الإكتفا - ج ١

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ١

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبدالقادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2943-0
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

ما يصنع هذا السفيه؟ قال : أنت فعلت هذا بنفسك ، وهو يقول : أى رب ما أحلمك أى رب ما أحلمك! (١).

قال ابن إسحاق (٢) : ثم إنه قام فى نقض الصحيفة التي تكاتبت فيها قريش على بنى هاشم وبنى المطلب نفر من قريش ، ولم يبل أحد فيها أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك بن حسل ، وذلك أنه كان ابن أخى نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه ، فكان هشام لبنى هشام واصلا ، وكان ذا شرف فى قومه ، فكان فيما بلغنى ليلا بالبعير قد أوقره طعاما ، حتى إذا أقبله فى فم الشعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه ليدخل الشعب عليهم ، ويأتى به قد أوقره [برّا] (٣) فيفعل به مثل ذلك.

ثم إنه مشى إلى زهير بن أمية بن المغيرة ، وأمه عاتكة بنت عبد المطلب ، فقال : يا زهير ، أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء ، وأخوالك حيث قد علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم ولا ينكحون ولا ينكح إليهم ، أما إنى أحلف بالله ، أن لو كانوا أخوال أبى الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا.

فقال : ويحك يا هشام ، فما ذا أصنع؟ أنما أنا رجل واحد. والله لو كان معى رجل آخر لقمت فى نقضها حتى أنقضها. قال : قد وجدت رجلا. قال : من هو؟ قال : أنا. قال له زهير : ابغنا ثالثا.

فذهب إلى المطعم بن عدى فقال له : يا مطعم ، أرضيت أن يهلك بطنان من بنى عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه! أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا قال : ويحك فما ذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد. قال : قد وجدت ثانيا. قال : من هو؟ قال : أنا. قال : أبغنا ثالثا. قال : قد فعلت. قال : من هو؟ قال : زهير بن أبى أمية. قال : ابغنا رابعا.

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ٣٠٦).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٣٠٦ ـ ٣٠٨).

(٣) ما بين المعقوفتين كذا فى الأصل ، وفى السيرة : بزا. وقال السهيلى فى الروض الأنف : بزا بالزى المعجمة وفى غير نسخة الشيخ أبى بحر : برا ، وفى رواية يونس : بزا أو برا ، على الشك من الراوى.

٢٢١

فذهب إلى أبى البخترى بن هشام ، فقال له نحوا مما قال للمطعم بن عدى. فقال : وهل من أحد يعين على هذا؟ قال : نعم. قال : من هو؟ قال : زهير بن أبى أمية والمطعم ابن عدى وأنا معك. قال : ابغنا خامسا.

فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد ، فكلمه وذكر له قرابتهم ومكانهم. فقال : وهل على هذا الأمر الذي تدعونى إليه من أحد؟ قال : نعم. ثم سمى له القوم. فاتعدوا خطم الحجون ليلا بأعلى مكة ، فاجتمعوا هنالك فأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام فى الصحيفة حتى ينقضوها. وقال زهير : أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم.

فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم ، وغدا زهير عليه حلة ، فطاف بالبيت سبعا ثم أقبل على الناس فقال : يا أهل مكة ، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.

قال أبو جهل ، وكان فى ناحية المسجد : كذبت والله لا تشق. قال زمعة بن الأسود : أنت والله أكذب ، ما رضينا كتابتها حين كتبت. قال أبو البخترى : صدق زمعة ، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به. قال المطعم بن عدى : صدقتما وكذب من قال غير ذلك ، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك.

فقال أبو جهل : هذا أمر قضى بليل تشوور فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس فى ناحية المسجد ، وقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا باسمك اللهم. وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة ، فشلت يده فيما يزعمون.

وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبى طالب : «يا عم ، إن الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أثبتته ونفت منها القطيعة والظلم والبهتان». قال : أربك أخبرك بهذا؟ قال : «نعم». قال : فو الله ما يدخل عليك أحد. ثم خرج إلى قريش فقال : يا معشر قريش ، إن ابن أخى أخبرنى بكذا وكذا ، فهلم صحيفتكم فإن كانت كما قال فانتهوا عن قطيعتنا ، وإن كان كاذبا دفعت إليكم ابن أخى. قال القوم : رضينا. فتعاقدوا على ذلك ، ثم نظروا فإذا هى كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزادهم ذلك شرا ، فعند ذلك صنع الرهط من قريش فى نقض الصحيفة ما صنعوا (١).

__________________

(١) ذكره السيوطى فى الخصائص الكبرى (١ / ٢٥٠ ، ٢٥١) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (٣ / ٩٧).

٢٢٢

قال ابن إسحاق (١) : فلما مزقت الصحيفة وبطل ما فيها قال أبو طالب فيما كان من أمر أولئك الذين قاموا فى نقضها يمدحهم :

ألا هل أتى بحرينا صنع ربنا

على نأيهم والله بالناس أرود (٢)

فنخبرهم أن الصحيفة مزقت

وأن كل ما لم يرضه الله مفسد

تراوحها إفك وسحر مجمع

ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد (٣)

جزى الله رهطا بالحجون تتابعوا

على ملأ يهدى لحزم ويرشد

قعودا لدى خطم الحجون كأنهم

مقاولة بل هم أعز وأمجد

أعان عليها كل صقر كأنه

إذا ما مشى فى رفرف الدرع أحرد

جرى على جل الخطوب كأنه

شهاب بكفى قابس يتوقد

من الأكرمين من لؤيّ بن غالب

إذا سيم خسفا وجهه يتربد

طويل النجاد خارج نصف ساقه

على وجهه نسقى الغمام ونسعد

عظيم الرماد سيد وابن سيد

يحض على مقرى الضيوف ويحشد

ويا بنى لأفياء العشيرة صالحا

إذا نحن طفنا فى البلاد ويمهد

ألظ بهذا الصلح كل مبرأ

عظيم اللواء أمره ثم يحمد

قضوا ما قضوا فى ليلهم ثم أصبحوا

على مهل وسائر الناس رقد

هم رجعوا سهل بن بيضاء راضيا

وسر أبو بكر بها ومحمد

متى شرك الأقوام فى جل أمرنا

وكنا قديما قبلها نتودد

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ٣٠٩).

(٢) بحرينا : يقصد به من هاجر من المسلمين فى البحر.

