الإكتفا - ج ١

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ١

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبدالقادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2943-0
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

تلظى عليهم وهى قد شب حميها

بزبر الحديد والحجارة ساجر

وكان رسول الله قد قال أقبلوا

فولوا وقالوا إنما أنت ساحر

لأمر أراد الله أن يهلكوا به

وليس لأمر حمه الله زاجر

ولضرار بن الخطاب الفهرى فى هذا الروى شعر ، ذكر ابن إسحاق أن كعب بن مالك أجابه عنه بهذا الشعر الذي كتبناه آنفا ، والأظهر من مقتضى الشعر أن ضرارا هو الذي أجاب كعب بن مالك ونقض عليه. وهذا شعر ضرار :

عجبت لفخر الأوس والحين دائر

عليهم غدا والدهر فيه بصائر

وفخر بنى النجار إن كان معشر

أصيبوا ببدر كلهم ثم صابر

فإن تك قتلى غودرت من رجالنا

فإنا رجال بعدهم سنغادر

وتردى بنا جرد عناجيج وسطكم

بنى الأوس حتى يشفى النفس ثائر

ووسط بنى النجار سوف نكرها

لها بالقنا والدارعين زوافر

فنترك صرعى تعصب الطير حولهم

وليس لهم إلا الأمانى ناصر

وتبكيهم من أهل يثرب نسوة

لهن بها ليل عن النوم ساهر

وذلك أنا لا تزال سيوفنا

بهن دم ممن يحاربن مائر

فإن تظفروا فى يوم بدر فإنما

بأحمد أمسى جدكم وهو ظاهر

وبالنفر الأخيار هم أولياؤه

يحامون فى اللأواء والموت حاضر

يعد أبو بكر وحمزة فيهم

ويدعى على وسط من أنت ذاكر

أولئك لا من نتجت فى ديارها

بنو الأوس والنجار حين تفاخر

ولكن أبوهم من لؤيّ بن غالب

إذا عدت الأنساب كعب وعامر

هم الطاعنون الخيل فى كل معرك

غداة الهياج الأطيبون الأكاثر

ومن شعر حسان بن ثابت يعرض بالحارث بن هشام وفراره عن يوم بدر :

إن كنت كاذبة الذي حدثتنى

فنجوت منجى الحارث بن هشام

ترك الأحبة أن يقاتل دونهم

ونجا برأس طمرة ولجام (١)

فأجابه الحارث بن هشام ـ فيما ذكر ـ فقال :

الله أعلم ما تركت قتالهم

حتى علوا فرسى بأشقر مزبد

وعرفت أنى إن أقاتل واحد

أقتل ولا ينكى عدوى مشهدى

فصددت عنهم والأحبة فيهم

طمعا لهم بعقاب يوم مفسد

__________________

(١) الطمرة : الفرس الكثير الجرى.

٣٦١

وقال حسان بن ثابت أيضا ، ويقال : إنها لعبد الله بن الحارث السهمى ، يشبه أنها من قصيدة :

مستشعرى حلق الماذى يقدمهم

جلد النحيزة ماض غير رعديد (١)

أعنى رسول الإله الحق فضله

على البرية بالتقوى وبالجود

وقد زعمتم بأن تحموا ذماركم

وماء بدر زعمتم غير مورود (٢)

ثم وردنا ولم نسمع لقولكم

حتى شربنا رواء غير تصريد (٣)

مستعصمين بحبل غير منجذم

مستحكم من حبال الله ممدود

فينا الرسول وفينا الحق نتبعه

حتى الممات ونصر غير محدود

وقال حسان بن ثابت أيضا :

ألا ليت شعرى هل أتى أهل مكة

إبارتنا الكفار فى ساعة العسر

قتلنا سراة القوم عند مجالنا

فلم يرجعوا إلا بقاصمة الظهر

فكم قتلنا من كريم مرزء

له حسب فى قومه نابه الذكر

تركناهم للعاويات ينبنهم

ويصلون نارا بعد حامية القعر

لعمرك ما حامت فوارس مالك

وأشياعهم يوم التقينا على بدر

وقال عبيدة بن الحارث بن المطلب فى يوم بدر ، يذكر مبارزته هو وحمزة وعلىّ عدوهم ، وما كان من إصابة رجله يومئذ. قال ابن هشام : وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها له :

ستبلغ عنا أهل مكة وقعة

يهب لها من كان عن ذاك نائيا

بعتبة إذ ولى وشيبة بعده

وما كان فيها بكر عتبة راضيا (٤)

فإن تقطعوا رجلى فإنى مسلم

أرجى بها عيشا من الله دانيا

مع الحور أمثال التماثيل أخلصت

مع الجنة العليا لمن كان عاليا

وبعت بها عيشا نغرفت صفوه

وعالجته حتى فقدت الأدانيا (٥)

__________________

(١) مستشعرى : لابس ، تقول : استشعرت الثوب إذا لبسته. والماذى : الدروع اللينة البيض.

والنحيزة : الطبيعة. والرعديد : الجبان.

(٢) الرواء : التملؤ من الماء. والتصريد : تقليل الشرب.

(٣) الذمار : ما وجب على المرء أن يحميه.

(٤) بكر عتبة : يريد ولده الأول.

(٥) تعرقت : مزجت ، تعرقت التراب إذا مزجته.

