردوا ينزلوا

فيعتصموا فى سواء المقا

م بالبيض أخلصها الصيقل (٢)

غزوة بنى المصطلق

وهى غزوة المريسيع (٣)

وغزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنى المصطلق من خزاعة فى شعبان سنة ست ، وكان بلغه أنهم يجمعون له ، وقائدهم الحارث بن أبى ضرار أبو جويرية زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فلما سمع بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له : المريسيع ، فتزاحف الناس واقتتلوا ، فهزم الله بنى المصطلق وقتل من قتل منهم ونفل رسوله أبناءهم ونساءهم وأموالهم.

وكان شعار المسلمين فى ذلك اليوم : يا منصور أمت أمت.

وأصاب ـ يومئذ ـ رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت رجلا من المسلمين من بنى كلب بن عوف بن عامر بن أمية بن ليث بن بكر يقال له : هشام ابن صبابة ، وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ.

فبينا الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من غفار يقال له : جهجاه بن مسعود يقود فرسه ، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهنى حليف بنى عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا ، فصرخ الجهنى : يا معشر الأنصار.

__________________

(١) عسجر : موضع بالقرب من مكة. والمقفل : أى الرجوع.

(٢) أخلصها الصقيل : أى أزال ما عليها من الصدأ.

(٣) راجع هذه الغزوة فى : المغازى للواقدى (١ / ٤٠٤) ، طبقات ابن سعد (٢ / ١ / ٤٥) ، تاريخ الطبرى (٢ / ٥٩٣) ، الكامل (٢ / ٨١) ، البداية والنهاية (٤ / ١٥٦).

٤٥٤

وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين. فغضب عبد الله بن أبى بن سلول فقال : أقد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا فى بلادنا ، والله ما أعدنا وجلابيب قريش هؤلاء إلا كما قال الأول : سمن كلبك يأكلك ، وأما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من حضره من قومه ـ وفيهم زيد بن أرقم غلام حدث ـ فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.

فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره الخبر ، وذلك عند فراغه من عدوه ، وعنده عمر بن الخطاب ، فقال : مر به عباد بن بشر فليقتله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ، لا ولكن أذن بالرحيل»(١). وذلك فى ساعة لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرتحل فيها.

فارتحل الناس وقد مشى عبد الله بن أبى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بلغة أن زيدا بلغه ما سمع منه ، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به. وكان فى قومه شريفا عظيما ، فقال من حضر من الأنصار من أصحابه : يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم فى حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل. حدبا على ابن أبى ودفعا عنه.

فلما استقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ثم قال : يا نبى الله ، والله لرحت فى ساعة منكرة ما كنت تروح فى مثلها. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟» قال : وأى صاحب يا رسول الله؟ قال : «عبد الله بن أبى». قال : وما قال؟ قال : «زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل» (٢).

قال : فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت ، هو والله الذليل وأنت العزيز. ثم قال : يا رسول الله صلى الله عليك ارفق به ، فو الله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه ، فإنه ليرى أن قد استلبته ملكا!

ثم مشى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى وليلتهم حتى أصبح ، وسار يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما ، وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس ثم راح

__________________

(١) انظر الحديث فى : مصنف ابن أبى شيبة (١٢ / ٥٤٠ ، ١٤ / ٤٣٢).

(٢) انظر الحديث فى : تفسير الطبرى (٢٨ / ٧٥).

٤٥٥

بالناس ، فهبت عليهم ريح شديدة آذتهم وتخوفوها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تخافوها فإنما هبت لموت عظيم من الكفار» (١). فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت ـ أحد بني قينقاع ـ وكان من عظماء يهود وكهفا للمنافقين مات ذلك اليوم.

ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين فى عبد الله بن أبى ومن كان على مثل أمره. فلما نزلت أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأذن زيد بن أرقم ثم قال : «هذا الذي أوفى الله بأذنه»(٢).

وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبى الذي كان من أمر أبيه ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إنه بلغنى أنك تريد قتل عبد الله بن أبى فيما بلغك عنه ، فإن كنت فاعلا فمرنى فأنا أحمل إليك رأسه ، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده منى ، إنى أخشى أن تأمر به غيرى فيقتله فلا تدعنى نفسى أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبى يمشى فى الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقى معنا» (٣).

وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويؤاخذونه ويعنفونه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم : «كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتله يوم قلت لى اقتله لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته» (٤)! فقال عمر : قد والله علمت لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظم بركة من أمرى.

وقدم مقيس بن صبابة من مكة متظاهرا بالإسلام ، فقال يا رسول الله ، جئتك مسلما ، وجئتك اطلب دية أخى قتل خطأ ، فأمر له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدية أخيه هشام بن صبابة ، فأقام عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير كثير ثم عدا على قاتل أخيه فقتله. ثم خرج إلى مكة مرتدا وقال فى شعر له :

شفى النفس أن بات بالقاع مسندا

تضرج ثوبيه دماء الأخادع (٥)

__________________

(١) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ٦١).

(٢) انظر الحديث فى : كنز العمال للمتقى الهندى (٤٤١٣) ، سنن الترمذى (٥ / ٣٣١٣) ، فتح البارى لابن حجر (٨ / ٥١٤).

(٣) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ٦٢) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٥٨).

(٤) انظر الحديث فى : تفسير الطبرى (٢٨ / ٧٦) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٥٨).

(٥) تضرج : أى تلطخ. والأخادع : عروق القفا.

٤٥٦

وكانت هموم النفس من قبل قتله

تلم فتحمينى وطاء المضاجع

حللت به وترى وأدركت ثؤرتى

وكنت إلى الأوثان أول راجع

ثأرت به فهرا وحملت عقله

سراة بنى النجار أرباب فارع

وقال أيضا :

جللته ضربة باتت لها وشل

من ناقع الجوف يعلوه وينصرم

فقلت والموت تغشاه أسرته

لا تأمنن بنى بكر إذا ظلموا

وأصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بنى المصطلق سبيا كثيرا ، فشا قسمة فى المسلمين ، وكان فيمن أصيب ـ يومئذ ـ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار ، فوقعت فى السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له ، فكاتبته على نفسها.

قال عائشة رضى الله عنها : وكانت ـ تعنى جويرية ـ امرأة حلوة ملاحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تستعينه فى كتابتها ، فو الله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتى فكرهتها وعرفت أنه سيرى منها ما رايت ، فدخلت عليه فقالت : يا رسول الله ، أنا جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار سيد قومه ، وقد أصابنى من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت فى السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له ، فكاتبته على نفسى ، فجئتك أستعينك على كتابتى ، قال : «فهل لك فى خير من ذلك؟» قالت : وما هو يا رسول الله؟ قال : «أقضى كتابتك وأتزوجك» (١). قالت : نعم يا رسول الله. قال : «قد فعلت» (٢). وخرج الخبر إلى الناس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تزوج جويرية. فقال الناس : أصهار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأرسلوا ما بأيديهم ، قالت : فلقد أعتق بتزوجه إياها مائة أهل بيت من بنى المصطلق ، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها.

وبعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبى معيط ، فلما سمعوا به ركبوا إليه ، فلما سمع بهم هابهم فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره أن القوم هموا بقتله ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم ، فأكثر المسلمون فى ذكر غزوهم حتى هم رسول

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٦ / ٢٧٧).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٤ / ٧٨) ، المعجم الكبير للطبرانى (٧ / ٢٠٥) ، موارد الظمآن للهيثمى (١٢١٣) ، الطبقات الطبرى لابن سعد (٨ / ٨٣ ، ١٠٧) ، إتحاف السادة المتقين (٥ / ٤١) ، الدر المنثور للسيوطى (١ / ١٢) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١١٥٣٠) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (١ / ٣٠٦) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٦٤).

