الإكتفا - ج ١

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ١

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبدالقادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2943-0
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

وفد بنى فزارة (١)

ولما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبوك قدم عليه وفد بنى فزارة ، بضعة عشر رجلا ، فيهم خارجة بن حصن ، والحر بن قيس بن حصن ابن أخى عيينة بن حصن ، وهو أصغرهم ، فنزلوا فى دار زينب بنت الحارث ، وجاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقرين بالإسلام ، وهم مستنون على وكاف عجاف ، فسألهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بلادهم ، فقال أحدهم : يا رسول الله ، أسنتت بلادنا ، وهلكت مواشينا ، وأجدب جنابنا ، وغرث عيالنا ، فادع لنا ربك يغثنا ، واشفع لنا إلى ربك ، وليشفع لنا ربك إليك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبحان الله ويلك ، هذا أنا شفعت إلى ربى عزوجل ، فمن ذا الذي يشفع ربنا إليه؟ لا إله إلا هو العلى العظيم ، وسع كرسيه السموات والأرض ، فهى تئط من عظمته وجلاله كما يئط الرجل الجديد».

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله جل وعز ليضحك من شفعكم ، وأزلكم ، وقرب غياثكم».

فقال الأعرابى : يا رسول الله ، ويضحك ربنا عزوجل؟ قال : «نعم» ، قال الأعرابى:لن نعدمك من رب يضحك خير ، فضحك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله ، وصعد المنبر ، فتكلم بكلمات ، وكان لا يرفع يديه فى شيء من الدعاء إلا فى الاستسقاء ، فرفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه ، وكان مما حفظ من دعائه : «اللهم اسق بلادك وبهائمك ، وانشر رحمتك ، وأحى بلدك الميت ، اللهم اسقنا غيثا مغيثا مربعا طيبا ، واسعا عاجلا غير آجل ، نافعا غير ضار ، اللهم اسقنا رحمة ولا تسقنا عذابا ولا هدما ولا غرقا ولا محقا ، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء».

فقام أبو لبابة بن عبد المنذر الأنصاري ، فقال : يا رسول الله ، التمر فى المربد. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اسقنا» ، فعاد أبو لبابة لقوله ، وعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لدعائه ، فعاد أيضا أبو لبابة لقوله ، وعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لدعائه ، فعاد أيضا أبو لبابة ، فقال : التمر فى المربد يا رسول الله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره» ، قالوا : ولا والله ما فى السماء سحاب ولا قزعة ، وما بين المسجد وبين سلع من شجر ولا دار ، فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس ، فلما توسطت

__________________

(١) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ٣٥٣) ، طبقات ابن سعد (١ / ٢ / ٥٩) ، البداية والنهاية (٥ / ٧٩).

٦٠١

السماء انتشرت ، ثم أمطرت ، فو الله ما رأوا الشمس سبعا ، وقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره ، لئلا يخرج التمر منه ، فجاء ذلك الرجل أو غيره فقال : يا رسول الله ، هلكت الأموال ، وانقطعت السبل ، فصعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنبر ، فدعا ورفع يديه مدا ، حتى رؤى بياض إبطيه ، ثم قال : «اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر» (١).

قال : فانجابت السحاب عن المدينة انجياب الثوب.

وفد بنى أسد (٢)

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد بنى أسد ، عشرة رهط ، فيهم وابصة بن معبد وطليحة ابن خويلد ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس فى المسجد مع أصحابه ، فسلموا وتكلموا ، وقال متكلمهم : يا رسول الله ، إنا شهدنا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنك عبده ورسوله ، وجئناك يا رسول الله ، ولم تبعث إلينا بعثا ، ونحن لمن وراءنا.

قال محمد بن كعب القرظى : فأنزل الله عزوجل على رسوله : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [١٧ : الحجرات].

وكان مما سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند يومئذ : العيافة والكهانة وضرب الحصى ، فنهاهم عن ذلك كله. فقالوا : يا رسول الله ، إن هذه أمور كنا نفعلها فى الجاهلية ، أرأيت خصلة بقيت؟ قال : «وما هى»؟ قال : الخط ، قال : «علمه نبى من الأنبياء ، فمن صادف مثل علمه علم» (٣).

__________________

(١) انظر الحديث فى : سنن أبو داود (١١٧٣) ، سنن البيهقي الكبرى (٣ / ٣٥٦) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١٨٠٢٥) ، موطأ الإمام مالك (١٩١) ، العلل المتناهية لابن الجوزى (٢١٢) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (١٥٠٦).

(٢) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ٣٥٥) ، طبقات ابن سعد (١ / ٢ / ٣٩) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٧٩).

(٣) ذكره السيوطى فى الدرر المنثور (٦ / ٣٨).

٦٠٢

وفد بهراء (١)

وذكر الواقدى عن كريمة بنت المقداد ، قالت : سمعت أمى ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب (٢) تقول : قدم وفد بهراء من اليمن ، وهم ثلاثة عشر رجلا ، فأقبلوا يقودون رواحلهم ، حتى انتهوا إلى باب المقداد ، ونحن فى منزلنا نبنى جديلة ، فخرج إليهم المقداد ، فرحب بهم ، وأنزلهم ، وجاءهم بجفنة من حيس قد كنا هيأناها قبل أن يحلوا لنجلس عليها ، فحملها أبو معبد المقداد ، وكان كريما على الطعام ، فأكلوا منها حتى نهلوا ، وردت إلينا القصعة وفيها أكل ، فجمعنا تلك الأكل فى قصعة صغيرة ، ثم بعثنا بها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع سدرة مولاتى ، فوجدته فى بيت أم سلمة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ضباعة أرسلت بهذا»؟ ، قالت سدرة : نعم يا رسول الله ، قال : «ضعى» ، ثم قال : «ما فعل ضيف أبى معبد؟» قلت : عندنا ، فأصاب منها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكلا هو ومن معه فى البيت حتى نهلوا ، وأكلت معهم سدرة ، ثم قال : «اذهبى بما بقى إلى ضيفكم» ، قالت سدرة : فرجعت بما بقى فى القصعة إلى مولاتى ، قالت : فأكل منها الضيف ما أقاموا ، نرددها عليهم وما تغيض ، حتى جعل الضيف يقولون : يا أبا معبد ، إنك لتنهلنا من أحب الطعام إلينا ، وما كنا نقدر على مثل هذا إلا فى الحين ، وقد ذكر لنا أن بلادكم قليلة الطعام ، إنما هو العلق أو نحوه ، ونحن عندك فى الشبع ، فأخبرهم أبو معبد بخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أكل منها أكلا وردها ، فهذه بركة أثر أصابع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل القوم يقولون : نشهد أنه رسول الله ، وازدادوا يقينا ، وذلك الذي أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وتعلموا الفرائض ، وأقاموا أياما ، ثم جاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فودعوه ، وأمر لهم بجوائزهم ، وانصرفوا إلى أهلهم.

