الإكتفا - ج ١

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ١

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبدالقادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2943-0
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

إبراهيم. حتى قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فأسلم وحسن إسلامه وهو شيخ كبير ، وكان قوالا بالحق معظما لله فى جاهليته يقول فى ذلك أشعارا حسانا ، هو الذي يقول (١) :

يقول أبو قيس وأصبح غاديا

ألا ما استطعتم من وصاتى فافعلوا

أوصيكم بالله والبر والتقى

وأعراضكم والبر بالله أول

وإن قومكم سادوا فلا تحسدنهم

وإن كنتم أهل الرئاسة فاعدلوا

وإن نزلت إحدى الدواهى بقومكم

فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا

وإن ناب غرم فادح فارفقوهم

وما حملوكم فى الملمات فاحملوا

وإن أنتم أمعرتم فتعففوا

وإن كان فضل الخير فيكم فأفضلوا (٢)

وقال أبو قيس أيضا (٣) :

سبحوا الله شرق كل صباح

طلعت شمسه وكل هلال

عالم السر والبيان لدينا

ليس ما قال ربنا بضلال

وله الطير تستدير وتأوى

فى وكور من آمنات الجبال

وله الوحش بالفلاة تراها

فى حقاف وفى ظلال الرمال

وله هودت يهود ودانت

كل دين إذا ذكرت عضال

وله شمس النصارى وقاموا

كل عيد لديهم واحتفال

وله الراهب الحبيس تراه

رهن بؤس وكان ناعم بال

يا بنى الأرحام لا تقطعوها

وصلوها قصيرة من طوال

واتقوا الله فى ضعاف اليتامى

ربما يستحل غير الحلال

واعلموا أن لليتيم وليا

عالما يهتدى بغير السؤال

ثم مال اليتيم لا تأكلوه

إن مال اليتيم يرعاه والى

يا بنى النجوم لا تخزلوها

إن خزل النجوم ذو عقال

يا بنى الأيام لا تأمنوها

واحذروا مكرها ومر الليالى

واعلموا أن أمرها لنفاد ال

خلق ما كان من جديد وبالى

واجمعوا أمركم على البر والتق

وى وترك الخنا وأخذ الحلال

__________________

(١) انظر الأبيات فى : السيرة (٢ / ١١٩).

(٢) أمعرتم : قال السهيلى : معناها افتقرتم ، وقيل أمعر : أى افتقر وفنى زاده كمعر تمعيرا ، وأمعرت الأرض : لم يكن فيها نبات أو قل ماؤها.

(٣) انظر الأبيات فى : السيرة (٢ / ١٢٠).

٣٠١

قال ابن إسحاق (١) : ونصب عند ذلك أحبار يهود لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العداوة بغيا وحسدا وضغنا لما خص الله به العرب من أخذه رسوله منهم.

وانضاف إليهم رجال من الأوس والخزرج ، ممن كان عسى على جاهليته فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث ، إلا أن الإسلام قهرهم بظهوره واجتماع قومهم عليه ، فظهروا بالإسلام واتخذوه جنة من القتل ، ونافقوا فى السر فكان هواهم مع يهود لتكذيبهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجحودهم الإسلام.

وكانت أحبار يهودهم الذين يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتعنتونه ويأتونه باللبس ليلبسوا الحق بالباطل ، إلا ما كان من عبد الله بن سلام ومخيريق فكان القرآن ينزل فيما يسألون عنه إلا قليلا من المسائل فى الحلال والحرام كان المسلمون يسألون عنها.

وكان من حديث عبد الله بن سلام (٢) وإسلامه ، وكان حبرا عالما ، قال : لما سمعت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له ، فكنت مسرا لذلك صامتا عليه حتى قدم المدينة ، فلما نزل بقباء فى بنى عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا فى رأس نخلة لى أعمل فيها ، وعمتى خالدة بنت الحارث تحتى جالسة ، لما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كبرت ، فقالت لى عمتى حين سمعت تكبيرتى : خيبك الله! لو كنت سمعت موسى بن عمران قادما ما زدت!.

فقلت لها : أى عمة ، هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه ، بعث بما بعث به.

فقالت : أى ابن أخى ، أهو النبيّ الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟ فقلت لها : نعم. فقالت : فذاك إذا ، قال : ثم رحت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلمت ثم رجعت إلى أهلى فأمرتهم فأسلموا وكتمت إسلامى من يهود. ثم جئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله ، إن يهود قوم بهت ، وإنى أحب أن تدخلنى فى بعض بيوتك وتغيبني عنهم ، ثم تسألهم عنى حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامى ، فإنهم إن علموا به بهتونى وعابونى.

__________________

(١) انظر : السيرة (٢ / ١٢٢).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٥٧٩) ، الإصابة الترجمة رقم (٤٧٤٣) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٩٨٦) ، شذرات الذهب (١ / ٤٠ ، ٥٣) ، تهذيب التهذيب (٥ / ٢٤٩) ، تقريب التهذيب (١ / ٤٢٢) ، خلاصة تذهيب (٢ / ٦٤) ، الوافى بالوفيات (١٧ / ١٩٨) ، الأعلام (٤ / ٩٠) ، الثقات (٣ / ٢٢٨) ، الرياض المستطابة (١٩٣).

٣٠٢

قال : فأدخلنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بعض بيوته ، ودخلوا عليه فكلموه وسألوه ثم قال لهم : أى رجل الحصين بن سلام فيكم؟ فقالوا : سيدنا وابن سيدنا ، وحبرنا وعالمنا.

فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم فقلت لهم : يا معشر يهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به ، فو الله إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، تجدونه مكتوبا عندكم فى التوراة باسمه وصفته ، فإنى أشهد أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأومن به وأصدقه وأعرفه. قالوا : كذبت. ثم وقعوا بى! فقلت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألم أخبرك يا نبى الله أنهم قوم بهت ، أهل غدر وكذب وفجور؟! قال : فأظهرت إسلامى وإسلام أهل بيتى ، وأسلمت عمتى خالدة فحسن إسلامها(١).

قال ابن إسحاق (٢) : وكان من حديث مخيريق ، وكان حبرا عالما غنيا كثير الأموال من النخل ، وكان يعرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصفته وما يجد فى علمه ، وغلب عليه إلف دينه فلم يزل على ذلك حتى إذا كان يوم أحد ، وكان يوم السبت ، قال : يا معشر يهود ، والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق. قالوا : إن اليوم يوم السبت. قال : لا سبت لكم ، ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بأحد وعهد إلى من وراءه من قومه : إن قتلت هذا اليوم فأموالى لمحمد يصنع فيها ما أراه الله.

فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل ، وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمواله ، فعامة صدقاته بالمدينة منها. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغنى يقول : «مخيريق خير يهود» (٣).

قال (٤) : وحدثني عبد الله بن أبى بكر ، قال : حدثت عن صفية ابنة حيى أنها قالت : كنت أحب ولد أبى إليه وإلى عمى أبى ياسر ، لم ألقهما مع ولد لهما إلا أخذانى دونه ، فلما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة غدا عليه أبى وعمى مغلسين ، فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس ، فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى فهششت إليهما كما كنت أصنع ، فو الله ما التفت إلى واحد منهما مع ما بهما من الغم ، وسمعت عمى أبا ياسر وهو يقول لأبى : أهو هو؟ قال : نعم والله.

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري كتاب الأنبياء (٣٣٢٩) ، دلائل النبوة للبيهقى (٢ / ٥٣٠ ، ٥٣١) ، البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ٢١١).

(٢) انظر : السيرة (٢ / ١٢٦).

(٣) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ٢٣٧ ، ٤ / ٣٦) ، طبقات ابن سعد (١ / ٥٠٢) ، عيون الأثر لابن سيد الناس (١ / ٣٣٤).

(٤) انظر : السيرة (٢ / ١٢٦ ـ ١٢٧).

٣٠٣

قال : أتعرفه وتثبته؟ قال : نعم. قال : فما فى نفسك منه؟ قال : عداوته والله ما بقيت (١).

وكان هذان الأخوان الشقيان من أشد يهود للعرب حسدا لما خصهم الله برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكانا جاهدين فى رد الناس عن الإسلام بما استطاعا ، فأنزل الله عزوجل فيهما : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ١٠٩].

ومر شأس بن قيس ، وكان شيخا قد [عمى] (٢) عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين ، شديد الحسد لهم ، على نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأوس والخزرج فى مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه ، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام ، بعد الذي كان بينهم من العداوة فى الجاهلية ، فقال : قد اجتمع ملأ بنى قيلة بهذه البلاد ، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار.

فأمر شابا من يهود كان معه فقال : اعمد إليهم فاجلس معهم ثم اذكر يوم بعاث وما كان فيه وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار. وكان يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس ، وكان عليها يومئذ حضير أبو أسيد بن حضير ، وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضى فقاتلا جميعا.

ففعل الشاب ما أمره به شأس ، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب وهما أوس بن قيظى وجبار بن صخر فتاولا ، ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم رددناها الآن جذعة. وغضب الفريقان جميعا وقالوا : قد فعلنا موعدكم الظاهرة وهى الحرة ، السلاح السلاح.

فخرجوا إليها ، وبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال : يا معشر المسلمين ، الله الله! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم.

فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم فبكوا وعانق الرجال من

__________________

(١) ذكره ابن سيد الناس فى عيون الأثر (١ / ٣٣٥).

(٢) ما بين المعقوفتين كذا فى الأصل وورد فى السيرة «عسا» ، وعسا : أى اشتد وقوى ، يريد أنه تمكن فى كفره فصعب إخراجه منه. انظر : السيرة (٢ / ١٦٢).

٣٠٤

الأوس والخزرج بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سامعين مطيعين ، وقد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شأس بن قيس.

فأنزل الله تبارك وتعالى ، فى شأن شأس وما صنع : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [آل عمران : ٩٩] (١).

وأنزل الله فى أوس بن قيظى وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا عما أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران : ١٠٠ ، ١٠٣].

قال (٢) : وحدثت عن سعيد بن جبير أنه قال : أتى رهط من يهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا له : يا محمد ، هذا الله خلق الخلق ، فمن خلقه؟ قال : فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى انتقع لونه ، ثم ساورهم غضبا لربه ، فجاءه جبريل فسكنه فقال : خفض عليك يا محمد ، وجاءه من الله بجواب ما سألوه عنه : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

فلما تلاها عليهم قالوا : فصف لنا يا محمد كيف خلقه؟ كيف ذراعة؟ كيف عضده؟ فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشد من غضبه الأول وساورهم ، فأتاه جبريل فقال له مثل ما قال أول مرة ، وجاءه من الله تبارك وتعالى بجواب ما سألوه عنه ، يقول الله جل وعلا : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر : ٦٧] (٣).

__________________

(١) ذكره الطبرى فى تفسيره (٤ / ١٦).

(٢) انظر : السيرة (٢ / ١٧٨).

