الإكتفا - ج ١

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ١

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبدالقادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2943-0
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

فأجابه كعب بن مالك فقال :

قد علمت خيبر أنى كعب

مفرج الغمى جريء صلب

حيث تشب الحرب ثم الحرب

معى حسام كالعقيق عضب

نطؤكم حتى يذل الصعب

نعطى الجزاء أو يفاء النهب

بكف ماض ليس فيه عتب

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لهذا؟» قال محمد بن مسلمة : أنا له يا رسول الله ، أنا والله الموتور الثائر ، قتل أخى بالأمس. قال : «فقم إليه ، اللهم أعنه عليه» (١). فلما دنا أحدهما من صاحبه دخلت بينهما شجرة عمرية من شجر العشر فجعل أحدهما يلوذ بها من صحابه ، كلما لاذ بها منه اقتطع صاحبه بسيفه ما دونه منها ، حتى برز كل واحد منهما لصاحبه وصارت بينهما كالرجل القائم ما فيها فنن ، ثم حمل مرحب على محمد بن مسلمة فاتقاه بدرقته فوقع سيفه فيها فعضت به فأمسكته ، وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله.

ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر وهو يقول : من يبارز؟ فخرج إليه الزبير بن العوام ، فيما ذكر هشام بن عروة ـ فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب : يقتل ابنى يا رسول الله ، قال : بل ابنك يقتله إن شاء الله. فخرج الزبير فالتقيا فقتله الزبير.

وحدث سلمة بن عمرو بن الأكوع قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم خيبر : «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ، ليس بفرار (٢)» فدعا على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ وهو أرمد فتفل فى عينيه ثم قال : «خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك» (٣). فخرج وهو يهرول بها هرولة وإنا لخلفه نتبع أثره ، حتى ركز رايته فى رضم من حجارة تحت الحصن ، فاطلع إليه يهودى من رأس الحصن فقال : من أنت؟ قال : أنا على بن أبى طالب. قال : اليهودى : علوتم وما أنزل على موسى ـ أو كما قال ـ فما رجع حتى فتح الله على يديه.

وقال أبو رافع ، مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خرجنا مع على ـ رضى الله عنه ـ حين بعثه

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٣ / ٣٨٥) ، السنن الكبرى للبيهقى (٩ / ١٣١) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ١٥٠) ، دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ٢١٥) ، كنز (٣٠١٢٢).

(٢) انظر الحديث فى : السنة لابن أبى عاصم (٢ / ٦٠٨) ، الأسماء والصفات للبيهقى (٤٩٨).

(٣) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ٢١٠).

٤٨١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برايته ، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يده ، فتناول علىّ بابا كان عند الحصن فترس به عن نفسه ، فلم يزل فى يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ثم ألقاه من يده حين فرغ ، فلقد رأيتنى فى نفر معى سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه.

وحدث أبو اليسر كعب بن عمرو قال : إنا لمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخيبر ذات عشية إذ أقبلت غنم لرجل من يهود تريد حصنهم ونحن محاصروهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رجل يطعمنا من هذه الغنم؟» (١) فقال أبو اليسر : أنا يا رسول الله ، قال : «فافعل». قال : فخرجت أشتد مثل الظليم ، فلما رآنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موليا قال : «اللهم أمتعنا به!» (٢) قال : فأدركت الغنم وقد دخلت أولاها الحصن فأخذت شاتين من أخراها فاحتضنتهما تحت يدى ثم أقبلت بهما أشتد كأنه ليس معى شيء حتى ألقيتهما عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذبحوهما فأكلوهما. فكان أبو اليسر من آخر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موتا ، فكان إذا حدث هذا الحديث بكى ثم قال : أمتعوا بى لعمرى حتى كنت من آخرهم!

وحاصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل خيبر فى حصنيهم «الوطيح» و «السلالم» حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم ففعل. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حاز الأموال كلها : الشق ونطاة والكتيبة ؛ وجميع حصونهم إلا ما كان من ذينك الحصنين ، فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم ويخلوا له الأموال ففعل.

فلما نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعاملهم فى الأموال على النصف ، وقالوا : نحن أعلم بها منكم وأعمر لها ، فصالحهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم ، فصالحه أهل فدك على مثل ذلك ، فكانت خيبر فيئا بين المسلمين.

وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب.

فلما اطمأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية. وقد سألت أى عضو من الشاة أحب إليه؟ فقيل لها : الذراع فأكثرت فيها من السم. ثم سمت سائر الشاة ، ثم جاءت بها فلما وضعتها بين يديه تناول الذراع فلاك

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٣ / ٤٢٧) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ١٤٩).

(٢) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٣ / ٤٢٧) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٩٥).

٤٨٢

منها مضغة فلم يسغها ومعه بشر بن البراء بن معرور قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأما بشر فأساغها وأما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلفظها ثم قال : «إن هذا العظم ليخبرنى أنه مسموم» (١). ثم دعا بها فاعترفت. فقال : «ما حملك على ذلك؟» (٢) قالت : بلغت من قومى ما لم يخف عليك فقلت : إن كان ملكا استرحت منه ؛ وإن نبيا فسيخبر. فتجاوز عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومات بشر بن البراء من أكلته التي أكل.

وذكر ابن عقبة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تناول الكتف من تلك الشاة فانتهش منها وتناول بشر عظما فانتهش منه ؛ فلما استرط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقمته استرط بشر ما فى فيه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ارفعوا أيديكم فإن كتف هذه الشاة يخبرنى أنى بغيت فيها». فقال بشر بن البراء : والذي أكرمك لقد وجدت ذلك فى أكلتى التي أكلت فما منعنى أن ألفظها إلا أنى اعظمت أن أنغصك طعامك ، فلما أسغت ما فى فيك لم أكن أرغب بنفسى عن نفسك ، ورجوت أن لا تكون استرطتها وفيها بغى.

فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه مثل الطيلسان وماطله وجعه حتى كان لا يتحول إلا ما حول.