٣٦٢

وأكرمنى الرحمن من فضل منه

بثوب من الإسلام غطى المساويا

وما كان مكروها إلىّ قتالهم

غداة دعا الأكفاء من كان داعيا

لقيناهم كالأسد تعثر بالقنا

نقاتل فى الرحمن من كان عاصيا

فما برحت أقدامنا من مقامنا

ثلاثتنا حتى أزيروا المنانيا

قال ابن هشام (١) : لما أصيبت رجل عبيدة قال : أما والله لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لعلم أنى أحق منه بما قال حين يقول :

كذبتم وبيت الله نبزى محمدا

ولما نطاعن حوله ونناضل

ونسلمه حتى نصرع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

ولما هلك عبيدة بن الحارث من مصاب رجله قالت هند ابنة أثاثة بن عباد بن المطلب ترثيه وكانت وفاته بالصفراء ، وبها دفن يرحمه‌الله تعالى :

لقد ضمن الصفراء مجدا وسؤددا

وحلما أصيلا وافر اللب والعقل

عبيدة فابكيه لأضياف غربة

وأرملة تهوى لأشعث كالجذل

وبكيه للأقوام فى كل شتوة

إذا احمر آفاق السماء من المحل

وبكيه للأيتام والريح زفزف

وتشتيت قدر طال ما أزبدت تغلى

فإن تصبح النيران قد مات ضوؤها

فقد كان يذكيهن بالحطب الجزل

لطارق ليل أو لملتمس القرى

ومستنبح أضحى لديه على رسل

وقال طالب بن أبى طالب يمدح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويبكى أصحاب القليب من قريش :

ألا إن عينى أنفدت ماءها سكبا

تبكى على كعب وما إن ترى كعبا

ألا إن كعبا فى الحروب تخاذلوا

وأرادهم ذا الدهر واجترحوا ذنبا

وعامر تبكى للملمات غدوة

فيا ليت شعرى هل أرى لهما قربا

هما أخواى لن يعدا لغية

تعد ولن يستام جارهما غصبا

فيا أخوينا عبد شمس ونوفلا

فدا لكما لا تبعثوا بيننا حربا

ولا تصحبوا من بعد ود وألفة

أحاديث فيها كلكم يشتكى النكبا

ألم تعلموا ما كان فى حرب داحس

وجيش أبى يكسوم إذ ملأوا الشعبا

فلو لا دفاع الله لا شيء غيره

لأصبحتم لا تمنعون لكم سربا

فما إن جنينا فى قريش عظيمة

سوى أن حمينا خير من وطئ التربا

أخا ثقة فى النائبات مرزأ

كريما ثناه لا بخيلا ولا ذربا

__________________

(١) انظر السيرة (٢ / ٣٢٧).

٣٦٣

يطيف به العافون يغشون بابه

يؤمون بهرا لا نزورا ولا صربا

فو الله لا تنفك نفسى حزينة

تململ حتى تصدقوا الخزرج الضربا

وكانت وقعة بدر يوم الجمعة ، لسبع عشرة من شهر رمضان ، وكان فراغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها فى عقبة أو فى شوال بعده.

فلما قدم المدينة لم يقم بها إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه يريد بنى سليم ، فبلغ ماء من مياههم يقال له : الكدر (١) ، فأقام عليه ثلاث ليال ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا ، فأقام بها بقية شوال وذا القعدة وأفدى فى إقامته تلك جل الأسارى من قريش (٢).

وكان أبو سفيان بن حرب حين رجع فل قريش من بدر نذر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرج فى مائتى راكب من قريش لتبر يمينه ، فسلك النجدية حتى نزل بصدر قناة ، على بريد أو نحوه من المدينة ، ثم خرج من الليل حتى أتى بنى النضير تحت الليل ، فأتى حيى بن أخطب فضرب عليه بابه ، فأبى أن يفتح له وخافه ، فانصرف عنه إلى سلام بن مشكم ، وكان سيد بنى النضير فى زمانه ذلك وصاحب كنزهم ، فاستأذن عليه فأذن له فقراه وسقاه وبطن له من خبر الناس ، ثم خرج فى عقب ليلته حتى أتى أصحابه ، فبعث رجالا منهم ، فأتوا ناحية العريض فحرقوا بها أصوار نخل وقتلوا رجلا من الأنصار وحليفا له فى حرث لهما ، ثم انصرفوا راجعين ، ونذر بهم الناس ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى طلبهم حتى بلغ قرقرة الكدر ، ثم انصرف وقد فاته أبو سفيان بن حرب وأصحابه ، وطرحوا من أزوادهم يتخففون منها للنجاء ، وكان أكثر ما طرحوه السويق ، فهجم المسلمون على سويق كثير ، فسميت غزوة السويق ، فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول ، أتطمع لنا أن تكون غزوة؟ قال : «نعم» (٣).

ثم غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجدا يريد غطفان ، وهى غزوة ذى أمر ، فأقام بنجد ثم رجع ولم يلق كيدا.

__________________

(١) وهذه الغزوة تعرف بغزوة : قرقرة الكدر ، كما فى الطبقات الكبرى (٢ / ٣١) ، أو : قرارة الكدر ، كما فى المغازى للواقدى (١ / ١٩٦). وتراجع هذه الغزوة فى : البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ٣٤٤) ، المنتظم لابن الجوزى (٣ / ١٥٦).

(٢) انظر السيرة (٣ / ٥).

(٣) انظر الحديث فى : الدلائل للبيهقى (٣ / ١٦٦) ، التاريخ للطبرى (٢ / ٥٠) ، الكامل فى التاريخ (٢ / ٣٩ ، ٤٠).

٣٦٤

ثم غزا قريشا حتى بلغ بحران (١) ، معدنا بالحجاز من ناحية الفرع ، ثم رجع منه إلى المدينة ولم يلق كيدا ، وذلك بعد مقامه به نحوا من شهرين ، ربيع الآخر وجمادى الأولى من سنة ثلاث.

أمر بنى قينقاع

وكان فيما بين ما ذكر من غزو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بنى قينقاع.

وكانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحاربوا فيما بين بدر وأحد.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمعهم فى سوقهم ، ثم قال : «يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا ، فإنكم قد عرفتم أنى نبى مرسل ، تجدون ذلك فى كتابكم وعهد الله إليكم» (٢).

قالوا : يا محمد ، إنك ترى أنا قومك! لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس.

فقال ابن عباس (٣) : ما أنزل هؤلاء الآيات إلا فيهم : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [آل عمران : ١٢ ، ١٣].

وكان منشأ أمرهم : أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق قينقاع" وجلست إلى صائغ بها ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت ، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ، فلما قامت انكشفت سوءتها ، فضحكوا بها فصاحت ، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ، وكان يهوديا ، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه ، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود ، فأغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بنى قينقاع.