(٣) انظر الحديث فى : صحيح مسلم كتاب التفسير (٤ / ١٩) ، صحيح البخاري (٤٨١١) ، تفسير ابن جرير (١ / ٣٧٨).

٣٠٥

ودخل أبو بكر الصديق رضى الله عنه ، بيت المدراس على يهود ، فوجد منهم ناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له : فنحاص وكان من علمائهم وأحبارهم ، ومعه حبر من أحبارهم يقال له : أشيع ، فقال أبو بكر لفنحاص : ويلك يا فنحاص؟ اتق الله وأسلم ، فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عنده ، تجدونه مكتوبا عندكم فى التوراة والإنجيل.

فقال فنحاص لأبى بكر : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر ، وإنه إلينا لفقير ، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء وما هو عنا بغنى ، ولو كان عنا غنيا ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم ، ينهاكم عن الربا ويعطيناه ، ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الربا! فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا ، وقال : والذي نفسى بيده لو لا العهد الذي بيننا وبينك لضربت رأسك أى عدو الله. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : يا محمد ، انظر ما صنع بى صاحبك.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبى بكر : «ما حملك على ما صنعت؟» فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إن عدو الله قال قولا عظيما ، إنه زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء ، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه.

فجحد ذلك فنحاص ، وقال : ما قلت ذلك. فأنزل الله عزوجل ، فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقا لأبى بكر : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) [آل عمران : ١٨١] (١).

ونزل فى أبى بكر وما بلغه فى ذلك من الغضب : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور) [آل عمران : ١٨٦].

وكان ممن انضاف إلى يهود من المنافقين من الأوس والخزرج فيما ذكروا والله أعلم (٢) : من الأوس : جلاس بن سويد بن الصامت من بنى حبيب بن عمرو بن عوف ، وهو القائل ، وكان ممن تخلف عن غزوة تبوك : لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمر.

__________________

(١) انظر الحديث فى : تفسير الطبرى (٤ / ١٢٩) ، تفسير ابن كثير (٢ / ١٥٣).

(٢) انظر : السيرة (٢ / ١٢٧ ـ ١٣٠).

٣٠٦

وكان فى حجره عمير بن سعد ، خلف جلاس على أمه بعد أبيه ، فقال له عمير : والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلىّ ، وأحسنه عندى وأعزهم علىّ أن يصيبه شيء يكرهه ، ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لفضحنك ، ولئن صمت عليها ليهلكن دينى ، ولإحداهما أيسر على من الأخرى.

ثم مشى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر له ما قال جلاس ، فحلف جلاس لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالله لقد كذب على عمير وما قلت ما قال.

فأنزل الله فيه : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [التوبة : ٧٤] (١).

فزعموا أنه تاب فحسنت توبته حتى عرف منه الإسلام والخير. وأخوه الحارث بن سويد ، قتل المجذر بن زياد البلوى. وذلك أن المجذر فيما ذكر ابن هشام ، قتل أباه سويد بن الصامت بعض الحروب إذ كانت بين الأوس والخزرج ، فلما كان يوم أحد طلب الحارث غرة المجذر ليقتله بأبيه ، فقتله.

وذكر ابن إسحاق (٢) أن سويدا إنما قتله معاذ بن عفراء غيلة فى غير حرب ، رماه بسهم فقتله قبل يوم بعاث. قال : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يذكرون قد أمر عمر بن الخطاب بقتل الحارث إن هو ظفر به ففاته فكان بمكة ، ثم بعث إلى أخيه جلاس يطلب التوبة ليرجع إلى قومه. فأنزل الله تبارك وتعالى فيه : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [آل عمران : ٨٦]. إلى آخر القصة.

ونبتل بن الحارث من بنى ضبيعة بن زيد بن مالك ، وهو القائل : إنما محمد أذن ، من حدثه شيئا صدقه. فأنزل الله تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [التوبة : ٦١] (٣).

__________________

(١) ذكره الطبرى فى تفسيره (١٠ / ١٢٧) ، ابن كثير فى تفسيره (٤ / ١٢٠).

(٢) انظر : السيرة (٢ / ١٢٩).

(٣) انظر الحديث فى : أسباب النزول للواحدى (ص ٢٠٦) ، الشوكانى فى فتح القدير (٢ / ٥٢٩).

٣٠٧

وفيه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما ذكر : «من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل ابن الحارث» (١) ، وكان جسميا أدلم ثائر شعر الرأس أحمر العينين.

وذكر أن جبريل أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنه يجلس إليك رجل أدلم (٢) ثائر شعر الرأس أسفع الخدين (٣) أحمر العينين كأنهما قدران من صفر كبده أغلظ من كبد الحمار ، ينقل حديثك إلى المنافقين ، فاحذره. وكان تلك صفة نبتل بن الحارث فيما يذكرون.

وعمرو بن خذام ، وعبد الله بن نبتل ، وحارثة بن عامر بن العطاف وابناه زيد ومجمع وهم ممن اتخذ مسجد الضرار. وكان مجمع ، غلاما حدثا قد جمع من القرآن أكثره ، وكان يصلى بهم فيه ، فلما كان زمان عمر بن الخطاب كلم فى مجمع ليصلى بقومه بنى عمرو بن عوف فى مسجدهم ، فقال : لا ، أو ليس بإمام المنافقين فى مسجد الضرار!.

فقال له مجمع : يا أمير المؤمنين ، والله الذي لا إله إلا هو ما علمت بشيء من أمرهم ، ولكنى كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا لا قرآن معهم ، فقدمونى أصلى بهم وما أرى أمرهم إلا على أحسن ما ذكروا. فزعموا أن عمر رضى الله عنه ، تركه فصلى بقومه (٤).