قال جابر بن عبد الله : واحتجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يومئذ ـ على الكاهل ، حجمه أبو طيبة مولى بنى بياضة. وبقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعده ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي توفى منه ، فدخلت عليه أم بشر ، بنت البراء بن معرور تعوده فيما ذكر ابن إسحاق فقال لها : «يا أما بشر : إن هذه لأوان وجدت انقطاع أبهرى من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر»(٣).

__________________

(١) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٢١١).

(٢) انظر الحديث فى : سنن ابن ماجه (٢٠٦٥) ، السنن الكبرى للبيهقى (٧ / ٣٨٦ ، ٩ / ١٤٧) ، مستدرك الحاكم (١ / ٤٨٣ ، ٣ / ٣٠١) ، المعجم الكبير للطبرانى (١ / ٢٢٧ ، ١١ / ٢٣٦) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٨ / ٢٩٥ ، ٢٩٦ ، ٩ / ٣٠٣ ، ٣٠٤) ، مصنف عبد الرزاق (١٥٢٥ ، ١٥٢٦) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (٨ / ١٠٩) ، الدر المنثور للسيوطى (٣ / ٣٥٣ ، ٦ / ١٨٣) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (٣٣٠٢) ، فتح البارى لابن حجر (١٧ / ٤٩٧) ، إرواء الغليل للألبانى (٧ / ١٧٩) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (٥ / ١٠٠) ، العلل المتناعية لابن الجوزى (١ / ٢٢٩).

(٣) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٢١١).

٤٨٣

قال : فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مات شهيدا مع ما أكرمه الله من النبوة.

ولما فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خيبر انصرف إلى وادى القرى فحاصر أهله ليالى ثم انصرف راجعا إلى المدينة.

قال أبو هريرة : لما انصرفنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن خيبر إلى وادى القرى نزلناها أصلا مع مغرب الشمس ، ومع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غلام أهداه له رفاعة بن زيد الجذاميّ ثم الضبيبى ، فو الله إنه ليضع رحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أتاه سهم غرب فأصابه فقتله ، فقلنا : هنيئا له الجنة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلا والذي نفس محمد بيده ، إن شملته ـ الآن ـ لتحرق عليه فى النار ، كان غلها من فيء المسلمين يوم خيبر» (١). فسمعها رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتاه فقال له : يا رسول الله ، أصبت شراكين لنعلين لى. فقال : «يقد لك مثلهما من النار» (٢).

وخرج مسلم فى صحيحه من حديث عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ قال : لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : فلان شهيد وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا : فلان شهيد. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلا ، إنى رأيته فى النار فى بردة غلها أو عباءة». ثم قال : «يا بن الخطاب ، أذهب فناد فى الناس : إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون» (٣). قال : فخرجت فناديت : ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.

وشهد خيبر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساء من نساء المسلمات ، فرضخ لهن عليه‌السلام من الفيء ، ولم يضرب لهن بسهم. حدثت بنت [أبى] الصلت عن امرأة غفارية سمتها قالت : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى نسوة من بنى غفار وهو يسير إلى خيبر : فقلن يا رسول الله ، قد أردنا الخروج معك إلى وجهك هذا فنداوى الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا. فقال : «على بركة الله» (٤). قالت : فخرجنا معه ، فلما افتتح خيبر رضح لنا من

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٨ / ١٧٩) ، صحيح مسلم فى كتاب الإيمان باب (٤٨) ، رقم (١٨٣) ، السنن الكبرى للبيهقى (٩ / ١٠٠) ، مستدرك الحاكم (٣ / ٤٠) ، التمهيد لابن عبد البر (٢ / ٣).

(٢) انظر الحديث فى : مستدرك الحاكم (٣ / ٤٠).

(٣) انظر الحديث فى : صحيح مسلم ، الجامع الصحيح (١ / ٧٥) ، كتاب الإيمان ، باب غلظ تحريم الغلول.

(٤) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٦ / ٣٨٠) ، السنن الكبرى للبيهقى (٢ / ٤٠٧) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (٨ / ٢١٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٢٠٤).

٤٨٤

الفيء وأخذ هذه القلادة التي تزين فى عنقى فأعطانيها وعلقها بيده فى عنقى ، فو الله لا تفارقنى أبدا. قالت : فكانت فى عنقها حتى ماتت ثم أوصت أن تدفن معها.

واستشهد بخيبر من المسلمين نحو من عشرين رجلا منهم عامر بن الأكوع عم سلمه ابن عمرو بن الأكوع ؛ وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قال له فى مسيره إلى خيبر : «انزل يا ابن الأكوع فخذ لنا من هناتك» (١) فنزل يرتجز برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال :

والله لو لا الله ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا

إنا إذا قوم بغوا علينا

وإن أرادوا فتنة أبينا

فأنزلن سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يرحمك الله» (٢). فقال عمر بن الخطاب : وجبت والله يا رسول الله لو أمتعتنا به! فقتل يوم خيبر شهيدا ، وكان قتله أن سيفه رجع عليه وهو يقاتل فكلمه كلما شديدا فمات منه ، فكان المسلمون قد شكوا فيه وقالوا : إنما قتله سلاحه ، حتى سأل ابن أخيه سلمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك وأخبره بقول الناس ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه لشهيد» (٣) ، وصلى عليه. فصلى عليه المسلمون.

ومنهم الأسود الراعى من أهل خيبر ، وكان من حديثه أنه أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو محاصر لبعض حصون خيبر ومعه غنم كان فيها أجيرا لرجل من يهود ، فقال : يا رسول الله ، أعرض علىّ الإسلام فعرضه عليه فأسلم. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحقر أحدا أن يدعوه إلى الإسلام ويعرضه عليه ، فلما أسلم قال : يا رسول الله ، إنى كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم وهى أمانة عندى فكيف أصنع بها؟ قال : «اضرب فى وجوهها فإنها سترجع إلى ربها» ـ أو كما قال ـ فقام الأسود فأخذ حفنة من الحصباء فرمى بها فى وجهها وقال : ارجعى إلى صاحبك فو الله لا أصحبك. وخرجت مجتمعة كأن سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن ، ثم تقدم الأسود إلى ذلك الحصن ليقتل مع المسلمين فأصابه حجر فقتله ، وما صلى لله صلاة قط ، فأتى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوضع خلفه وسجى بشملة كانت عليه فالتفت إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه نفر من أصحابه ثم أعرض

__________________

(١) انظر الحديث فى : السنن الكبرى للبيهقى (٤ / ١٦) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ١٤٨) ، التاريخ الكبير للبخارى (٨ / ١٠٠) ، فتح البارى لابن حجر (٧ / ٤٦٥) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (٤ / ٢ / ٣٧) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٨٢).

