الإكتفا - ج ١

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ١

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبدالقادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2943-0
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

فإن يقبل التوبة عن عباده» (١). قالت : فو الله إن هو إلا أن قال لى ذلك فقلص دمعى حتى ما أحس منه شيئا. وانتظرت أبوى أن يجيبا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يتكلما.

قالت : وأيم الله لأنا كنت أحقر فى نفسى وأصغر شأنا من أن ينزل الله فى قرآنا يقرأ به فى المسجد ويصلى به ، ولكني كنت أرجوا أن يرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى منامه شيئا يكذب الله به عنى لما يعلم من براءتى أو يخبر خبرا ، فأما قرآن ينزل فى فو الله لنفسى كانت أحقر عندى من ذلك.

قالت : فلما لم أرى أبوى يتكلمان قلت لهما : ألا تجيبان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقالا : والله ما ندرى بما ذا نجيبه. قالت : وو الله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبى بكر فى تلك الأيام. قالت : فلما استعجما على استعبرت فبكيت ثم قلت : والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا ، والله إنى لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس والله يعلم أنى منه بريئة لأقولن ما لم يكن ، ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقوننى ، ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره فقلت : ولكنى سأقول كما قال أبو يوسف : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) [يوسف : ١٨].

قالت : فو الله ما برح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه ، فسجى بثوبه ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه ، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت فو الله ما فرغت ولا باليت ، قد عرفت أنى بريئة وأن الله غير ظالمى ، وأما أبواى فو الذي نفس عائشة بيده ما سرى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا من أن يأتى من الله تحقيق ما قال الناس. ثم سرى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجلس وإنه ليتحدر منه مثل الجمان وفى يوم شات ، فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول : «أبشرى يا عائشة فقد أنزل الله براءتك» (٢) قلت : بحمد الله.

ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن فى ذلك ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش وحسان بن ثابت ، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة فضربوا حدهم.

قالت : فلما نزل القرآن ذكر من قال من الفاحشة ما قال من أهل الإفك فقال : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ

__________________

(١) انظر الحديث فى : فتح البارى لابن حجر (٨ / ٤٧٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٦٣).

(٢) انظر الحديث فى : سنن أبى داود (٤ / ٤٧٣٥) ، سنن الترمذى (٥ / ٣١٨٠).

٤٦١

مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) [النور : ١١] قيل : إنه حسان بن ثابت وأصحابه ، ويقال : عبد الله بن أبى وأصحابه.

ثم قال : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) أى هلا قلتم إذ سمعتموه كما قال أبو أيوب الأنصاري وصاحبته أم أيوب ، وذلك أنها قالت لزوجها : يا أبا أيوب ، ألا تسمع ما يقول الناس فى عائشة؟ قال : بلى وذلك الكذب ، أكنت يا أم أيوب فاعلته؟ قال : لا والله ما كنت لأفعله. قال : فعائشة والله خير منك.

ثم قال تعالى : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ).

فلما نزل هذا فى عائشة وفيمن قال لها ما قال قال أبو بكر ـ رحمه‌الله وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته : والله لا أنفق على مسطح أبدا ولا أنفعه بنفع أبدا بعد الذي قال لعائشة وادخل علينا. قالت : فأنزل الله فى ذلك (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور : ٢٢] قالت : فقال أبو بكر : بلى ، والله إنى لأحب أن يغفر الله لى فرجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه وقال : والله لا أنزعها منه أبدا.

وذكر ابن إسحاق (١) : أن حسان بن ثابت مع ما كان منه فى صفوان بن المعطل من القول السيئ قال مع ذلك شعرا يعرض فيه بصفوان ومن أسلم من مضر يقول فيه :

أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا

وابن الفريعة أمسى بيضة ـ البلد

فلما بلغ ذلك ابن المعطل اعترض حسان بن ثابت فضربه بالسيف ثم قال :

تلق ذباب السيف عنى فإننى

غلام إذا هو جيت لست بشاعر

فوثب عند ذلك ثابت بن قيس بن شماس على صفوان فجمع يديه إلى عنقه بحبل ثم انطلق به إلى دار بنى الحارث بن الخزرج ، فلقيه عبد الله بن رواحة فقال : ما هذا؟ قال : أما أعجبك ضرب حسان بالسيف؟ والله ما أراه إلا قد قتله. فقال له ابن رواحة : هل علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء مما صنعت؟ قال : لا والله. قال : لقد اجترأت ، أطلق الرجل. فأطلقه.

__________________

(١) انظر السيرة (٣ / ٢٧٨).

٤٦٢

ثم أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكروا ذلك له ، فدعا حسان وصفوان ، فقال صفوان : يا رسول الله ، آذانى وهجانى فاحتملنى الغضب فضربته. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحسان : «يا حسان ، أتشوهت على قومى أن هداهم الله للإسلام؟» ثم قال : «أحسن يا حسان فى الذي أصابك» (١). قال : هى لك. فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عوضا منها بئر «حاء» ماء كان لأبى طلحة بالمدينة فتصدق به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليضعه حيث شاء فأعطاه حسان فى ضربته ، وأعطاه «سيرين» أمة قبطية ولدت له ابنه عبد الرحمن.

وقد روى من وجوه أن إعطاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياه سيرين إنما كان لذبه بلسانه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والله تعالى أعلم.

وكانت عائشة ـ رحمها الله ـ تقول : لقد سئل عن ابن المعطل فوجدوه حصورا لا يأتى النساء ثم قتل بعد ذلك شهيدا.