ومن الخزرج ، ثم من بنى عوف : عبد الله بن أبى بن سلول ، وكان رأس المنافقين وإليه يجتمعون. وهو الذي قال فى غزوة بنى المصطلق : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وسيأتى ذكر ذلك مستوفى وبيان سببه عند الانتهاء إلى غزوة بنى المصطلق ، إن شاء الله تعالى.

وقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وسيد أهلها عبد الله بن أبى هذا ، لا يختلف عليه فى شرفه من قومه اثنان ، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين ، حتى جاء الإسلام ، ومعه فى الأوس رجل ، هو فى قومه من الأوس شريف مطاع ، أبو عامر عبد عمرو بن صيفى بن النعمان أحد بنى ضبيعة بن زيد ، وهو أبو حنظلة الغسيل يوم أحد ، وكان قد ترهب ولبس المسوح ، فكان يقال له الراهب ، فشقيا بشرفهما!.

أما عبد الله بن أبى فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ويملكوه عليهم ، فجاءهم

__________________

(١) انظر : الحديث فى : البداية والنهاية (٣ / ٢٣٨).

(٢) أدلم : الرجل الأدلم : الطويل الأسود ، ويقال : هو المسترخى الشفتين.

(٣) أسفع الخدين : أسفع من السفعة وهى حمرة تضرب إلى السواد.

(٤) انظر : السيرة (٢ / ١٣١).

٣٠٨

الله تبارك وتعالى برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم على ذلك ، فلما انصرف عنه قومه إلى الإسلام ضغن ورأى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استلبه ملكا ، فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على نفاق وضغن (١).

وحدث أسامة بن زيد حب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سعد بن عبادة يعوده من شكو أصابه على حمار عليه ألحاف فوقه قطيفة فركبه فخطمه (٢) بحبل من ليف وأردفنى خلفه ، فمر بعبد الله بن أبى وحوله رجال من قومه ، فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تذمم أن يجاوزه حتى ينزل ، فنزل فسلم ثم جلس فتلا القرآن ودعا إلى الله وذكر به وحذر وبشر وأنذر ، وعبد الله زام لا يتكلم ، حتى إذا فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يا هذا إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقا ، فاجلس فى بيتك فمن جاءك فحدثه إياه ، ومن لم يأتك فلا تغشه به ولا تأته فى مجلسه بما يكره.

فقال عبد الله بن رواحة فى رجال كانوا عنده من المسلمين : بل فاغشنا به وائتنا فى مجالسنا ودورنا وبيوتنا ، فهو والله ما نحب ومما أكرمنا الله به وهدانا له.

فقال عبد الله حين رأى من خلاف قومه ما رأى :

متى ما يكن مولاك خصمك لم تزل

تذل ويصرعك الذين تصارع

وهل ينهض البازى بغير جناحه

وإن جد يوما ريشه فهو واقع (٣)

قال : وقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخل على سعد بن عبادة وفى وجهه ما قال عدو الله ابن أبى ، فقال : والله يا رسول الله ، إنى لأرى فى وجهك شيئا : لكأنك سمعت شيئا تكرهه؟ قال : «أجل». ثم أخبره بما قال ابن أبى. فقال سعد : يا رسول الله ، ارفق به ، فو الله لقد جاءنا الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه ، فإنه ليرى أن قد سلبته ملكا!.

وأما أبو عامر فأبى إلا الكفر والفراق لقومه حين اجتمعوا على الإسلام ، وأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم المدينة فقال : ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال : «جئت بالحنيفية دين إبراهيم». قال : فأنا عليها. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنك لست عليها».

قال : إنك أدخلت يا محمد فى الحنيفية ما ليس منها. قال : «ما فعلت ولكنى جئت بها بيضاء نقية». قال : الكاذب أماته الله طريدا غريبا وحيدا ، يعرض برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) انظر : السيرة (٢ / ١٨٩ ـ ١٩٠).

(٢) الاختطام : أن يجعل على رأس الدابة وأنفها حبل يمسك منه الراكب.

(٣) انظر الأبيات فى : السيرة (١٩١ ـ ١٩٢).

٣٠٩

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أجل ، فمن كذب يفعل الله ذلك به» (١).

فكان هو ذلك عدو الله ، خرج إلى مكة ببضعة عشر رجلا مفارقا للإسلام ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقولوا : الراهب ، ولكن قولوا الفاسق» (٢). فلما افتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة خرج إلى الطائف ، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام فمات بها طريدا غريبا وحيدا!.

قال ابن إسحاق (٣) : وكان ممن تعوذ بالإسلام ودخل فيه مع المسلمين وأظهره وهو منافق من أحبار يهود ، من بنى قينقاع : سعد بن حنيف ، ونعمان بن أوفى ، وعثمان بن أوفى ، وزيد بن اللصيت ، وهو الذي قال حين ضلت ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدرى أين ناقته! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودل على ناقته وجاءه الخبر بما قال عدو الله فى رحله : «إن قائلا قال : يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدرى أين ناقته ، وإنى والله ما أعلم إلا ما علمنى الله ، وقد دلنى الله عليها فهى فى هذا الشعب قد حبستها شجرة بزمامها». فذهب رجال من المسلمين فوجدوها حيث قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكما وصف (٤).

وكان هؤلاء المنافقون المسلمون وغيرهم ممن لم يسم يحضرون المسجد فيستمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزءون بدينهم.

فاجتمع يوما فى المسجد منهم ناس فرآهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحدثون بينهم خافضى أصواتهم قد لصق بعضهم ببعض ، فأمر بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا.