(٢) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٨٣).

(٣) انظر الحديث فى : السنن الكبرى للبيهقى (٤ / ١٦).

٤٨٥

عنه فقالوا : يا رسول الله ، لم أعرضت عنه؟ قال : «إن معه ـ الآن ـ زوجتيه من الحور العين!».

وذكر ابن إسحاق (١) عن عبيد بن أبى نجيح أن الشهيد إذا ما أصيب نزلت زوجتاه من الحور العين عليه ينفضان التراب عن وجهه ويقولان : ترب الله وجه من تربك وقتل من قتلك.

قال : ولما افتتحت خيبر كلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحجاج بن علاط السلمى ثم البهزى فقال : يا رسول الله ، إن لى بمكة مالا عند صاحبتى أم شيبة بنت أبى طلحة ومالا متفرقا فى تجار أهل مكة ، فأذن لى يا رسول الله فأذن له ؛ قال : إنه لا بد لى يا رسول الله من أن أقول. قال : قل.

قال الحجاج : فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثنية البيضاء رجالا من قريش يتسمعون الأخبار ويسألون عن أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد بلغهم أنه سار إلى خيبر وعرفوا أنها قرية الحجاز ريفا ومنعة وجالا ، فهم يتحسسون الأخبار ويسألون الركبان ، فلما رأونى ولم يكونوا علموا بإسلامى قالوا : الحجاج بن علاط؟ عنده والله الخبر ، أخبرنا يا أبا محمد فإنه بلغنا أن القاطع سار إلى خيبر وهى بلد يهود وريف الحجاز. قلت : قد بلغنى ذلك وعندى من الخبر ما يسركم. قال : فالتبطوا بجنبى ناقتى يقولون : إيه يا حجاج؟ قلت : هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط وقتل أصحابه قتلا لم تسمعوا بمثله قط وأسر محمد أسرا ، وقالوا : لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة فيقتلونه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم. قال : فقاموا وصاحوا بمكة وقالوا : قد جاءكم الخبر وهذا محمد إنما تنظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم.

قال : فقلت أعينونى على جمع مالى بمكة على غرمائى فإنى أريد أن أقدم خيبر فأصيب به من أهل محمد وأصحابه قبل أن يسبقنى التجار إلى ما هنالك. فقاموا فجمعوا إلى مالى كأحث جمع سمعت به وجئت صاحبتى فقلت : مالى ـ وقد كان لى عندها مال موضوع ـ لعلى ألحق بخيبر فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقنى التجار.

قال : فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر وجاءه عنى أقبل حتى وقف إلى جنبى وأنا فى خيمة من خيام التجار فقال : يا حجاج ، ما هذا الذي جئت به؟ قلت : وهل عندك حفظ لما وضعت عندك؟ قال : نعم. قلت : فاستأخر عنى حتى ألقاك على خلاء

__________________

(١) انظر السيرة (٣ / ٣٢٠).

٤٨٦

فإنى فى جمع مالى كما ترى فانصرف عنى حتى أفرغ قال : حتى إذا فرغت من جمع كل شيء كان لى بمكة وأجمعت الخروج لقيت العباس فقلت : احفظ على حديثى يا أبا الفضل ـ فإنى أخشى الطلب ـ ثلاثا ثم قل ما شئت. قال : أفعل. قلت : فإنى والله لقد تركت ابن أخيك عروسا على بنت ملكهم ـ يعنى صفية بنت حيى ـ ولقد افتتح خيبر وانتثل ما فيها وصارت له ولأصحابه. قال : ما تقول يا حجاج؟ قلت : إى والله فاكتم عنى ، ولقد أسلمت وما جئت إلا لآخذ مالى فرقا من أن أغلب عليه ، فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك فهو والله على ما تحب.

قال : حتى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له وأخذ عصاه ثم خرج حتى أتى الكعبة فطاف بها ، فلما رأوه قالوا : يا أبا الفضل هذا والله التجلد لحر المصيبة! قال : كلا والله الذي حلفتم به ، لقد افتتح محمد خيبر وترك عروسا على ابنة ملكهم وأحرز أموالهم وما فيها فأصبحت له ولأصحابه. قالوا : من جاءك بهذا الخبر ، قال : الذي جاءكم بما جاءكم به ، ولقد دخل عليكم مسلما وأخذ ماله فانطلق ليلحق بمحمد وأصحابه فيكون معه. قالوا : يا عباد الله! انفلت عدو الله ، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن. ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر بذلك.

وقال كعب بن مالك الأنصاري فى يوم خيبر :

ونحن وردنا خيبرا وفروضه

بكل فتى عارى الأشاجع مذود

جواد لدى الغايات لا واهن القوى

جريء على الأعداء فى كل مشهد

عظيم رماد القدر فى كل شتوة

ضروب بنصل المشرفى المهند

يرى القتل مدحا إن أصاب شهادة

من الله يرجوها وفوزا بأحمد

يذود ويحمى عن ذمار محمد

ويدمع عنه بالسان وباليد

وينصره من كل أمر يريبه

يجود بنفس دون نفس محمد

وذكر ابن عقبة أن بنى فزارة قدموا على أهل خيبر فى أول أمرهم ليعينوهم ، فراسلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يعينوهم وأن يخرجوا عنهم على أن يعطيهم من خيبر شيئا سماه لهم ، فأبوا عليه وقالوا : جيراننا وحلفاؤنا. فلما فتح الله خيبر أتاه من كان هناك من بنى فزارة فقالوا : الذي وعدتنا؟ فقال : «لكم ذو الرقيبة» ـ لجبل من جبال خيبر ـ قالوا : إذن نقاتلك ؛ قال : «موعدكم جنفاء» فلما سمعوا ذلك من رسول الله خرجوا هاربين.