__________________

(١) ذكرها ابن الأثير فى الكامل (٢ / ١٤٢) ، والطبرى فى تاريخه (٢ / ٥٢) ، والواقدى فى المغازى (١ / ١٩٦ ، ١٩٧).

(٢) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٣).

(٣) انظر السيرة (٣ / ٨).

٣٦٥

فحاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزلوا على حكمه ، فقام إليه عبد الله بن أبىّ بن سلول ، حين أمكنه الله منهم ، فقال : يا محمد ، أحسن فى موالى ، وكانوا حلفاء الخزرج ، فأبطأ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا محمد أحسن فى موالى ، فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأدخل يده فى جيب درع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان يقال لها : ذات الفضول ، فقال له : أرسلنى»! وغضب صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا ، ثم قال : «ويحك أرسلنى». قال : لا والله لا أرسلك حتى تحسن فى موالى ، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعونى من الأحمر والأسود تحصدهم فى غداة واحدة! إنى والله امرؤ أخشى الدوائر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هم لك» (١).

ولما حاربت بنو قينقاع تشبث عبد الله بن أبى بأمرهم وقام دونهم ، قال : مشى عبادة بن الصامت ، وكان أحد بنى عوف ، لهم من حلفه مثل الذي لهم من عبد الله بن ابى ، إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخلعهم إليه وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم ، وقال : يا رسول الله ، أتولى الله ورسوله والمؤمنين ، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم.

ففيه وفى عبد الله بن أبى نزلت [هذه] القصة من المائدة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يريد عبد الله بن أبىّ (يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ). ثم القصة فى قوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) وذلك لتولى عبادة بن الصامت الله ورسوله والذين آمنوا ، وتبرية ، من بنى قينقاع وحلفهم وولايتهم (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) [المائدة : ٥١ ـ ٥٦].

سرية زيد بن حارثة (٢)

ولما كان من وقعة بدر ما كان ، خافت قريش طريقهم التي كانوا يسلكون إلى

__________________

(١) انظر الحديث فى : تاريخ للطبرى (٢ / ٤٩) ، الطبقات لابن سعد (٢ / ٢٩).

(٢) هذه السرية ذكرها الواقدى فى المغازى (١ / ١٩٧ ، ١٩٨) ، وابن سعد فى الطبقات (٢ / ٣٦) ، وابن الأثير فى التاريخ (٢ / ١٤٥).

٣٦٦

الشام ، فسلكوا طريق العراق ، فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان بن حرب ، ومعه فضة كثيرة وهى عظم تجارتهم ، وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيد بن حارثة فلقيهم على القردة ـ ماء من مياه نجد ـ فأصاب تلك العير وما فيها وأعجزه الرجال فقدم بها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فذلك الذي يعنى حسان بن ثابت بقوله فى غزوة بدر الآخرة يؤنب قريشا فى أخذهم تلك الطريق :

دعوا فلجات الشام قد حال دونها

جلاد كأفواه المخاض الأوارك (١)

بأيدى رجال هاجروا نحو ربهم

وأنصاره حقا وأيدى الملائك

إذا سلكت للغور من بطن عالج

فقولا لها ليس الطريق هنالك (٢)

مقتل كعب بن الأشرف

ولما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة بشيرين إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله عليه وقتل من قتل من المشركين ببدر ، قال كعب بن الأشرف وكان رجلا من طيء ، ثم أحد بنى نبهان ، وأمه من بنى النضير ، حين بلغه هذا الخبر : أحق هذا؟ أترون أن محمدا قتل هؤلاء الذين يسمى هذان الرجلان؟ فهؤلاء اشراف العرب وملوك الناس ، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير لى من ظهرها.

فلما تبين عدو الله الخبر ، خرج حتى قدم مكة ، فجعل يحرض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينشد الأشعار ، ويبكى أصحاب القليب من قريش ، ثم رجع إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من لى من ابن الأشراف؟ فقال له محمد بن مسلمة الأشهلى: أنا لك به يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا أقتله قال : فافعل إن قدرت على ذلك.

فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعاه فقال له : لم تركت الطعام والشراب؟ فقال يا رسول الله ،

__________________

(١) الفلجات : العيون الجارية. والمخاض : الإبل الحوامل. والأوارك : الإبل التي ترعى الأراك ، وهو شجر السواك.

(٢) الغور : الأرض المنخفضة. وبطن عالج : أى موضع كثير الرمل.

٣٦٧

قلت لك قولا لا أدرى هل أفين لك به أم لا. قال : إنما عليك الجهد ، قال : يا رسول الله ، لا بد لنا من أن نقول. قال : قولوا ما بدا لكم فأنتم فى حل من ذلك.

فاجتمع فى قتله محمد بن مسلمة ، وسلكان بن سلامة أبو نائلة ، وعباد بن بشر والحارث بن أوس ، وكلهم من بنى عبد الأشهل ، وأبو عبس بن جبر أخو بنى حارثة ، ثم قدموا إلى عدو الله ابن الأشرف سلكان بن سلامة وكان أخاه من الرضاعة ، فجاءه فتحدث معه ساعة ثم قال : ويحك يا ابن الأشرف! إنى قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عنى ، قال : أفعل ، قال : كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء ، عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة ، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس. فقال كعب : أنا ابن الأشرف! أما والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول. فقال له سلكان : إنى قد أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك. قال : أترهنوني نساءكم؟ قال : كيف نرهنك نساءنا وأنت أشب أهل يثرب وأعطرهم. قال : أترهنوني أبناءكم؟ قال : لقد أردت أن تفضحنا ، يسب ابن أحدنا فيقال : رهن فى وسق شعير! ثم قال له : إن معى أصحابا لى على مثل رأيى وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن فى ذلك ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء وأراد سلكان أن لا ينكر السلاح إذا جاءوا بها. قال : إن فى الحلقة لوفاء.

فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم وأمرهم أن يأخذوا السلاح ويجتمعوا إليه ، فاجتمعوا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمشى معهم صلوات الله عليه إلى بقيع الغرقد فى ليلة مقمرة ، ثم وجههم وقال : انطلقوا على اسم الله ، اللهم أعنهم. ثم رجع إلى بيته.

فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه ، فهتف به أبو نائلة ، وكان حديث عهد بعرس ، فوثب فى ملحفته ، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت : إنك امرؤ محارب ، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون هذه الساعة. قال : إنه أبو نائلة لو وجدنى نائما ما أيقظنى. فقالت : والله إنى لأعرف فى صوته الشر. فقال لها كعب : لو يدعى الفتى لطعنة لأجاب!

فنزل فتحدث معهم ساعة وتحدثوا معه ، فقالوا له : هل لك يا ابن الأشرف إلى أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث فيه بقية ليلتنا هذه. قال : إن شئتم.

فخرجوا يتماشون ، فمشوا ساعة ، ثم إن أبا نائلة شام يده فى فود رأسه ثم شم يده ، فقال : ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط ، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها ، حتى اطمأن ، ثم مشى ثم عاد لمثلها ، فأخذ بفود رأسه.

٣٦٨

ثم قال : اضربوا عدو الله ، فضربوه فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا. قال محمد ابن مسلمة : فتذكرت معولا كان فى سيفى حين رأيت أسيافنا لا تغنى شيئا ، فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار ، قال : فوضعته فى ثنيته ثم تحاملت عليه حتى بلغت غايته فوقع عدو الله وقد أصيب الحارث بن أوس بجرح فى رجله أو رأسه أصابه بعض أسيافنا ، فخرجنا حتى أسندنا فى حرة العريض وقد ابطأ علينا الحارث بن أوس صاحبنا ونزفه الدم ، فوقفنا له ساعة ثم أتانا يتبع آثارنا فاحتملناه فجئنا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخر الليل وهو قائم يصلى ، فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل عدو الله ، وتفل على جرح صاحبنا ، ثم رجعنا إلى أهلينا فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله ، فليس بها يهودى إلا وهو يخاف على نفسه.

وذكر ابن عقبة أن كعب بن الأشرف لما قدم على قريش يستنفرهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له أبو سفيان والمشركون ، نناشدك الله ، أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه؟ وأينا أهدى فى رأيك وأقرب إلى الحق ، فإنا نطعم الجزور الكوماء ونسقى اللبن على الماء ونطعم ما هبت الشمال.

فقال : ابن الأشرف : أنتم أهدى سبيلا ، فأنزل الله فيه والله أعلم بما ينزل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) [النساء : ٥١].

وذكر ابن إسحاق أن هذه الآية إنما نزلت فى حيى بن أخطب وسلام بن أبى الحقيق وجماعة غيرهما من أحبار يهود ، ليس ابن الأشرف مذكورا فيهم ، وهم الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما قدموا على قريش قالوا : هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتاب الأول فسلوهم : أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم فقالوا : بل دينكم خير من دينه وأنتم أهدى منه وممن اتبعه. فأنزل الله تعالى فيهم الآية المذكورة. فالله تعالى أعلم.

قال ابن إسحاق : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه. فوثب محيصة بن مسعود الأوسى على ابن سنينة من تجار يهود ، وكان يلابسهم ويبايعهم فقتله ، فلما قتله جعل أخوه حويصة بن مسعود ولم يكن أسلم يومئذ وكان أسن من محيصة ، يضربه ويقول : أى عدو الله أقتلته ، وأما والله لرب شحم فى بطنك من ماله فقال محيصة : والله لقد أمرنى بقتله من لو أمرنى بقتلك لضربت عنقك! قال : فو الله إن كان

٣٦٩

لأول إسلام حويصة. قال : أو الله لو أمرك محمد بقتلى لقتلتنى؟ قال : نعم ، والله لو أمرنى بضرب عنقك لضربتها ، قال : والله إن دينا بلغ منك هذا لعجب! فأسلم حويصة ، وقال محيصة فى ذلك :

يلوم ابن أمى لو أمرت بقتله

لطبقت ذفراه بأبيض قاضب (١)

حسام كلون الملح أخلص صقله

متى ما أصوبه فليس بكاذب (٢)

وما سرنى أنى قتلتك طائعا

وأن لنا ما بين بصرى ومأرب (٣)

وذكر ابن هشام أن هذا عرض لمحيصة بعد غزوة بنى قريظة وظفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دفع إليهم منهم كعب بن يهوذا. قال : وكان عظيما فيهم ، ليقتله ، فقال له أخوه حويصة وكان كافرا : أقتلت كعب بن يهوذا؟ قال : نعم. قال : أما والله لرب شحم قد نبت فى بطنك من ماله ، إنك للئيم. فقال له محيصة : لقد أمرنى بقتله من لو أمرنى بقتلك لقتلتك. فعجب من قوله ، ثم ذهب عنه متعجبا فذكروا أنه جعل ينتفض من الليل فيعجب من قول أخيه محيصة حتى أصبح وهو يقول : والله إن هذا لدين. ثم أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلم.

غزوة أحد (٤)

وكان من حديث أحد أنه لما قتل الله من قتل من كفار قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ، ورجع أبو سفيان بن حرب بعيرهم ، مشى عبد الله بن أبى ربيعة وعكرمة بن أبى جهل وصفوان بن أمية فى رجال ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر فكلموا ابا سفيان ومن كانت له فى تلك العير تجارة من قريش ، وقالوا لهم : إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم ، فأعينوا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا بمن اصاب منا. ففعلوا.

ففيهم يقال : أنزل الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال : ٣٦].

__________________

(١) طبقت : قطعت. والزفران : عظمان ناتئان خلف الأذنين. والقاضب : القاطع.

(٢) الحسام : السيف القاطع.

(٣) بصرى : مدينة بالشام. ومأرب : مدينة باليمن.

(٤) انظر السيرة (٣ / ٢٠).