فقام أبو أيوب خالد بن زيد إلى عمرو بن قيس أحد بنى غنم بن مالك بن النجار ، وكان صاحب آلهتهم فى الجاهلية ، فأخذ برجله فسحبه حتى أخرجه من المسجد ، وهو يقول : أتخرجني يا أبا أيوب من مربد بنى ثعلبة!.

ثم أقبل أبو أيوب أيضا ، إلى رافع بن وديعة أحد بنى النجار فلببه بردائه ثم نتره نترا شديدا ثم لطم وجهه وأخرجه من المسجد وهو يقول : أف لك منافقا خبيثا ، أدراجك يا منافق من مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) انظر الحديث فى : المنتظم لابن الجوزى (٣ / ١٨٤) ، عيون الأثر لابن سيد الناس (١ / ٣٥١).

(٢) انظر الحديث فى : عيون الأثر لابن سيد الناس (١ / ٣٥١).

(٣) انظر : السيرة (٢ / ١٣٥).

(٤) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٥ / ٢٣٢).

٣١٠

وقام عمارة بن حزم إلى زيد بن عمرو ، وكان طويل اللحية ، فأخذ بلحيته فقاده بها قودا عنيفا حتى أخرجه من المسجد ، ثم جمع عمارة يديه فلدمه بهما فى صدره لدمة خر منها. قال : يقول : خدشتنى يا عمارة! قال : أبعدك الله يا منافق ، فما أعد الله لك من العذاب أشد من ذلك ، فلا تقربن مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقام أبو محمد ، رجل من بنى النجار ، وكان بدريا ، إلى قيس بن عمرو فجعل يدفع فى قفاه حتى أخرجه من المسجد. وكان قيس غلاما شابا لا يعلم فى المنافقين شاب غيره.

وقام رجل من بلحارث يقال له : عبد الله بن الحارث إلى رجل يقال له : الحارث بن عمرو وكان ذا جمة فأخذ بجمته يسحبه عنيفا على ما مر به من الأرض حتى أخرجه من المسجد.

قال : يقول المنافق : لقد أغلظت يا ابن الحارث. فقال له : إنك أهل لذلك يا عدو الله لما أنزل الله فيك ، فلا تقرب مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنك نجس. وقام رجل من بنى عمرو بن عوف إلى أخي ذوى بن الحارث فأخرجه من المسجد إخراجا عنيفا وأفف منه (١) وقال : غلب عليك الشيطان وأمره.

فهؤلاء من حضر المسجد يومئذ ، من المنافقين فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإخراجهم (٢).

ففى هؤلاء من أحبار يهود والمنافقين من الأوس والخزرج نزل صدر سورة البقرة إلى المائة منها ، فيما بلغنى والله أعلم.

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وفد نصارى نجران ، ستون راكبا ، فدخلوا عليه المسجد حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية ، فى جمال رجال بنى الحارث بن كعب ، يقول بعض من رآهم يومئذ ، من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم.

وحانت صلاتهم فقاموا يصلون فى المسجد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : دعوهم. فصلوا إلى المشرق ، وكان فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم ، فى الأربعة عشر منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم : العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون

__________________

(١) أفف منه : أى قال له أف ، وهى كلمة تقال لكل ما يتفل ويضجر منه.

(٢) انظر : السيرة (٢ / ١٣٧).

٣١١

إلا عن رأيه ، واسمه عبد المسيح ، والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم ، وأبو حارثة بن علقمة أحد بنى بكر بن وائل أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم وكان أبو حارثة هذا قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه فى دينهم ، فكان ملوكهم قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات ، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده فى دينهم (١).

فلما وجهوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نجران ، جلس أبو حارثة على بغلة له موجها [إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم] (٢) وإلى جنبه أخ له يقال له : كرز بن علقمة ، ويقال كوز بن علقمة ، فعثرت بغلة أبى حارثة فقال كوز : تعس الأبعد. يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال له أبو حارثة : بل أنت تعست : قال : ولم يا أخى؟ قال : والله إنه للنبى الذي كنا ننتظره. فقال له كوز : فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟! قال : ما صنع بنا هؤلاء القوم ، شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه ، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى.

فأضمر عليها منه أخوه كوز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك ، فهو كان يحدث عنه هذا الحديث (٣).

وكان أبو حارثة هذا ممن كلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو والعاقب والسيد ، وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف من أمرهم فى عيسى عليه‌السلام ، يقولون : هو الله ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، ويقولون : هو ولد الله كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ، إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض. سبحان الله عما يصفون ، عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون. ويقولون : هو ثالث ثلاثة. وما من إله إلا إله واحد.

ففى كل هذا من قولهم قد نزل القرآن مدحضا حججهم ومبطلا دعاويهم ، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل. قال الله العظيم : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) [المائدة : ٧٢].

__________________

(١) انظر : السيرة (٢ / ١٨٠).

(٢) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وما أوردناه من السيرة.

(٣) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٥ / ٣٨٢ ، ٣٨٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٥٩) ، طبقات ابن سعد (١ / ٣٥٧).

٣١٢

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المائدة : ٧٢ ، ٧٥].

وقال عز من قائل : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة : ٣٠ ، ٣١].

ولما كلموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرهم بالإسلام ، فقال له حبران ممن كلمه منهم : قد أسلمنا. فقال لهما : «إنكما لم تسلما فأسلما». فقالا : بلى قد أسلمنا قبلك. فقال : «كذبتما ، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير». قالا : فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يجيبهما (١).