٤٨٧

قال ابن إسحاق (١) : وكانت المقاسم على أموال خيبر على الشق ونطاة والكتيبة ، وكانت الشق ونطاة فى سهمان المسلمين ، وكانت الكتيبة خمس الله وسهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسهم ذوى القربى والمساكين وطعم أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطعم رجال مشوا بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أهل فدك بالصلح.

وقسمت خيبر على أهل الحديبية من شهد خيبر ، ومن غاب عنها ، ولم يغب عنها إلا جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام ، فقسم له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كسهم من حضرها. وفى هذه الغزوة بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سهمان الخيل والرجال ، فجعل للفرس سهمين ولفارسه سهما وللراجل سهما ، فجرت المقاسم على ذلك فيما بعد ، ويومئذ عرب العربى من الخيل وهجن الهجين.

وذكر ابن عقبة أنه قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخيبر نفر من الأشعريين فيهم أبو عامر الأشعرى ، قدموا المدينة مع مهاجرة الحبشة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخيبر ، فمضوا إليه وفيهم أبان بن سعيد بن العاص والطفيل ـ يعنى ابن عمرو الدوسى ذا النور ـ وأبو هريرة ونفر من دوس ، فرأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورأيه الحق أن لا يخيب مسيرهم ولا يبطل سفرهم فشركهم فى مقاسم خيبر وسأل أصحابه ذلك فطابوا به نفسا.

ولم يذكر ابن عقبة جعفر بن أبى طالب فى هؤلاء القادمين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخيبر من أرض الحبشة وهو أولهم وأفضلهم ، وما مثل جعفر يتخطى ذكره ، ومن البعيد أن يغيب ذلك عن ابن عقبة ، فالله أعلم بعذره.

وقد ذكر ابن إسحاق : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بعث مرو بن أمية الضمرى إلى النجاشى فيمن كان أقام بأرض الحبشة من أصحابه فحملهم فى سفينتين فقدم بهم عليه وهو بخيبر بعد الحديبية. فذكر جعفرا أولهم وذكر معه ستة عشر رجلا قدموا فى السفينتين صحبته. وذكر ابن هشام عن الشعبى أن جعفرا قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح خيبر فقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بين عينيه والتزمه وقال : «ما أدرى بأيتهما أنا أسر ، أبفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟» (٢).

ولما جرت المقاسم فى أموال خيبر اتسع فيها المسلمون ووجدوا بها مرفقا لم يكونوا

__________________

(١) انظر السيرة (٣ / ٣٢٤).

(٢) انظر الحديث فى : مصنف ابن أبى شيبة (١٢ / ١٠٦ ، ١٤ / ٣٤٩) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (٢ / ١ / ٧٨) ، المعجم الكبير للطبرانى (٢ / ١٠٧) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٢٠٦).

٤٨٨

وجدوه قبل ، حتى لقال عبد الله بن عمر ـ رضى الله عنهما ـ فيما خرج له البخاري فى صحيحه : ما شبعنا حتى فتحنا خيبر.

وأقر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهود خيبر فى أموالهم يعملون فيها للمسلمين على النصف مما يخرج منها كما تقدم.

قال ابن إسحاق : فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبعث إلى أهل خيبر عبد الله بن رواحة خارصا بين المسلمين وبين يهود فيخرص عليهم ، فإذا قالوا : تعديت علينا. قال : إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا. فتقول يهود : بهذا قامت السموات والأرض!

قال : وإنما خرص عليهم عبد الله عاما واحدا ثم أصيب بمؤتة ـ يرحمه‌الله ـ فكان جبار بن صخر أخو بنى سلمة هو الذي يخرص عليهم بعده.

فأقامت يهود على ذلك لا يرى بهم المسلمون بأسا فى معاملتهم حتى عدوا فى عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عبد الله بن سهل أخى بنى حارثة فقتلوه ، فاتّهمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون عليه وكتب إليهم أن يدوه أو يأذنوا بحرب. فكتبوا يحلفون بالله ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلا ، فوداه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عنده وأقرهم على ما سبق من معاملته إياهم.

فلما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرهم أبو بكر الصديق على مثل ذلك حتى توفى ، ثم أقرهم عمر صدرا من إمارته ، ثم بلغ عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فى وجعه الذي قبضه الله فيه : «لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان». ففحص عمر عن ذلك حتى بلغه الثبت ، فأرسل إلى يهود فقال : إن الله قد أذن فى جلائكم ، قد بلغنى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان» (١) فمن كان عنده عهد من رسول الله فليأتنى به أنفذه له ، ومن لم يكن عنده عهد من رسول الله فليتجهز للجلاء. فأجلى عمر منهم من لم يكن عنده عهد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال عبد الله بن عمر : خرجت أنا والزبير والمقداد بن الأسود إلى أموالنا بخيبر نتعاهدها ، فلما قدمنا تفرقنا فى أموالنا فعدى على تحت الليل فقرعت يداى من مرفقى ، فلما أصبحت استصرخ على صاحباى فأتيانى فأصالحا من يدى ؛ ثم قاما بى على عمر فقال : هذا عمل يهود ، ثم قام فى الناس خطيبا فقال : أيها الناس ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عامل يهود خيبر على أنا نخرجهم إذا شئنا ، وقد عدوا على عبد الله بن عمر

__________________

(١) انظر الحديث فى : مجمع الزوائد للهيثمى (٤ / ١٢١).

٤٨٩

ففدعوا يديه كما بلغكم مع عدوتهم على الأنصاري قبله لا نشك أنهم أصحابه ليس لنا هناك عدو غيرهم ، فمن كان له مال بخيبر فليلحق به فإنى مخرج يهود. فأخرجهم.

