الإكتفا - ج ١

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ١

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبدالقادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2943-0
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

قال ابن إسحاق (١) : فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصى ، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم فى الدين ، فكان مصعب يسمى المقرئ بالمدينة ، وكان منزله على أسعد بن زرارة بن عدس أبى أمامة ، وكان يصلى بهم ، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض (٢).

إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير

على يدى مصعب بن عمير رضى الله عنه

ذكر ابن إسحاق عمن سمى من شيوخه (٣) أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بنى عبد الأشهل ودار بنى ظفر ، فدخل به حائطا من حوائط بنى ظفر ، فجلسا فيه واجتمع إليهما رجال ممن أسلم.

فلما سمع بذلك سعد بن معاذ (٤) وأسيد بن حضير (٥) وهما يومئذ سيدا قومهما بنى عبد الأشهل ، وكلاهما مشرك على دين قومه ، قال سعد لأسيد : لا أبا لك ، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا ، فإنه لو لا أن أسعد بن زرارة منى حيث قد علمت كفيتك ذلك ، هو ابن خالتى ولا أجد عليه مقدما.

__________________

ـ مسلم كتاب الحدود (٣ / ٤٣) ، مسند الإمام أحمد (٥ / ٣١٦) ، دلائل النبوة للبيهقى (٢ / ٢٤٦ ، ٢٤٧) ، مستدرك الحاكم (٢ / ٦٢٤).

(١) انظر : السيرة (٢ / ٤٣).

(٢) انظر الحديث فى : تاريخ الطبرى (١ / ٥٥٩) ، فتح البارى لابن حجر (٧ / ٢٦٤).

(٣) انظر : السيرة (٢ / ٤٤).

(٤) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٩٦٣) ، الإصابة الترجمة رقم (٣٢١٣) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٠٤٦) ، طبقات خليفة (٧٧) ، التاريخ الكبير (٤ / ٦٥) ، الجرح والتعديل (٤ / ٩٣) ، تهذيب الكمال (٤٧٧) ، العبر (١ / ٧) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٤٨١) ، خلاصة تذهيب الكمال (٦٣٥) ، شذرات الذهب (١ / ١١).

(٥) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٥٤) ، الإصابة الترجمة رقم (١٨٥) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٧٠) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢١) ، تهذيب الكمال (١ / ١١٣) ، تقريب التهذيب (١ / ٧٨) ، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال (١ / ٩٨) ، الوافى بالوفيات (٩ / ٢٥٨) ، سير الإعلام (١ / ٢٩٩) ، تهذيب التهذيب (١ / ٣٤٧) ، الجرح والتعديل (٢ / ١١٦٣) ، الأنساب (١ / ٢٧٨) ، الرياض المستطابة (٢٩).

٢٦١

فأخذ أسيد حربته ثم أقبل إليهما ، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب : هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه. قال : فوقف عليهما متشتما فقال : ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا ، اعتزلانا إن كانت بأنفسكما حاجة.

فقال له مصعب : أو تجلس فتسمع ، فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره. قال : أنصفت ، ثم ركز حربته وجلس إليهما ، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن ، فقالا فيما ذكر عنهما : والله لعرفنا فى وجهه الإسلام قبل أن يتكلم فى إشراقه وتسهله ، ثم قال : ما أحسن هذا وأجمله ، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا فى هذا الدين؟ قالا له : تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تتشهد شهادة الحق ثم تصلى.

فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق ، ثم قام فركع ركعتين ثم قال لهما : إن ورائى رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن ، سعد ابن معاذ. ثم انصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس فى ناديهم ، فلما نظر إليه سعد مقبلا قال : أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما وقف على النادى قال له سعد : ما فعلت؟ قال كلمت الرجلين فو الله ما رأيت بهما بأسا ، وقد نهيتهما فقالا : نفعل ما أحببت. وقد حدثت أن بنى حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه ، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك (١).

فقام سعد مغضبا مبادرا متخوفا للذى ذكر له من بنى حارثة ، فأخذ الحربة من يده ثم قال : والله ما أراك أغنيت شيئا. ثم خرج إليهما فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما ، فوقف عليهما متشتما ثم قال : يا أبا أمامه ، والله لو لا ما بينى وبينك من القرابة ما رمت هذا منى ، أتغشانا فى دارينا بما نكره!.

وقد قال أسعد لمصعب بن عمير : أى مصعب ، جاءك والله سيد من وراءه من قومه ، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان. فقال له مصعب : أو تقعد فتسمع ، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره.

قال سعد : أنصفت. ثم ركز الحربة وجلس ، فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن. قالا : فعرفنا والله فى وجهه الإسلام قبل أن يتكلم لإشراقه وتسهله ، ثم قال لهما : كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم فى هذا الدين؟.

قالا : تغتسل فتطهر ثوبيك ، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلى ركعتين. فقام فاغتسل

__________________

(١) ليخفروك : أخفره أى نقض عهده وخاس به وغدره ، وأخفر الذمة لم يف بها.

٢٦٢

وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق وركع ركعتين ، ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادى قومه ومعه أسيد بن حضير ، فلما رآه قومه مقبلا قالوا : نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به.

فلما وقف عليهم قال : يا بنى عبد الأشهل كيف تعلمون أمرى فيكم؟ قالوا : سيدنا ، أفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة (١). قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم حرام على حتى تؤمنوا بالله ورسوله.

قال : فو الله ما أمسى فى دار بنى عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة. ورجع مصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام ، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون (٢) ، إلا ما كان من دار بنى أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف ، وتلك أوس الله ، وهم من الأوس بن حارثة.

وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت (٣) وكان شاعرا لهم قائدا يسمعون منه ويطيعونه ، فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومضى بدر وأحد والخندق ، وقال فيما رأى من الإسلام وما اختلف الناس فيه من أمره :

أرب الناس أشياء المت

يلف الصعب منها بالذلول

أرب الناس إما إن ضللنا

فيسرنا لمعروف السبيل

فلو لا ربنا كنا يهودا

وما دين اليهود بذى شكول (٤)

ولو لا ربنا كنا نصارى

مع الرهبان فى جبل الجليل

ولكنا خلقنا إذ خلقنا

حنيفا ديننا عن كل جيل (٥)

نسوق الهدى ترسف مذعنات

مكشفة المناكب فى الجلول

__________________

(١) أيمننا نقيبة : النقيبة أيمن النعل ، وقال ابن بزرج : اللهم نقيبة أى نفاذ رأى ، ورجل ميمون النقيبة : مبارك النفس ، مظفر بما يحاول. انظر : اللسان (مادة نقب).

(٢) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٢ / ٤٣٨ ، ٤٣٩) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ٤٢).

(٣) انظر ترجمته فى : طبقات فحول الشعراء (١ / ٢٢٦).

(٤) قال السهيلى فى الروض الأنف : شكول جمع شكل ، وشكل الشيء بالفتح هو مثله ، والشكل بالكسر الدل والحسن ، فكأنه أراد أن دين اليهود بدع فليس له شكول أى : ليس له نظير فى الحقائق ولا مثيل يعضده من الأمر بالمعروف المقبول.

(٥) خنيفا : من حنف إذا مال ، أى مائلا عن الأديان الباطلة ، والميل هو الصنف من الناس.

٢٦٣

ذكر العقبة الثانية

قال ابن إسحاق (١) : ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة ، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة ، فواعدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق ، حين أراد الله ما أراد من كرامته والنصر لنبيه وإعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله.

حدث كعب بن مالك (٢) ، وكان ممن شهد العقبة وبايع بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : خرجنا فى حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا ، ومعنا البراء بن معرور (٣) سيدنا وكبيرنا ، فلما وجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة قال لنا البراء : يا هؤلاء ، إنى قد رأيت رأيا وو الله ما أدرى أتوافقوني عليه أم لا. فقلنا : وما ذاك؟ قال : رأيت ألا أدع هذه البنية منى بظهر ، يعنى الكعبة ، وأن أصلى إليها. فقلنا : والله ما بلغنا أن نبينا يصلى إلا إلى الشام ، وما نريد أن نخالفه. فقال : إنى لمصل إليها. فقلنا له : لكنا لا نفعل.

فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى إلى الكعبة ، حتى قدمنا مكة ، فلما قدمناها وقد كنا عبنا عليه ما صنع ، قال لى : يا ابن أخى انطلق بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أسأله عما صنعت فى سفرى هذا فإنه والله لقد وقع فى نفسى منه شيء لما رأيت من خلافكم إياى فيه ، فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكنا لا نعرفه لم نره قبل ذلك ، فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عنه فقال : هل تعرفانه؟ فقلنا : لا. فقال : هل تعرفان العباس عمه؟ قلنا : نعم. وقد كنا نعرف العباس ، كان لا يزال يقدم علينا تاجرا. قال : فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس.

فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس معه ، فسلمنا ثم جلسنا إليه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعباس : هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ قال : نعم ، هذا البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب بن مالك ، فو الله ما أنسى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) انظر : السيرة (٢ / ٤٨ ـ ٤٩).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٢٣١) ، الإصابة الترجمة رقم (٧٤٤٧) ، شذرات الذهب (١ / ٥٦) ، تهذيب الكمال (١١٤٧) ، تاريخ الإسلام (٢ / ٢٤٣) ، تهذيب التهذيب (٨ / ٤٤٠ ، ٤٤١) ، خلاصة تذهيب الكمال (٣٢١) ، طبقات خليفة (١٠٣).

(٣) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٧١) ، الإصابة الترجمة رقم (٦٢٢) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٣٩٢) ، طبقات ابن سعد (٣ / ٢ / ١٤٦) ، شذرات الذهب (١ / ٩) ، العبر (١ / ٣) ، الاستبصار (١٤٢).

٢٦٤

ألشاعر؟ قال : نعم. فقال له البراء بن معرور : يا نبى الله ، إنى خرجت فى سفرى هذا وقد هدانى الله للإسلام ، فرأيت أن لا أجعل هذه البنية منى بظهر ، فصليت إليها ، وخالفنى أصحابى فى ذلك ، حتى وقع فى نفسى منه شيء فما ذا ترى يا رسول الله؟ قال : قد كنت على قبلة لو صبرت عليها. فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلى معنا إلى الشام. قال : وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات ، وليس كما قالوا ، نحن أعلم به منهم (١).

قال كعب (٢) : ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق ، فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لها ، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام (٣) ، أبو جابر ، سيد من ساداتنا أخذناه معنا وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا فكلمناه وقلنا : يا أبا جابر ، إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا ، وإنا نرغب بك أن تكون حطبا للنار غدا.

ثم دعوناه إلى الإسلام وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيانا العقبة ، فأسلم وشهد معنا وكان نقيبا. فنمنا تلك الليلة مع قومنا فى رجالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين ، حتى اجتمعنا فى الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا ، نسيبة بنت كعب أم عمارة (٤) ، إحدى نساء بنى مازن بن النجار ، وأسماء بنت [عمرو بن عدى بن نابى] (٥) ، أم منيع (٦) ، إحدى نساء بنى سلمة ، فاجتمعنا فى الشعب ننتظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى جاءنا ومعه العباس وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له.

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٣ / ٤٦١) ، صحيح ابن خزيمة (٤٢٩) ، الهيثمى فى المجمع (٦ / ٤٢ ، ٤٣).

(٢) انظر : السيرة (٢ / ٤٩ ـ ٥٠).

(٣) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٦٣٣) ، الإصابة الترجمة رقم (٤٨٥٦) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٣٠٨٦) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٣٢٥) ، تاريخ الإسلام (٢ / ٢٠٥) ، سير أعلام النبلاء (١ / ٣٢٤) ، حلية الأولياء (٢ / ٤) ، الأعلام (٤ / ١١).

(٤) انظر ترجمتها فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٣٦٢٤) ، الإصابة الترجمة رقم (١٢١٨٣) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٧٥٥٠) ، تهذيب التهذيب (١٢ / ٤٧٤) ، خلاصة تذهيب الكمال (٤٩٩).