فأنزل الله فى ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها.

فافتتح السورة بتنزيه نفسه سبحانه مما قالوا ، وتوحيده إياها بالخلق والأمر ، ردا عليهم ما ابتدعوا من الكفر وجعلوا معه من الأنداد ليعرفهم بذلك ضلالتهم. فقال جل قوله وتعالى جده : (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران : ١ ، ٦].

ثم استمر سبحانه فيما شاء من التبيان لهم والإعذار إليهم والاحتجاج عليهم ، وإرشاد عباده المؤمنين إلى سبيل الضراعة إليه بأن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم ، وأن يهب لهم من لدنه رحمة ، وما وصل بذلك من قوله الحق وذكره الحكيم.

__________________

(١) انظر الحديث فى : فتح البارى لابن حجر (٧ / ٦٩٩) ، تفسير ابن كثير (٢ / ٤١) ، فتح القدير للشوكانى (١ / ٤٦٦).

٣١٣

ثم استقبل لهم أمر عيسى وكيف كان بدء ما أراد به ، فقال : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

ثم ذكر امرأة عمران ونذرها لله ما فى بطنها محررا ، أى تعبده له سبحانه لا ينتفع به لشىء من الدنيا ، ثم ما كان من وضعها مريم وتعويذها إياها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم.

يقول الله تبارك وتعالى : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) أى ضمها وقام عليها بعد أبيها وأمها.

ثم قص خبرها وخبر زكريا وما دعا به وما أعطاه ، إذ وهب له يحيى ، ثم ذكر مريم وقول الملائكة لها : (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ). يقول الله جل وعز : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أى يستهمون عليها ، أيهم يخرج سهمه يكفلها. (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أى ما كنت معهم إذ يختصمون فيها.

يخبره بخفى ما كتموا منه من العلم ، تحقيقا لنبوته وإقامة للحجة عليهم بما يأتيهم به مما أخفوا منه. ثم قال تعالى : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ).

أى هكذا كان أمره لا ما يقولون فيه ، وإن هذه حالاته التي يتقلب بها فى عمره كتقلب بنى آدم فى أعمارهم صغارا وكبارا ، إلا أن الله خصه بالكلام فى مهده آية لنبوته ، وتعريفا للعباد مواقع قدرته. (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ).

أى يصنع ما أراد ويخلق ما يشاء من بشر أو غير بشر. ويصور فى الأرحام ما يشاء وكيف يشاء بذكر وبغير ذكر. (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

ثم أخبرها بما يريد به من كرامته وتعليمه الكتاب والحكمة والتوراة المنزلة على موسى قبله والإنجيل المنزل عليه ، وجعله رسولا إلى بنى إسرائيل ، مؤيدا من الآيات بما

٣١٤

هو صادر عن إذنه موقوف على مشيئته تحقيقا لما أراد من نبوته ، كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله ، وغير ذلك مما أيده الله به من العجائب المصدقة له ، وأمره إياهم بتقوى الله وطاعته وقوله لهم : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) تبريا من الذي يقولون فيه واحتجاجا لربه عليهم. (فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أى هذا الهدى قد حملتكم عليه وجئتكم به. (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) إلى آخر قولهم.

ثم ذكر رفعه إياه إليه حين اجتمعوا لقتله ، فقال : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ). ثم أخبرهم ورد عليهم فيما أقروا لليهود بصلبه ، كيف رفعه وطهره منهم فقال : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ثم القصة حتى انتهى إلى قوله : (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).

أى قد جاءك الحق من ربك فلا ترتابن به ولا تمترين فيه ، وإن قالوا : كيف خلق عيسى من غير ذكر فقد خلقت آدم من تراب بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر ، فكان كما كان عيسى لحما ودما وشعرا وبشرا ، فليس خلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا.

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أى من بعد ما قصصت عليك من خبره وكيفية أمره (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ).

نبتهل : ندعو باللعنة ، ونبتهل أيضا ، نجتهد بالدعاء. (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) أى ما أخبرتك به من أمر عيسى (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). فدعاهم الله إلى النصف وقطع عنهم الحجة.

فلما أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخبر من الله عزوجل ، فى شأن عيسى وفصل القضاء بينه وبينهم بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه ، دعاهم إلى ذلك ، فقالوا : يا أبا القاسم ، دعنا ننظر فى أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه.

٣١٥

فانصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب ، وكان ذا رأيهم ، فقالوا : يا عبد المسيح ، ما ترى؟ فقال : «والله ، يا معشر النصارى لقد علمتم أن محمدا لنبى مرسل ، ولقد جاءكم من خبر صاحبكم بالحق ، ولقد علمتم ما لا عن قوم نبيا قط فبقى كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم قد أبيتم إلا ألف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول فى صاحبكم فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم».

فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونرجع إلى ديننا ، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا فى أشياء اختلفنا فيها من أموالنا ، فإنكم عندنا رضى.

فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ائتونى العشية أبعث معكم القوى الأمين». فكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، يقول : ما أحببت الإمارة قط حبى إياها يومئذ ، رجاء أن أكون صاحبها ، فرحت إلى الظهر مهجرا ، فلما صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظهر سلم ثم نظر عن يمينه ويساره فجعلت أتطاول له ليرانى ، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة ابن الجراح ، فدعاه فقال : أخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه. قال عمر : فذهب بها أبو عبيدة (١).

ولما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة قدمها وهى أوبأ أرض الله من الحمى ، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم حتى جهدوا فما كانوا يصلون إلا وهم قعود ، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرج عليهم صلوات الله عليه ، وهم يصلون كذلك ، فقال لهم : «اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم». فتجشم المسلمون القيام على ما بهم من الضعف والسقم التماس الفضل! (٢).