ولما أخرج عمر ـ رضى الله عنه ـ يهود خيبر ركب فى المهاجرين والأنصار وخرج معه بجبار بن صخر ـ وكان خارص أهل المدينة وحاسبهم ـ ويزيد بن ثابت ، فهما قسما خيبر على أصحاب السهمان التي كانت عليها ، وذلك أن الشق والنطاة اللتين هما سهم المسلمين قسمت فى الأصل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ثمانية عشر سهما : نطاة من ذلك خمسة أسهم والشق ثلاثة عشر سهما ، ثم قسم كل قسم من هذه الثمانية عشر سهما إلى مائة سهم ، لكل رجل سهم ولكل فرس سهمان ؛ وكانت عدة الذين قسمت عليهم ألف رجل وأربعمائة رجل ومائتى فرس ، فذلك ألف سهم وثمانمائة سهم.

عمرة القضاء (١)

وهى غزوة الأمن

قال ابن إسحاق (٢) : ولما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خيبر إلى المدينة أقام بها شهرى ربيع وما بعده إلى شوال ، يبعث فيما بين ذلك سراياه.

ثم خرج فى ذى القعدة فى الشهر الذي صده فيه المشركون معتمرا عمرة القضاء مكان عمرته التي صدوه عنها ، وخرج معه المسلمون ممن كان صد معه فى عمرته تلك ، وهى سنة سبع ، فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه.

قال ابن عقبة : وتغيب رجال من أشرافهم خرجوا إلى بوادى مكة كراهية أن ينظروا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غيظا وحنقا ونفاسة وحسدا.

وتحدثت قريش بينها فيما ذكر ابن إسحاق : أن محمدا وأصحابه فى عسرة وجهد وشدة فصفوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه.

فلما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسجد اضطبع بردائه وأخرج عضده اليمنى ثم قال :

__________________

(١) انظر : المغازى للواقدى (٢ / ٧٣١) ، طبقات ابن سعد (٢ / ١ / ٨٧) ، البداية والنهاية (٤ / ٢٢٦).

(٢) انظر السيرة (٤ / ٥).

٤٩٠

«رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة» (١) ثم استلم الركن وخرج يهرول ويهرول أصحابه معه ، حتى إذا واراه البيت منهم واستلم الركن اليمانى مشى حتى يستلم الركن الأسود ، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف ومشى سائرها فكان ابن عباس يقول : كان الناس يظنون أنها ليست عليهم وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما صنعها لهذا الحى من قريش الذي بلغه عنهم حتى حج حجة الوداع فلزمها فمضت السنة بها.

ولما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة فى تلك العمرة وعبد الله بن رواحة يرتجز بين يديه :

خلوا بنى الكفار عن سبيله

خلوا فكل الخير فى رسوله

يا رب إنى مؤمن بقيله

أعرف حق الله فى قبوله

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بعث بين يديه جعفر بن أبى طالب إلى ميمونة بنت الحارث ابن حزن الهلالية ، فخطبها عليه فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب ، وكانت تحته أختها أم الفضل بنت الحارث ، وقيل : جعلت أمرها إلى أم الفضل ، فجعلت أم الفضل أمرها إلى العباس فزوجها العباس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصدقها عنه أربعمائة درهم.

وقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نسكه ، وأقام بمكة ثلاث ليال ، وكان ذلك أجل القضية يوم الحديبية. فلما أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو وحويطب عبد العزى. [فى نفر من قريش] ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى مجلس الأنصار يتحدث مع سعد بن بن عبادة فصاح حويطب : نناشدك الله والعقد إلا خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث. فقال سعد : كذبت لا أم لك إنها ليست بأرضك ولا أرض أبيك والله لا يخرج إلا راضيا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضحك : «يا سعد ، لا تؤذ قوما زارونا فى رحالنا». ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما عليكم لو تركتمونى فأعرست بين أظهركم وصنعنا لكم طعاما فحضرتموه؟» (٢) قالوا : لا حاجة لنا بطعامك فاخرج عنا.

فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا رافع مولاه فأذن بالرحيل ، وخلف أبا رافع على ميمونة حتى أتاه بها بسرف وقد لقيت ومن معها عناء وأذى من سفهاء المشركين وصبيانهم ، فبنى بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسرف ثم أدلج فسار حتى قدم المدينة. ثم كان من قضاء الله سبحانه أن ماتت ميمونة بسرف بعد ذلك بحين ، فتوفيت حيث بنى بها.

قال موسى بن عقبة : وذكر أن الله ـ تعالى ـ أنزل فى تلك العمرة : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) [البقرة : ١٩٤].

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح مسلم (٢ / ٢٤٠ ، ٩٢٣) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٣٠٥ ، ٣٠٦).

(٢) انظر الحديث فى : الحاكم فى المستدرك (٤ / ٣١).

٤٩١

وذكر ابن هشام أنها يقال لها : «عمرة القصاص» لأنهم صدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن العمرة فى ذى القعدة فى الشهر الحرام من سنة ست فاقتص منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودخل مكة فى ذى القعدة فى الشهر الحرام الذي صدوة فيه من سنة سبع.

غزوة مؤتة من أرض الشام (١)

ولما صدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عمرة القضاء إلى المدينة أقام بها نحوا من ستة أشهر ، ثم بعث إلى الشام فى جمادة الأولى من سنة ثمان بعثة الذين أصيبوا بمؤنة ، واستعمل عليهم زيد بن حارثة ، وقال : «إن أصيب زيد فجعفر بن أبى طالب على الناس ، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة».

فتجهز الناس ثم تهيئوا للخروج ، وهم ثلاثة آلاف ، فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلموا عليهم ، فلما ودع عبد الله بن رواحة بكى فقالوا : ما يبكيك يا بن رواحة؟ فقال : والله ما بى حب الدنيا ولا صبابة بكم ، ولكني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ آية من كتاب الله ويذكر فيها النار : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) [مريم : ٧١] فلست أدرى كيف لى بالصدر بعد الورود! فقال المسلمون : صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين. فقال عبد الله بن رواحة :

لكنى أسأل الرحمن مغفرة

وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا

أو طعنة بيدى حران مجهزة

بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا

جتى يقال إذا مروا على جدثى

ما أرشد الله من غاز وقد رشدا

ثم إن القوم تهيئوا للخروج فأتى عبد الله بن رواحة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فودعه ثم قال :

أنت الرسول فمن يحرم نوافله

والوجه منه فقد أزرى به القدر

فثبت الله ما آتاك من حسن

فى المرسلين ونصرا كالذى نصروا

إنى تفرست فيك الخير نافلة

فراسة خالفت فيك الذي نظروا

يعنى المشركين.