وفد بنى غدرة

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد بنى غدرة فى صفر سنة تسع ، اثنا عشر رجلا ، فيهم حمزة بن النعمان وسليم وسعد ابنا مالك ومالك بن أبى رباح ، فنزلوا فى دار رملة بنت

__________________

(١) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ٣٥٦) ، طبقات ابن سعد (١ / ٢ / ٦٦).

(٢) انظر ترجمتها فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٣٤٥١) ، الإصابة الترجمة رقم (١١٤٢٩) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٧٠٧٦) ، تهذيب الكمال (١٦٨٧) ، تهذيب التهذيب (١٢ / ٤٣٢) ، خلاصة تذهيب الكمال (٤٩٣) ، تاريخ الإسلام (٢ / ٢٢٩).

٦٠٣

الحارث النجارية ، ثم جاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو فى المسجد ، فسلموا بسلام أهل الجاهلية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من القوم»؟ فقال متكلمهم : من لا تنكر ، نحن بنو غدرة ، أخوة قصى لأمه ، نحن الذين عضوا قصيا ، وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبنى بكر ، ولنا قرابات وأرحام. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مرحبا بكم وأهلا ، ما أعرفنى بكم ، فما منعكم من تحية الإسلام»؟ قالوا : يا محمد ، كنا على ما كان عليه آباؤنا ، فقدمنا مرتادين لأنفسنا ولمن خلفنا ، فإلام تدعو؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وأن تشهدوا أنى رسول الله إلى الناس كافة» ، فقال المتكلم : فما وراء ذلك من الفرائض؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصلوات الخمس ، تحسن طهورهن وتصليهن لمواقيتهن ، فإنه أفضل العمل».

ثم ذكر لهم سائر الفرائض من الصيام والزكاة والحج ، فقال المتكلم : الله أكبر ، نشهد أنه لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، قد أجبناك إلى ما دعوت إليه ، ونحن أعوانك وأنصارك ثم قال : يا رسول الله : إنا متاخمو الشام ، وأخبارهم ترد علينا ، وبالشام من قد علمت ، هرقل ، فهل اوحى إليك فى أمره بشيء؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبشر ، فإن الشام ستفتح عليكم ، ويهرب هرقل إلى ممتنع بلاده» ، قال : الله أكبر ، يا رسول الله ، إن فينا امرأة كاهنة ، كانت قريش والعرب يتحاكمون إليها ، ولو قد رجعنا أقرت هى وغيرها من قومنا بالإسلام إن شاء الله ، أفنسألها عن كهانتها؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسألوها عن شيء» ، قال : الله أكبر ، ثم سأله عن الذبائح التي كانوا يذبحون فى الجاهلية لأصنامهم ، فنهاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها ، وقال ، وقال : «لا ذبيحة لغير الله عزوجل ولا ذبيحة عليكم فى سنتكم إلا واحدة». قال : وما هى؟ فداك أبى وأمى ، قال : «الأضحية» ، قال : وأى وقت تكون؟ قال : «صبيحة العاشر من ذى الحجة ، تذبح شاة عنك وعن أهلك» ، قال : يا رسول الله ، أهي على أهل كل بيت وجدوها؟ قال : «نعم» (١).

فأقاموا أياما ، ثم أجازهم كما يجيز الوفود ، وانصرفوا.

وفد بلى (٢)

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد بلى فى ربيع الأول من سنة تسع. قال رويفع ابن

__________________

(١) انظر الحديث فى : كنز العمال للمتقى الهندى (١٢٢٥٩).

(٢) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٣ / ٣٥٥) ، طبقات ابن سعد (١ / ٢ / ٦٥).

٦٠٤

ثابت البلوى : فبلغنى قدومهم ، فخرجت حتى جئتهم برأس الثنية فى أيديهم خطم رواحلهم ، فرحبت بهم وقلت : المنزل على ، فعدلت بهم إلى منزلى ، فنزلوا ، ولبسوا من صالح ثيابهم ، ثم خرجت بهم حتى انتهيت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس فى أصحابه فى بقية فيء الغداة ، فسلمت. فقال : «رويفع» ، فقلت : لبيك ، قال : «من هؤلاء القوم»؟ قلت : قومى ، قال : «مرحبا بك وبقومك» ، قلت : يا رسول الله ، قدموا وافدين عليك مقرين بالإسلام ، وهم على من وراءهم من قومهم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يرد الله به خيرا يهده للإسلام».

قال : وتقدم شيخ الوفد أبو الضبيب فجلس بين يديه ، فقال : يا رسول الله ، إنا قدمنا عليك لنصدقك ونشهد أن ما جئت به حق ، ونخلع ما كنا نعبد ويعبد آباؤنا قبلنا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمد لله الذي هداكم للإسلام ، فكل من مات على غير الإسلام فهو فى النار» ، قال : يا رسول الله ، إنى رجل لى رغبة فى الضيافة ، فهل لى فى ذلك من أجر؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم ، وكل معروف صنعته إلى غنى أو فقير فهو صدقة» ، قال : يا رسول الله ، ما وقت الضيافة؟ قال : «ثلاثة أيام ، فما كان بعد ذلك فصدقة ، ولا يحل للضيف ان يقيم عندك فيحرجك» ، قال : يا رسول الله ، أرأيت الضالة من الغنم أجدها فى الفلاة من الأرض؟ قال : «لك أو لأخيك أو للذئب» ، قال : فالبعير ، قال : «مالك وله ، دعه حتى يجده صاحبه» (١).

وسأله عن أشياء غير هذه ، فأجابه عنها.

قال رويفع : ثم قاموا ، فرجعوا إلى منزلى ، فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتى منزلى يحمل تمرا ، فقال : «استعن بهذا التمر» ، فكانوا يأكلون منه ومن غيره ، فأقاموا ثلاثا ، ثم ودعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأجازهم ، ورجعوا إلى بلادهم.

ضمام بن ثعلبة (٢)

وبعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقدم عليه ، وأناخ

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٢ / ١٨٦ ، ٢٠٣ ، ٤ / ١١٧) ، السنن الكبرى للبيهقى (١ / ١٨٥ ، ٤ / ١٥٣ ، ٦ / ١٨٩ ، ١٩٠) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٤ / ١٦٨) ، المعجم الكبير للطبرانى (٥ / ٢٨٩) ، فتح البارى لابن حجر (١ / ١٨٦ ، ٥ / ٨٠).

(٢) انظر : السيرة (٤ / ١٩٨ ـ ٢٠٠).