وكان أبو بكر الصديق رضى الله عنه ، ممن أصابته الحمى ، وكذلك مولياه عامر بن فهيرة وبلال ، قالت عائشة : فدخلت أعودهم قبل أن يضرب علينا الحجاب وهم فى بيت واحد وبهم ما لا يعلمه إلا الله من الوعك ، فدنوت من أبى بكر فقلت له : كيف

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري كتاب المغازى (٤٣٨٠) ، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة (٤ / ٥٥).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين (١ / ١٢٠) ، سنن النسائى (١٦٥٨) ، سنن أبى داود (٩٥٠) ، سنن ابن ماجه (١٢٢٩ ، ١٢٣٠ ، ١٢٣١) ، مسند الإمام أحمد (٢ / ١٩٣ ، ٣ / ٤٢٥ ، ٦ / ٦١ ، ٧١) ، البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ٢٢٤) ، فتح البارى لابن حجر (٢ / ٦٨٢).

٣١٦

كل امرئ مصبح فى أهله

والموت أدنى من شراك نعله

فقلت : والله ما يدرى أبى ما يقول ، ثم دنوت إلى عامر فقلت : كيف تجدك يا عامر؟ فقال :

لقد وجدت الموت دون ذوقه

إن الجبان حتفه من فوقه

كل امرئ مجاهد بطوقه

كالثور يحمى جلده بروقه

قالت : وكان بلال إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته وقال :

ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة

بواد وحولى إذخر وجليل

وهل أردن يوما مياه مجنة

وهل يبدون لى شامة وطفيل

قالت عائشة : فذكرت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما سمعت منهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم حبب لنا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد ، وبارك لنا فى مدها وصاعها ، وانقل وباءها إلى مهيعة» (١) ، وهى الجحفة.

شروع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حرب المشركين

وذكر مغازيه التي أعز الله بها الإيمان والمؤمنين

قال ابن إسحاق : ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تهيأ لحربه وقام فيما أمره الله تبارك وتعالى به من جهاد عدوه وقتال من أمره الله بقتاله ممن يليه من مشركى العرب.

وخرج غازيا فى صفر على رأس اثنى عشر شهرا من مقدمه المدينة.

حتى بلغ ودّان وهى غزوة الأبواء (٢) ، يريد قريشا وبنى ضمرة من بكر بن عبد مناة ابن كنانة ، فوادعته فيها بنو ضمرة ، وكان الذي وادعه منهم عليهم مخشىّ بن عمرو الضمرى ، وكان سيدهم فى زمانه ذلك.

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري كتاب مناقب الأنصار (٣٩٢٦) ، صحيح مسلم كتاب الحج (٢ / ٤٨٠) ، مسند الإمام أحمد (٥ / ٣٠٩) ، السنن الكبرى للبيهقى (٣ / ٣٣٢) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (٢ / ٢٢٦) ، دلائل النبوة للبيهقى (٢ / ٥٦٩) ، موطأ الإمام مالك (٢ / ١٤).

(٢) راجع هذه الغزوة فى : المغازى للواقدى (١ / ١١ ، ١٢) ، طبقات ابن سعد (٢ / ١ / ٣ ، ٤) ، تاريخ الطبرى (٢ / ٤٠٧) ، البداية والنهاية (٣ / ٢٤٦).

٣١٧

ثم رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ولم يلق كيدا ، فأقام بها.

وبعث فى مقامه ذلك عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصى (١) فى ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين ، ليس فيهم من الأنصار أحد.

فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرّة ، فلقى بها جمعا عظيما من قريش ، فلم يكن بينهم قتال ، إلّا أن سعد بن أبى وقاص قد رمى يومئذ بسهم ، فكان أول سهم رمى به فى سبيل الله.

وقال سعد فى رميته تلك فيما يذكرون :

ألا هل أتى رسول الله أنى

حميت صحابتى بصدور نبلى

أذود بها أوائلهم ذيادا

بكل حزونة وبكل سهل

فما يعتد رام فى عدوّ

بسهم يا رسول الله قبلى

فى أبيات ذكرها ابن إسحاق ، وذكر ابن هشام أن أكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لسعد.

ثم انصرف القوم عن القوم وللمسلمين حامية.

وفرّ من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهرانى (٢) وعتبة بن غزوان (٣) ، وكانا مسلمين ولكنهما خرجا ليتوصلا بالكفار.

ويقال : إن أبا بكر الصديق رضى الله عنه قال فى غزوة عبيدة هذه :

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الثقات (٣ / ٣١٢) ، الاستبصار (١٥٨ ، ٣٠١) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٣٦٩) ، الأعلام (٤ / ١٩٨) ، سير أعلام النبلاء (١ / ٢٥٦) ، الإصابة ترجمة رقم (٥٣٩١) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٣٥٣٤).

(٢) انظر ترجمته فى : طبقات ابن سعد (٣ / ١ / ١٤٤) ، طبقات خليفة (٦١ ، ٦٧ ، ١٦٨) ، التاريخ الكبير (٨ / ٥٤) ، التاريخ الصغير (٦٠ ، ٦١) ، المعارف (٢٦٣) ، الجرح والتعديل (٨ / ٤٢٦) ، حلية الأولياء (١ / ١٧٢ ، ١٧٦) ، تهذيب التهذيب (١٠ / ٢٨٥) ، شذرات الذهب (١ / ٣٩) ، الإصابة ترجمة رقم (٨٢٠١) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٥٠٧٦).

