الإكتفا - ج ١

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ١

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبدالقادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2943-0
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

فصدقناه وآمنا به ، واتبعناه على ما جاء به من الله ، فعبدنا الله وحده ، فلم نشرك به شيئا ، وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا ، فعذبونا ، وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا ، وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ورغبنا فى جوارك ، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك ، فقال له النجاشى : هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر : نعم. قال : فاقرأه علىّ. فقرأ عليه صدرا من : (كهيعص) ، فبكى والله النجاشى حتى أخضل لحيته ، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم ، حين سمعوا ما يتلى عليهم.

ثم قال لهم النجاشى : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة (١) واحدة ، انطلقا ، فو الله لا أسلمهم إليكما أبدا ولا يكادون.

فلما خرجا من عنده ، قال عمرو بن العاص : والله لآتينه عنهم غدا بما أستأصل به خضراءهم (٢). قالت : فقال له عبد الله بن أبى ربيعة ، وكان أتقى الرجلين فينا : لا تفعل فإن لهم أرحاما ، وإن كانوا قد خالفونا. قال : والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد. ثم غدا عليه ، فقال : أيها الملك ، إنهم يقولون فى عيسى ابن مريم قولا عظيما ، فسلهم عما يقولون فيه.

قالت : فأرسل إليهم ليسألهم عنه ، ولم ينزل مثلها قط. فاجتمع القوم ، ثم قال بعضهم لبعض : ما ذا تقولون فى عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه؟ فقالوا : نقول والله ما قال الله ، وما جاءنا به نبينا ، كائنا فى ذلك ما هو كائن.

قالت : فلما دخلوا عليه قال لهم : ما تقولون فى عيسى ابن مريم؟ قالت : فقال جعفر ابن أبى طالب : نقول فيه الذي جاءنا به نبينا ، نقول : عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول ، قالت : فضرب النجاشى بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا ، ثم قال : ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود ، قالت : فتناخرت (٣) بطارقته حوله حين قال ما قال ، فقال : وإن نخرتم والله ، اذهبوا فأنتم شيوم بأرضى أى آمنون ، من سبكم غرم ، من سبكم غرم ، من سبكم غرم ، فما أحب أن لى دبرا من ذهب وأنى

__________________

(١) مشكاة : أى الثقب الذي يوضع فيه الفتيل والمصباح ، وهى الكوة غير النافذ.

(٢) استأصل به خضراءهم : أى جماعتهم وقوتهم ومعظمهم ، وقيل : شجرتهم التي تفرعوا منها.

(٣) تناخرت : أى تكلمت وكأنه كلام من غضب ونفور.

٢٠١

آذيت رجلا منكم. ويقال دبرا ، وهو الجبل بلسان الحبشة فيما قال ابن هشام.

ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لى بها ، فو الله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على ملكى فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس فى فأطيعهم فيه. قالت : فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به ، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار ، قالت : فو الله إنا لعلى ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه فى ملكه فو الله ما علمتنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك ، تخوفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشى فيأتى رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشى يعرف منه.

وسار إليه النجاشى وبينهما عرض النيل ، فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ فقال الزبير بن العوام : أنا قالوا : فأنت. وكان من أحدث القوم سنا ، فنفخوا له قربة فجعلنها فى صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ، ثم انطلق حتى حضرهم.

قالت : ودعونا الله للنجاشى بالظهور على عدوه والتمكين له فى بلاده. فو الله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن إذ طلع الزبير يسعى ، فلمع بثوبه يقول : ألا أبشروا فقد ظهر النجاشى وأهلك الله عدوه فو الله ما علمتنا فرحنا فرحة قط مثلها.

ورجع النجاشى ، وقد أهلك الله عدوه ومكن له فى بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة ، فكنا عنده فى خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الزهرى (١) : فحدثت عروة بن الزبير هذا الحديث ، فقال : هل تدرى ما قوله : «ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على ملكى فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس فى فأطيع الناس فيه» قلت : لا والله.