٣٧٠

فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير ، وحركوا لذلك من أطاعهم من القبائل وحرضوهم عليه وخرجوا بحدهم وجدهم وأحابيشهم (١) ومن تابعهم من بنى كنانة وأهل تهامة ، وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة وأن لا يفروا ، فخرج أبو سفيان بن حرب وكان قائد الناس بهند بنت عتبة ، وكذلك سائر أشراف قريش وكبرائهم خرجوا معهم بنسائهم.

وكان جبير بن مطعم قد أمر غلامه وحشيا الحبشى بالخروج مع الناس وقال له : إن قتلت حمزة عم محمد بعمى طعيمة بن عدى فأنت عتيق. فكانت هند بنت عتبة كلما مرت بوحشى أو مر بها قالت : ويها أبا دسمة ، وهى كنيته ، اشف واشتف.

فأقبلوا حتى نزلوا بعينين ـ جبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادى مقابل المدينة.

فلما سمع بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا ، قال عليه‌السلام : «إنى قد رأيت والله خيرا ، رأيت بقرا تذبح ، ورأيت فى ذباب سيفى ثلما ، فأما البقر ، فهى ناس من أصحابى يقتلون ، وأما الثلم الذي فى ذباب سيفى فهو رجل من أهل بيتى يقتل ، ورأيت أنى أدخلت يدى فى درع حصينة فأولتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها» (٢).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكره الخروج ، وكان عبد الله بن أبى يرى رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ذلك ، فقال رجل من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيره ممن كان فاته بدر : يا رسول الله ، اخرج بنا إلى أعدائنا ، لا يرون أنا جبنا عنهم. فقال عبد الله بن أبى : يا رسول الله ، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم ، فو الله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا ، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه ، فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال فى وجوههم ورماهم الصبيان والنساء بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا.

__________________

(١) أحابيشهم : أحياء من القارة انضموا إلى بنى ليث فى الحرب التي وقعت بينهم وبين قريش قبل الإسلام.

(٢) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٣ / ٣٥١) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ١٠٧) ، الدلائل للبيهقى (٣ / ٢٢٥ ، ٢٦٦) ، تفسير الطبرى (٤ / ٤٦ ، ٤٧).

٣٧١

فلم يزل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس الذين كان من أمرهم حب لقاء العدو ، حتى دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلبس لأمته ، وذلك يوم الجمعة حين فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصلاة ، وقد مات فى ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له : مالك بن عمرو ، أخو بنى النجار ، فصلى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم خرج عليهم وقد ندم الناس ، فقالوا : يا رسول الله ، استكرهناك ولم يكن ذلك لنا ، فإن شئت فاقعد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ينبغى للنبى إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» (١).

فخرج فى ألف من أصحابه ، حتى إذا كانوا بين المدينة وأحد انخذل عنه عبد الله بن أبى بثلث الناس ، وقال : أطاعهم وعصانى ، ما ندرى علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس.

فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق والريب ، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام يقول : يا قوم ، أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم عند ما حضر من عدوهم. قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال. فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم ، قال : أبعدكم الله أعداء الله فسيغنى الله عنكم نبيه.

ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى سلك فى حرة بنى حارثة ، فذب فرس بذنبه فأصاب كلّاب سيف فاستله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان يحب الفأل ولا يعتاف :

«يا صاحب السيف ، شم سيفك ، فإنى أرى السيوف ستسل اليوم» (٢).

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رجل يخرج بنا على القوم من كثب ، أى من قرب ، من طريق لا تمر بنا عليهم» ، فقال أبو خيثمة أخو بنى حارثة : أنا يا رسول الله.

فنفذ به فى حرة بنى حارثة وبين أموالهم حتى سلك فى مال لمربع بن قيظى ، وكان منافقا ضرير البصر ، فلما سمع حس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المسلمين قام يحثى فى وجوههم التراب ويقول : إن كنت رسول الله فإنى لا أحل لك أن تدخل حائطى. وذكر أنه أخذ حفنة من تراب فى يده ثم قال : والله لو أعلم أنى لا اصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك. فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقتلوه ، فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر» (٣).

__________________

(١) انظر الحديث فى : الدر المنثور للسيوطى (٢ / ٦٨) ، تفسير الطبرى (٤ / ٤٦) ، تفسير ابن كثير (٢ / ٩١).

(٢) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٤).

(٣) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٤).

٣٧٢

ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزل الشّعب من أحد فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال : «لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال» (١).

وقد سرحت قريش الظهر والكراع فى زروع كانت للمسلمين ، فقال رجل من الأنصار : أترعى زرع بنى قيلة ولما نضارب!

وتعبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقتال وهو فى سبعمائة رجل ، وأمر على الرماة عبد الله بن جبير أخا بنى عمرو بن عوف ، وهو معلم يومئذ بثياب بيض ، والرماة خمسون رجلا ، فقال : انضح الخيل عنا لا يأتوننا من خلفنا ، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك.

وظاهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين درعين ، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخى بنى عبد الدار.

وتعبأت قريش وهم ثلاث آلاف ومعهم مائتا فرس قد جنبوها ، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبى جهل.

وقد كان أبو عامر عبد عمرو بن صيفى من الأوس ، خرج عن قومه إلى مكة مباعدا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان يعد قريشا أن لو لقى قومه لم يختلف عليه منهم رجلان ، فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر فى الأحابيش وعبدان أهل مكة ، فنادى : يا معشر الأوس أنا أبو عامر. قالوا : فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق. وبذلك سماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان يسمى فى الجاهلية الراهب ، فلما سمع ردهم عليه ، قال : «لقد أصاب قومى بعدى شر! ثم قاتلهم قتالا شديدا ثم راضخهم (٢) بالحجارة» (٣).

وقال أبو سفيان ـ يومئذ ـ لأصحاب اللواء من بنى عبد الدار يحرضهم بذلك : يا بنى عبد الدار ، إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم ، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم ، إذا زالت زالوا ، فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه. فهموا به وتواعدوه قالوا : أنحن نسلم إليك لواءنا! ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع. وذلك أراد أبو سفيان.

فاقتتل الناس حتى حميت الحرب.

__________________

(١) انظر الحديث فى : الدر المنثور للسيوطى (٥ / ٦١).