(٣) ذكر بعد هذا البيت ، أبيات آخره لم يذكرها هنا وهى :

تداعى لها من ليس فيها بقرقر

فطائرها فى رأسها يتردد

وكانت كفاء رقعة بأثيمة

ليقطع منها ساعد ومقلد

ويظعن أهل المكتين فيهربوا

فرائصهم من خشية الشر ترعد

ويترك حراث يقلب أمره

أيتهم فيهم عند ذاك وينجد

وتصعد بين الأخشبين كتيبة

لها حدج سهم وقوس ومرهد

فمن ينش من حضار مكة عزه

فعزتنا فى بطن مكة أتلد

نشأنا بها والناس فيها قلائل

فلم ننفكك نزداد خيرا ونحمد

ونطعم حتى يترك الناس فضلهم

إذا جعلت أيدى المفيضين ترعد

انظر : السيرة (١ / ٣٠٩ ـ ٣١٠).

٢٢٣

وكنا قديما لا نقر ظلامة

وندرك ما شئنا ولا نتشدد

فيا لقصى هل لكم فى نفوسكم

وهل لكم فيما يجىء به غد

فإنى وإياكم كما قال قائل

لديك البيان لو تكلمت أسود

أسود هنا اسم جبل كان قتل فيه قتيل لم يعرف قاتله ، فقال أولياء المقتول هذه المقالة ، يعنون بها أن هذا الجبل لو تكلم لأبان عن القائل ولعرف بالجانى ، ولكنه لا يتكلم ، فذهبت مقالتهم تلك مثلا.

قال ابن إسحاق (١) : فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يرى من قومه يبذل لهم النصيحة ويدعوهم إلى النجاة مما هم فيه ، وجعلت قريش حين منعه الله منهم يحذرونه الناس ومن قدم عليهم من العرب.

فكان طفيل بن عمرو الدوسى (٢) وكان رجلا شريفا شاعرا لبيبا يحدث أنه قدم مكة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، فمشى إليه رجال من قريش فقالوا له : يا طفيل إنك قدمت بلادنا ، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا (٣) ، فرق جماعتنا وشتت أمرنا ، وإنما قوله كالسحر يفرق به بين الرجل وبين أبيه ، وبين الرجل وبين أخيه وبين الرجل وبين زوجته ، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا ، فلا تكلمنه ولا تسمعن منه.

قال : فو الله ما زالوا بى حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه ، حتى حشوت فى أذنى حين غدوت إلى المسجد كرسفا (٤) فرقا من أن يبلغنى شيء من قوله ، وأنا لا أريد أن أسمعه ، قال : فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم يصلى عند الكعبة ، فقمت قريبا منه ، فأبى الله إلا أن يسمعنى بعض قوله ، فسمعت كلاما حسنا ، فقلت فى نفسى : واثكل أمى! والله إنى لرجل لبيب شاعر وما يخفى على الحسن من القبيح ، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ، فإن كان الذي يأتى به حسنا قبلته ، وإن كان قبيحا تركته.

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ٣١٢ ـ ٣١٣).

(٢) هو : الطفيل بن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس الدوسى من دوس. انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٢٨٣) ، طبقات ابن سعد (٤ / ١ / ١٧٥) ، طبقات خليفة (١٣ / ١١٤) ، تاريخ خليفة (١١١) الجرح والتعديل (٤ / ٤٨٩) ، العبر (١ / ١٤) ، تاريخ ابن عساكر (٧ / ٦٢).

(٣) أعضل بنا : أى أشد أمره ولم يوجد له وجه.

(٤) كرسفا : الكرسف يعنى القطن.

٢٢٤

فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيته فاتبعته ، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت : يا محمد ، إن قومك قالوا لى كذا وكذا ، فو الله ما برحوا يخوفوننى امرك حتى سددت أذنى بكرسف لئلا أسمع قولك ، ثم أبى الله إلا أن يسمعنى فسمعت قولا حسنا ، فاعرض على أمرك ، فعرض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإسلام وتلا على القرآن ، فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه ، فأسلمت وشهدت شهادة الحق ، وقلت : يا نبى الله ، إنى امرؤ مطاع فى قومى وإنى راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام فادع الله أن يجعل لى آية تكون لى عونا عليهم فيما أدعوهم إليه. فقال : اللهم اجعل له آية.

فخرجت إلى قومى حتى إذا كنت على ثنية تطلعنى على الحاضر وقع نور بين عينى مثل المصباح. قلت : اللهم فى غير وجهى ، إنى أخشى أن يظنوا أنها مثلة وقعت فى وجهى لفراقى دينهم. قال : فتحول فوقع فى رأس سوطى ، فجعل أهل الحاضر يتراءون ذلك النور فى سوطى كالقنديل المعلق ، وأنا أهبط إليهم من الثنية حتى جئتهم ، فلما نزلت أتانى أبى وكان شيخا كبيرا ، فقلت : إليك عنى يا أبا فلست منك ولست منى. قال : لم يا بنى؟ قلت : أسلمت وتابعت دين محمد. قال : أى بنى فدينى دينك. فقلت : فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك ، ثم تعال حتى أعلمك ما علمت. فذهب فاغتسل وطهر ثيابه ، ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم ، ثم أتتنى صاحبتى فقلت لها : إليك عنى فلست منك ولست منى. قالت : لم بأبى أنت وأمى؟! قلت : فرق بينى وبينك الإسلام وتابعت دين محمد. قالت : فدينى دينك. قلت : فاذهبى إلى حنا ذى الشرى.

قال ابن هشام (١) : ويقال : حمى ذى الشرى ، فتطهرى منه ، وكان ذو الشرى صنما لدوس والحنا حمى حموه له ، به وشل من ماء يهبط من جبل. فقالت : بأبى أنت وأمى ، أتخشى على الصبية من ذى الشرى شيئا؟ قلت : لا أنا ضامن لذلك. فذهبت فاغتسلت ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت ، ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطئوا على ، ثم جئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، فقلت يا نبى الله ، إنه غلبنى على دوس الزنا فادع الله عليهم. فقال : اللهم اهد دوسا ، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم.

فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، ومضى بدر وأحد والخندق ، ثم قدمت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمن أسلم معى من قومى ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخيبر حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس ، ثم لحقنا

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ٣١٤).

٢٢٥

برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين ، ثم لم أزل مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى فتح الله عليه مكة قلت : يا رسول الله ، ابعثنى إلى ذى الكفين ، صنم عمرو بن حممة ، حتى أحرقه.