(٥) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل : «عدى بن عمرو» ، والتصحيح من السيرة والاستيعاب.

(٦) انظر ترجمتها فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٣٢٦٣) ، الإصابة الترجمة رقم (٦٧١٢) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٣٢٧٤).

٢٦٥

فلما جلس كان أول متكلم العباس فقال : يا معشر الخزرج ، وكانت العرب إنما يسمون هذا الحى من الأنصار الخزرج ، خزرجها وأوسها ، إن محمدا منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه ، فهو فى عز من قومه ومنعة فى بلده ، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه ، فإنه فى عز ومنعة من قومه وبلده.

فقلنا له : قد سمعنا ما قلت. فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فتكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب فى الإسلام ، ثم قال : أبايعكم على أن تمنعونى مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.

فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال : نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا ، فبايعنا يا رسول الله ، فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر.

فاعترض القول ، والبراء يكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أبو الهيثم بن التيهان ، فقال : يا رسول الله ، إن بيننا وبين الرجال حبالا ونحن قاطعوها ، يعنى اليهود ، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟.

قال : فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : بل الدم الدم ، والهدم الهدم ، أنا منكم وأنتم منى ، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم. قال كعب : وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخرجوا إلى منكم اثنى عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم.

فأخرجوا منهم اثنى عشر نقيبا ، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس ، من الخزرج : أبو أمامة أسعد بن زرارة ، وسعد بن الربيع (١) ، وعبد الله بن رواحة (٢) ، ورافع بن مالك

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٩٣٦) ، الإصابة الترجمة رقم (٣١٦١) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٩٩٤) ، طبقات ابن سعد (٣ / ٢ / ٧٧) ، تاريخ خليفة (٧١) ، الجرح والتعديل (٤ / ٨٢ ـ ٨٣) ، الاستبصار (١١٤).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٥٤٨) ، الإصابة الترجمة رقم (٤٦٩٤) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٩٤٣) ، الثقات (٣ / ٢٢١) ، حلية الأولياء (١ / ١١٨ ، ١٢١) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٣١٠) ، تهذيب التهذيب (٥ / ٢١٢) ، تهذيب الكمال (٢ / ٦٨١) ، تقريب التهذيب (١ / ٤١٥) ، خلاصة تذهيب (٢ / ٥٥) ، الوافى بالوفيات (١٧ / ١٦٨) ، سير أعلام النبلاء (١ / ٢٣٠) ، الأعلام (٤ / ٨٦).

٢٦٦

ابن العجلان ، والبراء بن معرور ، وعبد الله بن عمرو بن حرام ، وعبادة بن الصامت ، وسعد بن عبادة بن دليم (١) ، والمنذر بن عمرو (٢). ومن الأوس : أسيد بن حضير ، وسعد ابن خيثمة (٣) ، ورفاعة بن عبد المنذر (٤).

قال ابن هشام (٥) : وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان ولا يعدون رفاعة.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للنقباء : «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم ، وأنا كفيل على قومى» ، قالوا : نعم (٦).

وحدث (٧) عاصم بن عمر بن قتادة أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة ، أخو بنى سالم بن عوف : يا معشر الخزرج : هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا : نعم. قال : إنكم تبايعونه على حرب الأحمر ، والأسود من الناس ، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن ، فهو والله إن فعلتم خزى الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فهو والله خير الدنيا والآخرة ، قالوا : فإنا

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٩٤٩) ، الإصابة الترجمة رقم (٣١٨١) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٠١٢) ، طبقات ابن سعد (٣ / ٢ / ١٤٢) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (٢٠١) ، تهذيب الكمال (٤٧٤) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٤٧٥) ، خلاصة تذهيب الكمال (٢١٣٤) ، شذرات الذهب (١ / ٢٨).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٥٢٣) ، الإصابة الترجمة رقم (٨٢٤٢) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٥١١٤) ، الثقات (٣ / ٣٨٦) ، الاستبصار (١٠٠) ، الأعلام (٧ / ٢٩٤) ، تجريد أسماء الصحابة (٢ / ٩٥).

(٣) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٩٣٤) ، الإصابة الترجمة رقم (٣١٥٥) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٩٨٦) ، شذرات الذهب (١ / ٩) ، سير أعلام النبلاء (١ / ٢٦٦) ، الوافى بالوفيات (١٥ / ٢١٦) ، الأعلام (٣ / ٨٤) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢١٣).

(٤) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٧٨٠) ، الإصابة الترجمة رقم (٢٦٧٥) ، أسد الغابة الترجمة (١٦٩٢) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ١٨٤) ، سير أعلام النبلاء (١ / ١٣٥ ، ١٨٥) ، الوافى بالوفيات (١٤ / ١٧١) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٢٨٢) ، تقريب التهذيب (١ / ٢٥١) ، حلية الأولياء (١ / ٣٦٦) ، خلاصة تذهيب (١ / ٣٢٧).

(٥) انظر : السيرة (٢ / ٥٤).

(٦) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ١٦٢) ، فتح البارى لابن حجر (٧ / ٢٩٢) ، تاريخ الطبرى (١ / ٥٦٢ ، ٥٦٣).

(٧) انظر : السيرة (٢ / ٥٥).

٢٦٧

نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال : الجنة. قالوا : ابسط يدك. فبسط يده فبايعوه (١).

قال عاصم : والله ، ما قال ذلك العباس إلا ليشد العقد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أعناقهم.

وقال غيره : ما قاله إلا ليؤخر القوم تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبى بن سلول فيكون أقوى لأمر القوم. فالله أعلم أى ذلك كان.

قال ابن إسحاق (٢) : فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده ، وبنو عبد الأشهل يقولون : بل أبو الهيثم بن التيهان.