قال : فإن عائشة أم المؤمنين حدثتنى أن أباه كان ملك قومه ، ولم يكن له ولد إلا النجاشى ، وكان للنجاشى عم له من صلبه اثنا عشر رجلا ، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة ، فقالت الحبشة بينها : لو أنا قتلنا أبا النجاشى وملكنا أخاه ، فإنه لا ولد له غير هذا الغلام ، وإن لأخيه من صلبه اثنى عشر رجلا فتوارثوا ملكهم من بعده بقيت الحبشة بعده دهرا.

فعدوا على أبى النجاشى فقتلوه وملكوا أخاه ، فمكثوا على ذلك حينا ونشأ

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ٢٧٩ ـ ٢٨١).

٢٠٢

النجاشى مع عمه ، وكان لبيبا حازما من الرجال ، فغلب على أمر عمه ونزل منه بكل منزلة ، فلما رأت الحبشة مكانه منه قالت بينها : والله لقد غلب هذا الفتى على أمر عمه ، وإنا لنتخوف أن يملكه علينا ، وإن ملكه علينا ليقتلننا أجمعين ، لقد عرف أنا نحن قتلنا أباه.

فمشوا إلى عمه ، فقالوا : إما أن تقتل هذا الفتى أو لتخرجنه من بين أظهرنا ، فإنا قد خفناه على أنفسنا. قال : ويلكم! قتلت أباه بالأمس وأقتله اليوم! بل أخرجه من بلادكم.

فخرجوا به إلى السوق فباعوه من رجل من التجار بستمائة درهم ، فقذفه فى سفينة فانطلق به حتى إذا كان العشى من ذلك اليوم هاجت سحابة من سحائب الخريف فخرج عمه يستمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته.

ففزعت الحبشة إلى ولده فإذا هو محمق ليس فى ولده خير ، فمرج على الحبشة أمرهم ، فلما ضاق عليهم ما هم فيه قال بعضهم لبعض : تعلموا والله أن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيره الذي بعتموه غدوة ، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه. قالت : فخرجوا فى طلبه وطلب الرجل الذي باعوه منه حتى أدركوه فأخذوه منه ، ثم جاءوا به فعقدوا عليه التاج وأقعدوه على سرير الملك ، فجاءهم التاجر الذي كانوا باعوه منه ، فقال : إما أن تعطونى مالى وإما أن أكلمه فى ذلك. فقالوا : لا نعطيك شيئا. قال : إذا والله أكلمه. قالوا : فدونك.

فجاءه فجلس بين يديه ، فقال : أيها الملك ، ابتعت غلاما من قوم بالسوق بستمائة درهم ، فأسلموا إلى غلامى وأخذوا دراهمى ، حيث إذا سرت أدركونى فأخذوا غلامى ومنعونى دراهمى.

فقال لهم النجاشى : لتعطنه دراهمه أو ليضعن غلامه يده فى يده فليذهبن به حيث شاء! قالوا : بل نعطيه دراهمه (١).

وكان ذلك أول ما خبر من صلابته فى دينه وعدله فى حكمه رحمه‌الله تعالى ، وعن عائشة قالت : لما مات النجاشى كان يتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور.

وذكر ابن إسحاق (٢) أيضا ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، أن الحبشة اجتمعت ، فقالوا للنجاشى ، يعنى عند ما وافق جعفر بن أبى طالب على قوله فى عيسى ابن مريم :

__________________

(١) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٣ / ١٢٣ ـ ١٢٤).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٢٨١).

٢٠٣

إنك فارقت ديننا. وخرجوا عليه ، فأرسل إلى جعفر وأصحابه وهيأ سفنا وقال : اركبوا فيها وكونوا كما أنتم ، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم ، وإن ظفرت فاثبتوا.

ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه : هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم.