٦٠٥

بعيره على باب المسجد ، ثم عقله ، ثم دخل المسجد ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس فى أصحابه ؛ وكان ضمام رجلا جلدا ، أشعر ، ذا غديرتين ، فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أصحابه ، فقال : أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا ابن عبد المطلب». قال : أمحمد؟ قال : «نعم» ؛ قال : يا ابن عبد المطلب ، إنى سائلك ومغلظ عليك فى المسألة ، فلا تجدن فى نفسك ، قال : «لا أجد فى نفسى ، فسل عما بدا لك». قال : أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن بعدك ، الله بعثك إلينا رسولا؟ قال : «اللهم نعم» ، قال : فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن بعدك : الله أمرك أن تأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا ، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال : «اللهم نعم» ، قال : فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن بعدك : الله أمرك أن نصلى هذه الصلوات الخمس؟ قال : «اللهم نعم». ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة : الزكاة والصيام والحج ، وشرائع الإسلام كلها ، ينشده عند كل فريضة كما ينشده فى التي قبلها ، حتى إذا فرغ قال : فإنى أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله ، وسأؤدى هذه الفرائض ، وأجتنب ما نهيتنى عنه ، ثم لا أزيد ولا أنقص. ثم انصرف إلى بعيره راجعا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة».

قال : فأتى بعيره فأطلق عقاله ، ثم خرج حتى قدم على قومه ، فاجتمعوا عليه ، فكان أول ما تكلم به أن سب اللات والعزى ، قالوا : مه يا ضمام! اتق البرص ، اتق الجذام ، اتق الجنون! قال : ويلكم! إنهما والله ما تضران ولا تنفعان إن الله قد بعث رسولا ، وأنزل عليه كتابا فاستنقذكم به مما كنتم فيه ، فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به وما نهاكم عنه.

قال : فو الله ، ما أمسى من ذلك اليوم وفى حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما. فبنوا المساجد ، وأذنوا بالصلاة ، وكلما اختلفوا فى شيء قالوا : عليكم بوافدنا.

قال ابن عباس : فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة (١).

واختلف فى الوقت الذي وفد فيه ضمام هذا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل : سنة خمس. ذكره الواقدى وغيره ، وقيل : سنة سبع ، وقيل : سنة تسع ، فالله أعلم.

__________________

(١) انظر الحديث فى : سنن الدارمى (١ / ٦٥٢) ، صحيح البخاري (١ / ٦٣) ، صحيح مسلم (١ / ١٠ / ٤١ ، ٤٢) ، سنن النسائى (٤ / ٢٠٩١).

٦٠٦

وفد عبد القيس (١)

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد عبد القيس فى جماعة رأسهم عبد الله بن عوف الأشج ، فلما أتوه قال : «من الوفد؟» أو «من القوم؟» قالوا : ربيعة ، قال : «مرحبا بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا الندامى» ، قالوا : يا رسول الله ، إنا نأتيك من شقة بعيدة ، وإن بيننا وبينك هذا الحى من كفار مضر ، وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا فى الشهر الحرام ، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا ، ندخل به الجنة. فأمرهم بأربع ، ونهاهن عن أربع.

أمرهم بالإيمان بالله وحده ، وقال : «هل تدرون ما الإيمان بالله» قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : «شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وأن تؤدوا خمسا من المغنم».

ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير. قالوا : يا نبى الله ، ما علمك بالنقير؟ قال : «بلى ، جذع ينقرونه فيقذفون فيه من القطيعاء ، أو قال : من التمر ثم يصبون فيه من الماء حتى إذا سكن غليانه شربتموه ، حتى أن أحدكم أو أن أحدهم ليضرب ابن عمه بالسيف» ، وفى القوم رجل أصابته جراحه كذلك ، قال : وكنت أخبأها حياء من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سلم عليه القوم سألهم : «أيكم عبد الله الأشج»؟ فقالوا : أتاك يا رسول الله. وكان عبد الله وضع ثياب سفره ، وأخرج ثيابا حسانا فلبسها ، وكان رجلا دميما ، فلما جاء ونظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى دمامته قال : يا رسول الله ، إنه لا يستقى فى مسوك الرجال ، إنما يحتاج من الرجل إلى أصغريه ، لسانه وقلبه. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله : الحلم ، والأناة». فقال عبد الله : يا رسول الله ، أشيء حدث فى ، أم شيء جبلت عليه؟ فقال : «بل شيء جبلت عليه»(٢).

وكان الأشج يسائل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الفقه والقرآن ، فكان رسول الله يدنيه منه إذا جلس ، وكان يأتى أبى بن كعب فيقرأ عليه.

__________________

(١) راجع : السيرة (٢٠٠ ـ ٢٠١). المنتظم لابن الجوزى (٣ / ٣٨٢) ، طبقات ابن سعد (١ / ٢ / ٦٤) ، تاريخ الطبرى (٣ / ١٣٦).

(٢) انظر الحديث فى : سنن البيهقي (١٠ / ١٠٤) ، المعجم الكبير للطبرانى (٥ / ٣١٧) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٥ / ٦٤ ، ٩ / ٣٨٧ ، ٣٨٨) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (٣ / ٤١٨) ، التاريخ الكبير ـ ـ (٥٨٥) ، فتح البارى لابن حجر (١٠ / ٤٥٩) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (٥٠٥٤) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (٨ / ٣١) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٥٨٣٦ ، ٥٨٣٧).

٦٠٧

وأمر لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجوائز ، وفضل الأشج عليهم ، فأعطاه اثنتى عشرة أوقية ، ونشا ، وذلك أكثر مما كان يجيز به الوفود.

وقدم فى هذا الوفد الجارود بن عمرو ، وكان نصرانيا ، فلما انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلمه ، فعرض عليه الإسلام ، ودعا إليه ، ورغبه فيه. فقال : يا محمد ، إنى كنت على دين ، وإنى تارك دينى لدينك ، أفتضمن لى دينى؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم ، أنا ضامن أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه». فأسلم وحسن إسلامه ، وأراد الرجوع إلى بلاده ، فسأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حملانا ، فقال : «والله ما عندى ما أحملكم عليه» ، قال : يا رسول الله ، فإن بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال الناس ، أفنتبلغ عليها إلى بلادنا؟ قال : «لا» ، إياك وإياها ، فإنما تلك حرق النار» (١).

فخرج من عنده الجارود راجعا إلى قومه ، وكان حسن الإسلام ، صليبا فى دينه ، حتى هلك وقد أدرك الردة ، فلما رجع من كان أسلم من قومه إلى دينهم الأول مع الغرور بن المنذر بن النعمان ، قام الجارود فتشهد بشهادة الحق ، ودعا إلى الإسلام ، فقال : يا أيها الناس ، إنى أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأكفر من لم يتشهد. ويروى : وأكفئ من لم يشهد (٢).