وفى حديث معبد بن كعب عن أخيه عبد الله ، عن أبيه قال : كان أول من ضرب على يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم البراء بن معرور ، ثم بايع القوم ، فلما بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صرح الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط : يا أهل الجباجب ، وهى المنازل ، هل لكم فى مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا أزب العقبة هذا ابن أزيب ، ويقال ابن أزيب ، أتسمع أى عدو الله ، أما والله لأفرغن لك» ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ارفضوا إلى رحالكم» ، فقال له العباس بن عبادة بن نضلة : والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم أومر بذلك ، ولكن ارجعوا إلى رحالكم». فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها ، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا فى منازلنا ، فقالوا : يا معشر الخزرج ، إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا ، وتبايعونه على حربنا ، وإنه والله ما من حى من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم.

فانبعث من هنالك من مشركى قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء ، وما علمناه.

وصدقوا ، لم يعلموه ، وبعضنا ينظر إلى بعض.

ثم قام القوم وفيهم الحارث بن هشام المخزومى (٣) ، وعليه نعلان له جديدان فقلت

__________________

(١) انظر الحديث فى : مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ٤٨) ، مسند الإمام أحمد (٤ / ١١٩ ، ١٢٠) ، تاريخ الطبرى (١ / ٥٦٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ١٦٢).

(٢) انظر : السيرة (٢ / ٥٦ ـ ٥٧).

(٣) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٤٥٢) ، الإصابة الترجمة رقم (١٥٠٩) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٩٧٩) ، تهذيب الكمال (٢٢٣) ، تذهيب التهذيب (١ / ١١٦) ، خلاصة تذهيب الكمال (٦٩) ، تهذيب ابن عساكر (٤ / ٨) ، العقد الثمين (٤ / ٣٢).

٢٦٨

له كلمة ، كأنى أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا : يا أبا جابر ما تستطيع وأنت سيد من ساداتنا أن تتخذ مثل نعلى هذا الفتى من قريش؟! فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ، ثم رمى بهما إلى فقال : والله لتنتعلنهما ، قال : يقول أبو جابر : مه ، أحفظت والله الفتى ، فاردد إليه نعليه. قلت : والله لا أردهما ، فأل والله صالح ، والله لئن صدق الفأل لأسلبنه(١).

وفى حديث غير كعب أنهم أتوا عبد الله بن أبى سلول ، فقالوا : مثل ما ذكر كعب من القول ، فقال لهم : إن هذا لأمر جسيم ، ما كان قومى ليتفوتوا على بمثل هذا ، وما علمته كان ، فانصرفوا عنه.

ونفر الناس من منى ، فتنطس (٢) القوم الخبر ، فوجدوه قد كان ، وخرجوا فى طلب القوم ، فأدركوا سعد بن عبادة بأذاخر والمنذر بن عمرو أخا بنى ساعدة ، وكلاهما كان نقيبا ، فأما المنذر فأعجز القوم ، وأما سعد فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه بنسع (٣) رحله ، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة ، يضربونه ويجذبونه بجمته ، وكان ذا شعر كثير.

قال سعد : فو الله ، إنى لفى أيديهم إذ طلع علىّ نفر من قريش فيهم رجل وضيء أبيض شعشاع حلو من الرجال ، قال فقلت فى نفسى : إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا ، فلما دنا منى ، رفع يده فلكمنى لكمة شديدة ، فقلت فى نفسى : لا والله ، ما عندهم بعد هذا من خير ، فو الله إنى لفى أيديهم يسحبوننى إذ أوى إلى رجل ممن معهم ، فقال لى : ويحك! أما بينك وبين أحد من قريش تجارة ولا عهد؟ فقلت : بلى والله لقد كنت أجيز لجبير بن مطعم تجارة وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادى ، وللحارث بن حرب ابن أمية. قال : ويحك فاهتف باسم الرجلين واذكر ما بينك وبينهما.

قال : ففعلت ، وخرج ذلك الرجل إليهما ، فوجدهما عند الكعبة ، فقال لهما : إن رجلا من الخزرج الآن يضرب بالأبطح ليهتف بكما ، ويذكر أن بينه وبينكما جوارا ، قالا : ومن هو؟ قال : سعد بن عبادة ، قالا : صدق والله ، إن كان ليجيز لنا تجارنا ويمنعهم

__________________

(١) انظر الحديث فى : مستدرك الحاكم (٣ / ١٨١) ، فتح البارى لابن حجر (٣ / ٢٦٢).

(٢) تنطس القوم : تنطس عن الأخبار أى بحث وكل مبالغ فى شيء متنطس وتنطست الأخبار تجسستها. انظر : اللسان (مادة تنطس).

(٣) النسع : هو سير يضفر على هيئة لأعنة النعال تشد به الرحال ، والجمع أنساع ونسوع ونسع ، والقطعة منه نسعة ، وقيل : هو سير مضفور يجعل زماما وغيره وقد تنسج عريضة تجعل على صدور البعير. انظر : اللسان (مادة نسع).

٢٦٩

أن يظلموا ببلده ، قال : فجاءا فخلصا سعدا من أيديهم ، وكان الذي لكم سعدا سهيل ابن عمرو (١).

قال ابن هشام : والذي أوى له أبو البحترى بن هشام.

قال ابن إسحاق (٢) : فكان أول شعر قيل فى الهجرة بيتين قالهما ضرار بن الخطاب ابن مرداس (٣) ، أخو بنى محارب بن فهر. قال :

تداركت سعدا عنوة فأخذته

وكان شفاء لو تداركت منذرا

ولو نلته ظلت هناك جراحة

وكان حقيقا أن يهان ويهدرا

فأجابه حسان بن ثابت (٤) فقال :

ولست إلى عمرو ولا المرء منذر

إذا ما مطايا القوم أصبحن ضمرا

فلو لا أبو وهب لمرت قصائد

على شرف البرقاء يهوين حسرا

أتفخر بالكتان لما لبسته

وقد تلبس الأنباط ريطا مقصرا

فلا تك كالوسنان يحلم أنه

بقرية كسرى أو بقرية قيصرا

ولا تك كالثكلى وكانت بمعزل

عن الثكل لو كان الفؤاد تفكرا

ولا تك كالشاة التي كان حتفها

بحفر ذراعيها فلم ترض محفرا

ولا تك كالعاوى فأقبل نحره

ولم يخشه سهم من النبل مضمرا

فإنا ومن يهدى القصائد نحونا

كمستبضع تمرا إلى أرض خيبرا

قال (٥) : فلما قدموا المدينة أظهروا الإسلام ، وفى قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك ، منهم : عمرو بن الجموح ، وكان ابنه معاذ شهد العقبة وبايع بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان عمرو سيدا من سادات بنى سلمة ، وشريفا من أشرافهم ، وكان

__________________

(١) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٢ / ٤٤ ، ٤٤٩) ، مسند الإمام أحمد (٣ / ٤٦٠ ، ٤٦٢) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ٤٥) ، مستدرك الحاكم (٣ / ٢٥٢).