(٢) راضخهم : رماهم.

(٣) انظر الحديث فى : تاريخ الطبرى (٢ / ٥١٢).

٣٧٣

وقاتل أبو دجانة (١) سماك بن خرشة أخو بنى ساعدة ، حتى أمعن فى الناس ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لسيف عنده : «من يأخذ هذا السيف بحقه؟» فقام إليه رجال فأمسكه عنهم ، حتى قام إليه أبو دجانة فقال : وما حقه يا رسول الله؟ قال : «أن تضرب به فى العدو حتى ينحنى» (٢). قال : أنا آخذه يا رسول الله بحقه. فأعطاه إياه ، وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب ، وكان إذا أعلم بعصابة له حمراء فاعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل ، فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرج عصابته تلك فعصب بها رأسه ، ثم جعل يتبختر بين الصفين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رآه يتبختر : «إنها لمشية يبغضها الله إلا فى مثل هذا الموطن» (٣).

وكان الزبير بن العوام قد سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك السيف مع من سأله منه فمنعه إياه ، فقال : وجدت فى نفسى حين سألته إياه فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة ، وقلت : أنا ابن صفية عمته ومن قريش وقد قمت إليه فسألته إياه قبله فأعطاه إياه وتركنى! والله لأنظرن ما يصنع ، فأتبعه ، فأخرج عصابة حمراء فعصب بها رأسه ، فقالت الأنصار : أخرج أبو دجانة عصابة الموت! وهكذا كانت تقول له إذا تعصب لها ، فخرج وهو يقول :

أنا الذي عاهدنى خليلى

ونحن بالسفح لدى النخيل

أن لا أقوم الدهر فى الكيول

أضرب بسيف الله والرسول (٤)

فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله ، وكان فى المشركين رجل لا يدع جريحا إلا ذفف عليه : فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه ، فدعوت الله أن يجمع بينهما ، فالتقيا فاختلفا ضربتين ، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه ، وضربه أبو دجانة فقتله ، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة ثم عدل السيف عنها ، قال الزبير : فقلت الله ورسوله أعلم.

__________________

(١) انظر ترجمته فى : أسد الغابة ترجمة رقم (٥٨٦٣) ، الإصابة ترجمة رقم (٩٨٦٦) ، تنقيح المقال (٣ / ١٥) ، ريحانة الأدب (٧ / ٩٥) ، معجم رجال الحديث (٢١ / ١٥١).

(٢) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٣ / ١٢٣) ، مستدرك الحاكم (٣ / ٢٣٠) ، مصنف ابن أبى شيبة (١٢ / ٢٠٦ ، ١٤ / ٤٠١) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ١٠٩ ، ٩ / ١٢٤) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١٠٩٧٢ ، ١٠٩٧٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٥).

(٣) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٣ / ٢٣٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٥).

(٤) الكيول : آخر الصفوف فى الحرب.

٣٧٤

وقال أبو دجانة : رأيت إنسانا يخمش الناس خمشا شديدا فصمدت إليه ، فلما حملت عليه السيف ولول فإذا امرأة ، فأكرمت سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أضرب به امرأة.

وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أحد النفر الذين كانوا يحملون اللواء من بنى عبد الدار ، وكان جبير بن مطعم قد وعد غلامه وحشيا بالعتق إن قتل حمزة بعمه طعيمة ابن عدى المقتول يوم بدر ، قال وحشى : فخرجت مع الناس وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قل ما أخطئ بها شيئا ، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة حتى رأيته فى عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس بسيفه هدا ما يقوم له شيء ، فو الله إنى لأتهيأ له أريده وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو منى إذ تقدمنى إليه سباع بن عبد العزى الغبشانى ، فلما رآه حمزة قال له : هلم إلى يا بن مقطعة البظور. وكانت أمه ختّانة بمكة ، قال : فضربه ضربة فكأنما أخطأ رأسه ، قال : وهززت حربتى حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فى ثنته حتى خرجت من بين رجليه وذهب لينوء نحوى فغلب وتركته وإياها حتى مات ، ثم أتيته فأخذت حربتى ورجعت إلى العسكر فقعدت فيه ، ولم تكن لى بغيره حاجه ، إنما قتلته لأعتق.

فلما قدمت مكة عتقت ، ثم أقمت حتى افتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة هربت إلى الطائف فكنت بها ، فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسلموا تعيت على المذاهب ، فو الله إنى لفى ذلك إذ قال لى رجل : ويحك إنه والله ما يقتل أحدا من الناس دخل فى دينه ، فلما قال لى ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فلم يرعه إلا بى قائما على رأسه أتشهد شهادة الحق ، فلما رآنى قال : أو حشىّ؟ قلت : نعم يا رسول الله ، قال : أقعد فحدثنى كيف قتلت حمزة ، فحدثته فلما فرغت قال : ويحك! غيب عنى وجهك. فكنت أتنكّبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث كان لئلا يرانى حتى قبضه الله تعالى.

فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة الكذاب خرجت معهم وأخذت بحربتى التي قتلت بها حمزة ، فلما التقى الناس رأيت مسيلمة قائما فى يده السيف وما أعرفه ، فتهيأت له وتهيأ له رجل من الأنصار من الناحية الأخرى كلانا يريده ، فهززت حربتى حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فيه وشدّ عليه الأنصاري فضربه بالسيف ، فربك أعلم أينا قتله ، فإن كنت قتلته فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد قتلت شر الناس! وذكر ابن إسحاق (١) بإسناد له إلى عبد الله بن عمر ، وكان شهد اليمامة قال : سمعت يومئذ صارخا يقول : قتله العبد الأسود.

__________________

(١) انظر السيرة (٣ / ٣٣).

٣٧٥

قال ابن إسحاق : فبلغنى أن وحشيا لم يزل يحد فى الخمر حتى خلع من الديوان. فكان عمر بن الخطاب ، رضى الله عنه ، يقول : قد علمت أن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة.