وفد بنى مرة

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد بنى مرة ، ثلاثة عشر رجلا رأسهم الحارث بن عوف ، وذلك منصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبوك ، جاءوه وهو فى المسجد ، فقال الحارث بن عوف : يا رسول الله ، إنا قومك وعشيرتك ، نحن قوم من بنى لؤيّ بن غالب ، فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال للحارث : «أين تركت أهلك»؟ قال : بسلاح وما والاها قال : «فكيف البلاد؟ قال : والله ، إنا لمستنون وما فى المال مخ ، فادع الله لنا. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اسقهم الغيث» ، فأقاموا أياما ، ثم أرادوا الانصراف إلى بلادهم ، فجاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مودعين له ، فأمر بلالا أن يجيزهم ، فأجازهم بعشر أواق ، عشر أواق فضة ، وفضل الحارث بن عوف ، أعطاه اثنتى عشرة أوقية ، ورجعوا إلى بلادهم ، فوجدوا البلاد

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٥ / ٨٠) ، مصنف عبد الرزاق (١٠ / ١٨٦٠٤) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (٦٢٠).

(٢) انظر : السيرة (٤ / ٢٠١).

٦٠٨

مطيرة ، فسألوا : متى مطرتم؟ فإذا هو ذلك اليوم الذي دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه.

فقدم عليه قادم بعد وهو يتجهز لحجة الوداع ، فقال : يا رسول الله ، رجعنا إلى بلادنا فوجدناها مضبوطة مطرا ، لذلك اليوم الذي دعوت لنا فيه ، ثم قلدتنا أقلاد الزرع فى كل خمس عشرة ليلة مطرة جودا ، ولقد رأيت الإبل تأكل وهى بروك ، وإن غنمنا ما توارى من أبياتنا ، فترجع فتقيل فى أهلنا. فقال رسول الله : «الحمد الله الذي هو صنع ذلك(١)».

وفد خولان

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى شعبان من سنة عشر وفد خولان ، وهم عشرة ، فقالوا: يا رسول الله ، نحن على من وراءنا من قومنا ، ونحن مؤمنون بالله عزوجل مصدقون برسوله ، قد ضربنا إليك آباط الإبل ، وركبنا حزون الأرض وسهولها ، والمنة لله ولرسوله علينا ، وقدمنا زائرين لك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما ما ذكرتم من مسيركم إلى فإن لكم بكل خطوة خطاها بعير أحدكم حسنة ، وأما قولكم زائرين لك ، فإنه من زارنى بالمدينة كان فى جوارى يوم القيامة». قالوا : يا رسول الله ، هذا السفر الذي لا توى عليه. ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما فعل عم أنس؟» وهو صنم خولان الذي كانوا يعبدونه قالوا : بشر وعر ، بدلنا الله به ما جئت به ، وقد بقيت منا بعد بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكون به ، ولو قد قدمنا عليه هدمناه إن شاء الله فقد كنا فى غرور وفتنة يا رسول الله ، إن فتنته كانت أعظم مما عسينا أن نذكره لك ، فالحمد لله الذي من علينا بك ، وتنقذنا من الهلكة ، وما مضى عليه الآباء من عبادته ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما أعظم ما رأيتم من فتنته؟» قالوا : يا رسول الله ، لقد رأيتنا وأسنتنا حتى أكلنا الرمة ، ومات الولدان غرما ، وهلكت ناغيتنا وراعيتنا وحافرنا أو ما ذهب منها. فقلنا ، أو من قال منا : قربوا لعم أنس قربانا يشفع لكم ، فتغاثوا فتعاونوا ، فجمعنا ما قدرنا عليه من عين مالنا ، ثم ذهب ذاهبنا فابتاع مائة ثور ، ثم حشرها علينا ، فنحرناها فى غداة واحدة ، وتركناها تردها السباع ، ونحن أحوج إليها من السباع ، فجاءنا الغيث من ساعتنا ، فأى فتنة أعظم من هذه ، فلقد رأينا العشب يوارى الرجال ، ويقول قائلنا : أنعم علينا عم أنس.

__________________

(١) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٨٩) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (١٦٠) ، طبقات ابن سعد (١ / ٢ / ٤٣).

٦٠٩

وذكروا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كانوا يقسمون لصنمهم هذا من أنعامهم وحروثهم ، وأنهم كانوا يجعلون من ذلك جزءا له وجزءا لله بزعمهم.

قالوا : كنا نزرع الزرع ، فنجعل له وسطه ، فنسميه له ، ونسمى زرعا آخر حجرة لله جل وعز فإذا مالت الريح بالذى سميناه لله جعلناه لعم أنس ، وإذا مالت الريح بالذى جعلناه لعم أنس لم نجعله لله.

فذكر لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله عزوجل أنزل عليه فى ذلك : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الأنعام : ١٣٦]. قالوا : وكنا نتحاكم إليه فنكلم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تلك الشياطين تكلمكم». قالوا : فأصبحنا يا رسول الله ، وقلوبنا تعرف أنه كان لا يضر ولا ينفع ، ولا يدرى من عبده ممن لم يعبده. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمد لله الذي هداكم وأكرمكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم». وسألوه عن فرائض الدين ، فأخبرهم وأمرهم بالوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ، وحسن الجوار لمن جاوروا ، وأن يظلموا أحدا. قال : «فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» (١).

ثم أمر بهم فأنزلوا دار رملة وأمر لهم بضيافة تجرى عليهم ، وأمر من يعلمهم القرآن والسنن ، ثم ودعوه بعد أيام ، فأجازهم ، ورجعوا إلى قومهم فلم يحلوا عقدة حتى هدموا عم أنس.

وفد محارب (٢)

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام حجة الوداع وفد محارب ، وهم كانوا أغلظ العرب ، وأفظه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى تلك المواسم ، أيام عرضه نفسه على القبائل يدعوهم إلى الله ، فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم عشرة نائبين عن من وراءهم من قومهم ، فأسلموا.

وكان بلال يأتيهم بغذاء وعشاء إلى أن جلسوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما من الظهر إلى العصر ، فعرف رجلا منهم ، فأبداه النظر ، فلما رآه المحاربى يديم النظر إليه ، قال : كأنك

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح مسلم كتاب البر والصلة (٥٦ ، ٥٧) ، مسند الإمام أحمد (٢ / ١٠٦ ، ١٩٥ ، ٣ / ٣٢٣) ، سنن البيهقي الكبرى (٦ / ٩٣ ، ١٠ / ١٣٤ ، ٢٤٣) ، جمع الجوامع للسيوطى (٥٦٨٧) ، الدر المنثور للسيوطى (٦ / ١٩٦) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (٨ / ١٩٣).

(٢) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٣ / ٣٨١).

٦١٠

يا رسول الله توهمنى. قال : «لقد رأيتك». فقال المحاربى : أى والله ، لقد رأيتنى وكلمتنى ، وكلمتك بأقبح الكلام ورددتك بأقبح الرد بعكاظ وأنت تطوف على الناس. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم». ثم قال المحاربى : يا رسول الله ، ما كان فى أصحابى أشد عليك يومئذ ولا أبعد من الإسلام منى ، فأحمد الله الذي أبقانى حتى صدقت بك ، ولقد مات أولئك النفر الذين كانوا معى على دينهم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن هذه القلوب بيد الله عزوجل». فقال المحاربى : يا رسول ، استغفر لى من مراجعتى إياك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الإسلام يجب ما كان قبله من الكفر» (١). ثم انصرفوا إلى أهليهم.