قال ابن إسحاق (١) : فخرج إليه فجعل وهو يوقد عليه النار يقول :

يا ذا الكفين لست من عبادكا

ميلادنا أقدم من ميلادكا

إنى حشوت النار فى فؤادكا (٢)

ثم رجع ، فكان بالمدينة حتى قبض الله رسوله ، فلما ارتدت العرب خرج مع المسلمين فسار معهم حتى فرغوا من طليحة ومن أرض نجد كلها ، ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة فقال لأصحابه : إنى قد رأيت رؤيا فاعبروها لى. رأيت أن رأسى حلق ، وأنه خرج من فمى طائر ، وأنه لقيتنى امرأة فأدخلتنى فى فرجها وأرى ابنى يطلبنى طلبا حثيثا ثم رأيته حبس عنى.

قالوا : خيرا ؛ قال : أما أنا والله فقد أولتها. قالوا : ما ذا؟ قال : أما حلق رأسى فوضعه ، وأما الطائر الذي خرج من فمى فروحى ، وأما المرأة التي أدخلتنى فى فرجها فالأرض تحفر لى وأغيب فيها ، وأما طلب ابنى إياى ثم حبسه عنى فإنى أراه سيجهد أن يصيبه ما أصابنى ، فقتل رحمه‌الله شهيدا باليمامة ، وجرح ابنه جراحة شديدة ثم [استبلّ] (٣) منها ثم قتل عام اليرموك فى زمان عمر شهيدا (٤).

وذكر ابن هشام (٥) أن أعشى بنى قيس بن ثعلبة (٦) خرج إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ٣١٤).

(٢) انظر : الأبيات فى الاستيعاب الترجمة رقم (١٢٨٣) ، الإصابة الترجمة رقم (٤٢٧٣) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٦١٣).

(٣) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل : «استقل» ، وما أوردناه من السيرة. واستبل منها : يقال بل وأبل واستبل المريض من مرضه إذا أفاق وبرىء.

(٤) ذكره بنحوه ابن عبد البر فى الاستيعاب الترجمة رقم (١٢٨٣) ، ابن حجر فى الإصابة (٣ / ٢٨٧) بنحوه مختصرا ، ابن لأثير فى أسد الغابة (٣ / ٧٨) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (٣ / ٩٩).

(٥) انظر : السيرة (١ / ٣١٧ ـ ٣١٩).

(٦) قال فى كتاب الشعر والشعراء (١٥٤) : هو من سعد بن ضبيعة بن قيس ، وكان أعمى ، ويكنى أبا بصير ، وكان أبوه قيس يدعى قتيل الجوع.

٢٢٦

الإسلام ، وقال قصيدة يمدحه فيها ، نذكرها بعد. فلما كان بمكة أو قريبا منها اعترضاه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره ، فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسلم. فقال له : يا أبا بصير ، إنه يحرم الزنا. فقال الأعشى : والله إن ذلك لأمر ما لى فيه من أرب. فقال : يا أبا بصير ، فإنه يحرم الخمر (١). فقال : أما هذه فو الله إن فى النفس منها لعلالات ، ولكنى منصرف فأتروى منها عامى هذا ثم آتيه فأسلم.

فانصرف فمات فى عامه ذلك ولم يعد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هذا ما ذكر ابن هشام فى قصة الأعشى ، وظاهره يقتضى أن قصده كان إلى مكة وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها حينئذ لم يهاجر بعد.

ويعارض هذا الظاهر ما ذكر من تحريم الخمر ، فإن أهل النقل مجمعون على أن الخمر إنما حرمت بالمدينة بعد أن مضى بدر وأحد ونزل تحريمها فى سورة المائدة وهى من آخر ما نزل من القرآن فإن صح أن خروج الأعشى كان قبل الهجرة كما فى ظاهر الخبر فلعل المشرك الذي لقيه وأخبره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتحريم الخمر ، أراد بهذا القول تنفيره عن الإسلام وإبعاده عنه ، مع ما كان من كراهية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبدا للخمر وتنزيه الله إياه عنها.

ألا تراه ليلة الإسراء لما عرضت عليه آنية الخمر واللبن اختار اللبن فقيل له : هديت للفطرة ، لو أخذت الخمر غوت أمتك. والإسراء إنما كان بمكة فى صدر الإسلام. وقد يمكن أن يكون قصد الأعشى إلى المدينة بعد الهجرة وبعد تحريم الخمر فتلقاه بعض المشركين من قريش ممن لم يكن أسلم بعد.

ولعل هذا هو الأولى بدليل قوله فى قصيدته الآتية بعد :

ألا أيهذا السائلى أين يممت

فإن لها فى أهل يثرب موعدا

والله أعلم بالحقيقة فى ذلك كله ، والقصيدة التي مدح بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هى قوله :

__________________

(١) قال السهيلى فى الروض الأنف (٢ / ١٣٦) : هذه غفلة من ابن هشام ، ومن قال بقوله : فإن الناس مجمعون على أن الخمر لم ينزل تحريمها إلا بالمدينة بعد أن مضيت بدر وأحد ، وحرمت فى سورة المائدة وهى من أخر ما نزل ، وفى الصحيحين من ذلك قصة حمزة حين شربها ، وغتنه القينتان : ألا يا حمز للشرف النواء ، فبقر خواصر الشارفين ، واجتنب أسمنتها ، وقوله للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل أنتم إلا عبيد لآبائى ، وهو ثمل ، ... الحديث ، فإن صح خبر الأعشى وما ذكر له فى الخمر ، فلم يكن هذا بمكة ، وإنما كان بالمدينة ، ويكون القائل له : أما علمت أنه يحرم الخمر من المنافقين أو من اليهود ، فالله أعلم.

٢٢٧

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا

وبت كما بات السليم مسهدا (١)

وما ذاك من عشق النساء وإنما

تناسيت قبل اليوم خلة مهددا

ولكن أرى الدهر الذي هو خائن

إذا أصلحت كفاى عاد فأفسدا

كهولا وشبابا فقدت وثروة

فلله هذا الدهر كيف ترددا

وما زلت أبغى المال مذ أنا يافع

وليدا وكهلا حين شبت وأمردا

وأبتذل العيس المراقيل تعتلى

مسافة ما بين النجير فصرخدا (٢)

ألا أيهذا السائلى أين يممت

فإن لها فى أهل يثرب موعدا

فإن تسألى عنى فيا رب سائل

حفى عن الأعشى به حيث [أصهدا] (٣)

أجدت برجليها النجاء وراجعت

يداها خنفا لينا غير أحردا

وفيها إذا ما هجرت عجرفية

إذا خلت حرباء الظهيرة أصيدا (٤)

وآليت لا آوى لها من كلالة

ولا من حفى حتى تلاقى محمدا

متى ما تناخى عند باب ابن هشام

تراحى وتلقى من فواضله ندا

نبيا يرى ما لا ترون وذكره

أغار لعمرى فى البلاد وأنجدا (٥)

له صدقات ما تغب ونائل

وليس عطاء اليوم مانعه غدا

أجدك لم تسمع وصاة محمد

نبى الإله حين أوصى وأشهدا

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى

ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله

فترصد للموت الذي كان أرصدا

فإياك والميتات لا تقربنها

ولا تأخذن سهما حديدا لتقصدا

وذا النصب المنصوب لا تنسكنّه

ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا (٦)

ولا تقربن حرة كان سرها

عليك حراما فانكحن أو تأبدا

__________________

(١) الأرمد : الذي يشتكى عينيه من الرمد. المسهد : الذي منع النوم.