ثم جعله فى قبائه عند المنكب الأيمن ، وخرج إلى الحبشة وصفوا له ، فقال : يا معشر الحبشة ، ألست أحق الناس بكم؟ قالوا : بلى. قال : فكيف رأيتم سيرتى فيكم؟ قالوا : خير سيرة. قال : فما لكم؟ قالوا : فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد. قال : فما تقولون أنتم فى عيسى؟ قالوا : نقول هو ابن الله. قال النجاشى ، ووضع يده على صدره على قبائه : هو يشهد أن عيسى لم يزد على هذا شيئا. وإنما يعنى على ما كتب. فرضوا وانصرفوا ، فبلغ ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما مات النجاشى صلى عليه واستغفر له (١).

قال ابن إسحاق (٢) : ولما قدم عمرو بن العاص ، وعبد الله بن أبى ربيعة على قريش ، ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وردهما النجاشى بما يكرهون ، وأسلم عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره ، امتنع به أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبحمزة حتى عازوا قريشا.

فكان عبد الله بن مسعود يقول : ما كنا نقدر على أن نصلى عند الكعبة حتى أسلم عمر ، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه (٣).

وقال ابن مسعود فى رواية البكائى عن غير ابن إسحاق : إن إسلام عمر كان فتحا ، وإن هجرته كانت نصرا ، وإن إمارته كانت رحمة ، ولقد كنا وما نصلى عند الكعبة ، حث أسلم عمر ، وذكر مثل ما تقدم نصا إلى آخره.

__________________

(١) وردت من الأحاديث الكثير فى صلاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على النجاشى ، ومنها ما أخرجه الإمام أحمد فى المسند (٤ / ٣٦٠ ، ٣٦٣) عن جرير بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أخاكم النجاشى قد مات فاستغفروا له».

(٢) انظر : السيرة (١ / ٢٨١ ـ ٢٨٢).

(٣) ذكره الهيثمى فى المجمع (٩ / ٦٢) ، ابن سعد فى الطبقات (١ / ٢٧٠). الحاكم فى المستدرك (٣ / ٨٣ ، ٨٤).

٢٠٤

ذكر الحديث عن إسلام عمر بن الخطاب

رضى الله عنه

حدث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه ، أم عبد الله بنت أبى حثمة قالت : والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة ، وقد ذهب عامر فى بعض حاجتنا ، إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف على ، وهو على شركه ، قالت : وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا ، فقال : إنه للانطلاق يا أم عبد الله! فقلت : نعم ، والله لنخرجن فى أرض الله ، آذيتمونا وقهرتمونا ، حتى يجعل الله لنا مخرجا! فقال : صحبكم الله! ورأيت له رقة لم أكن أرها ، ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا. قالت : فجاء عامر بحاجته تلك ، فقلت له : يا أبا عبد الله لو رأيت عمر آنفا ورقته علينا! قال : أطمعت فى إسلامه؟ قالت : نعم. قال : لا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب! قالت : يأسا منه لما كان يرى منه من غلظته وقسوته عن الإسلام (١).

قال ابن إسحاق (٢) : وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحبشة.

قال : وكان إسلامه فيما بلغنى ، أن أخته فاطمة بنت الخطاب كانت قد أسلمت ، وأسلم زوجها سعيد بن زيد ، وهم مستخفون بإسلامهم من عمر ، وكان نعيم بن عبد الله النحام من بنى عدى قد أسلم ، وكان يستخفى بإسلامه فرقا من قومه ، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن.

فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورهطا من أصحابه ، قد ذكروا له أنهم اجتمعوا فى بيت عند الصفا ، قريبا من أربعين بين رجال ونساء ، ومع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمه حمزة ، وأبو بكر الصديق ، وعلى بن أبى طالب ، فى رجال من المسلمين.