ثم خرج القوم ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشيعهم ، جتى إذا ودعهم وانصرف عنهم

__________________

(١) راجع هذه الغزوة فى : المنتظم لابن الجوزى (٣ / ٣١٨) ، المغازى للواقدى (٢ / ٧٥٥) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (١ / ٢ / ٩٢) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٢٤١).

٤٩٢

قال عبد الله بن رواحة :

خلف السلام على امرئ ودعته

فى النخل خير مشيع وخليل

وحدث زيد بن أرقم قال : كنت يتيما لعبد الله بن رواحة فى حجرة ، فخرج بى فى سفره ذلك مردفى على حقيبة رحلة ، فواله إنه ليسير ليلة إذ سمعته ينشد أبياته هذه :

إذ أدنيتنى وحملت رحلى

مسيرة أربع بعد الحساء

فشأنك فانعمى وخلاك ذم

ولا أرجع إلى أهلى ورائى

وجاء المسلمون وغادرونى

بأرض الشام مشتهى الثواء

وردك كل ذى رحم قريب

إلى الرحمن منقطع الرجاء

هنالك لا أبالى طلع بعل

ولا نخل أسافلها وراء

فلما سمعتهن بكيت فخفقنى بالدرة وقال : وما عليك يا لكع أن يرزقنى الله الشهادة وترجع بين شعبتى الرحل؟!

ثم مضى القوم حتى نزلوا معان من أرض الشام فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء فى مائة ألف من الروم وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وبلى مائة ألف منهم.

فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون فى أمرهم وقالوا : نكتب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضى له. فشجع الناس عبد الله بن رواحة فقال : يا قوم ، والله إن الذي تكرهون للذى خرجتم تطلبون ، الشهادة ، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا ، فإنما هى إحدى الحسنيين ، إما ظهور وإما شهادة ، فقال الناس : صدق والله ابن رواحة. فمضى الناس وقال عبد الله فى مجلسهم ذلك :

جلبنا الخيل من أجأ وفرع

تعر من الحشيش لها العكوم

حذوناها من الصوان سبتا

أزل كأن صفحته أديم (١)

أقامت ليلتين على معان

فأعقب بعد فترتها جموم

فرحنا والجياد مسومات

تنفس فى مناخرها السموم

__________________

(١) حذوناها : أى جعلنا لها حذاء ، وهو النعل. والصوان : حجارة ملس. والسبت : النعال المصنوعة من الجلد المدبوغ.

٤٩٣

فلا وأبى مآب لنأتينها

وإن كانت بها عرب وروم

فعبأنا أعنتها فجاءت

عوابس والغبار لها بريم

بذى لجب كأن البيض فيه

إذا برزت قوانسها النجوم

فراضية المعيشة طلقتها

أسنتها فتنكح أو تئيم

ثم مضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها : مشارف. ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها : مؤتة ، فالتقى الناس عندها. فتعبى لهم المسلمون فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بنى عذرة يقال له : قطبة بن قتادة وعلى ميسرتهم رجلا من الأنصار يقال له : عباية بن مالك ، ويقال : عبادة. ثم التقى الناس فاقتلوا ، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى شاط فى رماح القوم ، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء. قال أحد بنى مرة بن عوف وكان فى تلك الغزوة : والله لكأنى أنظر إليه حين اقتحم عنها ثم عقرها ثم قاتل القوم حتى قتل وهو يقول :

يا حبذا الجنة واقترابها

طيبة وبارد شرابها

والروم روم قد دنا عذابها

على إذ لاقيتها ضرابها

وكان جعفر أول من عقر فى الإسلام فرسه.

ولما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم قال :

أقسمت يا نفس لتنزلنه

لتنزلن أو لتكرهنه

إن أجلب الناس وشدوا الرنه

ما لى أراك تكرهين الجنه

قد طال ما قد كنت مطمئنه

هل أنت إلا نطفة فى شنه

وقال أيضا :

يا نفس إلا تقتلى تموتى

هذا حمام الموت قد صليت

وما تمنيت فقد أعطيت

إن تفعلى فعلهما هديت

يعنى صاحبيه زيدا وجعفرا. ثم نزل فأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال : شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت فى أيامك هذه ما لقيت. فأخذه من يده فانتهس منه نهسة ثم سمع الحطمة فى ناحية الناس فقال : وأنت فى الدنيا! ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل.

٤٩٤

ثم أخذ الراية ثابت بن أرقم أخو بنى العجلان فقال : يا معشر المسلمين ، اصطلحوا على رجل منكم. قالوا : أنت. قال ما أنا بفاعل ، فاصطلح القوم على خالد بن الوليد. فلما أخذ الراية دافع القوم وخاشى بهم ثم انحاز وانحيز عنه ، حتى انصرف بالناس.

ولما أصيب القوم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا ، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيدا» ، ثم صمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار وظنوا أنه قد كان فى عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون ، ثم قال : «أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا». ثم قال : «لقد رفعوا إلى الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب ، فرأيت فى سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريرى صاحبيه فقلت : عم هذا؟ فقيل لى : مضيا وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى»(١).

وذكر ابن هشام أن جعفرا أخذ اللواء بيمينه فقطعت ، فأخذه بشماله فقطعت ، فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فأثابه الله بذلك جناحين يطير بهما حيث شاء.

ويقال : إن رجلا من الروم ضربه ـ يومئذ ـ فقطعه نصفين.

وذكر ابن عقبة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال بالمدينة لما أصيبوا ، قبل أن يأتيه نعيهم : «مر على جعفر بن أبى طالب فى الملائكة يطير كما يطيرون له جناحان». قال : وقدم يعلى ابن منبه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخبر أهل مؤتة فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن شئت فأخبرنى وإن شئت أخبرتك». قال : فأخبرنى يا رسول الله فأخبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبرهم كله ووصفه له. فقال : والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم تذكره ، وإن أمرهم لكما ذكرت. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله رفع لى الأرض حتى رأيت معتركهم».