٤٥٧

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأن يغزوهم ، فبينا هم فى ذلك قدم وفدهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله ، سمعنا برسولك حين بعثته إلينا ، فخرجنا إليه لنكرمه ونؤدى إليه ما قبلنا من الصدقة ، فانشمر راجعا ، فبلغنا أنه زعم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا خرجنا إليه لنقتله وو الله ما جئنا لذلك. فأنزل الله فيه وفيهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) [الحجرات : ٦].

هكذا ذكر ابن إسحاق (١) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى بنى المصطلق بعد إسلامهم الوليد بن عقبة ولم يعين مدة توجيهه إياه إليهم ، وقد يوهم ظاهره أن ذلك كان بحدثان إسلامهم ، ولا يصح ذلك ، إذ الوليد من مسلمة الفتح ، وإنما كان الفتح فى سنة ثمان بعد غزوة بنى المصطلق وإسلامهم بسنتين ، فلا يكون هذا التوجيه إلا بعد ذلك ولا بد.

وقد قال أبو عمر بن عبد البر : لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله عزوجل : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) نزلت فى الوليد بن عقبة حين بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بنى المصطلق مصدقا ، والله سبحانه أعلم.

وأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سفره ذلك حتى إذا كان قريبا من المدينة قال : «أهل الإفك فى الصديقة المبرأة المطهرة عائشة بنت الصديق ، رضى الله عنهما ، ما قالوا».

فحدثت ـ يرحمها الله ـ قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه. فلما كانت غزوة بنى المصطلق أقرع بين نسائه كما كان يصنع فخرج سهمى عليهن معه فخرج بى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قالت : وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العلق لم يهبجهن اللحم فيثقلن ، وكنت إذا رحّل لى بعيرى جلست فى هودجى ثم يأتى القوم الذين يرحلون لى ويحملوننى فيأخذون بأسفل الهودج فيرفعونه فيضعونه على ظهر البعير فيشدونه بحباله ثم يأخذون برأس البعير فينطلقون به.

فلما فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سفره ذلك وجه قافلا حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا فبات به بعض الليل ثم أذن فى الناس بالرحيل ، فارتحل الناس وخرجت لحاجتى وفى عنقى عقد لى فيه جزع ظفار فلما فرغت انسل من عنقى ولا أدرى ، فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه فى عنقى فلم أجده وقد أخذ الناس فى الرحيل ، فرجعت إلى مكانى الذي ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته ، وجاء خلافى القوم الذين كانوا يرحلون لى البعير وقد فرغوا من رحلته فأخذوا الهودج وهم يظنون أنى فيه كما

__________________

(١) انظر : السيرة (٣ / ٢٦٩).

٤٥٨

كنت أصنع ، فاحتملوه فشدوه على البعير ولم يشكوا أنى فيه ، ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به ، ورجعت إلى العسكر وما فيه داع ولا مجيب قد انطلق الناس ، قالت : فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت فى مكان وعرفت أنه لو قد افتقدت لرجع إلى.

فو الله إنى لمضطجعة إذ مر بى صفوان بن المعطل السلمى ، وكان تخلف عن العسكر لبعض حاجته فلم يبت مع الناس ، فرأى سوادى ، فأقبل حتى وقف على ، وقد كان يرانى قبل أن يضرب علينا الحجاب ، فلما رآنى قال : إنا لله وإنا إليه راجعون! ظعينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم! وأنا متلففة فى ثيابى. قال : ما خلفك ، رحمك الله؟ قالت : فما كلمته ، ثم قرب البعير فقال : اركبى. واستأخر عنى ، فركبت وأخذ برأس البعير فانطلق سريعا يطلب الناس ، فو الله ما أدركنا الناس وما افتقدت حتى أصبحت ، ونزل الناس فلما اطمأنوا طلع الرجل يقودنى ، فقال أهل الإفك ما قالوا. فارتعج العسكر ، والله ما أعلم بشيء من ذلك.