وقال بعد ذلك حسان يمدح عائشة ـ رضى الله عنها ـ ويعتذر من الذي كان فى شأنها :

حصان رزان ما تزن بريبة

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل (٢)

عقيلة حى من لؤيّ بن غالب

كرام المساعى مجدهم غير زائل

مهذبة قد طيب الله جنبها

وطهرها من كل سوء وباطل

فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم

فلا رفعت سوطى إلى أناملى

وكيف وودى ما حييت ونصرتى

لآل رسول الله زين المحافل

له رتب عال على الناس كلهم

تقاصر عنه سورة المتطاول

فإن الذي قد قيل ليس بلائط

ولكنه قول امرئ بى ماحل

وقال قائل من المسلمين فى ضرب حسان وصاحبيه فى فريتهم على عائشة رضى الله عنها :

لقد ذاق حسان الذي كان أهله

وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح

تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم

وسخطة ذى العرش الكريم فأترحوا

وآذوا رسول الله فيها فجللوا

مخازى تبقى عمموها وفضحوا

__________________

(١) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٦٣) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٩ / ٢٣٤).

(٢) الحصان : أى العفيفة. والرزان : أى الملازمة موضعها. وما تزن : أى ما تتهم. وغرثى : أى جائعة.

٤٦٣

وصبت عليهم محصدات كأنها

شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح

وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر الحافظ أن قوما أنكروا أن يكون حسان خاض فى الإفك أو جلد فيه ، ورووا عن عائشة ـ رحمها الله ـ أنها برأته من ذلك ، ثم ذكر عن الزبير بن بكار وغيره أن عائشة كانت فى الطواف مع أم حكيم بنت خالد بن العاص وابنة عبد الله بن أبى ربيعة ، فتذاكرن حسان فابتدرتاه بالسب فقالت لهما عائشة : ابن الفريعة تسبان! إنى لأرجو أن يدخله الله الجنة بذبه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلسانه ، أليس القائل :

هجوت محمدا فأجبت عنه

وعند الله فى ذاك الجزاء

فإن أبى ووالده وعرضى

لعرض محمد منكم وقاء

فقالتا لها : أليس ممن لعنه الله فى الدنيا والآخرة بما قال فيك؟ قلت : لم يقل شيئا ، ولكنه القائل :

حصان رزان ما تزن بريبة

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

فإن كان ما قد قيل عنى قلته

فلا رفعت سوطى إلى أناملى

غزوة الحديبية

وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ذى القعدة من سنة ست معتمرا لا يريد حربا ، واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادى من الأعراب ليخرجوا معه ، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا ، أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت.

فأبطأ عليه كثير من الأعراب ، وخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب ، وساق معه الهدى وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه ، وليعلم أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له.

حتى إذا كان بعسفان لقيه بسر بن سفيان الكعبى (١) فقال : يا رسول الله ، هذه قريش قد سمعت بمسيرك معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذى طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا وهذا خالد بن الوليد فى خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب ، ما ذا عليهم

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٦٤٦) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤١١) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٤٨) ، الوافى بالوفيات (١٠ / ١٣٣) ، العقد الثمين (٩ / ٣٦٧) ، تقريب التهذيب (٢ / ٩٥ ، ١٦٠ ، ٤ / ٢٩٤).

٤٦٤

لو خلوا بينى وبين سائر العرب فإن هم أصابونى كان الذي أرادوا ، وإن أظهرنى الله عليهم دخلوا فى الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ؛ فما تظن قريش؟ فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثنى الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة» (١).

ثم قال : «من رجل يخرج بنا على غير طريقهم؟» (٢) فقال رجل من أسلم : أنا ، فسلك بهم طريقا وعرا أجرل بين شعاب ، فلما خرجوا منه وقد شق عليهم وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا : نستغفر الله ونتوب إليه». فقالوا ذلك ، فقال : «والله إنها للحطة التي عرضت على بنى إسرائيل فلم يقولوها» (٣).

فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس فقال : «اسلكوا ذات اليمين بين ظهرى الحمص فى طريق تخرج على ثنية المرار (٤)» ، فهبط الحديبية من أسفل مكة. فسلك الجيش ذلك الطريق ، فلما رأت خيل قريش هدة الجيش قد خالفوا عن طريقهم وكفوا راجعين إلى قريش ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا سلك فى ثنية المرار بركت ناقته ، فقال الناس : خلأت. فقال : «ما خلأت ، وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ، لا تدعونى قريش اليوم إلى خطة يسلون فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها (٥)» ، ثم قال للناس : «انزلوا». قيل : يا رسول الله ، ما بالوادى ماء ننزل عليه. فأخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه ، فنزل فى قليب من تلك القلب ، فغرزه غى جوفه فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن.

فلما اطمأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه بديل بن ورقاء فى رجال من خزاعة فكلموه وسألوه ما الذي جاء له ، فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته ، ثم قال لهم نحوا قال لبسر بن سفيان ، فرجعوا إلى قريش فقالوا : إنكم تعجلون على محمد ، إن محمدا لم يأت لقتال إنما جاء زائرا لهذا البيت. فاتهموهم وجبهوهم وقالوا : إن كان جاء ولا يريد قتالا فو الله لا يدخلها علينا عنوة أبدا ولا تحدث بذلك عنا العرب.

ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بنى عامر بن لؤيّ ، فلما رآه رسول

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٤ / ٣٢٣) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١١٣٠٧) ، تفسير ابن كثير (٧ / ٣٢٨) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٦٥).

(٢) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٦٥).

(٣) انظر الحديث السابق.

(٤) ثنية المرار : حشيشة مرة إذا أكلتها الإبل قلصت مشافرها.

(٥) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٤ / ٣٢٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٦٥).