(٢) العيس : الإبل البيض يخالطها حمرة. المراقيل : مأخوذ من الإرقال وهو السرعة فى السير. النجير : موضع فى حضرموت فى اليمن. صرخد : موضع بالجزيرة.

(٣) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل : «أصعدا» ، وما أوردناه من السيرة. وأصهدا : أى ذهب.

(٤) العجرفية : أى تخليط من غير استقامة. الحرباء : بكسر فسكون دويبة تكون فى أعلى الشجرة.

(٥) أغار لعمرى : معناه بلغ الغور وهو منخفض من الأرض. أنجد : بلغ النجد وهو ما ارتفع من الأرض.

(٦) النصب : حجارة كان يذبحون لها. النسك : الدم كانوا يعترون عند أصناهم ثم يطلون رءوس الأصنام بدماء العتائر.

٢٢٨

وذا الرحم القربى فلا تقطعنه

لعاقبة ولا الأسير المقيدا

وسبح على حين العشيات والضحى

ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا

ولا تسخرن من بائس ذى ضرارة

ولا تحسبن المال للمرء مخلدا

قال ابن إسحاق (١) : وقد كان عدو الله أبو جهل مع عداوته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبغضه إياه ، يذله الله إذا رآه.

حدثني (٢) عبد الملك بن عبد الله بن أبى سفيان الثقفى ، وكان واعية ، قال : قدم رجل من إراش (٣) بإبل له مكة ، فابتاعها منه أبو جهل فمطله بأثمانها ، فأقبل الإراشى حتى وقف على ناد من قريش ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس فى ناحية المسجد ، فقال : يا معشر قريش ، من رجل يؤدينى على أبى الحكم بن هشام ، فإنى غريب ابن سبيل وقد غلبنى على حقى.

فقال له أهل ذلك المجلس : أترى ذلك الرجل؟ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهزأون به لما يعلمون بينه وبين أبى جهل من العداوة ، اذهب إليه فهو يؤديك عليه.

فأقبل الإراشى حتى وقف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا عبد الله ، إن أبا الحكم بن هشام غلبنى على حق لى قبله وأنا غريب ابن سبيل ، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤدينى عليه ، يأخذ لى حقى منه ، فأشاروا لى إليك فخذ لى حقى منه يرحمك الله.

قال : انطلق إليه. وقام معه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن معهم: اتبعه فانظر ما يصنع.

قال : وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه فقال : من هذا؟ فقال : محمد. فاخرج إلى. فخرج إليه وما فى وجهه من رائحة ، لقد انتقع لونه ، فقال : أعط هذا حقه. قال نعم ، لا يبرح حتى أعطيه الذي له.

فدخل فخرج إليه بحقه فدفعه إليه ، فأقبل الإراشى حتى وقف على ذلك المجلس فقال : جزاه الله خيرا ، فقد والله أخذ لى حقى. وجاء الرجل الذي بعثوا معه فقالوا ويحك ، ما ذا رأيت؟ قال : عجبا من العجب! والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ٣١٨).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٣١٨ ـ ٣١٩).

(٣) إراش : هو ابن الغوث أو ابن عمرو بن الغوث ابن بنت مالك وهو والد أنمار الذي ولد بجيله وخثعم.

٢٢٩

إليه وما معه روحه ، فقال : أعط هذا الرجل حقه. قال : نعم ، لا يبرح حتى أخرج إليه حقه. فدخل فخرج إليه بحقه فأعطاه إياه ، ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء ، فقالوا : ويلك! ما لك؟ والله ما رأينا مثل ما صنعت قط ، قال : ويحكم! والله ما هو إلا أن ضرب على بابى وسمعت صوته فملئت رعبا ، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط ، والله لو أبيت لأكلنى (١).

وذكر الواقدى عن يزيد بن رومان قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا فى المسجد معه رجال من أصحابه أقبل رجل من بنى زبيد يقول : يا معشر قريش ، كيف تدخل عليكم المادة أو يجلب إليكم جلب أو يحل تاجر بساحتكم وأنتم تظلمون من دخل عليكم فى حرمكم. يقف على الحلق حلقة حلقة.

حتى انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أصحابه ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ومن ظلمك؟ فذكر أنه قدم بثلاثة أجمال كانت خيرة إبله ، فسامه أبو جهل ثلث أثمانها ثم لم يسمه بها لأجله سائم ، قال : فأكسد على سلعتى وظلمنى. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأين أجمالك؟» قال : هى هذه بالحزورة. فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه وقام أصحابه ، فنظر إلى الجمال فرأى جمالا فرها. فساوم الزبيدى حتى ألحقه برضاه ، فأخذها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فباع جملين منها بالثمن ، وأفضل بعيرا باعه وأعطى أرامل بنى عبد المطلب ثمنه ، وأبو جهل جالس فى ناحية من السوق لا يتكلم. ثم أقبل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا عمرو ، إياك أن تعود لمثل ما صنعت بهذا الأعرابى فترى منى ما تكره». فجعل يقول : لا أعود يا محمد ، لا أعود يا محمد ، فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقبل عليه أمية بن خلف ومن حضر من القوم ، فقالوا : ذللت فى يدى محمد ، فإما أن تكون تريد أن تتبعه وإما رعب دخلك منه. قال : لا أتبعه أبدا ، إن الذي رأيتم منى لما رأيت معه ، لقد رأيت رجالا عن يمينه وشماله معهم رماح يشرعونها إلى ، لو خالفته لكانت إياها. أى لأتوا على نفسى.