(٢) انظر : السيرة (٢ / ٥٨ ـ ٥٩).

(٣) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٢٦٠) ، الإصابة الترجمة رقم (٤١٩٣) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٥٦٣) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢٧١) ، الثقات (٣ / ٢٠٠) ، الوافى بالوفيات (١٦ / ٣٦٣) ، تاريخ بغداد (١ / ٢٠٠).

(٤) انظر ترجمته فى : الاستيعاب (١ / ٤٠٠) الترجمة رقم (٥٢٥) ، الإصابة الترجمة رقم (١٧٠٩) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١١٥٣).

(٥) انظر : السيرة (٢ / ٦٠).

٢٧٠

قد اتخذ فى داره صنما من خشب ، يقال له : مناة ، كما كانت الأشراف يصنعون ، يتخذه إلها يعظمه ، ويطهره ، فلما أسلم فتيان بنى سلمة ، ابنه معاذ ، ومعاذ بن جبل فى فتيان منهم ممن أسلم وشهد العقبة ، كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك ، فيحملونه فيطرحونه فى بعض حفر بنى سلمة ، وفيها عذر الناس ، منكسا على رأسه.

فإذا أصبح عمرو قال : ويلكم ، من عدا على آلهتنا هذه الليلة ، ثم يغدو يلتمسه ، حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه ، ثم قال : أما والله ، لو أعلم من فعل بك هذا لأخزيته ، فإذا أمسى ونام عمرو ، عدوا عليه ففعلوا به مثل ذلك ، فيغدو فيجده فى مثل ما كان فيه من الأذى ، فيغسله ويطهره ويطيبه ، ثم يعدون عليه إذا أمسى ، فيفعلون به مثل ذلك ، فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما ، فغسله وطهره وطيبه ، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ، ثم قال له : إنى والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى ، فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك ، فلما أمسى ونام عمرو ، عدوا عليه ، فأخذوا السيف من عنقه ، ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل ، ثم ألقوه فى بئر من آبار بنى سلمة فيها عذر من عذر الناس ، وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده فى مكانه.

فخرج يتتبعه حتى وجده فى تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت ، فلما رآه أبصر شأنه ، وكلمه من أسلم من قومه فقال حين أسلم وعرف من الله ما عرف يذكر صنمه ذلك ، وما أبصره من أمره ، ويشكر الله الذي أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة :

والله لو كنت إلها لم تكن

أنت وكلب وسط بئر فى قرن (١)

أف لملقاك إلها مستدن

الآن فتشناك من سوء الغبن (٢)

الحمد لله العلى ذى المنن

الواهب الرزاق ديان الدين

هو الذي أنقذنى من قبل أن

أكون فى ظلمة قبر مرتهن

قال ابن إسحاق (٣) : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل بيعة العقبة لم يؤذن له فى الحرب ولم تحلل له الدماء ، إنما يؤمر بالدعاء إلى الله تبارك وتعالى ، والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل ، فكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم

__________________

(١) القرن : بفتح القاف والراء ، قيل : هو شيء من لحاء شجر يفتل منه حبل ، وقيل : الحبل من اللحاء ، وقيل : هو الخصلة المفتولة من العهن.

(٢) مستدن : أى ذليل مستبعد ، وقال السهيلى فى الروض الأنف : هو من السدانة وهى خدمة البيت. والغبن : يكون فى الرأى تقول غبن رأى فلان كما تقول سفهت نفس فلان.

(٣) انظر : السيرة (٢ / ٧٤ ـ ٧٥).

٢٧١

عن بلادهم ، فهم من بين مفتون فى دينه وبين معذب فى أيديهم وبين هارب فى البلاد ، منهم بأرض الحبشة ، ومنهم بالمدينة وفى كل وجه.

فلما عتت قريش على الله وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة ، وكذبوا نبيه وعذبوا ونفوا من عبده ووحده وصدق نبيه واعتصم بدينه ، أذن الله تبارك وتعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم ، فكانت أول آية أنزلت فى إذنه فى الحرب وإحلاله له الدماء والقتال لمن بغى عليهم ، فيما بلغنى عن عروة بن الزبير ، وغيره من العلماء (١) ، قول الله تبارك وتعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج : ٣٩ ، ٤١].

ثم أنزل الله عليه : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أى حتى لا يفتن مؤمن عن دينه (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) [البقرة : ١٩٣] أى وحتى يعبد الله لا يعبد غيره.

بدء الهجرة إلى المدينة

قال ابن إسحاق (٢) : فلما أذن الله تبارك وتعالى لرسوله فى الحرب ، وبايعه هذا الحى من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه وأوى إليهم من المسلمين ، أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار ، وقال : إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها ، فخرجوا أرسالا وأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه فى الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة (٣).

فكان أول من هاجر إليها من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قريش من بنى مخزوم : أبو

__________________

(١) انظر الحديث فى : سنن الترمذى (٣١٧١) ، سنن النسائى الكبرى (٦ / ٤١١) ، المستدرك للحاكم (٢ / ٦٦) ، تفسير ابن كثير (٥ / ٤٣٠).

(٢) انظر : السيرة (٢ / ٧٧).

(٣) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٣ / ١٦٩).

٢٧٢

سلمة بن عبد الأسد (١) ، هاجر إليها قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة ، وكان قدم مكة من أرض الحبشة ، فلما آذته قريش وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار خرج إلى المدينة مهاجرا(٢).