٤٦٥

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقبلا قال : «هذا رجل غادر» (١). فلما انتهى إليه وكلمة قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوا مما قال لبديل وأصحابه. فرجع إلى قريش فأخبرهم. ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان ، أحد بنى الحارث بن عبد مناة بن كنانة ـ وكان يومئذ سيد الأحابيش ـ فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدى فى وجهه حتى يراه» (٢). فلما رأى الهدى يسيل عليه من عرض الوادى فى قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله ، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إعظاما لما رأى ؛ فقال لهم ذلك ، فقالوا له : اجلس. فإنما أنت أعرابى لا علم لك ؛ فغضب الحليس عند ذلك وقال : يا معشر القوم ، والله ما على هذا حالفناكم وما على هذا عاقدناكم ، أيصدّ عن بيت الله من جاء معظما له؟! والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. فقالوا له : كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

ثم بعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عروة بن مسعود الثقفى فقال : يا معشر قريش إنى قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ ، وقد عرفت أنكم والد وأنى ولد ـ وكان لسبيعة بنت عبد شمس ـ وقد سمعت بالذى نابكم فجمعت من أطاعنى من قومى ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسى. قالوا : صدقت ما أنت عندنا بمتهم. فخرج حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجلس بين يديه ثم قال : يا محمد ، أجمعت أوشاب الناس ثم جئت إلى بيتك لتقضها بهم؟! إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا ، وأيم الله لكأنى بهؤلاء قد انكشفوا عنك. فرد عليه أبو بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ وقال : أنحن ننكشف عنه! ثم جعل عروة يتناول لحية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو كلمة والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله فى الحديد ، فجعل يقرع يده إذا فعل ذلك ويقول : اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن لا تصل إليك. فيقول عروة : ويحك ما أفظك وأغلظك. فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال : من هذا يا محمد؟ قال : «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة» (٣). قال : أى غدر هل غسلت سوءتك إلا بالأمس! يريد أن المغيرة

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٤ / ٣٢٤) ، تفسير ابن كثير (٧ / ٣٢٨) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٦٦).

(٢) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٦٦).

(٣) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٤ / ٣٢٤) ، المطالب العالية لابن حجر (٤٣٤٧) ، تفسير ابن كثير (٧ / ٣٢٩).

٤٦٦

كان قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلا من ثقيف فتهايج الحيان من ثقيف بنو مالك رهط المقتولين والأحلاف رهط المغيرة ، فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية وأصلح ذلك الأمر.

وكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عروة بنحو مما كلم به أصحابه ، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا حربا فقام من عنده وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه ، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه ، فرجع إلى قريش فقال : يا معشر قريش ، إنى قد جئت كسرى فى ملكة وقيصر فى ملكه والنجاشى فى ملكه ، وإنى والله ما رأيت ملكا فى قوم قط مثل محمد فى أصابه! ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشىء أبدا فروا رأيكم.

ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خراش بن أمية الخزاعى (١) فحمله على بعير له وبعثه إلى قريش ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له ، فعقروا به الجمل وأرادوا قتله فمنعته الاحابيش ، فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وبعثت قريش أربعين رجلا أو خمسين وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا ، فأخذوا أخذا ، فأتى بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخلى سبيلهم.

ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال : يا رسول الله ، إنى أخاف قريشا على نفسى ، وليس بمكة من بنى عدى بن كعب أحد يمنعنى ، وقد عرفت قريش عداوتى إياها وغلظتى عليها ، ولكني أدلك على رجل أعز بها منى : عثمان بن عفان.

فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عثمان فبعثه إلى أبى سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وأنه جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته ؛ فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها فحمله بين يديه ثم أجاره.

وقال له فيما ذكره غير ابن إسحاق : أقبل وأدبر ولا تخف أحدا بنو سعيد أعزة الحرم.

فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أرسله به ، فقالوا له حين فرغ : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. قال : ما كنت لأفعل

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٢٢٣٨) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٤٢٨) ، الثقات (٣ / ١٠٧) ، الطبقات الكبرى (٤ / ١٣٩) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ١٥٧) ، المغازى للواقدى (٦٠٠) ، الجرح والتعديل (٣ / ٣٩٢) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٦٣١) ، الوافى بالوفيات (١٣ / ٣٠١).

٤٦٧

حتى يطوف به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فاحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل ، فقال حين بلغه ذلك : «لا نبرح حتى نناجز القوم» (١).

ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس إلى البيعة ، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، فكان الناس يقولون : بايعهم على الموت. وكان جابر يقول : بايعنا على أن لا نفرّ.

فبايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس ولم يختلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس لصق بإبط ناقته يستتر بها من الناس.

ثم أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الذي كان من أمر عثمان باطل. وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بايع لعثمان : ضرب بإحدى يديه على الأخرى وقال : «هذه يد عثمان».

ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو وقالوا : ايت محمدا فصالحه ولا يكون فى صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فو الله لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدا.

فأتى سهيل ، فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقبلا قال : «قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل» (٢).

فلما انتهى إليه سهيل تكلم فأطال الكلام وتراجعا ، ثم جرى بينهما الصلح.

فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر فقال : يا أبا بكر ، أليس برسول الله؟ قال : بلى. قال : أولسنا بالمسلمين؟ قال : بلى. قال : أوليسوا بالمشركين؟ قال : بلى. قال : فعلام نعطى الدنية (٣) فى ديننا! قال أبو بكر : يا عمر ، الزم غرزه فإنى أشهد أنه رسول الله. قال عمر : وأنا أشهد أنه رسول الله.

ثم أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، ألست برسول الله؟ قال : «بلى». قال :أولسنا بالمسلمين؟ قال : «بلى». قال : أو ليسوا بالمشركين؟ قال : «بلى» (٤). قال : فعلام

__________________

(١) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٦٧).

(٢) انظر الحديث فى : السنن الكبرى للبيهقى (٩ / ٢٢١) ، دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ١٤٥).

(٣) الدنية : الذل والصغار والخسيس من الأمر.