وذكر محمد بن إسحاق (٢) عن أبيه قال : كان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب أشد قريش ، فخلا يوما برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بعض شعاب مكة ، فقال له : يا ركانة ، ألا تتقى الله وتقبل ما أدعوك إليه؟! قال : لو أعلم أن الذي تقول حق لا تبعتك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق؟ قال : نعم. قال : فقم

__________________

(١) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٣ / ٩٤ ـ ٩٥).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٣١٩ ـ ٣٢٠).

٢٣٠

حتى أصارعك. فقام إليه ركانة فصارعه ، فلما بطش به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أضجعه لا يملك من نفسه شيئا ، ثم قال : عد يا محمد. فعاد فصرعه. فقال : يا محمد ، إن ذا للعجب أتصرعني!! قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه إن اتقيت الله واتبعت أمرى» ، قال : ما هو؟ قال : «أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتينى». قال :ادعها. فدعا بها ، فأقبلت حتى وقفت بين يدى رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لها : «ارجعى إلى مكانك ، فرجعت إلى مكانها» ، فذهب ركانة إلى قومه فقال : يا بنى عبد مناف ، ساحروا بصاحبكم أهل الأرض ، فو الله ما رأيت أسحر منه قط. ثم أخبرهم بالذى رأى وصنع (١).

قال ابن إسحاق (٢) : ثم قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بمكة عشرون رجلا أو قريبا من ذلك ، من النصارى ، يقال : إنهم من أهل نجران ، حين بلغهم خبره من الحبشة ، فوجدوه فى المسجد ، فجلسوا إليه وكلموه وسألوه ، ورجال من قريش فى أنديتهم حول الكعبة ، فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أرادوا دعاهم إلى الله وتلا عليهم القرآن ، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم فى كتابهم من أمره ، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل فى نفر من قريش ، فقالوا لهم : خيبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم لتأتوهم بخبر الرجل ، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه! ما نعلم ركبا أحمق منكم. أو كما قالوا. فقالوا لهم : سلام عليكم لا نجاهلكم ، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه ، لم نأل أنفسنا خيرا.

فيقال والله أعلم : فيهم نزلت هؤلاء الآيات : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) إلى قوله : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص : ٥٢ ، ٥٥].

فقال (٣) : وقد سألت الزهرى فقال : ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلت فى النجاشى وأصحابه. والآيات من المائدة قول الله عزوجل : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً

__________________

(١) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ١٠٣) ، دلائل النبوة للبيهقى (٦ / ٢٥٠) ، أبى داود فى المراسيل (٣٠٨) ، البيهقي فى السنن الكبرى (١٠ / ١٨).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٣٢٠ ـ ٣٢١).

(٣) انظر : السيرة (١ / ٣٢١).

٢٣١

لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة : ٨٢ ، ٨٣].

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جلس فى المسجد فجلس إليه المستضعفون من أصحابه ، خباب وعمار وأبو فكيهة يسار وصهيب وأشباههم هزئت بهم قريش وقال بعضهم لبعض : هؤلاء أصحابه كما ترون ، أهؤلاء من الله عليهم من بيننا بالهدى والحق! لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه وما خصهم الله به دوننا.

فأنزل الله عليهم : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام : ٥٢ ، ٥٤] (١).

وهؤلاء أيضا ، ومن قال بقولهم هم الذين عنى الله سبحانه بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) [الأحقاف : ١١].

قال ابن إسحاق (٢) : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغنى كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصرانى يقال له : جبر ، عبد لبنى الحضرمى ، وكانوا يقولون : والله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتى به إلا جبر النصرانى ، فأنزل الله فى ذلك من قولهم : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل : ١٠٣] (٣).

وكان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : دعوه ، فإنما هو رجل أبتر ، لو قد مات لقد انقطع ذكره واسترحتم منه ، فأنزل الله عزوجل ، فى ذلك من قوله : (إِنَّا

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح مسلم كتاب الفضائل (٤ / ٤٦) ، سنن ابن ماجه (٤١٢٧) ، تفسير الطبرى (٧ / ١٢٧).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٣٢٢).

(٣) انظر الحديث فى : مستدرك الحاكم (٢ / ٣٥٧) ، الواحدى فى أسباب النزول (ص ٢٣٥) ، تفسير الطبرى (١٤ / ١١٩ ، ١٢٠).

٢٣٢

أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [الكوثر : ١ ، ٤] (١) ، أى أعطيناك ما هو خير من الدنيا وما فيها. والكوثر العظيم. وقيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما الكوثر الذي أعطاك الله؟ قال : «نهر كما بين صنعاء إلى أيلة آنيته كعدد نجوم السماء ترده طير لها أعناق كأعناق الإبل». قال عمر بن الخطاب : إنها يا رسول الله لناعمة. قال : «آكلها أنعم منها» (٢).

ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوما إلى الإسلام ، فقال له زمعة بن الأسود والنضر بن الحارث والأسود بن عبد يغوث وأبى بن خلف والعاص بن وائل : لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك؟ فأنزل الله فى ذلك : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) [الأنعام : ٨ ، ٩] (٣).

ومر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبى جهل ، فهمزوه واستهزءوا به ، فغاظه ذلك ، فأنزل الله عليه : لا (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الأنعام : ١٠] (٤).

ذكر الحديث عن مسرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

قال ابن إسحاق (٥) : ثم أسرى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى

__________________

(١) انظر الحديث فى : مجمع الزوائد للهيثمى (٧ / ١٤٣) ، أسباب النزول للواحدى (ص ٤٠٤).

(٢) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٣ / ٢٢٠ ، ٢٢١ ، ٢٣٦) ، مجمع الزوائد للهيثمى (١٠ / ٣٦٠ ، ٣٦١).

(٣) ذكره الشوكانى فى فتح القدير (٢ / ١٤٧).

(٤) ذكره الشوكانى فى فتح القدير (٢ / ١٤٨).

(٥) انظر : السيرة (٢ / ٥ ـ ٧).

قلت : ولم يذكر ابن إسحاق تحديد السنة التي وقع فيها الإسراء ، وقد تعرض ابن كثير فى البداية والنهاية لذلك ، فقال : ذكر ابن عساكر أحاديث الإسراء فى أوائل البعثة ، وأما ابن إسحاق فذكرها فى هذا الموطن بعد البعثة بنحو من عشر سنين ، وروى البيهقي من طريق موسى بن عقبة ، عن الزهرى أنه قال : أسرى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل خروجه إلى المدينة بسنة ... ثم روى عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار ، عن يونس بن بكير ، عن أسباط بن نصر ، عن إسماعيل السدى أنه قال : فرض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخمس ببيت المقدس ليلة أسرى به ـ

٢٣٣

وهو بيت المقدس من إيلياء ، وقد فشا الإسلام مكة فى قريش وفى القبائل كلها.