قالت أم سلمة : لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لى بعيره ثم حملنى عليه وحمل معى ابنى سلمة فى حجرى ، ثم خرج بى يقود بعيره ، فلما رأته رجال بنى المغيرة قاموا إليه فقالوا : هذه نفسك غلبتنا عليها ، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها فى البلاد؟! قالت : فنزعوا خطام البعير من يده فأخذونى منه ، وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبى سلمة ، فقالوا : لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. فتجاذبوا بنى سلمة بينهم حتى خلعوا يده! وانطلق به بنو عبد الأسد ، وحبسنى بنو المغيرة عندهم ، وانطلق زوجى أبو سلمة إلى المدينة ، ففرق بينى وبين زوجى وبين ابنى ، فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكى حتى أمسى ، سنة أو قريبا منها. حتى مر بى رجل من بنى عمى فرأى ما بى فرحمنى فقال لبنى المغيرة : ألا تحرجون من هذه المسكينة! فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها.

فقالوا لى : الحقى بزوجك إن شئت. ورد بنو عبد الأسد إلى عند ذلك ابنى ، فارتحلت بعيرى ثم أخذت بنى فوضعته فى حجرى ، ثم خرجت أريد زوجى بالمدينة وما معى أحد من خلق الله ، قلت : أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجى.

حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبى طلحة (٣) ، أخا بنى عبد الدار ، فقال : إلى أين يا بنت أبى أمية؟ قلت : أريد زوجى بالمدينة. قال : أو ما معك أحد؟ قلت : لا والله ، إلا الله وبنى هذا! قال : والله مالك من مترك. فأخذ بخطام البعير يقودنى معه يهوى بى ، فو الله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه كان إذا بلغ

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٣٠٤٣) ، الإصابة الترجمة رقم (١٠٠٤٩) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٥٩٧٨) ، تهذيب الكمال (١٦١٠) ، تقريب التهذيب (٢ / ٤٣٠) ، تهذيب التهذيب (١٢ / ١١٥).

(٢) انظر الحديث فى : فتح البارى لابن حجر (٧ / ٢٦٨) ، تاريخ الطبرى (١ / ٥٦٥).

(٣) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٧٩٠) ، الإصابة الترجمة رقم (٥٤٥٦) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٣٥٨٠) ، الثقات (٣ / ٢٦٠) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٣٧٣) ، تقريب التهذيب (٢ / ١٠) ، تهذيب التهذيب (٧ / ١٢٤) ، تهذيب الكمال (٢ / ٩١٠) ، الجرح والتعديل (٦ / ١٠٥٥) ، سير أعلام النبلاء (٣ / ١٠).

٢٧٣

المنزل أناخ بى ثم استأخر عنى ، حتى إذا نزلت استأخر ببعيرى فحط عنه ثم قيده فى الشجر ، ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها ، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيرى فرحله ثم استأخر عنى فقال : اركبى ، فإذا ركبت واستويت على بعيرى أتى فأخذ بخطامه فقادنى حتى ينزل بى ، فلم يزل يصنع ذلك بى حتى أقدمنى المدينة ، فلما نظرنا إلى قرية بنى عمرو بن عوف وكان أبو سلمة بها ، قال : زوجك فى هذه القرية فادخليها على بركة الله. ثم انصرف راجعا إلى مكة ، فكانت أم سلمة تقول : ما أعلم أهل بيت فى الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبى سلمة ، وما رأيت صاحبا كان أكرم من عثمان بن طلحة (١).

قال ابن إسحاق (٢) : ثم كان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبى سلمة ، عامر بن ربيعة (٣) حليف بنى عدى بن كعب ، معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة بن غانم (٤) ، ثم عبد الله بن جحش بن رئاب من بنى غنم بن ذودان بن أسد بن خزيمة حليف بنى أمية ابن عبد شمس ، احتمل بأهله وبأخيه أبى أحمد [عبد] (٥) بن جحش (٦) ، وكان أبو أحمد رجلا ضرير يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد ، وكان شاعرا وكانت عنده الفرعة بنت أبى سفيان بن حرب ، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب.

فغلقت دار بنى جحش هجرة ، فمر بها عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل بن هشام فنظر إليها عتبة تخفق أبوابها يبابا ليس فيها ساكن ، فتنفس الصعداء ثم قال:

وكل دار وإن طالت سلامتها

يوما ستدركها النكباء والحوب

ولما خرج بنو جحش من دارهم عدا عليها أبو سفيان بن حرب فباعها من عمرو بن علقمة أخى بنى عامر بن لؤيّ ، فذكر ذلك عبد الله بن جحش ، لما بلغه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

__________________

(١) ذكر هذه القصة ابن حجر فى الإصابة (٨ / ٢٤٠) ، البخاري فى التاريخ الكبير (٤ / ٨٠).

(٢) انظر : السيرة (٢ / ٧٧ ـ ٧٩).

(٣) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٣٣٥) ، الإصابة الترجمة رقم (٤٣٣٩) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٦٩٣) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢٨٤).

(٤) انظر ترجمتها فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٣٥١٦) ، الإصابة الترجمة رقم (١١٧١٢) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٧٢٦١).

(٥) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل : «عبيد» ، والتصحيح من السيرة ، والاستيعاب.

(٦) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٣٨٨ ، ٢٨٦٠) ، الإصابة الترجمة رقم (٩٥٠٥) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٥٦٦٩).

٢٧٤

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا فى الجنة خيرا منها؟» قال : بلى. قال : «فذلك لك».