وفد طىء (٢)

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد وطىء ، فيهم زيد الخيل (٣) ، وهو سيدهم ؛ فلما انتهوا إليه كلموه ، وعرض عليهم الإسلام ، فأسلموا ، فحسن إسلامهم ؛ وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ذكر لى رجل من العرب بفضل ثم جاءنى ، إلا رأيته دون ما يقال فيه ، إلا زيد الخيل ، فإنه لم يبلغ كل ما فيه» ، ثم سماه زيد الخير ، وقطع له فيدا وأرضين معه ؛ وكتب له بذلك كتابا ، فخرج من عنده راجعا إلى قومه ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن ينج زيد من حمى المدينة» يسميها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ باسم غير الحمى ، وغير أم ملدم.

وقال زيد حين انصرف :

أنيخت بآجام المدينة أربعا

وعشرا يغنى فوقها الليل طائر

فلما قضى أصحابها كل بغية

وخط كتابا فى الصحيفة ساطر

شددت عليها رحلها وسليلها

من الدرس والشعراء والبطن ضامر

فلما انتهى زيد من بلد نجد إلى ماء من مياهه ، يقال له : فردة أصابته الحمى ، فمات.

وقال لما أحس بالموت (٤) :

أمر تحل قومى المشارقى غدوة

وأترك فى بيت بفردة منجد

__________________

(١) انظر الحديث فى : طبقات ابن سعد (١ / ٢ / ٤٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٨٩).

(٢) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٣ / ٣٥٦) ، طبقات ابن سعد (١ / ٢ / ٥٩ ، ٦٥).

(٣) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٨٦٦) ، الإصابة الترجمة رقم (٢٩٤٨) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٨٧٧).

(٤) انظر الأبيات فى السيرة (٤ / ٢٠٣).

٦١١

ألا رب يوم لو مرضت لعادنى

عوائد من لم يشف منهن يجهد

فليت اللواتى عدننى لم يعدننى

وليت اللواتى غبن عنى شهد

فلما مات عمدت امرأته إلى ما كان من كتبه التي قطع له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحرقتها بالنار (١).

وأما عدى بن حاتم (٢) ، فكان يقول فيما ذكر عنه : ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سمع به منى ، أما أنا فكنت امرأ شريفا ، وكنت نصرانيا ، وكنت أسير فى قومى بالمرباع ، فكنت فى نفسى على دين. وكنت ملكا فى قومى ، لما كان يصنع بى قومى ، وما كان يصنع فى أهل دينى ، فلما سمعت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كرهته ، فقلت لغلام كان لى عربى وكان راعيا لإبل لى : لا أبا لك ، أعدد لى من إبلى أجمالا ذللا سمانا ، فاحتبسها قريبا منى ، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطىء هذه البلاد فآذنى ؛ ففعل ، ثم إنه أتانى ذات غداة ، فقال : يا عدى ، ما كنت صانعا إذا غشيك خيل محمد فاصنعه الآن ، فإنى قد رأيت رايات ، فسألت عنها ، فقالوا : هذه جيوش محمد ، قلت : فقرب إلى أجمالى ، فقربها ، فاحتملت بأهلى وولدى ، ثم قلت : ألحق بأهل دينى من النصارى بالشام ، وخلفت بنتا لحاتم فى الحاضر ، فلما قدمت الشام أقمت بها.

وتخالفنى خيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتصيب بنت حاتم فيمن أصابت ، فقدم بها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى سبايا من طىء ، فجعلت بنت حاتم فى حظيرة بباب المسجد ، كانت السبايا تحبس فيها ، فمر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد كان بلغه هربى إلى الشام ، فقامت إليه ، وكانت امرأة جزلة ، فقالت : يا رسول الله ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامنن علىّ من الله عليك ، قال : «ومن وافدك؟» قالت عدى بن حاتم. قال : «الفار من الله ورسوله؟» قالت : ثم مضى وتركنى ، حتى إذا كان من الغد مر بى ، فقلت له مثل ذلك ، وقال لى مثل ما قال بالأمس. قالت : حتى إذا كان بعد الغد مر بى وقد يئست ، فأشار إلى رجل من خلفه أن قومى فكلميه ؛ فقمت إليه ، فقلت : يا رسول الله ، هلك الوالد ، وغاب

__________________

(١) انظر الحديث فى : طبقات ابن سعد (١ / ٢ / ٥٩) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (٦ / ٣٦) ، دلائل النبوة للبيهقى (٥ / ٣٣٧) ، تاريخ الطبرى (٢ / ٢٠٣).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٨٠٠) ، الإصابة الترجمة رقم (٥٤٩١) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٣٦١٠) ، طبقات خليفة (٤٦٣ ، ٩٠٤) ، مروج الذهب (٣ / ١٩٠) ، جمهرة أنساب العرب (٤٠٢) ، تاريخ بغداد (١ / ١٨٩) ، تاريخ الإسلام (٣ / ٤٦) ، تهذيب التهذيب (٧ / ١٦٦) ، تهذيب الكمال (٩٢٥) ، خلاصة تذهيب الكمال (٢٢٣) ، سير أعلام النبلاء (٣ / ١٦٢) ، شذرات الذهب (١ / ٧٤).

٦١٢

الوافد ، فامنن على من الله عليك ؛ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد فعلت ، فلا تعجلى بخروج حتى تجدى من قومك من يكون لك ثقة ، حتى يبلغك إلى أهلك ، ثم آذنينى».

فسألت عن الرجل الذي أشار إلى أن كلميه ، فقيل : على بن أبى طالب ، وأقمت حتى قدم ركب من بلى أو قضاعة ، وإنما أريد أن آتى أخى بالشام ، فجئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله ، قد قدم رهط من قومى ، لى فيهم ثقة وبلاغ. فكسانى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحملنى ، وأعطانى نفقة ، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.

قال عدى : فو الله إنى لقاعد فى أهلى ، إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إلى تؤمنا ، قلت : ابنة حاتم؟ فإذا هى هى ، فلما وقفت على انسحلت تقول : القاطع الظالم ، احتملت بأهلك وولدك ، وتركت بقية والدك عورتك ، قلت : أى أخية ، لا تقولى إلا خيرا ، فو الله ما لى من عذر ، لقد صنعت ما ذكرت.

ثم نزلت فأقامت عندى ، فقلت لها ، وكانت امراة حازمة : ما ذا ترين فى أمر هذا الرجل؟ قالت : أرى والله أن تلحق به سريعا ، فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله ، وإن يك ملكا فلن تذل فى عز اليمن ، وأنت أنت ، قلت : والله ، إن هذا للرأى.

فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، فدخلت عليه ، وهو فى مسجده ، فسلمت عليه ، فقال : «من الرجل؟» فقلت : عدى بن حاتم ؛ فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانطلق بى إلى بيته ، فو الله إنه لعامد بى إليه ، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة ، فاستوقفته ، فوقف لها طويلا تكلمه فى حاجتها ؛ قال : قلت فى نفسى : والله ما هذا بملك ، قال : ثم مضى بى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا دخل بى بيته ، تناول وسادة من أدم محشوة ليفا ، فقذفها إلى ؛ فقال : «اجلس على هذه» ، قال : قلت : بل أنت فاجلس عليها ، قال : «بل أنت» ، فجلست عليها ، وجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأرض ؛ فقلت فى نفسى : والله ما هذا بأمر ملك ، ثم قال : «إيه يا عدى بن حاتم! ألم تك ركوسيا؟» قلت : بلى ، قال : «أولم تكن تسير فى قومك بالمرباع؟» قلت : بلى ، قال : «فإن ذلك لم يكن يحل لك فى دينك» ؛ قلت : أجل والله ، وعرفت أنه نبى مرسل يعلم ما يجهل ، ثم قال : «لعلك يا عدى إنما يمنعك من الدخول فى هذا الدين ما ترى من حاجتهم ، فو الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ؛ ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم ، فو الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت ، لا تخاف ؛ ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك

٦١٣

والسلطان فى غيرهم ، وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم» (١). قال : فأسلمت.

وكان عدى يقول : مضت اثنتان وبقيت الثالثة ، والله لتكونن. قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت ، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحج هذا البيت ، وأيم الله لتكونن الثالثة ، ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه.

وفد كندة (٢)

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأشعث بن قيس فى ثمانين راكبا من كندة ، فدخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجده ، قد رجلوا جمعهم وتكحلوا ، عليهم جباب [الحبرة] (٣) ، قد كففوها بالحرير ، فلما دخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألم تسلموا؟» قالوا : بلى ، قال : «فما بال هذا الحرير فى أعناقكم؟» ، قال : فشقوه منها ، فألقوه.

ثم قال له الأشعث بن قيس (٤) : يا رسول الله ، نحن بنو آكل المرار ، وأنت ابن آكل المرار. فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبد المطلب ، وربيعة ابن الحارث ، وكانا إذا خرجا تاجرين فضربا فى بعض العرب فسئلا ممن هما؟ قالا : نحن آكل المرار ، يتعززان بذلك ، وذلك أن كندة كانوا ملوكا». ثم قال لهم : لا ، بل نحن بنو النضر بن كنانة ، لا تقفو أمنا ، ولا ننتفى من أبينا» (٥). وقال جندب بن مكيث (٦) : لقد

__________________

(١) انظر الحديث فى : مجمع الزوائد للهيثمى (٥ / ٣٣٥) ، مستدرك الحاكم (٤ / ٥٨١).

(٢) راجع : السيرة (٤ / ٢٠٩ ـ ٢١٠). المنتظم لابن الجوزى (٣ / ٣٨٢) ، طبقات ابن سعد (١ / ٢ / ٦٤) ، تاريخ الطبرى (٢ / ٦٤).

(٣) ما بين المعقوفتين كذا فى الأصل ، وفى السيرة : «الحيرة». وجبب الحيرة : الجبب جمع جبة ، وهو ضرب من الثياب ، والحيرة : ضرب من برود اليمن.

(٤) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٣٥) ، الإصابة الترجمة رقم (٢٠٥) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٨٥) ، تهذيب التهذيب (١ / ٣٥٩) ، تهذيب الكمال (١١٩) ، خلاصة تذهيب الكمال (٣٩) ، العبر (١ / ٤٢ ، ٤٦) ، تاريخ خليفة (١١٦ ، ١٩٣ ، ١٩٩).

(٥) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٥ / ٢١١ ، ٢١٢) ، سنن ابن ماجه (٢٦١٢) ، التاريخ الصغير للبخارى (١١ ، ١٢) ، التاريخ الكبير للبخارى (٧ / ٢٧٤). مصنف عبد الرزاق (١١ / ٧٤).

(٦) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٣٤٥) ، الإصابة الترجمة رقم (٢٣١) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٨٠٧) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٩١) ، تقريب التهذيب (١ / ١٧٣) ، الثقات (٣ / ٥٧) ، الوافى بالوفيات (١١ / ١٩٤) ، الجرح والتعديل (٢ / ٢١٠٣).

٦١٤

رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم قدم وفد كندة عليه حلة يمانية يقال : إنها حلة ابن ذى يزن ، وعلى أبى بكر وعمر مثل ذلك.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قدم عليه الوفد لبس أحسن ثيابه ، وأمر عليه أصحابه بذلك.

وفد صداء

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد صداء فى سنة ثمان ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما انصرف من الجعرانة بعث بعوثا إلى اليمن ، وهيأ بعثا استعمل عليهم قيس بن سعد بن عبادة ، وعقد له لواء أبيض ، ورفع له راية سوداء ، وعسكر بناحية قناة فى أربعمائة من المسلمين ، وأمره أن يطأ ناحية من اليمن كان فيها صداء ، فقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل منهم وعلم بالجيش ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، جئتك وافدا على من ورائى ، فاردد الجيش وأنا لك بقومى ، فرد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيس بن سعد من صدور قناة ، وخرج الصدائى إلى قومه ، فقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسة عشر رجلا منهم ، فقال سعد ابن عبادة : يا رسول الله ، دعهم ينزلوا على ، فنزلوا عليه ، فحياهم وأكرمهم وكساهم ، ثم راح بهم إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبايعوه على الإسلام ، وقالوا : نحن : لكن على من وراءنا من قومنا ، فرجعوا إلى قومهم ففشا فيهم الإسلام ، فوافى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم مائة رجل فى حجة الوداع.

ذكر هذا الواقدى عن بعض بنى المصطلق. وذكر من حديث زياد بن الحارث الصدائى أنه الذي قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : أردد الجيش ، وأنا لك بقومى. فردهم.