فكان من الحديث فيما بلغنى ، عن مسراه صلوات الله عليه وسلامه ، عن عبد الله بن مسعود ، وأبى سعيد الخدرى ، وعائشة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعاوية بن أبى سفيان ، وأم هانئ بنت أبى طالب ، والحسن بن أبى الحسن ، وابن شهاب الزهرى ، وقتادة وغيرهم من أهل العلم ما اجتمع فى هذا الحديث ، كل يحدث عنه بعض ما ذكر من أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أسرى به.

وكان فى مسراه وما ذكر منه بلاء وتمحيص وأمر من الله فى قدرته وسلطانه ، فيه عبرة لأولى الألباب وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق.

وكان من أمر الله على يقين ، فأسرى به كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد ، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم وقدرته التي يصنع بها ما يريد.

فكان عبد الله بن مسعود ، فيما بلغنى عنه ، يقول أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبراق ، وهى الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله ، تضع حافرها فى منتهى طرفها ، فحمل عليه ، ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السموات والأرض حتى انتهى إلى بيت المقدس ، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى فى نفر من الأنبياء عليهم‌السلام قد جمعوا له ، فصلى بهم ثم أتى بثلاثة آنية ، إناء فيه لبن ، وإناء فيه خمر ، وإناء فيه ماء ، قال : فسمعت قائلا يقول : إن أخذ الماء فغرق وغرقت أمته ، وإن أخذ الخمر فغوى وغوت أمته ، وإن أخذ اللبن هدى وهديت أمته. قال : «فأخذت إناء اللبن فشربت ، فقال له جبريل : هديت وهديت أمتك يا محمد» (١).

قال (٢) : وحدثت عن الحسن أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينا أنا نائم فى الحجر

__________________

ـ قبل مهاجره بستة عشر شهرا. فعلى قول السدى يكون الإسراء فى شهر ذى القعدة ، وعلى قول الزهرى وعروة يكون فى ربيع الأول. ثم ذكر عن جابر ، وابن عباس قالا : ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفيل يوم الإثنين الثانى عشر من ربيع الأول ، وفيه بعث وفيه عرج به إلى السماء وفيه هاجر ومات. وفيه انقطاع ، ثم ذكر أن المقدسى أورد حديثا لا يصح سند : أن الإسراء كان ليلة السابع والعشرين من رجب والله أعلم. انظر : المنتظم لابن الجوزى (حاشية ٣ / ٢٦) تحقيقنا.

(١) ذكره ابن كثير فى تفسيره (٥ / ٢٨) ، ابن حجر فى فتح البارى (٧ / ٢٥٦) ، الهيثمى فى المجمع (١ / ٧٨) ، السيوطى فى الخصائص الكبرى (١ / ٢٦٨ ، ٢٦٩).

(٢) انظر : السيرة (٢ / ٧).

٢٣٤

جاءنى جبريل فهمزنى بقدمه ، فجلست فلم أر شيئا ، فعدت لمضجعى ، فجاءنى الثانية فهمزنى بقدمه فجلست فلم أر شيئا ، فعدت لمضجعى فجاءنى الثالثة فهمزنى بقدمه فجلست فأخذ بعضدى ، فقمت معه فخرج بى إلى باب المسجد ، فإذا دابة أبيض ، بين البغل والحمار ، فى فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه. يضع يديه فى منتهى طرفه ، فحملنى عليه ثم خرج معى لا يفوتنى ولا أفوته» (١).

وفى حديث قتادة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما دنوت منه لأركبه شمش فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال : ألا تستحى يا براق مما تصنع! فو الله ما ركبك عبد الله قبل محمد أكرم عليه منه. فاستحيا حتى ارفض عرقا ثم قر حتى ركبته» (٢).

وفى حديث الحسن من انتهاء جبريل بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت المقدس وإمامته فيه بمن وجد عنده من الأنبياء ، على جميعهم السلام ، نحو ما تقدم من ذلك فى حديث ابن مسعود.

قال : ثم أتى بإناءين فى أحدهما خمر وفى الآخر لبن ، فأخذ إناء اللبن وترك إناء الخمر ، فقال له جبريل : هديت للفطرة وهديت أمتك وحرمت عليكم الخمر.

وذكر تحريم الخمر هنا غريب جدا ، والذي عليه العلماء أن الخمر إنما حرمت بالمدينة بعد سنين من الهجرة.

قال الحسن : ثم انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مكة ، فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر. فقال أكثر الناس : هذا والله الأمر البين (٣) ، والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة ، أفيذهب ذلك محمد فى ليلة واحدة ويرجع إلى مكة!. قال : فارتد كثير ممن كان أسلم ، وذهب الناس إلى أبى بكر ، فقالوا : هل لك يا أبا بكر فى صاحبك! يزعم أنه جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة. فقال لهم أبو بكر : إنكم تكذبون عليه. فقالوا : بلى ها هو ذاك فى المسجد يحدث به الناس.

فقال أبو بكر : والله لئن كان قاله لقد صدق ، فما يعجبكم من ذلك؟! فو الله إنه

__________________

(١) انظر الحديث فى : تفسير الطبرى (١٥ / ٣ ، ٤).

(٢) انظر الحديث فى : سنن الترمذى (٣٣٣١) ، تفسير الطبرى (١٥ / ١٢ ، ١٣) ، فتح البارى لابن حجر (٧ / ٢٤٧) ، مسند الإمام أحمد (٣ / ١٦٤).

(٣) الأمر البين : هو الأمر العظيم أو الشنيع ، وقيل : هو العجب.

٢٣٥

ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض فى ساعة من ليل أو نهار فأصدقه ، فهذا أبعد ما تعجبون منه ، ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا نبى الله ، أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال : «نعم». قال : يا نبى الله ، فصفه لى فإنى قد جئته.

قال الحسن : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فرفع لى حتى نظرت إليه» ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصفه لأبى بكر ، ويقول أبو بكر : صدقت أشهد أنك رسول الله. كلما وصف له منه شيئا قال : صدقت أشهد رسول الله. حتى إذا انتهى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبى بكر : وأنت يا أبا بكر الصديق أشهد أنك. فيومئذ سماه الصديق.