قال ابن إسحاق (١) : وقاتل مصعب بن عمير (٢) دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قتل ، قتله ابن قميئة الليثى ، وهو يظن أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرجع إلى قريش فقال : قتلت محمدا.

فلما قتل مصعب أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللواء على بن أبى طالب ، فقاتل على ورجال من المسلمين.

ولما اشتد القتال يومئذ جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت راية الأنصار وأرسل إلى على أن قدم الراية ، فتقدم فقال : أنا أبو القصم ، فناداه أبو سعد بن أبى طلحة : هل لك يا أبا القصم فى البراز من حاجة؟ قال : نعم. فبرزا بين الصفين فاختلفا ضربتين فضربه على فصرعه ثم انصرف ولم يجهز عليه ، فقال له أصحابه : أفلا أجهزت عليه؟ فقال : إنه استقبلنى بعورته فعطفتنى عليه الرحم وعرفت أن الله قد قتله.

ويقال : إن أبا سعد هذا خرج بين الصفين وطلب من يبارزه مرارا فلم يخرج إليه أحد ، فقال : يا أصحاب محمد ، زعمتم أن قتلاكم فى الجنة وقتلانا فى النار ، كذبتم واللات لو تعلمون ذلك حقا لخرج إلى بعضكم. فخرج إليه علىّ فاختلفا ضربتين فقتله علىّ. وقد قيل : إن سعد بن أبى وقاص هو الذي قتل أبا سعد هذا.

وقاتل عاصم بن ثابت بن أبى الأقلح (٣) ، فقتل مسافع بن طلحة وأخاه الجلاس ابن طلحة ، كلاهما يشعره سهما (٤) فيأتى أمه فيضع رأسه فى حجرها فتقول : يا بنى من أصابك؟ فيقول : سمعت رجلا يقول رمانى : خذها وأنا ابن أبى الأقلح. فندرت إن أمكنها الله من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر ، وكان عاصم قد عاهد الله أن لا يمس مشركا ولا يمسه مشرك أبدا ، فتمم الله له ذلك حيا وميتا حسب ما نذكره عند مقتل عاصم على الرجيع ـ ماء لهذيل ـ إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) انظر السيرة (٣ / ٣٤).

(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٨٠٢٠) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤٩٣٦).

(٣) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٤٣٦٥) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٢٦٦٥).

(٤) يشعره سهما : أى يصيبه به فى جسده ، فيصير له مثل الشعار ، والشعار ما ولى الجسد من الثياب.

٣٧٦

والتقى يوم أحد حنظلة بن أبى عامر الغسيل وأبو سفيان ، فلما استعلاه حنظلة رآه شداد بن الأسود بن شعوب قد علا أبا سفيان فضربه شداد فقتله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن صاحبكم ـ يعنى حنظلة ـ لتغسله الملائكة فسلوا أهله ما شأنه؟ فسئلت صاحبته ، فقالت : خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة. فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لذلك غسلته الملائكة» (١).

ثم أنزل نصره على المسلمين وصدقهم وعده فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر ونهكوهم قتلا.

وقد حملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات ، كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مفلولة ، وكانت الهزيمة لا شك فيها.

فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله قد فتح لإخوانهم قالوا : والله ما نجلس هنا لشىء ، قد أهلك الله العدو ، وإخواننا فى عسكر المشركين ، فتركوا منازلهم التي عهد إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يتركوها ، وتنازعوا وفشلوا ، وعصوا الرسول فأوجفت الخيل فيهم قتلا ، ولم يكن نبل ينضحها ووجدت مدخلا عليهم ، فكان ذلك سبب الهزيمة على المسلمين بعد أن كانت لهم.

قال الزبير بن العوام رضى الله عنه : والله ، لقد رأيتنى أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها منكشفات هوارب ، ما دون أخذهن قليل ولا كثير ، إذا مالت الرماة إلى العسكر حتى كشفنا القوم عنه ، وخلوا ظهورنا للخيل ، فأتتنا من خلفنا ، وصرخ صارخ : ألا إن محمدا قد قتل ، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء ، حتى ما يدنو منه أحد من القوم.

وانكشف المسلمون فأصاب فيهم العدو ، ويقال : إن الصارخ هو الشيطان.

وكان يوم بلاء وتمحيص أكرم الله فيه من أكرم من المسلمين بالشهادة. حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدث بالحجارة حتى وقع لشقه فأصيبت رباعيته وكلمت شفته وشج فى وجهه فجعل الدم يسيل على وجهه ، وجعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمسحه وهو يقول : «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم» (٢).

__________________

(١) انظر الحديث فى : السنن الكبرى للبيهقى (٤ / ١٥) ، دلائل النبوة للبيهقى (٣ / ٢٤٦) ، إرواء الغليل للألبانى (٣ / ١٦٧) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (١ / ٥٨١).

(٢) انظر الحديث فى : سنن ابن ماجه (٤٠٢٧) ، مسند الإمام أحمد (٣ / ٢٠٦) ، الدر المنثور ـ

٣٧٧

فأنزل الله عليه فى ذلك : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) [آل عمران : ١٢٨].

وكان الذي كسر رباعيته وجرح شفته عتبة بن أبى وقاص وشجه عبد الله بن شهاب الزهرى فى جبهته وجرح ابن قميئة وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر فى وجنته ، ووقع صلوات الله عليه فى حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون ، فأخذ على بن أبى طالب بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما. ومص مالك بن سنان والد أبى سعيد الخدرى الدم من وجهه ثم ازدرده ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مس دمه دمى لم تصبه النار» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشى على الأرض فلينظر إلى طلحة»(٢).

ونزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسقطت ثنيته ، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى ، فكان ساقط الثنيتين.