قال : وقدم وفد قومى ، عليه ، فقال لى : «يا أخا صداء ، إنك لمطاع فى قومك» ، قال : قلت : بلى من الله عزوجل ومن رسوله ، وكان زياد هذا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بعض أسفاره. قال : فاعتشى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى سار ليلا واعتشينا معه ، وكنت رجلا قويا ، قال : فجعل أصحابه يتفرقون عنه ، ولزمت عرزه ، فلما كان فى السحر قال : «أذن يا أخا صداء» ، فأذنت على راحلتى ، ثم سرنا حتى نزلنا ، فذهب لحاجته ، ثم رجع فقال : «يا

٦١٥

أخا صداء ، هل معك ماء؟» قلت : معى شيء فى إداوتى. فقال : «هاته» فجئت به ، فقال : «صب» ، فصببت ما فى الإداوة فى القعب ، وجعل أصحابه يتلاحقون ، ثم وضع كفه على الإناء ، فرأيت بين كل إصبعين من أصابعه عينا تفور ، ثم قال : «يا أخا صداء ، لو لا انى أستحي من ربى لسقينا واستقينا» ، ثم توضأ ، وقال : «أذن فى صحابى. من كانت له حاجة بالوضوء فليرد». قال : فوردوا من آخرهم ، ثم جاء بلال يقيم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أخا صداء قد أذن ، ومن أذن فهو يقيم» ، فأقمت ، ثم تقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلى بنا ، وكنت سألته قبل أن يؤمرنى على قومى ويكتب لى بذلك كتابا ، ففعل ، فلما سلم يريد من صلاته قام رجل يتشكى من عامله ، فقال : يا رسول الله ، إنه أخذنا بدخول كانت بيننا وبينه فى الجاهلية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا خير فى الإمارة لرجل مسلم ، ثم قام رجل فقال : يا رسول الله ، أعطنى من الصدقة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لم يكل قسمها إلى ملك مقرب ، ولا نبى مرسل ، حتى جزأها على ثمانية أجزاء ، فإن كانت جزءا منها أعطيتك ، وإن كنت عنها غنيا فإنما هو صداع فى الرأس وداء فى البطن». فقلت فى نفسى : هاتان خصلتان حين سألت الإمارة وأنا رجل مسلم وسألته من الصدقة وأنا غنى عنها ، فقلت : يا رسول الله ، هذان كتاباك فاقبلهما ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولم؟» قلت : إنى سمعتك تقول : «لا خير فى الإمارة لرجل مسلم وأنا مسلم» ، وسمعتك تقول : «من سأل من الصدقة وهو عنها غنى فإنما هى صداع فى الرأس وداء البطن» ، وأنا غنى. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما إن الذي قلت كما قلت لك» ، فقتلهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : دلنى على رجل من قومك استعمله ، فدللته على رجل فاستعمله ، قلت : يا رسول الله ، إن لنا بئرا إذا كان الشتاء كفانا ماؤها ، وإذا كان الصيف قل علينا فتفرقنا على المياه ، والإسلام اليوم فينا قليل ، ونحن نخاف ، فادع الله عزوجل لنا فى بئرنا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ناولنى سبع حصيات» ، فناولته فعركهن بيده ، ثم دفعهن إلى ، وقال : «إذا انتهيت إليها فألق فيها حصاة وسم الله». قال : ففعلت ، فما أدركنا لها قعرا حتى الساعة (١).

* * *

__________________

(١) انظر الحديث فى : المعجم الكبير للطبرانى (٥ / ٣٠٣) ، طبقات ابن سعد (١ / ٢ / ٦٣) ، دلائل النبوة للبيهقى (٥ / ٣٥٥) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٣٧٠٧٥) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٥ / ٢٠٣).

٦١٦

وفد غسان (١)

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد غسان.

قالوا أو من قاله منهم فيما ذكر الواقدى عنهم : قدمنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى رمضان سنة عشر ، ونحن ثلاثة نفر ، فلما كنا برأس الثنية لقينا رجل على فرس متنكب قوسا ، فحيانا بتحية الإسلام ، فرددنا عليه تحيتنا ، فقال : من أنتم؟ قلنا : رهط من غسان ، قد قدمنا على محمد نسمع من كلامه ونرتاد لقومنا ، قال : فانزلوا حيث ينزل الوفد ، قلنا: وأين ينزل الوفد؟ قال : دار رملة بنت الحارث ، ويقال : الحارث ، ثم ائتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلموه ، قلنا : ونقدر عليه كلما أردنا؟ قال : فتبسم ، فقال : أى لعمرى ، إنه ليطوف بالأسواق ويمشى وحده ، وكنا قوما نسمع كلام النصارى وصفتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه يمشى وحده لا شرطة معه ، ويرعب من يراه منهم ، فقلنا للرجل : من أنت لك الجنة؟ قال : أنا أبو بكر بن أبى قحافة ، فقلنا : أنت فيما يزعم النصارى تقوم بهذا الأمر بعده ، قال أبو بكر : الأمر إلى الله عزوجل ، ثم قال : كيف تخدعون عن الإسلام وقد خبركم أهل الكتاب بصفته ، وأنه آخر الأنبياء؟ قلنا : هو ذاك ، فمضى ومضينا نسأل عن دار رملة حتى انتهينا إليها فنصادف وفودا من العرب كلهم مصدق بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلنا فيما بيننا : أترانا شر من نزى من العرب؟ ثم خرجنا حتى نلقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند باب المسجد واقفا ، فأمدنا ببصره ، وقال : «أنتم الغسانيون؟» قلنا : نعم ، قال : «قدمتم مرتادين لقومكم فما انتفعتم بعلم من كان معكم من أهل الكتاب». قلنا : يا محمد ، لم نر أحدا منهم اتبعك ، فوقفنا عنك لذلك ، ونحن الآن على غير ما كنا عليه ، فإلام تدعو؟ قال : «أدعو إلى الله وحده لا شريك له ، وخلع ما دعى من دونه ، وأنى رسول الله». قال قائلهم : فمن معك من اتباعك؟ قال : «الله جل وعز معى والملائكة : جبريل وميكائيل ، والأنبياء ، وصالح المؤمنين» ، ثم التفت ونظر إلى عمر ، ولم ير أبا بكر ، فقال : «هذا وصاحبه» ، قلنا : ابن أبى قحافة؟ قال : «نعم» ، قلنا : إنك لتأوى إلى ركن شديد ، وقد صدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به حق ، ولا ندرى أيتبعنا قومنا أم لا ، وهم يحبون بقاء ملكهم وقرب قيصر (٢).

ثم أسلموا ، وأجازهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجوائز ، وانصرفوا راجعين ، فقدموا على قومهم،

__________________

(١) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٣ / ٣٨٢) ، طبقات ابن سعد (١ / ٢ / ٧١) ، تاريخ الطبرى (٣ / ١٣٠).

(٢) انظر الحديث فى : تاريخ الطبرى (٣ / ١٣٠) ، طبقات ابن سعد (١ / ٢ / ٧١).

٦١٧

فلم يستجيبوا لهم ، وكتموا إسلامهم حتى مات منهم رجلان على الإسلام ، وأدرك الثالث منهم عمر بن الخطاب عام اليرموك ، فلقى أبا عبيدة فخبره بإسلامه ، فكان يكرمه.