فلما افتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة كلمة أبو أحمد فى دارهم ، فأبطأ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال الناس لأبى أحمد : يا أبا أحمد ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكره أن ترجعوا فى شيء أصيب منكم فى الله. فأمسك عن كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكان بنو غنم بن ذودان أهل الإسلام قد أوعبوا إلى المدينة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هجرة رجالهم ونساءهم ، فقال أبو أحمد بن جحش يذكر هجرة بنى أسد بن خزيمة من قومه إلى الله تبارك وتعالى وإلى رسوله ، وإيعابهم فى ذلك حين دعوا إلى الهجرة :

ولو حلفت بين الصفا أم أحمد

ومروتها بالله برت يمينها

لنحن الأولى كنا بها ثم لم نزل

بمكة حتى عاد غثا سمينها

بها خيمت غنم بن ذودان وابتنت

وما أرعدت غنم وخف قطينها

إلى الله تعدو بين مثنى وواحد

ودين رسول الله بالحق دينها

وقال أبو أحمد أيضا :

ولما رأتنى أم أحمد غاديا

بذمة من أخشى بغيب وأرهب

تقول فإما كنت لا بد فاعلا

فيمم بنا البلدان ولتنأ يثرب

فقلت لها ما يثرب بمظنة

وما يشأ الرحمن فالعبد يركب

إلى الله وجهى والرسول ومن يقم

إلى الله يوما وجهه لا يخيب

فكم قد تركنا من حميم مناصح

وناصحة تبكى بدمع وتندب

يرى أن وترا نأينا عن بلادنا

ونحن نرى أن الرغائب نطلب (١)

دعوت بنى غنم لحقن دمائهم

وللحق لما لاح للناس ملحب

أجابوا بحمد الله لما دعاهم

إلى الحق داع والنجاح فأوعبوا

وكنا وأصحابا لنا فارقوا الهدى

أعانوا علينا بالسلاح وأجلبوا (٢)

كفوجين أما منهما فموفق

على الحق مهدى وفوج معذب

طغوا وتمنوا كذبة وأزلهم

عن الحق إبليس فخابوا وخيبوا

__________________

(١) الوتر : طلب الثأر ، يريد أنه يستحق أن يطالبوا مخرجهم به. النأى : البعد. الرغائب : جمع رغيبة ، وهى من العطاء الكثير.

(٢) أجلبوا : يروى بالجيم وبالحاء المهملة فمن رواه بالحاء المهملة فمعناه أعانوا ، ومن واه بالجيم فمعناه أحدثوا جلبه وهى الصياح.

٢٧٥

ورغنا إلى قول النبيّ محمد

فطاب ولاة الحق منا وطيبوا

نمت بأرحام إليهم قريبة

ولا قرب بالأرحام إذ لا تقرب

فأى ابن أخت بعدنا يأمننكم

وأية صهر بعد صهرى يرقب

ستعلم يوما أينا إذ تزايلوا

وزيل أمر الناس للحق أصوب

ثم خرج عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، وعياش بن أبى ربيعة المخزومى (١) ، حتى قدما المدينة.

قال عمر رضى الله عنه : لما أردنا الهجرة إلى المدينة اتعدت أنا وعياش بن أبى ربيعة ، وهشام بن العاص التناضب من أضاة بنى غفار (٢) فوق سرف ، وقلنا : أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه. فأصبحت أنا وعياش عندها وحبس عنا هشام وفتن فافتتن.

فلما قدمنا المدينة نزلنا بقباء ، وخرج أبو جهل والحارث أخوه إلى عياش ، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما حتى قدما علينا فقالا له : إن أمك نذرت أن لا تمس رأسها بمشط حق تراك ولا تستظل من شمس حتى تراك.

فرق لها ، فقلت له : يا عياش ، والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم ، فو الله لو قد آذى أمك لامتشطت! ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت. فقال : أبر قسم أمى ، ولى هناك مال فآخذه.

قلت : والله إنك لتعلم أنى لمن أكثر قريش مالا ، فلك نصف مالى ولا تذهب معهما.

فأبى على إلا أن يخرج معهما ، فلما أبى إلا ذلك قلت : أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتى هذه فإنها نجيبة ذلول ، فالزم ظهرها فإن رابك من القوم ريب فانج عليها.

فخرج عليها معهما ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل : والله يا أخى لقد استغلظت بعيرى هذا أفلا تعقبنى على ناقتك هذه؟ قال : بلى. قال : فأناخ وأناخا ليتحول عليها ، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه رباطا ثم دخلا به مكة ، وفتناه فافتتن!.

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٠٣٢) ، الإصابة الترجمة رقم (٦١٣٨) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٤١٤٥).

(٢) أضاة بنى غفار : الإضاءة الماء المستنقع من سيل ، ويقال : هو مسيل الماء إلى الغدير ، وغفار قبيلة من كنانة على عشرة أميال من مكة. انظر : معجم البلدان (١ / ٢١٤).

٢٧٦

وفى غير حديث عمر أنهما دخلا به مكة نهارا موثقا ثم قالا : يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا (١).

قال عمر رضى الله عنه ، فى حديثه : فكنا نقول : ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة ، عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم ، فلما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة أنزل الله تبارك وتعالى ، فيهم وفى قولنا وقولهم لأنفسهم : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [الزمر : ٥٣] (٢).

قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : فكتبتها بيدى فى صحيفة وبعثت بها إلى هشام ابن العاص ، قال : فقال هشام : لما أتتنى جعلت أقرؤها بذى طوى أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها ، حتى قلت : اللهم فهمنيها. فألقى الله فى قلبى أنها إنما نزلت فينا وفيما كنا نقول فى أنفسنا ويقال فينا. فرجعت إلى بعيرى فجلست عليه ، فلحقت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة. هذا ما ذكر ابن إسحاق فى شأن هشام.

وذكر ابن هشام عمن يثق به (٣) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال وهو بالمدينة : من لى بعياش ابن أبى ربيعة ، وهشام بن العاص؟ فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة : أنا لك يا رسول الله بهما. فخرج إلى مكة فقدمها مستخفيا ، فلقى امرأة تحمل طعاما ، فقال لها : أين تريدين يا أمة الله؟ فقالت : أريد هذين المسجونين تعنيهما ، فتبعها حتى عرف موضعيهما ، وكانا محبوسين فى بيت لا سقف له ، فلما أمسى تسور عليهما ثم أخذ مروة فوضعها تحت قيديهما ثم ضربهما بسيفه فقطعهما ، فكان يقال لسيفه ذو المروة لذلك.

ثم حملهما على بعيره وساق بهما فعثر فدميت إصبعه فقال :

هل أنت إلا إصبع دميت

وفى سبيل الله ما لقيت

__________________

(١) انظر : السيرة (٢ / ٨٢).