وحدثت أسماء بنت عميس امرأة جعفر قالت : لما أصيب جعفر وأصحابه دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ايتينى ببنى جعفر». وقد كانت غسلتهم ودهنتهم ونظفتهم. قالت : فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه ، فقلت : يا رسول الله بأبى أنت ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال : «نعم ، أصيبوا هذا اليوم». قالت : فقمت أصيح واجتمع إلى النساء. وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهله فقال : «لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما ، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم» (٢).

__________________

(١) انظر الحديث فى : مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ١٦٠).

(٢) انظر الحديث فى : سنن ابن ماجه (١ / ١٦١٠) ، سنن الترمذى (٣ / ٩٩٨) ، السنن الكبرى للبيهقى (٤ / ٦١).

٤٩٥

وقالت عائشة رضى الله عنها : لما أتى نعى جعفر عرفنا فى وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحزن.

ولما انصرف خالد قافلا بالناس ودنوا من المدينة تلقاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون ، ولقيهم الصبيان يشتدون ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقبل مع القوم على دابة ، فقال : خذوا الصبيان فاحملوهم وأعطونى ابن جعفر. فأتى بعبد الله بن جعفر فأخذه فحمله بين يديه وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون : يا فرار ، فررتم فى سبيل الله! فيقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله» (١).

وقالت أم سلمة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لامرأة سلمة بن هشام بن العامر بن المغيرة : ما لي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قالت : والله ما يستطع أن يخرج ، كلما خرج صاح به الناس : يا فرار ، فررتم فى سبيل الله! حتى قعد فى بيته فما يخرج.

وقد قال فيما كان من أمر الناس وأمر خالد ومخاشاته بالناس وانصرافه بهم ـ قيس ابن المسحر اليعمرى يعتذر مما صنع يومئذ وصنع الناس :

ووالله لا تنفك نفسى تلومنى

على موقفى والخيل قابعة قبل

وقفت بها لا مستجيزا فنافذا

ولا مانعا من كان حم له القتل (٢)

على أننى آسيت نفسى بخالد

ألا خالد فى القوم ليس له مثل

وجاشت إلى النفس من نحو جعفر

بمؤتة إذ لا ينفع النابل النبل

وضم إلينا حجزتيهم كليهما

مهاجرة لا مشركون ولا عزل

فبين قيس فى شعره ما اختلف الناس فيه من ذلك : أن القوم حاجزوا وكرهوا الموت وحقق انحياز خالد بمن معه.

وكان مما بكى به أصحاب مؤتة قول حسان بن ثابت :

تأوبنى ليل بيثرب أعسر

وهم إذا ما هوم الناس مسهر (٣)

لذكرى حبيب هيجت لى عبرة

سفوحا وأسباب البكاء التذكر

بلى إن فقدان الحبيب بلية

وكم من كريم يبتلى ثم يصبر

رأيت خيار المؤمنين تواردوا

شعوب وخلفا بعدهم يتأخر

__________________

(١) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٢٥٣).

(٢) مستجيزا : أى منحازا إلى ناحية.

(٣) تأوبنى : أى عاودنى ورجع إلىّ.

٤٩٦

فلا يبعدن الله قتلى تباعدوا

جميعا وأسباب المنية تخطر إلى

غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم

الموت ميمون النقيبة أزهر

أغر كضوء البدر من آل هاشم

أبى إذا سيم الطلامة يجسر

فطاعن حتى مال غير موسد

بمعترك فيه قنا متكسر

فصار مع المستشهدين ثوابه

جنان وملتف الحدائق أخضر

وكنا نرى فى جعفر من محمد

وفاء وأمرا حازما حين يأمر

وما زال فى الإسلام من آل هاشم

دعائم عز لا يزلن ومفخر

هم جبل الإسلام والناس حولهم

رضام إلى طود يروق ويقهر

بهاليل منهم جعفر وابن أمه

علىّ ومنهم أحمد المتخير

وحمزة والعباس منهم ومنهم

عقيل وماء العود من حيث يعصر

بهم تفرج الأواء فى كل مأزق

عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر

هم أولياء الله أنزل حكمه

عليهم وفيهم ذا الكتاب المطهر

وقال كعب بن مالك فى ذلك :

نام العيون ودمع عينك يهمل

سحا كما وكف الطباب المخضل

فى ليلة وردت علىّ همومها

طورا أحن وتارة أتململ

واعتادنى حزن فبت كأننى

ببنات نعش والسماك موكل

وكأنما بين الجوانح والحشا

مما تأوبنى شهاب مدخل

وجدا على النفر الذين تتابعوا

يوما بمؤتة أسندوا لم ينقلوا

صلى الإله عليهم من فتية

وسقى عظامهم الغمام المسبل

صبروا بمؤتة للإله نفوسهم

حذر الردى ومخافة أن ينكلوا

فمضوا أمام المسلمين كأنهم

فنق عليهن الحديد المرفل

إذ يهتدون بجعفر ولوائه

قدام أولهم فنعم الأول

حتى تفرجت الصفوف وجعفر

حيث التقى وعث الصفوف مجدل

فتغير القمر المنير لفقده

والشمس قد كسفت وكادت تأفل

قوم علا بنيانه من هاشم

فرعا أشم وسؤددا ما ينقل

قوم بهم عصم الإله عباده

وعليهم نزل الكتاب المنزل

فضلوا المعاشر عزة وتكرما

وتغمدت أحلامهم من يجهل

لا يطلقون إلى السفاه جباهم

ويرى خطيبهم بحق يفصل

٤٩٧

بيض الوجوه ترى بطون أكفهم

تندى إذا اعتذر الزمان الممحل

وبهديهم رضى الإله لخلقه

وبحدهم نصر النبيّ المرسل

وقال حسان بن ثابت يبكى جعفرا :

ولقد بكيت وعز مهلك جعفر

حب النبيّ على البرية كلها

ولقد جزعت وقلت حين نعيت لى

من للجلاد لدى العقاب وظلها (١)