فلقيه نعيم فقال : أين تريد يا عمر؟ قال : أريد محمدا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وأعاب دينها وسب آلهتها فأقتله. فقال له نعيم : والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر! أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض ، وقد قتلت محمدا! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم.

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ٢٨٢).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٢٨٢ ـ ٢٨٣).

٢٠٥

قال : أى أهل بيتى؟ قال : ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة ، فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه ، فعليك بهما.

فرجع عمر عائدا إلى أخته وختنه ، وعندهما خباب معه صحيفة فيها «طه» يقرؤهما إياها ، فلما سمعوا حسّ عمر تغيب خباب فى مخدع لهم ، أو فى بعض البيت ، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها ، وقد سمع عمر قراءة خباب ، فلما دخل قال : ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا : ما سمعت شيئا. قال : بلى والله ، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه.

وبطش بختنه سعيد ، فقامت إليه أخته لتكفه عن زوجها ، فضربها فشجها ، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه : نعم أسلمنا وآمنا بالله ورسوله ، فاصنع ما بدا لك!.

ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم وارعوى ، وقال لها : أعطينى هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد. وكان عمر كاتبا ، فلما قال ذلك قالت له أخته : إنا نخشاك عليها. قال : لا تخافى ، وحلف لها بآلهته ليردنها إليها إذا قرأها. فلما قال ذلك طمعت فى إسلامه ، فقالت له : يا أخى ، إنك نجس على شركك ، وإنه لا يمسها إلا الطاهر. فقام عمر فاغتسل ، فأعطته الصحيفة ، وفيها «طه» فقرأها ، فلما قرأ منها صدرا قال : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه. فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال : يا عمر ، والله إنى لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه ، فإنى سمعته أمس وهو يقول : اللهم أيد الإسلام بأبى الحكم بن هشام ، أو بعمر بن الخطاب ، فالله الله يا عمر. فقال له عند ذلك : فدلنى يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم. فقال له خباب : هو فى بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه.

فأخذ عمر سيفه فتوشحه ، ثم عمد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فضرب عليهم الباب ، فلما سمعوا صوته قام رجل منهم فنظر من خلل الباب فرآه متوشحا السيف فرجع وهو فزع فقال : يا رسول الله ، هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف. فقال حمزة بن عبد المطلب : فأذن له ، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له ، وإن كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ائذن له. فأذن له الرجل. ونهض إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لقيه فى الحجرة فأخذ بحجرته أو بمجمع ردائه ثم جبذه جبذة شديدة. وقال : «ما جاء بك يا ابن الخطاب ، فو الله ما أرى أن تنتهى حتى ينزل الله بك قارعة!» ، فقال عمر : يا رسول الله ، جئت لأؤمن بالله ورسوله وبما جاء من عنده. قال : فكبر رسول

٢٠٦

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن عمر قد أسلم. فتفرقوا من مكانهم وقد عزوا فى أنفسهم حين أسلم عمر ، مع إسلام حمزة ، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينتصفون بهما من عدوهم (١). فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر.

وقد روى غيرهم إن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه أنه كان يقول : كنت للإسلام مباعدا وكنت صاحب خمر فى الجاهلية أحبها وأشربها ، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزورة (٢) ، فخرجت ليلة أريد جلسائى أولئك فى مجلسهم ذلك فلم أجد فيه منهم أحدا ، فقلت : لو أنى جئت فلانا الخمار لعلى أجد عنده خمرا فأشرب منها ، فجئته فلم أجده ، فقلت : فلو أنى جئت الكعبة فطفت بها سبعا أو سبعين. فجئت أريد ذلك فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم يصلى ، وكان إذا صلى استقبل الشام وجعل بينه وبينها الكعبة ، فكان مصلاه بين الركنين : الركن الأسود والركن اليمانى ، فقلت حين رأيته : والله لو أنى استمعت لمحمد الليلة حتى أستمع ما يقول.