(٤) انظر الحديث فى : صحيح مسلم (١٤١٢ ، ٢١٥١) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (٣١٣) ، صحيح البخاري (٤ / ٢٦ ، ١٢٥) ، المعجم الكبير للطبرانى (٦ / ١٠٩ ، ٨ / ٢٧٥) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٣ / ٣١٢ ، ٥ / ٦٧) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١٧٩٠٥ ، ٢٩٩٩٣ ، ٣٠١٥٤ ، ٣٧١٥٥) ، فتح البارى لا بن حجر (٧ / ٨) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (١ / ١ / ٢٠).

٤٦٨

نعطى الدنية فى ديننا؟! قال : «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعنى»(١). فكان عمر يقول : ما زلت أتصدق واصوم واصلى وأعتق من الذي صنعت ـ يومئذ ـ مخافة كلامى الذي تكلمت به حين رجوت أنه يكون خيرا.

ثم دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بن أبى طالب رضى الله عنه فقال اكتب : «بسم الله الرحمن الرحيم» (٢) ، فقال سهيل بن عمرو : لا أعرف هذا ، ولكن اكتب : باسمك اللهم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب باسمك اللهم» (٣). فكتبها ثم قال : «اكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو». فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو. اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه ، وأن بيننا عيبة مكفوفة ، وأنه لا إسلال ولا إغلال (٤) ، وأنه من أحب أن يدخل فى عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم دخل فيه» (٥).

فتواثبت خزاعة فقالوا : نحن فى عقد محمد وعهده. وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن فى عقد قريش وعهدهم.

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٥ / ٢٠١) ، صحيح مسلم فى كتاب النكاح (١٣٥) ، السنن الكبرى للبيهقى (٧ / ٢٢٩) ، التاريخ الكبير للبخارى (٣ / ٢١٧) ، تفسير ابن كثير (٤ / ٦٩ ، ٧ / ٣٣٠) ، زاد المسير لابن الجوزى (٧ / ٤٢٥) ، موارد الظمآن للهيثمى (١٣٠٥ ، ١٧٠٥ ، ٢١٢٨) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٣٥٦) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (٢ / ١ / ١٠٩ ، ١١٣).

(٢) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٣ / ٢٦٨ ، ٤ / ٨٦ ، ٣٢٥ ، ٣٣٠) ، السنن الكبرى للبيهقى (٩ / ٢٢٠ ، ٢٢٧) ، مصنف عبد الرزاق (٩٧٢٠) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ١٤٥ ، ١٤٦) ، تفسير ابن كثير (١ / ٣٦ ، ٧ / ٣٢٤) ، تفسير الطبرى (٢٦ / ٥٩ ، ٦٣) ، فتح البارى لابن حجر (٧ / ٥٠٢) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١٦٢٧ ، ٣٠١٥١ ، ٣٠١٥٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٧٥).

(٣) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٤ / ٨٦ ، ٣٢٥ ، ٣٣٠) ، تفسير ابن كثير (٧ / ٣٢٤) ، تفسير الطبرى (٢٦ ، ٥٩ ، ٦٣) ، فتح البارى لابن حجر (٥ / ٣٣١ ، ٧ / ٥٠٢) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٣٠١٥٤).

(٤) الأسلال : أى السرقة الخفية. والأغلال : أى الخيانة.

(٥) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (١ / ٣٤٢ ، ٤ / ٨٧) ، تفسير الطبرى (١٣ / ١٠١).

٤٦٩

«وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة ، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنها فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب : السيوف فى القرب لا تدخلها بغيرها».

فبينا رسول الله يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل ابن عمرو يرسف (١) فى الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرجوا وهم لا يشكون فى الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما يحمل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى نفسه دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون.

فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه ثم قال : يا محمد ، قد لجت القضية بيتى وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال : صدقت. فجعل ينتره بتلبيبه ويجره ليرده إلى قريش ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أرد إلى المشركين يفتنونى فى دينى؟! فزاد الناس ذلك إلى ما بهم.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صالحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله ، وإنا لا نغدرهم» (٢).

فوثب عمر بن الخطاب مع أبى جندل يمشى إلى جنبه ويقول : اصبر يا أبا جندل ، فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب! ـ ويدنى قائم السيف منه ـ يقول عمر : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه ، فضن الرجل بأبيه ونفذت القضية.

فلما فرغ من الكتاب اشهد رجالا من المسلمين ورجالا من المشركين ، أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن سهيل بن عمرو ، وسعد ابن أبى وقاص ومحمود بن مسلمة ، ومكرز بن حفص وهو مشرك وعلى بن أبى طالب وهو كان كاتب الصحيفة.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضطربا فى الحل وكان يصلى فى الحرم ، فلما فرغ من الصلح

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الثقات (٥ / ٥٦٨) ، الإصابة ترجمة رقم (٩٦٩٩) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٥٧٧٥).

(٢) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٤ / ٣٢٥) ، تفسير ابن كثير (٧ / ٣٣٠) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (٧ / ١٣٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٦٩).

٤٧٠

قام إلى هديه فنحره ثم جلس فحلق رأسه وأهدى عامئذ فى هداياه جملا لأبى جهل فى رأسه برة من فضة ليغيظ بذلك المشركين. فلما رآه الناس قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون ، وكان فيهم ـ يومئذ ـ من قصر فقال فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يرحم الله المحلقين». قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ قال : «يرحم الله المحلقين». قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ قال : «يرحم الله المحلقين» (١). قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ قال : «والمقصرين» (٢). فقالوا : يا رسول الله ، فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟ قال : «لم يشكوا»(٣).

ثم انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة ذلك قافلا ، حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً).