قال الحسن : وأنزل الله فيمن ارتد عن إسلامه لذلك : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) [الإسراء : ٦٠] ، فهذا حديث عن مسرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما دخل فيه من حديث قتادة (١).

قال ابن إسحاق (٢) : وحدثني بعض آل أبى بكر أن عائشة كانت تقول : ما فقد جسد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن أسرى بروحه (٣).

وكان معاوية بن أبى سفيان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كانت رؤيا من الله صادقة (٤).

فلم ينكر ذلك من قولهما لقول الحسن إن هذه الآية نزلت فى ذلك ، قول الله : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) ولقوله تعالى فى الخبر عن إبراهيم إذ قال لابنه : (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) [الصافات : ١٠٢] ثم مضى على ذلك ، فعرفت أن الوحى من الله يأتى الأنبياء أيقاظا ونياما.

__________________

(١) ذكر البخاري فى صحيحه (٤٧١٦) كتاب التفسير باب (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) ، من حديث ابن عباس ، قال : هى رؤيا عين رأيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة أسرى به والشجرة الملعونة هى شجرة الزقوم. وأخرجه أحمد فى مسنده (١ / ٢٢١ ، ٣٧٠) ، الترمذى فى كتاب التفسير (٣١٣٤) ، الحاكم فى المستدرك (٢ / ٣٦٢).

(٢) انظر : السيرة (٢ / ٩).

(٣) ذكره الطبرى فى تفسيره (١٥ / ١٣).

(٤) ذكره الطبرى فى تفسيره (١٥ / ١٣).

٢٣٦

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «تنام عينى وقلبى يقظان» (١). فالله أعلم أى ذلك كان قد جاءه وعاين ما عاين من أمر الله ، على أى حاليه كان نائما أو يقظان ، كل ذلك حق وصدق.

وزعم الزهرى عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصف لأصحابه إبراهيم وموسى وعيسى حين رآهم فى تلك الليلة صلوات الله على جميعهم ، فقال : «أما إبراهيم فلم أر رجلا أشبه بصاحبكم ، ولا صاحبكم أشبه به منه ، وأما موسى فرجل آدم طويل ضرب جعد أقنى كأنه من رجال شنوءة ، وأما عيسى ابن مريم فرجل أحمر بين القصير والطويل ، سبط الشعر كثير خيلان الوجه كأنه خرج من ديماس تخال رأسه يقطر ماء وليس فيه ماء ، أشبه رجالكم به عروة بن مسعود الثقفى» (٢).

قال ابن هشام (٣) : وكانت صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما ذكر عمر مولى غفرة ، عن إبراهيم بن محمد بن على بن أبى طالب ، قال : كان علىّ إذا نعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : لم يكن بالطويل الممغط ولا القصير المتردد ، كان ربعة من القوم ، ولم يكن بالجعد القطط ولا بالسبط كان جعدا رجلا ، ولم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم ، وكان أبيض مشربا أدعج العينين أهدب الأشفار جليل المشاش والكند دقيق المسربة أجرد شئن الكفين والقدمين ، إذا تمشى تقلع كأنما يمشى فى صبب ، وإذا التفت التفت معا ، بين كتفيه خاتم النبوة ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين أجود الناس كفا وأجرأ الناس صدرا وأصدق الناس لهجة وأوفى الناس بذمة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة ، من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه ، يقول ناعته : لم أر قبله ولا بعده مثله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤).

__________________

(١) انظر الحديث فى : تفسير الطبرى (١٥ / ١٣).

(٢) انظر الحديث فى : تفسير الطبرى (١٥ / ١٢).

(٣) انظر : السيرة (٢ / ١١).

(٤) انظر الحديث فى : سنن الترمذى (٣٦٣٨) ، وقال : حديث حسن غريب ليس إسناده بمتصل.

وقال أبو عيسى : سمعت أبا جعفر محمد بن الحسين ، يقول : سمعت الأصمعي يقول فى تفسير صفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الممغط : الذاهب طولا ، وقال : سمعت أعرابيا يقول فى كلامه تمغط فى نشابته ، أى مدها مدا شديدا. والمتردد : الداخل بعضه فى بعض قصرا. وأما القطط : فالشديد الجعودة. والرجل : الذي فى شعره حجونة ، أى تثن قليل. وأما المطهم : فالبادن الكثير اللحم. والمكلثم : المدور الوجه. والمشرب : الذي فى بياضه حمرة. والأدعج : الشديد سواد العين. والأهدب : الطويل الأشفار. والكتد : مجتمع الكتفين وهو الكامل. والمسربة : هو الشعر الدقيق الذي كأنه قضيب من الصدر إلى السربة. والشثن : الغليظ الأصابع من الكفين والقدمين. والتقلع : أن ـ

٢٣٧

قال ابن إسحاق (١) : وكان فيما بلغنى عن أم هانئ بنت أبى طالب أنها كانت تقول : ما أسرى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا وهو فى بيتى ، نام عندى تلك الليلة فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا ، فلما كان قبيل الفجر أهبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما صلى الصبح وصلينا معه قال : يا أم هانئ ، لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادى ، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم قد صليت معكم صلاة الغداة الآن كما ترين ، ثم قام ليخرج فأخذت بطرف ردائه ، فتكشف عن بطنه وكأنه قبطية مطوية ، فقلت : يا نبى الله ، لا تحدث بهذا الناس فيكذبوك ويؤذوك ، قال : والله لأحدثنهموه. فقلت لجارية لى حبشية : ويحك ، اتبعى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تسمعى ما يقول للناس وما يقولون له ، فلما خرج إلى الناس أخبرهم فعجبوا وقالوا : ما آية ذلك يا محمد ، فإنا لم نسمع بمثل هذا قط؟ قال : آية ذلك أنى مررت بعير بنى فلان بوادى كذا ، فأنفرهم حسن الدابة ، فند لهم بعير فدللتهم عليه وأنا موجه إلى الشام ، ثم أقبلت حتى إذا كانت بضجنان مررت بعير بنى فلان فوجدت القوم نياما ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء ، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ثم غطيت عليه كما كان ، وآية ذلك أن عيرهم الآن تصوب من البيضاء ، ثنية التنعيم ، يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء ، فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل ، كما وصف لهم ، وسألوهم عن الإناء فأخبروهم أنهم وضعوه مملوء ماء ثم غطوه ، وأنهم هبوا فوجدوه مغطى كما غطوا ولم يجدوا فيه ماء ، وسألوا الآخرين وهم بمكة فقالوا : صدق والله ، لقد أنفرنا فى الوادى الذي ذكر وندّ لنا بعير ، فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه حتى أخذناه (٢).