فقلت : لئن دنوت منه لأروعنه ، فجئت من قبل الحجر ، فدخلت تحت ثيابها ، فجعلت أمشى رويدا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم يصلى يقرأ القرآن حتى قمت فى قبلته مستقبله ما بينى وبينه إلا ثياب الكعبة. فلما سمعت القرآن رق له قلبى! فبكيت ودخلنى الإسلام ، فلم أزل قائما فى مكانى ذلك حتى قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاته ثم انصرف ، وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبى حسين ، وكانت طريقه حتى يخرج المسعى ثم يسلك بين دار عباس بن عبد المطلب وبين دار ابن أزهر.

فتبعته حتى إذا دخل بينهما أدركته ، فلما سمع حسى عرفنى ، فظن أنى إنما تبعته لأوذيه فنهمنى ثم قال : «ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة؟» قلت : جئت لأؤمن بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله ، فحمد الله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : «قد هداك الله يا عمر» ، ثم مسح صدرى ودعا لى بالثبات ، ثم انصرفت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيته (٣).

__________________

(١) انظر الحديث فى : طبقات ابن سعد (٣ / ٩١) ، دلائل النبوة للبيهقى (٢ / ٢١٩).

(٢) الحزورة : هى الآن قطعة من المسجد فى مكة.

(٣) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٣ / ١٢٩).

٢٠٧

قال ابن إسحاق (١) : فالله أعلم أى ذلك كان.

وذكر محمد بن عبد الله بن سنجر الحافظ فى إسلام عمر رضى الله عنه ، زيادة لم يذكرها ابن إسحاق ، فروى بإسناد له إلى شريح بن عبيد قال : قال عمر بن الخطاب : خرجت أتعرض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن أسلم ، فوجدته قد سبقنى إلى المسجد فقمت خلفه ، فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أتعجب من تأليف القرآن ، فقلت : هذا والله شاعر كما قالت قريش ، فقرأ : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) [الحاقة : ٤٠ ، ٤١] ، قال : قلت : كاهن علم ما فى نفسى فقرأ : (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) [الحاقة : ٤٢] إلى آخر السورة.

قال : فوقع الإسلام فى قلبى كل موقع.

قال ابن إسحاق (٢) : وحدثني نافع عن ابن عمر قال : لما أسلم عمر قال : أى قريش أنقل للحديث؟ قيل له : جميل بن معمر الجمحى. فغدا عليه وغدوت أتبع أثره أنظر ما يفعل ، وأنا غلام أعقل كل ما رأيت ، حتى جاءه فقال له : أعلمت يا جميل أنى أسلمت ودخلت فى دين محمد؟! فو الله ما راجعه حتى قام يجر رداءه ، واتبعه عمر ، واتبعت أبى ، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش ، وهم فى أنديتهم حول الكعبة ، ألا إن ابن الخطاب قد صبأ ، قال : يقول عمر من خلفه : كذب ولكنى أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، وثاروا إليه ، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم.

قال : وطلع فقعد ، وقاموا على رأسه وهو يقول : افعلوا ما بدا لكم ، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا ، فبيناهم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليهم فقال : ما شأنكم؟ قالوا : صبأ عمر. قال : فمه ، رجل اختار لنفسه أمرا فما ذا تريدون؟ أترون بنى عدى بن كعب يسلمون لكم صاحبهم. هكذا عن الرجل. فو الله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه. فقلت لأبى بعد أن هاجر إلى المدينة : يا أبت ، من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهو يقاتلونك؟ جزاه الله خيرا. قال : أى بنى ، ذلك العاص بن وائل السهمى ، لا جزاه الله خيرا (٣).

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ٢٨٦).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٢٨٦).

(٣) ذكره ابن كثر فى البداية والنهاية (٣ / ١٢٩ ـ ١٣٠).

٢٠٨

وهذا الدعاء عليه وله مما زاده ابن هشام عن غير ابن إسحاق.