ثم ذكر القصة فيه وفى أصحابه ، حتى إذا انتهى إلى ذكر البيعة فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً). ثم ذكر من تخلف عنهم من الأعراب فاستوفى قصتهم. ثم قال : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ. عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً). ثم قال : (وَهُوَ

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (١ / ٣٥٣ ، ٢ / ١٦ ، ٤ / ٧٠ ، ٦ / ٤٠٢) ، السنن الكبرى للبيهقى (٥ / ١٣٤) ، مشكل الآثار للطحاوى (٢ / ١٤٤) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (٢ / ١٠١) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١٢٧٣٨ ، ١٢٧٣٩) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٦٩ ، ٥ / ١٨٩) ، مصنف ابن أبى شيبة (١٤ / ٤٥٢ ، ٤٥٣) ، دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ١٥١).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح مسلم (٩٤٥ ، ٦٤٩) ، سنن الترمذى (٩١٢) ، سنن ابن ماجه (٣٠٤٤) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٢٥٣ ، ٢ / ٧٩ ، ١٣٨ ، ٢٣١ ، ٤١١ ، ٤ / ٧٠ ، ٥ / ٣٨١ ، ٦ / ٣٩٣ ، ٤٠٢) ، سنن الدارمى (٢ / ٦٤) ، مصنف ابن أبى شيبة (١٤ / ٤٥٢ ، ٤٥٣) ، موطأ مالك (٣٩٥) ، دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ١٥١) ، المعجم الكبير للطبرانى (١٩ / ٢٧٥) ، شرح السنة للبغوى (٧ / ٢٠٢).

(٣) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (١ / ٣٥٣).

٤٧١

الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) ، يعنى النفر الذين وجهت قريش بهم ليصيبوا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدا فلم ينالوا شيئا وأخذوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجملتهم وسيقوا إليه فخلى سبيلهم.

ثم قال بعد : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) يعنى سهيل ابن عمرو حين حمى أن يكتب : بسم الله الرحمن الرحيم. وأن محمدا رسول الله : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) ، أى التوحيد : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد ورسوله.

ثم قال : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) أى لرؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي رأى أنه سيدخل مكة آمنا لا يخاف. وقد قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم المدينة بعض من كان معه : ألم تقل يا رسول الله أنك تدخل مكة آمنا؟ قال : «بلى» ، قال : «أفقلت لكم من عامى هذا؟» قالوا : لا. قال : «فهو كما قال لى جبريل» (١) فحقق له سبحانه من موعده ما أنجزه له بعد وصدقه بقوله جل قوله : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) معه (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) صلح الحديبية.

يقول الزهرى : فما فتح فى الإسلام فتح قبله كان أعظم منه ، إنما كان القتال حيث التقى الناس ، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا والتقوا فتفاوضوا فى الحديث والمنازعة ، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه ، فلقد دخل فى تينك السنتين مثل من كان فى الإسلام قبل ذلك وأكثر.

قال ابن هشام (٢) : والدليل على ما قال الزهرى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى الحديبية فى ألف وأربعمائة فى قول جابر بن عبد الله ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين فى عشرة آلاف.

وذكر ابن عقبة أنه لما كان صلح الحديبية قال رجال من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما هذا بفتح ، لقد صددنا عن البيت وصد هدينا. فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قول أولئك فقال :

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٤ / ٣٣١) ، تفسير ابن كثير (٨ / ١٢٠).

(٢) انظر السيرة (٣ / ٢٩٦).

٤٧٢

«بئس الكلام هذا ، بل هو أعظم الفتوح ، قد رضى المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبوا إليكم فى الأمان ، وقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين ، فهو أعظم الفتوح ، أتنسون يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم فى أخراكم؟! أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا؟» (١) فقال المسلمون : صدق الله ورسوله فهو أعظم الفتوح ، والله ما فكرنا فيما فكرت فيه ، ولأنت أعلم بالله وأمره منا.

وفى الصحيح من حديث سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين : يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم ، فلقد رأيتنى يوم أبى جندل ولو أستطيع أن أراد أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لرددته والله ورسوله أعلم.

وخرج البخاري من حديث البراء بن عازب قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ، كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربع عشرة مائة والحديبية بئر ، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة ، فبلغ ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم مضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد ، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا.

وعن سالم بن أبى الجعد عن جابر بن عبد الله قال : عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين يديه ركوة فتوضأ منها ثم أقبل الناس نحوه فقالوا : يا رسول الله ، ليس عندنا ماء نتوضأ به ولا يشرب إلا ما فى ركوتك. قال : فوضع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده فى الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون. قال : فشربنا وتوضأنا ؛ فقلت لجابر كم كنتم يومئذ؟ قال : لو كنا مائة ألف لكفانا ، كنا خمس عشرة مائة (٢).

__________________

(١) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ١٦٠) ، الدر المنثور للسيوطى (٦ / ٦٨).

(٢) الحديث عن نبع الماء من بين أصابع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانبجاسه وتدفقه وفورانه متعدد المواضع لتكرر حدوثه ، وهو محكى فى البخاري الصحيح ج ١ ص ٨٩ ، ١٠٠ ، ١٠٢ (كتاب الوضوء) ، ج ٥ ص ٣٥ ، ٣٦ ، ٣٨ (كتاب المناقب) ، ج ٤ ص ٢٦٠ ، (باب غزوة الحديبية) ، مسلم. الجامع الصحيح ج ٢ ص ١٣٨ ـ ١٤١ (كتاب المساجد ، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها) ، ج ٧ ص ٥٩ (كتاب الفضائل ، باب معجزات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، ج ٨ ص ٢٣٥ ، ٢٣٦ (كتاب الزهد والرقائق ، حديث جابر الطويل وقصة أبى اليسر). وراجع : ابن جماعة ، المختصر الصغير (ص ٦٠).