(٣) انظر ترجمته فى : طبقات ابن سعد (٣ / ١ / ٦٩) ، التاريخ الكبير (٦ / ٥٢٠ ، ٥٢١) ، المعارف (٢٧٥) ، الجرح والتعديل (٦ / ٣٧٣) ، حلية الأولياء (١ / ١٧١ ، ١٧٢) ، تهذيب التهذيب (٧ / ١٠٠) ، شذرات الذهب (١ / ٢٧) ، سير أعلام النبلاء (١ / ٣٠٤) ، الإصابة ترجمة رقم (٥٤٢٧) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٣٥٥٦).

٣١٨

أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث

أرقيت وأمر فى العشيرة حادث (١)

ترى من لؤيّ فرقة لا يصدها

عن الكفر تذكير ولا بعث باعث

رسول أتاهم صادق فتكذبوا

عليه وقالوا لست فينا بماكث

إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا

وهروّا هرير المحجرات اللواهث (٢)

فكم قد متتنا فيهم بقرابة

وترك التقى شيء لهم غير كارث

فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم

فما طيبات الحلّ مثل الخبائث

وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم

فليس عذاب الله عنهم بلابث

ونحن أناس من ذؤابة غالب

لنا العز منها فى الفروع الأثائث

فأولى بربّ الراقصات عشية

حراجيج تجرى فى السريح الرّثائث

كأدم ظباء حول مكة عكف

بردن حياض البئر ذات النّبائث

لئن لم يفيقوا عاجلا من ضلالهم

ولست إذا آليت قولا بحانث

لتبتدرنهم غارة ذات مصدق

تحرم أطهار النساء الطوامث

وكانت راية عبيدة أول راية عقدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الإسلام.

وبعض العلماء يزعم أنه بعثه حين أقبل من غزوة الأبواء قبل أن يصلى إلى المدينة ، وأنه بعث فى مقامه بالمدينة حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر من ناحية العيص فى ثلاثين راكبا من المهاجرين ، فلقى أبا جهل بذلك الساحل فى ثلاثمائة راكب من أهل مكة ، فحجز مجدى بن عمرو الجهنى ، وكان موادعا للفريقين.

فانصرف بعض القوم عن بعض ، ولم يك بينهم قتال.

وبعض الناس يقول : كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأحد من المسلمين ، وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معا ، فشبه ذلك على الناس.

وقد زعموا أن حمزة قال فى ذلك شعرا يذكر فيه أن رايته أول راية عقدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فإن كان حمزة قال ذلك فقد صدق إن شاء الله ، لم يكن يقول إلا حقّا ، فالله أعلم أى ذلك كان.

__________________

(١) الدمائث : أى الرمال اللينة.

(٢) هروا : أى وثبوا كما تثب الكلاب. والمجحرات : أى الكلاب التي اجحرت ، أى لجئت إلى مواضعها.

٣١٩

فأما ما سمعنا من أهل العلم عندنا : فعبيدة بن الحارث أول من عقد له.

والشعر المنسوب لحمزة رضى الله عنه :

لا يا لقومى للتحكم والجهل

وللنقص من رأى الرجال وللعقل

وللراكبينا بالمظالم لم نطأ

لهم حرمات من سوام ولا أهل (١)

كأنا تبلناهم ولا تبل عندنا

لهم غير أمر بالعفاف وبالعدل (٢)

وأمر بإسلام فلا يقبلونه

وينزل منهم مثل منزلة الهزل

فما برحوا حتى انتدبت بغارة

لهم حيث حلوا ابتغى راحة الفضل

بأمر رسول الله أول خافق

عليه لواء لم يكن لاح من قبل

لواء لديه النصر من ذى كرامة

إله عزيز فعله أفضل الفعل

عشية ساروا حاشدين وكلنا

مراجله من غيظ أصحابه تغلى

فلما تراءينا أناخوا فعقلوا

مطايا وعقلنا مدى غرض النبل

فعلنا لهم حبل الإله نصيرنا

وليس لكم إلا الضلالة من حبل

فثار أبو جهل هنالك باغيا

فخاب ورد الله كيد أبى جهل

وما نحن إلا فى ثلاثين راكبا

وهم مائتان بعد واحدة فضل

فيال لؤيّ لا تطيعوا غواتكم

وفيئوا إلى الإسلام والمنهج السهل (٣)

فإنى أخاف أن يصب عليكم

عذاب فتدعوا بالندامة والثّكل

ثم غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ربيع الأول يريد قريشا حتى بلغ بواط (٤) من ناحية رضوى ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا.

ثم غزاهم فسلك على نقب بنى دينار على فيفاء الحبار ، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر ، يقال لها : ذات الساق ، فصلى عندها ، فثمّ مسجده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصنع له عندها طعام فأكل منه وأكل الناس معه ، فموضع أثافى البرمة معلوم هنالك ، واستقى له من ماء يقال له : المشرب المشترب.

ثم ارتحل حتى هبط بليل ، ثم سلك فرش ملل حتى لقى الطريق بصحيرات اليمام ، ثم اعتدل به الطريق حتى نزل العشيرة من بطن ينبع ، فأقام بها جمادى الأولى وليالى من

__________________

(١) السوام : أى الإبل الراعية ، وقيل : هى المرسلة فى المرعى.

(٢) تبلناهم : أى عاديناهم.

(٣) فيئوا : أى ارجعوا. والمنهج : أى الطريق الواضح.

(٤) انظر : الطبقات الكبرى لابن سعد (٢ / ٨) ، البداية والنهاية (٣ / ٢٤٦).

٣٢٠