وعن بعض آل عمر قال عمر (١) : لما أسلمت تلك الليلة تذكرت أى الناس أشد عداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى آتيه فأخبره أنى قد أسلمت ، قال : قلت : أبو جهل. وكان عمر ابنا لحنتمة بنت هشام بن المغيرة ، فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه ، فخرج إلى فقال : مرحبا وأهلا يا ابن أختى ، ما جاء بك؟ قلت : جئتك أخبرك أنى قد آمنت بالله وبرسوله محمد وصدقت بما جاء به ، فضرب الباب فى وجهى وقال : قبحك الله وقبح ما جئت به.

وفيما رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن عمر رضى الله عنه ، قال حين أسلم.

الحمد لله ذى المن الذي وجبت

له علينا أياد كلها عبر

وقد بدأنا فكذبنا فقال لنا

صدق الحديث نبى عنده الخبر

وقد ظلمت ابنة الخطاب ثم هدى

ربى عشية قالوا قد صبا عمر

لما دعت ربها ذا العرش جاهدة

والدمع من عينها عجلان يبتدر

أيقنت أن الذي تدعوه خالقها

تكاد تسبقنى من عبرة درر

فقلت أشهد أن الله خلقنا

وأن أحمد فينا اليوم مشتهر

نبى صدق أتى بالحق من ثقة

وفى الأمانة ما فى عوده خور

قال ابن إسحاق (٢) : فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا ، وأن النجاشى قد منع من لجأ إليه منهم ، وأن عمر قد أسلم فكان هو وحمزة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وجعل الإسلام يفشوا فى القبائل ، اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على نبى هاشم وبنى المطلب ، على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم.

فلما اجتمعوا لذلك كتبوا فى صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ، ثم علقوا الصحيفة فى جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم.

فلما فعلت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبى طالب فدخلوا معه فى شعبه واجتمعوا إليه وخرج من بنى هاشم أبو لهب إلى قريش فظاهرهم ، ولقى هندا

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ٢٨٧).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٢٨٧ ـ ٢٨٨).

٢٠٩

بنت عتبة بن ربيعة حين فارق قومه وظاهر عليم قريشا ، فقال لها : يا بنت عتبة ، هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقهما وظاهر عليهما؟ قالت : نعم ، فجزاك الله خيرا يا أبا عتبة.

وقال أبو طالب فيما صنعت قريش من ذلك واجتمعوا عليه :

ألا أبلغا عنى على ذات بيننا

لؤيا وخصا من لؤيّ بنى كعب

ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا

نبيا كموسى خط فى أول الكتب

وأن عليه فى العباد محبة

ولا خير ممن خصه الله بالحب

وأن الذي لصقتم من كتابكم

لكم كائن نحسا كراغية السقب (١)

أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى

ويصبح من لم يجن ذنبا كذى الذنب

ولا تبتغوا أمر الوشاة وتقطعوا

أواصرنا بعد المودة والقرب

وتستجلبوا حربا عوانا وربما

أمر على من ضاقه حلب الحرب

فلسنا ورب البيت نسلم أحمدا

لعزاء من عض الزمان ولا كرب

ولما تبن منا ومنكم سوالف

وأيد أترت بالقساسية الشهب (٢)

بمعترك ضنك ترى كسر القنا

به والنسور الطخم يعكفن كالشرب

كأن مجال الخيل فى حجراته

ومعمعة الأبطال معركة الحرب (٣)

أليس أبونا هاشم شد أزره

وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب

ولسنا نمل الحرب حتى تملنا

ولا نتشكى ما قد ينوب من النكب

ولكننا أهل الحفائظ والنهى

إذا طار أرواح الكماة من الرعب

فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا لا يصل إليهم شيء إلا سرا ، مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش.

وقد كان أبو جهل فيما يذكرون ، لقى حكيم بن حزام معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة وهى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الشعب فتعلق به وقال : أتذهب بالطعام إلى بنى هاشم؟ فقال له أبو البخترى : طعام كان لعمته عنده ، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟

خل سبيل الرجل.