٤٧٣

وذكر ابن عقبة عن ابن عباس قال : لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية كلمة بعض أصحابه فقالوا : جهدنا وفى الناس ظهر فانحروه لنا فلنأكل من لحومه ولندهن من شحومه ولنحتذ من جلوده. فقال عمر : لا تفعل يا رسول الله ، فإن الناس إن يكن فيهم بقية ظهر أمثل. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ابسطوا أنطاعكم وعباءكم» (١) ففعلوا ، ثم قال : «من كان عنده بقية من زاد وطعام فلينثره» ودعا لهم ، ثم قال لهم : «قربوا أوعيتكم» (٢). فأخذوا ما شاءوا.

قال ابن إسحاق (٣) : ولما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ـ يعنى من الحديبية ـ أتاه أبو بصير عتبة بن أسيد بن حارثة (٤) ـ وكان ممن حبس بمكة ـ فكتب فيه أزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعثا رجلا من بنى عامر بن لؤيّ ومعه مولى لهم ، فقدما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكتاب ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبا بصير ، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ولا يصلح لنا فى ديننا الغدر ، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا» (٥).

فانطلق معهما حتى إذا كان بذى الحليفة جلس إلى جدار وجلس معه صاحباه ، فقال أبو بصير. أصارم سيفك هذا يا أخا بنى عامر؟ فقال : نعم. قال أنظر إليه قال : إن شئت فاستله أبو بصير ثم علاه به حتى قتله.

وذكر ابن عقبة أن الرجل هو الذي سل سيفه ثم هزه فقال : لأضربن بسيفى هذا فى الأوس والخزرج يوما إلى الليل ، فقال له أبو بصير : وصارم سيفك هذا؟ فقال : نعم. فقال : ناولنيه أنظر إليه ؛ فناوله إياه ، فلما قبض عليه ضربه به حتى برد. قال : ويقال : بل تناول أبو بصير سيف الرجل بفيه وهو نائم فقطع إساره ثم ضربه به حتى برد ، وطلب الآخر ، فجمز مرعوبا مستخفيا حتى دخل المسجد ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس فيه يطن الحصباء من شدة سعيه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رآه : «لقد رأى هذا ذعرا». قال ابن

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٥ / ٣٥٤) ، دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ١١٦) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (٥ / ٤٧٩) ، فتح البارى لابن حجر (٨ / ٤٦).

(٢) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ١١٩).

(٣) انظر السيرة (٣ / ٢٩٦).

(٤) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٩٦٣٣) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٥٧٣٤).

(٥) انظر الحديث فى : السنن الكبرى للبيهقى (٩ / ٢٢٧).

٤٧٤

إسحاق : فلما انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ويحك مالك؟» (١) قال : قتل صاحبكم صاحبى.

فو الله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحا السيف فقال : يا رسول الله ، وفت ذمتك وأدى الله عنك ، أسلمتنى بيد القوم وقد امتنعت بدينى أن أفتن فيه أو يعبث بى. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويلمه محش حرب (٢) لو كان معه رجال» (٣).

ثم خرج أبو بصير حتى نزل العيص من ناحية المروة على ساحل البحر بطريق قريش التي كانوا يأخذوا إلى الشام ، وبلغ المسلمين الذين كانوا احتسبوا بمكة قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبى بصير : «ويلمه محش حرب لو كان معه رجال» فخرجوا إلى أبى بصير بالعيص ، فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلا منهم.

وذكر موسى بن عقبة أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو الذي رد على قريش مكرها يوم القضية هو الذي انفلت فى سبعين راكبا أسلموا وهاجروا فلحقوا بأبى بصير وكرهوا الثواء بين أظهر قومهم ، فنزلوا مع أبى بصير فى منزل كريه إلى قريش فقطعوا مادتهم من طريق الشام. قال : وكان أبو بصير ـ زعموا ـ وهو فى مكانه ذلك يصلى لأصحابه ، فلما قدم عليهم أبو جندل كان هو يؤمهم.

واجتمع إلى أبى جندل ناس من غفار وأسلم وجهينه وطوائف من العرب حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل وهم مسلمون ، فأقاموا مع أبى جندل وأبى بصير ، لا يمر بهم عير لقريش إلا اخذوها وقتلوا أصحابها. وقال فى ذلك أبو جندل فيما ذكره غير ابن عقبة :

أبلغ قريشا عن أبى جندل

أنا بذى المروة بالساحل

فى معشر تخفق أيمانهم

بالبيض فيها والقنا الذابل

يأبون أن يبقى لهم رفقة

من بعد إسلامهم الواصل

أو يجعل الله لهم مخرجا

والحق لا يغلب بالباطل

فيسلم المرء بإسلامه

أو يقتل المرء ولم يأتل

__________________

(١) انظر الحديث فى : سنن أبو داود (٤٥١٩) ، السنن الكبرى للبيهقى (٤ / ٢٢٦).

(٢) محش حرب : أى أنه يوقد الحرب ويهيجها ويشعل نارها.

(٣) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٣ / ٢٥٧) ، سنن أبى داود فى كتاب الجهاد باب (١٦٧) ، مسند الإمام أحمد (٤ / ٣٣١) ، السنن الكبرى للبيهقى (٩ / ٢٢١ ، ٢٢٢ ، ٢٢٦ ، ٢٢٨) ، دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ١٠٧ ، ٦٧٣) ، الدر المنثور للسيوطى (٦ / ٧٨) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٧٦) ، مصنف عبد الرزاق (٩٧٢٠).

٤٧٥

فأرسلت قريش إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا سفيان بن حرب يسألونه ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبى بصير وإلى أبى جندل بن سهيل ومن معهم فيقدموا عليه وقالوا : من خرج منا إليك فأمسكه فى غير حرج ، فإن هؤلاء الركب قد فتحوا علينا بابا لا يصلح إقراره.

فلما كان ذلك من أمرهم علم الذين كانوا أشاروا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يمنع أبا جندل من ابيه بعد القضية أن طاعة رسول الله خير فيما أحبوا وفيما كرهوا ، وأن رأيه أفضل من رأيهم ومن رأى من ظن أن له قوة ورأيا ، وعلم أن ما خص الله به نبيه من العون والكرامة أفضل.

وكتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أبى جندل وأبى بصير يأمرهم أن يقدموا عليه ويأمر من معهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم ولا يعرضوا لأحد مر بهم من قريش وعيراتها ، فقدم كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ زعموا ـ على أبى جندل وأبى بصير وأبو بصير يموت ، فمات وكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى يده يقرؤه. فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجدا.

وقدم أبو جندل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه أناس من أصحابه ورجع سائرهم إلى أهليهم وأمنت عيرات قريش.

فلم يزل أبو جندل مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشهد ما أدرك من المشاهد بعد ذلك وشهد الفتح ، ورجع مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يزل معه بالمدينة حتى توفى صلوات الله عليه وسلامه وقدم أبوه سهيل بن عمرو المدينة أول إمارة عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ فمكث بها أشهر ثم خرج مجاهدا إلى الشام وخرج معه ابنه أبو جندل ، فلم يزالا مجاهدين حتى ماتا جميعا هناك ، رحمهما‌الله.

وهاجرت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى تلك المدة أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط (١) ، فخرج أخواها عمارة والوليد ابنا عقبة حتى قدما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسألانه أن يردها عليهما بالعهد الذي بينه وبين قريش فى الحديبية ، فلم يفعل ، أبى الله ذلك وأنزل فيه على رسوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَ

__________________

(١) انظر ترجمتها فى : الإصابة ترجمة رقم (١٢٢٣١) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٧٥٨٥) ، الطبقات الكبرى (٨ / ٢٣٠) ، تهذيب التهذيب (١٢ / ٤٧٦).

٤٧٦

أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الممتحنة : ٩ ـ ١٠].

غزوة خيبر

ولما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة من الحديبية مكث بها ذا الحجة منسلخ سنة ست ، وبعض المحرم من سنة سبع.

ثم خرج فى بقية منه إلى خيبر غازيا.

وكان الله وعده إياها وهو بالحديبية بقوله عز من قائل : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) [الفتح : ٢٠] يعنى بالمعجل صلح الحديبية ، والمغانم الموعود بها فتح خيبر.

فخرج إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستنجزا ميعاد ربه وواثقا بكفايته ونصره ، ودفع الراية إلى على بن أبى طالب ـ وكانت بيضاء ـ فسلك على عصر فبنى له فيها مسجدا ، ثم على الصهباء ، ثم أقبل بجيشه حتى نزل به بواد يقال له الرجيع فنزل بينهم وبين غطفان ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر أن غطفان لما سمعت منزله من خيبر جمعوا ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه حتى إذا ساروا منقلة سمعوا خلفهم فى أموالهم وأهليهم حسا ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم ، فرجعوا على أعقابهم فأقاموا فى أهليهم وأموالهم وخلوا بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخيبر.

قال أبو معتب بن عمرو : لما أشرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خيبر قال لأصحابه وأنا فيهم : «قفوا» (١). ثم قال : «اللهم رب السموات السبع وما أظللن ، ورب الأرضين السبع وما أقللن ، ورب الشياطين وما أضللن ، ورب الرياح وما أذرين ، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها» ثم قال : «أقدموا بسم الله» (٢). قال : وكان يقولها لكل قرية دخلها.

__________________

(١) انظر الحديث فى : مجمع الزوائد للهيثمى (١ / ١٣٤).

(٢) انظر الحديث فى : مستدرك الحاكم (١ / ٤٤٦ ، ٢ / ١٠٠) ، تفسير القرطبى (٨ / ١٧٥) ، مشكل الآثار للطحاوى (٢ / ٣١٢ ، ٣ / ٢١٥) ، زاد المسير لابن الجوزى (٨ / ٢٩٩) ، الدر المنثور للسيوطى (٤ / ٢٢٤) ، التاريخ الكبير للبخارى (٦ / ٤٧٢) ، المعجم الكبير للطبرانى (٨ / ٣٩) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٨٣) ، دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ٢٠٤).

٤٧٧

وقال أنس بن مالك : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتى يصبح ، فإن سمع أذانا أمسك وإن لم يسمع أذانا أغار ، فنزلنا خيبر ليلا ، فبات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا اصبح لم يسمع أذانا فركب وركبنا معه ، فركبت خلف أبى طلحة وإن قدمي لتمس قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستقبلنا عمال خيبر غادين قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم ، فلما رأوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والجيش قالوا : محمد والخميس معه. فأدبروا هرابا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أكبر ، خربت خيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» (١).

قال ابن إسحاق (٢) : وتدنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأموال يأخذها مالا مالا ويفتحها حصنا حصنا ، فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم ، وعنده قتل محمود بن مسلمة ، ألقيت عليه رحى منه فقتله ، ثم القموص حصن أبى الحقيق ، وأصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم سبايا منهن صفية بنت حيى بن أخطب ، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبى الحقيق وبنتى عم لها ، فاصطفى صفية لنفسه بعد أن سأله إياها دحية بن خليفة الكلبى ، فلما اصطفاها لنفسه أعطاه ابنتى عمها ، وكان بلال هو الذي جاء بصفية وبأخرى معها فمر بها على قتلى من قتلى يهود ، فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها ، فلما رآها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أغربوا عنى هذه الشيطانة» (٣) ، وأمر بصفية فحيزت خلفه وألقى عليها رداؤه ، فعرف المسلمون أنه قد اصطفاها لنفسه ، فذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لبلال حين رأى بتلك اليهودية ما رأى : «أنزعت منك الرحمة يا بلال حين تمر بامراتين على قتلى رجالهما؟!» (٤).