وفد سلامان (١)

وذكر الواقدى أيضا بإسناد له : أن خبيب بن عمرو السلامانى كان يحدث قال : قدمنا وفد سلامان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونحن سبعة نفر ، فانتهينا إلى باب المسجد ، فصادفنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خارجا منه إلى جنازة دعى إليها ، فلما رأيناه قلنا يا رسول الله ، السلام عليك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وعليكم السلام ، من أنتم؟» قلنا : نحن من سلامان ، قدمنا عليك لنبايعك على الإسلام ، ونحن على من وراءنا من قومنا. فالتفت إلى ثوبان غلامه ، فقال : «أنزل هؤلاء حيث ينزل الوفد» ، فخرج بنا ثوبان حتى انتهى بنا إلى دار واسعة فيها نخل وفيها وفود من العرب ، وإذا هى دار رملة بنت الحارث النجارية ، فلما سمعنا أذان الظهر خرجنا إلى الصلاة ، فقمنا على باب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى خرج إلى المسجد ، فصلى بالناس وهو يتصفحنا ، ودخل بيته فلم يلبث أن خرج ، فجلس فى المسجد بين المنبر وبين بيته ، وجلست عليه أصحابه ، عن يمينه وعن شماله ، فرأيت رجلا هو أقرب القوم منه ، يكثر ما يلتفت إليه ، ويحدثه. فسألت عنه ، فقيل : أبو بكر بن أبى قحافة ، وجئنا فجلسنا تجاه وجهه ، وجعل الوفد يسألونه عن شرائع الإسلام ، فلم يكد سائلهم يقطع حتى خشيت أن يقوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : إنا نريد ما تريد ، فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأسكت السائل ، فقلت : أى رسول الله ، ما أفضل الأعمال؟ قال : «الصلاة فى وقتها» ، ثم ذكر حديثا طويلا.

قال : ثم جاء بلال ، فأقام الصلاة ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصلى بالناس العصر ، فكانت صلاة العصر أخف فى القيام من الظهر ، ثم دخل بيته ، فلم ينشب أن خرج فجلس فى مجلسه الأول ، وجلس معه أصحابه ، وجئنا فجلسنا ، فلما رآنى قال : «يا أخا سلامان» ، قلت : لبيك ، قال : «كيف البلاد عندكم؟» قلت : أى رسول الله ، مجدبة ، وما لنا خير من البلاد ، فادع الله أن يسقينا فى بلادنا ، فنقر فى أوطاننا ولا نسير إلى بلاد غيرنا ، فإن النجع تفرق الجميع وتشتت الديار. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده : «اللهم اسقهم الغيث فى

__________________

(١) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٣ / ٣٨٠ ـ ٣٨١).

٦١٨

ديارهم» ، فقلت : يا رسول الله ، ارفع يديك ، فإنه أكثر وأطيب ، فتبسم رسو الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه ، ثم قام وقمنا عنه ، فأقمنا ثلاثا وضيافته تجرى علينا ، ثم ودعناه ، وأمر لنا بجوائز ، فأعطينا خمس أواقى ، لكل رجل منا ، واعتذر إلينا بلال ، وقال : ليس عندنا مال اليوم ، فقلنا : ما أكثر هذا وأطيبه ، ثم رحلنا إلى بلادنا فوجدناها قد مطرت فى اليوم الذي دعا فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى تلك الساعة (١).

قال الواقدى : وكان مقدمهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى شوال سنة عشر.

وفد بنى عبس

قال : وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد بنى عبس ، فقالوا : يا رسول الله ، قدم علينا قراؤنا ، فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له ، ولنا أموال ومواش ، وهى معايشنا ، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له فلا خير فى أموالنا ، بعناها وهاجرنا من آخرنا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا الله حيث كنتم ، فلن يلتكم الله من أعمالكم شيئا» ، وسألهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن خالد بن سنان ، هل له عقب؟ فأخبروه أنه لا عقب له ، كانت له ابنة فانقرضت ، وأنشأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحدث أصحابه عن خالد بن سنان ، فقال : «نبى ضيعه قومه»(٢).

وفد الأزد ووفد جرش (٣)

قال ابن إسحاق (٤) : وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صرد بن عبد الله الأزدى ، فأسلم ، وحسن إسلامه ، فى وفد من الأزد ، فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على من أسلم من قومه. وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن.

فخرج صرد بن عبد الله يسير بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزل بجرش ، وهى يومئذ مدينة مغلقة ، وبها قبائل من قبائل اليمن ، وقد ضوت إليها خثعم ، فدخلوها معهم حين

__________________

(١) انظر الحديث فى : طبقات ابن سعد (١ / ٢ / ٦٧).

(٢) انظر الحديث فى : طبقات ابن سعد (١ / ٢ / ٤٢).

(٣) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٣ / ٣٨١) ، طبقات ابن سعد (١ / ٢ / ٧١) ، تاريخ الطبرى (٣ / ١٣٠) ، البداية والنهاية (٥ / ٨٤).

(٤) انظر : السيرة (٤ / ٢١١ ـ ٢١٢).

٦١٩

سمعوا بمسير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، فحاصروهم فيها قريبا من شهر ، وامتنعوا فيها منه ، ثم إنه رجع عنهم قافلا ، حتى إذا كان إلى جبل يقال له : شكر ، ظن أهل جرش أنه إنما ولى عنهم منهزما ، فخرجوا فى طلبه ، حتى إذا أدركوه عطف عليهم ، فقتلهم قتلا شديدا.

وقد كان أهل جرش بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة يرتادان وينظران ؛ فبينما هما عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشية بعد العصر ، إذ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بأى بلاد الله شكر؟» فقال الجرشيان : ببلادنا جبل يقال له : كشر وكذلك يسميه أهل جرش فقال : «إنه ليس بكشر ، ولكنه شكر» ، قالا : فما شأنه يا رسول الله؟ قال : «إن بدن الله لتنحر عنده الآن» ، فجلس الرجلان إلى أبى بكر أو إلى عثمان ، فقال لهما : ويحكما! إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآن لينعى لكما قومكما ، فقوموا فاسألاه أن يدعو الله ان يرفع عن قومكما ؛ فقاما إليه ، فسألاه عن ذلك ، فقال : «اللهم ارفع عنهم» ، فخرجا من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم راجعين إلى قومهما ، فوجدوا قومهما أصابهم صرد بن عبد الله فى اليوم الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال : وفى الساعة التي ذكر فيها ذكر (١).

فخرج وفد جرش حتى قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلموا ، وحمى لهم حمى حول قريتهم ، على أعلام معلومة ، للفرس والراحلة وللميرة ، بقرة الحرث ، فمن رعاه من الناس فماله سحت.

فقال فى تلك الغزوة رجل من الأزد ، وكانت خثعم تصيب من الأزد فى الجاهلية ، وكانوا يعدون فى الشهر الحرام (٢) :

يا غزوة ما غزونا غير خائبة

فيها البغال وفيها الخيل والحمر

حتى أتينا حميرا فى مصانعها

وجمع خثعم قد شاعت لها النذر

إذا وضعت غليلا كنت أحمله

فما أبالى أدانوا بعد أم كفروا

وفد غامد

قال الواقدى : وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد غامد سنة عشر ، وهم عشرة ، فنزلوا فى

__________________

(١) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٥ / ٣٧٢ ، ٣٧٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٧٤ ، ٧٥).

(٢) انظر الأبيات فى : السيرة (٤ / ٢١٢).

٦٢٠