ثم قدمنا المدينة فلم ألبث أن اشتكيت شكوا شديدا لا يبلغنى من ذلك شيء وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى أبوى لا يذكرون لى منه قليلا ولا كثيرا ، إلا أنى قد أنكرت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض لطفه بى ، كنت إذا اشتكيت رحمنى ولطف لى فلم يفعل ذلك فى شكوى ذلك فأنكرت ذلك منه ، كان إذا دخل على وعندى أمى تمرضنى قال : كيف تيكم ، لا يزيد على ذلك حتى وجدت فى نفسى حين رأيت من جفائه لى. فقلت : يا رسول الله لو أذنت لى فانتقلت إلى أمى فتمرضنى؟ قال : «لا عليك».

فانتقلت إلى أمى ولا علم لى بشيء مما كان ، حتى نقهت من وجعى بعد بضع وعشرين ليلة ، وكنا قوما عربا لا نتخذ فى بيوتنا هذه الكنف التي تتخذ الأعاجم نعافها ونكرهها ، إنما كنا نذهب فى فسح المدينة ، وإنما كان النساء يخرجن كل ليلة فى حوائجهن ، فخرجت ليلة لبعض حاجتى ومعى أم مسطح بنت أبى رهم بن المطلب بن عبد مناف ، وكانت أمها خالة أبى بكر الصديق ، فو الله إنها لتمشى معى إذ عثرت فى مرطها فقالت : تعس مسطح. قلت : بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدرا. قالت : أو ما بلغك الخبر يا بنت أبى بكر؟ قلت : وما الخبر؟ فأخبرتنى بالذى كان من قول أهل الإفك. قلت : أوقد كان هذا؟ قالت : نعم والله لقد كان.

فو الله ما قدرت على أن أقضى حاجتى ورجعت ، فوالله ما زلت أبكى حتى ظننت

٤٥٩

أن البكاء سيصدع كبدى. وقلت لأمى : يغفر الله لك! تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لى من ذلك شيئا؟ قالت : أى بنية خفضى عليك الشأن ، فو الله لقل ما كنت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها.

قالت : وقد قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الناس فخطبهم ولا أعلم بذلك ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : «أيها الناس ، ما بال رجال يؤذوننى فى أهلى ويقولون عليهم غير الحق ، والله ما علمت منهم إلا خيرا ، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا ، وما يدخل بيتا من بيوتى إلا وهو معى». قالت : وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبى فى رجال من الخزرج مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش ، وذلك أن أختها زينب كانت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن من نسائه امرأة تناصينى فى المنزلة عنده غيرها ، فأما زينب فعصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيرا ، وأما حمنة فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضادنى لأختها ، فشقيت بذلك.

فلما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك المقالة قال أسيد بن خضير : يا رسول الله ، إن يكونوا من الأوس نكفكهم وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك فو الله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم. فقام سعد بن عبادة فقال : كذبت لعمر الله لا تضرب أعناقهم ، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج ، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا. فقال أسيد : كذبت لعمر الله ولكنك منافق تجادل عن المنافقين. قالت : وتثاور الناس حتى كاد يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر.

ونزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعا على بن أبى طالب وأسامة بن زيد فاستشارهما ، فأما أسامة فأثنى خيرا ، ثم قال : يا رسول الله ، أهلك ولا نعلم منهم إلا خيرا ، وهذا الكذب والباطل. وأما على فإنه قال : يا رسول الله ، إن النساء لكثير وإنك لتقدر أن تستخلف ، وسل الجارية فإنها ستصدقك. فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بريرة ليسألها ، فقام إليها على فضربها ضربا شديدا ويقول : اصدقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتقول : والله ما أعلم إلا خيرا ، وما كنت أعيب على عائشة شيئا إلا أنى كنت أعجن عجينى فآمرها أن تحفظه فتنام عنه فتأتى الشاة فتأكله.

قالت : ثم دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعندى أبواى وعندى امرأة من الأنصار فأنا أبكى وهى تبكى معى ، فجلس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : «يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس ، فاتقى الله وإن كنت قارفت سوءا مما يقول الناس فتوبى إلى الله

٤٦٠