وكانت صفية قد رأت فى المنام وهى عروس بكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق أن قمرا وقع فى حجرها ، فعرضت رؤياها على زوجها فقال : ما هذا إلا أنك تمنين ملك الحجاز محمدا! فلطم وجهها لطمة حضر عينها منها. فأتى بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبها أثر منه فسألها ما هو فأخبرته الخبر.

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (١ / ١٠٤ ، ١٥٩ ، ٢ / ١٩ ، ٤ / ٥٨ ، ٢٥٣) ، صحيح مسلم (١٠٤٣ ، ١٠٤٤) ، سنن النسائى (٦ / ١٣٢) ، مسند الإمام أحمد (٢ / ١٠٢ ، ١٦٤ ، ١٨٦ ، ٢٤٦ ، ٢٦٣) ، السنن الكبرى للبيهقى (٢ / ٢٣٠ ، ٩ / ٥٥ ، ٧٩ ، ٨٠ ، ١٥٢) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ٢١٥) ، موطأ مالك (٤٦٩) ، مصنف ابن أبى شيبة (١٤ / ٤٦١) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (٢ / ١ / ٧٧ ، ٧٩) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٨٣ ، ١٨٤ ، ١٩٦) ، دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ٢٠٣ ، ٢٢٧).

(٢) انظر السيرة (٣ / ٣٠٤).

(٣) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٩٧).

(٤) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٩٧).

٤٧٨

ولما أعرس بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخيبر أو ببعض الطريق وبات بها فى قبة له ، بات أبو أيوب الأنصاري متوشحا السيف يحرسه ويطيف بالقبة حتى أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رأى مكانه قال : «ما لك يا أبا أيوب؟» قال : يا رسول الله خفت عليك من هذه المرأة ، وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها وقومها وكانت حديثة عهد بكفر فخفتها عليك. فزعموا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظنى»(١).

وأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكنانة بن الربيع ـ وكان عنده كنز بنى النضير ـ فساله عنه فجحد أن يكون يعلم مكانه ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجل من يهود فقال : إنى رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكنانة : أرأيت إن وجدناه عندك أقتلك؟ قال : نعم. فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم ثم سأله ما بقى فأبى أن يريه ، فأمر به الزبير بن العوام فقال : عذبه حتى تستأصل ما عنده. فكان الزبير يقدح بزند فى صدره حتى أشرف على نفسه ثم دفعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة.

وفشت السبايا من خيبر فى المسلمين وأكل المسلمون لحوم الحمر من حمرها.

قال ابن عقبة : كانت أرضا وخيمة شديدة الجهد ، فجهد المسلمون جهدا شديدا وأصابهم مسغبة شديدة فوجدوا أحمرة إنسية ليهود لم يكونوا أدخلوها الحصن فانتحروها ، ثم وجدوا فى أنفسهم من ذلك ، فذكروها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنهاهم عن أكلها.

قال أبو سليط فيما ذكر ابن إسحاق : أتانا نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أكل لحوم الحمر الإنسية والقدور تفور بها فكفأناها على وجوهها.

وذكر ـ أيضا ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام ـ يومئذ ـ فى الناس فنهاهم عن أمور سماها لهم ، قال مكحول : نهاهم ـ يومئذ ـ عن أربع : عن إتيان الحبالى من النساء ، وعن أكل الحمار الأهلى ، وعن أكل كل ذى ناب من السباع ، وعن بيع المغانم حتى تقسم.

وحدث جابر بن عبد الله ولم يشهد خيبر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نهى الناس عن أكل لحوم الحمر أذن لهم فى لحوم الخيل.

__________________

(١) انظر الحديث فى : كنز العمال للمتقى الهندى (٣٧٨٠٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٢١٢).

٤٧٩

وافتتح رويفع بن ثابت قرية من قرى المغرب يقال لها : جربه ، فقال خطيبا فقال : يا أيها الناس ، إنى لا أقول لكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول فينا يوم خيبر ، قام فينا فقال : «لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أ، يصيب امرأة من السبى حتى يستبرئها ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه» (١).

وقال عبادة بن الصامت : نهانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم خيبر أن نبيع أو نبتاع تبر الذهب بالذهب العين ، وتبر الفضة بالورق العين ، وقال : «ابتاعوا تبر الذهب بالورق العين ، وتبر الفضة بالذهب العين».

ولما أصاب المسلمين بخيبر ما أصابهم من الجهد أتى بنو سهم من أسلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقالوا : يا رسول الله ، لقد جهدنا وما بأيدينا من شيء. فلم يجدوا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا يعطيهم إياه ، فقال : «اللهم إنك قد عرفت حالهم وأن ليست بهم قوة وأن ليس بيدى شيء أعطيهم إياه فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء وأكثرها طعاما وودكا» (٢). فغدا الناس وفتح الله عليهم حصن الصعب بن معاذ ، وما بخيبر كان أكثر طعاما وودكا منه.

ولما افتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حصونهم ما افتتح وحاز من الأموال ما حاز انتهوا إلى حصنيهم «الوطيح» و «السلالم» وكانا آخر حصون أهل خيبر افتتاحا ، فحاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بضع عشرة ليلة ، وخرج مرحب اليهودى من حصنهم قد جمع سلاحه وهو ينادى : من يبارز ، ويرتجز :

قد علمت خيبر أنى مرحب

شاكى السلاح بطل مجرب

أطعن أحيانا وحينا أضرب

إذا الليوث أقبلت تحرب

إن حماى للحمى لا يقرب

__________________

(١) انظر الحديث فى : سنن أبى داود (٢١٥٨ ، ٢١٥٩) ، مسند الإمام أحمد (٤ / ١٠٨ ، ٦ / ٣٨٥) ، إرواء الغليل للألبانى (١ / ٢٠١) ، شرح السنة للبغوى (٩ / ٣٢١) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (٤ / ٣٠) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ١٩٢) ، السنن الكبرى للبيهقى (٩ / ١٢٤).

(٢) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ٢٢٣).

٤٨٠