بالبيض حين تسل من أغمادها

ضربا وانهال الرماح وعلها

بعد ابن فاطمة المبارك جعفر

خير البرية كلها وأجلها

رزأ وأكرمها جميعا محتدا

وأعرها متظلما وأذلها

للحق حين ينوب غير تنحل

كذبا وأنداها يدا وأبلها

بالعرف غير محمد لا مثله

حى من أحيا البرية كلها

وقال شاعر من المسلمين ممن رجع عن غزوة مؤتة :

كفى حزنا أنى رجعت وجعفر

وزيد وعبد الله فى رمس أقبر

قضوا نحبهم لما مضوا لسبيلهم

وخلفت للبوى مع المتغير

واستشهد يوم مؤتة من المسلمين سوى الأمراء الثلاثة ـ رضى الله عنهم ـ من قريش ثم من بنى عدى بن كعب : مسعود بن الأسود بن حارثة. ومن بنى مالك بن حسل : وهب بن سعد بن أبى سرح. ومن الأنصار : عباد بن قيس من بنى الحارث بن الخزرج ، والحارث بن النعمان بن إساف من بنى غنم بن مالك بن النجار ، وسراقة بن عمر بن عطية بن خنساء من بنى مازن بن النجار ، وأبو كليب ويقال : أبو كلاب ، وجابر ابنا عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول وهما لأب وأم. وعمر وعامر ابنا سعد بن الحارث بن عباد من بنى مالك بن أفصى. وهؤلاء الأربعة عن ابن هشام.

غزوة الفتح

وأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد بعثه إلى مؤتة جمادى الآخرة ورجبا.

ثم عدت بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة على خزاعة ، ولم يزالوا قبل ذلك متعادين ، وكان الذي هاج ما بينهم أن حليفا للأسود بن رزن الديلى خرج تاجرا ، فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه وأخذوا ماله ، فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة

__________________

(١) العقاب : اسم لراية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤٩٨

فقتلوه ، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بنى الأسود بن رزن سلمى وكلثوم وذؤيب وهم منحر بنى كنانة وأشرافهم كانوا فى الجاهلية يودون ديتين ديتين لفضلهم فى قومهم ، فقتلتهم خزاعة بعرفة عند أنصاب الحرم ثم حجز بينهم الإسلام وتشاغل الناس به.

فلما كان صلح الحديبية دخلت خزاعة فى عقد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودخلت بنو بكر فى عقد قريش. فلما كانت الهدنة اغتنمتها بنو الديل فخرجوا حتى بيتوا خزاعة على الوتير (١) ـ ماء لهم ـ فأصابوا منهم رجلا وتحاجزوا واقتتلوا ورفدت قريش بنى بكر بالسلاح وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا.

فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العهد والميثاق بما استحلوا منهم وكانوا فى عقده وعهده ، خرج عمرو بن سالم الخزاعى الكعبى حتى قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فوقف عليه وهو جالس فى المسجد بين ظهرى الناس فقال :

يا رب إنى ناشد محمدا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا

قد كنتم ولدا وكنا والدا

ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصرا أعتدا

وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا

أبيض مثل البدر يسمو صعدا

إن سيم خسفا وجهه تربدا

فى فيلق كالبحر يجرى مزبدا

إن قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكدا

وجعلوا لى فى كداء رصدا

وزعموا أن لست أدعو أحدا

وهم أذل وأقل عددا

هم بيتونا بالوتير هجدا

وقتلونا ركعا وسجدا

يقول : قتلنا وقد أسلمنا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصرت يا عمرو بن سالم» ، ثم عرض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنان من السماء فقال : «إن هذه السحابة لتستهل بنصر بنى كعب» (٢). ثم خرج بديل بن ورقاء فى نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فأخبروه بما أصيب منهم

__________________

(١) الوتير : اسم ماء بأسفل مكة لخزاعة.

(٢) انظر الحديث فى : «دلائل النبوة للبيهقى (٥ / ٦ ، ٧) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ١٦٣ ، ١٦٤).

٤٩٩

ومظاهرة قريش بنى بكر عليهم ثم انصرفوا راجعين إلى مكة.

وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس : «كأنكم بأبى سفيان قد جاءكم ليشد العقد وليزيد فى المدة» (١).

ومضى بديل بن ورقاء فى أصحابه حتى لقوا أبا سفيان بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليشد العقد ويزيد فى المدة وقد رهبوا الذي صنعوا ، فلما لقى أبو سفيان بديلا قال : من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال : سيرت فى خزاعة فى هذا الساحل وفى بطن هذا الوادى. قال : أو ما جئت محمدا؟ قال : لا. فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان : لئن كان بديل جاء المدينة لقد علف بها النوى. فأتى مبرك راحلته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى فقال : أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا.

ثم خرج أبو سفيان حتى قدم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة ، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طوته عنه فقال : يا بنية ، ما أدرى أرغبت بى عن هذا الفراش أم رغبت به عنى؟ قالت : بل هو فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنت رجل نجس مشرك ، فلم أحب أن تجلس عليه. قال : والله يا بنية لقد أصابك بعدى شر!

ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلمه فلم يرد عليه شيئا ، ثم ذهب إلى أبى بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ما أنا بفاعل. ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال : أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به. ثم خرج حتى دخل على علىّ بن أبى طالب وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعندها حسن بن على غلام يدب بين يديها فقال : يا على ، إنك أمس القوم بى رحما وإنى قد جئت فى حاجة فلا أرجعن كما جئت فاشفع لى ، قال : ويحك يا أبا سفيان ، والله لقد عزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمر ما نستطيع أن نكمله فيه. فالتفت إلى فاطمة فقال : يا بنت محمد ، هل لك أن تأمرى بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر. قالت : والله ما بلغ بنى ذلك أن يجير بين الناس ، وما يجير أحد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : يا أبا حسن ، إنى أرى الأمور قد اشتدت على فانصحنى. قال : والله ما أعلم شيئا يغنى عنك شيئا ولكنك سيد بنى كنانة فقم فأجر بين الناس ثم ألحق بأرضك ، قال : أو ترى ذلك مغنيا عنى شيئا؟ قال : لا والله ما أظنه ولكننى لا اجد لك غير ذلك. فقام أبو

__________________

(١) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٢٨١).

٥٠٠