قال ابن إسحاق (٣) : وحدثني من لا أتهم ، عن أبى سعيد الخدرى أنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : لما فرغت مما كان فى بيت المقدس أتى بالمعراج ، ولم أر شيئا قط أحسن منه ، وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر ، فأصعدنى صاحبى فيه حتى انتهى بى إلى باب من أبواب السماء يقال له : باب الحفظة ، عليه ملك من الملائكة يقال له :

__________________

ـ يمشى بقوة. والصبب : الحدور ، يقال : انحدرنا فى صبوب وصبب. وقوله : جليل المشاش : يريد رءوس المناكب. العشرة : الصحبة. والعشير : الصاحب. والبديهة : المفاجأة ، يقال : بدهته بأمر أى فجأته.

(١) انظر : السيرة (٢ / ١٢ ـ ١٣).

(٢) انظر الحديث فى : تفسير الطبرى (١٥ / ٢) ، تفسير ابن كثير (٥ / ٣٩) ، مجمع الزوائد للهيثمى (١ / ٧٦ ، ٩ / ٤٢) ، عيون الأثر لابن سيد الناس (١ / ١٧٤).

(٣) انظر : السيرة (٢ / ١٣).

٢٣٨

إسماعيل تحت يديه اثنا عشر ألف ملك تحت يدى كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك.

يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين حدث بهذا الحديث : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر : ٣١] ، فلما دخل بى قال : «من هذا يا جبريل؟ قال : محمد. قال : أو قد بعث؟ قال : نعم ، فدعا لى بخير». وقاله (١).

قال (٢) : وحدثني بعض أهل العلم عمن حدثه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : ثم تلقتنى الملائكة حين دخلت السماء الدنيا ، فلم يلقنى ملك إلا ضاحكا مستبشرا ، يقول خيرا ويدعو به ، حتى لقينى ملك من الملائكة فقال مثل ما قالوا ودعا بمثل ما دعوا به ، إلا أنه لم يضحك ، ولم أر منه من البشر مثل ما رأيت من غيره ، فقلت لجبريل : من هذا الملك الذي قال لى مثل ما قالت الملائكة ولم يضحك ولم أر منه من البشر مثل الذي رأيت منهم. فقال جبريل : أما إنه لو كان ضحك إلى أحد قبلك أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك لضحك إليك ، ولكنه لا يضحك ، هذا مالك صاحب النار.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فقلت لجبريل ، وهو من الله بالمكان الذي وصف لكم (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [التكوير : ٢١] ألا تأمره أن يرينى النار؟ فقال : بلى ، يا مالك أر محمدا النار ، فكشف عنها غطاءها ففارت وارتفعت حتى ظننت لتأخذن ما أرى.

فقلت لجبريل : مره فليردها إلى مكانها. فأمره ، فقال لها : اخبى فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه ، فما شبهت رجوعها إلا وقوع الظل ، حتى إذا دخلت من حيث خرجت رد عليها غطاءها (٣).

قال أبو سعيد الخدرى فى حديثه (٤) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : لما دخلت السماء الدنيا رأيت بها رجلا جالسا تعرض عليه أرواح بنى آدم ، فيقول لبعضها إذا عرضت عليه خيرا ويسر به ، ويقول : روح طيبة خرجت من جسد طيب ، ويقول لبعضها إذا عرضت عليه أف ، ويعبس بوجهه ، روح خبيثة خرجت من جسد خبيث.

قال : قلت : من هذا يا جبريل؟ قال : هذا أبوك آدم تعرض عليه أرواح ذريته ، فإذا

__________________

(١) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٢ / ٣٩٠) ، تفسير ابن كثير (٥ / ٢٠ ، ٢٢) ، البداية والنهاية (٣ / ١١٠ ، ١١١) ، الكامل فى الضعفاء لابن عدى (٥ / ٧٩).

(٢) انظر : السيرة (٢ / ١٤).

(٣) لم أقف على تخريجه ، بهذا اللفظ فيما بين يديه من مصادر.

(٤) تقدم تخريجه.

٢٣٩

مرت به روح المؤمن منهم سر بها وإذا مرت به روح الكافر منهم أنف منها وكرهها.

قال : ثم رأيت رجالا لهم مشافر كمشافر (١) الإبل ، فى أيديهم قطع من نار كالأفهار (٢) يقذفونها فى أفواههم فتخرج من أدبارهم ، قلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما.

ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط ، بسبيل آل فرعون ، يمرون عليهم كالإبل المهيومة (٣) حتى يعرضوا على النار ، يطئونهم لا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك. قلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء أكلة الربا.

ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن ، يأكلون من الغث المنتن ويتركون السمين الطيب ، قلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء ، ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن.

ثم رأيت نساء معلقات بثديهن ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء اللاتى أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم. قال : ثم صعد بى إلى السماء الثانية فإذا فيها ابنا الخالة عيسى ابن مريم ، ويحيى بن زكريا.

قال : ثم أصعد بى إلى السماء الثالثة فإذا فيها رجل صورته كصورة القمر ليلة البدر ، قلت : من هذا يا جبريل؟ قال : هذا أخوك يوسف بن يعقوب ، ثم أصعد بى إلى السماء الرابعة ، فإذا فيها رجل ، فسألته من هو؟ فقال : هذا إدريس. قال : يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) [مريم : ٥٧].

قال : ثم أصعد بى إلى السماء الخامسة فإذا فيها كهل أبيض الرأس واللحية عظيم العثنون لم أر كهلا أجمل منه. قلت : من هذا يا جبريل؟ قال : هذا المحبب فى قومه : هارون بن عمران.

قال : ثم أصعد بى إلى السماء السادسة فإذا فيها رجل آدم طويل أقنى كأنه من رجال شنوءة فقلت : من هذا يا جبريل؟ قال : هذا أخوك موسى بن عمران.

__________________

(١) مشافر : جمع شفر ، وهو للبعير كالشفة للإنسان والجعفلة للفرس. انظر : اللسان (مادة شفر).

(٢) الأفهار : جمع فهر بكسر فسكون وهو الحجر قدر ما يدق به الجوز ونحوه وتصغيرها فهير.

انظر : اللسان (مادة فهر).

(٣) المهيومة : العطشى ، وقيل : هو من الداء ، وقيل : الهيم الإبل التي يصيبها داء فلا تروى من الماء.

٢٤٠