(٢) انظر الحديث فى : مستدرك الحاكم (٢ / ٤٣٥) ، السنن الكبرى للبيهقى (٩ / ١٤) ، دلائل النبوة (٢ / ١٤٦) ، تفسير الطبرى (٢٤ / ١١) ، طبقات ابن سعد (٣ / ٢٧١) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ٦١) ، كشف الأستار (٢ / ٣٧٠).

(٣) انظر : السيرة (٢ / ٨٣).

٢٧٧

ثم قدم بهما المدينة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

ثم تتابع المهاجرون أرسالا ، فنزل طلحة بن عبيد الله وصهيب بن سنان على خبيب ابن إساف. بالسبخ ، ويقال : بل نزل طلحة على أسعد بن زرارة.

قال ابن هشام (٢) : وذكر لى أن صهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش : أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغته ، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك! والله لا يكون ذلك.

فقال لهم صهيب : أرأيتم إن جعلت لكم مالى أتخلون سبيلى؟ قالوا : نعم. قال : فإنى قد جعلت لكم مالى. فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ربح صهيب ، ربح صهيب»(٣)!.

قال ابن إسحاق (٤) : وأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ، ينتظر أن يؤذن له فى الهجرة ، ولم يتخلف معه أحد بمكة من المهاجرين ، إلا من حبس أو فتن ، إلا على بن أبى طالب وأبو بكر الصديق ، وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الهجرة فيقول له : لا تعجل ، لعل الله يجعل لك صاحبا. فيطمع أبو بكر أن يكونه(٥).

ولما رأت قريش أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم ، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم ، عرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأصابوا منهم منعة ، فحذروا خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعرفوا أنه مجمع لحربهم ، فاجتمعوا له فى دار الندوة ، وهى دار قصى بن كلاب التي كانت قريش لا تقضى أمرا إلا فيها ، يتشاورون ما يصنعون فى أمره.

فاعترض لهم إبليس فى هيئة شيخ جليل عليه بت (٦) ، فوقف على باب الدار فى

__________________

(١) ذكره ابن حجر فى فتح البارى (١ / ٥٥٧) ، وقال : من زيادات ابن هشام فى السيرة.

(٢) انظر : السيرة (٢ / ٨٤).

(٣) انظر الحديث فى : الحلية لأبى نعيم (١ / ١٥١ ، ١٥٣) ، مستدرك الحاكم (٣ / ٣٩٨) ، طبقات ابن سعد (٣ / ٢٢٧ ، ٢٢٨) ، البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ١٧٣ ، ١٧٤) ، المطالب العالية لابن حجر (٣ / ٣٥٥٢).

(٤) انظر : السيرة (٢ ـ ٨٧).

(٥) انظر الحديث فى : مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ٦٢) ، وقال : رواه الطبرانى وفيه عبد الرحمن بن بشير الدمشقى ضعفه أبو حاتم.

(٦) بت : بفتح الباء وتشديد التاء ، الكساء الغليظ من صوف جيد أو خز يلبس كالعباءة ويدل على المكانة والشرف ، وجمعه بتوت.

٢٧٨

اليوم الذي اتعدوا له ، ويسمى يوم الزحمة ، فلما رأوه واقفا على بابها قالوا : من الشيخ؟ قال : شيخ من أهل نجد سمع بالذى اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا قالوا : أجل ، فادخل. فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش وغيرهم.

فقال بعضهم لبعض : إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم ، وإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن اتبعه من غيرنا ، فأجمعوا فيه رأيا ، فتشاوروا ثم قال قائل : احبسوه فى الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله ، زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم.

فقال الشيخ النجدى : لا والله ، ما هذا لكم برأى ، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه. فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم ، ما هذا لكم برأى فانظروا فى غيره.

فتشاوروا ثم قائل منهم : نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا ، فإذا خرج عنا فو الله ما نبالى أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت.

قال الشيخ النجدى : لا والله ، ما هذا لكم برأى ، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال لما يأتى به؟! والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حى من أحياء العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه ، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد ، أديروا فيه رأيا غير هذا ، فقال أبو جهل : والله إن لى فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا : وما هو يا أبا الحكم ، قال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا ، ثم نعطى كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه ، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه فى القبائل جميعا فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا ، فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم.

فقال الشيخ النجدى : القول ما قاله الرجل ، هو الرأى لا رأى غيره. فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له. فأتى جبريل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه ، فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه

٢٧٩

حتى ينام فيثبون عليه ، فلما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكانهم قال لعلى بن أبى طالب : نم على فراشى وتسج بردى هذا الحضرمى الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينام فى برده ذلك إذا نام (١).

فاجتمعوا له وفيهم أبو جهل ، فقال وهو على بابه : إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن ، وإن لم تفعلوا كان لكم فيه ذبح ، ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحرقون فيها! وخرج عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذ حفنة من تراب فى يده ثم قال : نعم ، أنا الذي أقول ذلك ، أنت أحدهم.

وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه ، وجعل ينثر ذلك التراب على رءوسهم وهو يتلو هؤلاء الآيات : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) إلى قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [يس : ٩].

حتى فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هؤلاء الآيات ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا ، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب ، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال : ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا : محمدا. قال : خيبكم الله! قد والله خرج عليكم محمد ، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا ، وانطلق لحاجته ، أفلا ترون ما بكم؟!

فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب ، ثم جعلوا يطلعون فيرون عليا على الفراش متسجيا برد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقولون : والله ، إن هذا لمحمد نائما عليه برده ، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا ، فقام على عن الفراش ، فقالوا : والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا (٢).

فكان مما أنزل الله من القرآن فى ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له قول الله سبحانه : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [الأنفال : ٣٠] (٣).

__________________

(١) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٢ / ٤٦٨) ، البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ١٧٦) ، طبقات ابن سعد (١ / ٢١٢).

(٢) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ١٧٧) ، فتح القدير للشوكانى (٤ / ٥١٠).

(٣) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (١ / ٣٤٨) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٧ / ٢٧) ، مستدرك الحاكم (٣ / ٤).

٢٨٠