وكان سعد بن أبى وقاص يقول : والله ، ما حرصت على قتل رجل قط حرصى على قتل عتبة بن أبى وقاص ـ وهو أخوه ـ وإن كان ما علمت لسيّئ الخلق مبغضا فى قومه ، ولقد كفانى منه قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله» (٣).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين غشيه القوم : «من رجل يشرى لنا نفسه؟» فقام زياد بن السكن فى نفر خمسة من الأنصار ، وبعض الناس يقولون : إنما هو عمارة بن زياد بن السكن ، فقاتلوا دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا ثم رجلا ، يقتلون دونه ، حتى كان آخرهم زياد أو عمارة ، فقاتل حتى أثبتته الجراحة ، ثم جاءت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه ،

__________________

ـ للسيوطى (٢ / ٧١) ، إتحاف السادة المتقين (٧ / ٩٢) ، تفسير ابن كثير (٢ / ٩٨) ، فتح البارى لابن حجر (٧ / ٣٦٦) ، المغنى عن حمل الأسفار للعراقى (٢ / ٣٥٢) ، أخلاق النبوة (٧٢) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٢٣).

(١) انظر الحديث فى : تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (٦ / ١١٢) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٢٤).

(٢) انظر الحديث فى : المعجم الكبير للطبرانى (١ / ٧٦) ، السنة لابن أبى عاصم (٢ / ٦١٤) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٣٣٣٦٩) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (٧ / ٨٠).

(٣) انظر الحديث فى : موارد الظمآن للهيثمى (٢٢١٢) ، دلائل النبوة للبيهقى (٣ / ٢٦٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٣٠).

٣٧٨

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أدنوه منى» (١). فأدنوه منه فوسده قدمه ، فمات وخده على قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقاتلت أم عمارة نسيبه بنت كعب المازنية ، يومئذ قالت : خرجت أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعى سقاء فيه ماء ، فانتهيت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو فى أصحابه والدولة والريح للمسلمين ، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمى عن القوس ، حتى خلصت الجراح إلىّ.

قالت أم سعد بنت سعد بن الربيع : فرأيت على عاتقها جراحا أجوف له غور فقلت : من أصابك بهذا ، قالت : ابن قميئة أقمأه الله ، لما ولى الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقبل يقول : دلونى على محمد فلا نجوت إن نجا. فاعترضته أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضربنى هذه الضربة ، ولقد ضربته على ذلك ضربات ، ولكن عدو الله كانت عليه درعان.

وترس دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو دجانة بنفسه ، يقع النبل فى ظهره وهو منحن عليه ، حتى كثر فيه النبل.

ورمى سعد بن أبى وقاص دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال سعد : فلقد رأيته يناولنى النبل ويقول : «أرم فداك أبى وأمى» (٢) حتى إنه ليناولنى السهم ماله من نصل فيقول : «ارم به».

ورمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد عن قوسه حتى اندقت سيتها.

وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان (٣) فردها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده فكانت أحسن عينيه وأحدهما.

__________________

(١) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٣ / ٢٣٥).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٤ / ٤٧ ، ٥ / ١٢٤ ، ٨ / ٥٢) ، صحيح مسلم فى كتاب فضائل الصحابة (٤١ ، ٤٢) ، سنن الترمذى (٢٨٢٩ ، ٣٧٥٣) ، السنن الكبرى للبيهقى (٩ / ١٦٢) ، دلائل النبوة للبيهقى (٣ / ٢٣٩) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٢٧ ، ٨ / ٧٢).

(٣) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٧٠٩١) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤٢٧٧) ، طبقات خليفة (٨١ ، ٩٦) ، تاريخ خليفة (١٥٣) ، التاريخ الكبير (٧ / ١٨٤ ، ١٨٥) ، تاريخ الفسوى (١ / ٣٢٠) ، الجرح والتعديل (٧ / ١٣٢) ، تاريخ ابن عساكر (١٤ / ٢٠٠) ، تهذيب الكمال (١١٢٣) ، تاريخ الإسلام (٢ / ٥٠) ، العبر (١ / ٢٧) ، تهذيب التهذيب (٨ / ٣٥٧ ، ٣٥٨) ، خالصة تذهيب الكمال (٣١٥) ، شذرات الذهب (١ / ٣٤).

٣٧٩

وأصيب فم عبد الرحمن بن عوف فهتم وجرح عشرين جراحة أو أكثر ، أصابه بعضها فى رجله فعرج.

وأتى أنس بن النضر عم أنس بن مالك وبه سمى ، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله فى رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا بأيديهم ، فقال : ما يجلسكم؟ قالوا : قد قتل محمد رسول الله. قال : فما تصنعون بالحياة بعده! قوموا على ما مات عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل ، رحمه‌الله تعالى.

وروى حميد عن أنس ، أن عمه أنس بن النضر هذا غاب عن قتال يوم بدر ، فقال : غبت عن أول قتال قاتله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشركين لئن أشهدنى الله قتالا ليرين الله ما أصنع ، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال : اللهم إنى أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ، يعنى المشركين ، وأعتذر إليك مما جاء به هؤلاء ، يعنى المسلمين ، ثم مشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ فقال : أى سعد ، والذي نفسى بيده إنى لأجد ريح الجنة دون أحد! واها لريح الجنة. فقال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع. فوجدناه بين القتلى وبه بضع وثمانون جراحة من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم ، وقد مثلوا به حتى عرفته أخته ببنانه.

قال أنس : كنا نقول أنزلت هذه الآية : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٢٣] فيه وفى أصحابه.

قال ابن إسحاق (١) : وكان أول من عرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الهزيمة وتحدث الناس بقتله : كعب بن مالك الأنصاري ، قال : عرفت عينيه تزهران تحت المغفر فناديت بأعلى صوتى : يا معشر المسلمون أبشروا ، هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأشار إلى أن أنصت. فلما عرف المسلمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهضوا به ونهض معهم نحو الشّعب ، معه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام والحارث بن الصمة ، ورهط من المسلمين.

فلما أسند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الشعب أدركه أبى بن خلف وهو يقول : أين محمد : لا نجوت إن نجوت! فقال القوم : يا رسول الله ، أيعطف عليه رجل منا؟ فقال : «دعوه»(٢).

__________________

(١) انظر السيرة (٣ / ٤٦).

(٢) انظر الحديث فى : مستدرك الحاكم (٣ / ٦٢٤) ، سنن ابن ماجه (٥٣٠) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٣ / ١٩).

٣٨٠