__________________

(١) كراغية السقب : الراغية من الرغاء بضم أوله وهو أصوات الإبل. والسقب ولد الناقة.

(٢) تبن : تنفصل. السوالف : صفحات الأعناق. أثرت : يعنى قطعت. القساسية : سيوف تنسب إلى قساس وهو جعل لبنى أسد فيه معدن الحديد.

(٣) مجال الخيل : إجالة الفرسان إياها. حجراته : أى النواحى. معمعة : الصوت.

٢١٠

فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه ، فأخذ أبو البخترى لحى بعير فضربه ، فشجه ووطئه وطأ شديدا ، وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فيشمتوا بهم.

ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا وسرا وجهرا ، مباديا لأمر الله لا يتقى فيه أحدا من الناس.

فجعلت قريش حين منعه الله منها وقام عمه وقومه من بنى هاشم وبنى المطلب دونه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به ، يهمزونه ويستهزءون به ويخاصمونه وجعل القرآن ينزل فى قريش بأحداثهم ، وفيمن نصب لعداوته ، منهم من سمى لنا ، ومنهم من نزل فيه القرآن فى عامة من ذكر الله من الكفار.

فكان من سمى لنا من قريش ممن نزل فيه القرآن عمه أبو لهب وامرأته أم جميل بنت حرب بن أمية ، حمالة الحطب ، وإنما سماها الله عزوجل حمالة الحطب أنها كانت فيما بلغنى ، تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يمر.

وكان أبو لهب يقول فى بعض ما يقول : يعدنى محمد أشياء لا أراها ، يزعم أنها كائنة بعد الموت ، فما ذا وضع فى يدى بعد ذلك! ثم ينفخ فى يديه ويقول : تبا لكما ما أرى فيكما شيئا مما يقول محمد!

فأنزل الله عزوجل فيهما : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) [المسد : ١، ٥](١).

قال ابن إسحاق (٢) : فذكر لى أن أم جميل حين سمعت ما نزل فيها وفى زوجها من

__________________

(١) ذكره الشوكانى فى فتح القدير (٥ / ٧٤٥).

وروى البخاري فى سبب نزول هذا السورة عن ابن عباس أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش : فقال : أرأيتم إن حدثتكم أن العدم مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقونى؟» قالوا : نعم ، قال : «فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد» ، فقال أبو لهب ألهذا جمعتنا؟ تبا لك فأنزل الله (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) إلى آخرها. وفى رواية فقام ينفض يديه وهو يقول : تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٢٩١ ـ ٢٩٢).

٢١١

القرآن ، أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس فى المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق وفى يدها فهر (١) من حجارة ، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا ترى إلا أبا بكر ، فقالت : يا أبا بكر ، أين صاحبك؟ فقد بلغنى أنه يهجونى ، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه ، أما والله إنى لشاعرة ، ثم قالت :

مذ مما عصينا

وأمره أبينا

وعن غير ابن إسحاق : ودينه قلينا ، ثم انصرفت. فقال أبو بكر : يا رسول الله ، أما تراها رأتك؟ فقال : «ما أرتنى ، لقد أخذ الله ببصرها عنى» (٢).

وكانت قريش إنما تسمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مذمما ثم يسبونه ، فكان عليه‌السلام ، يقول : «ألا تعجبون لما صرف الله عنى من أذى قريش! يسبون ويهجون مذمما وأنا محمد!» (٣).

وأمية بن خلف الجمحى ، كان إذا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم همزه ولمزه ، فأنزل الله فيه : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة : ١] إلى آخر السورة (٤).

والعاص بن وائل السهمى ، كان خباب بن الأرت ، قد باع منه سيوفا عملها له وكان قينا بمكة ، فجاءه يتقاضاه ، فقال له : يا خباب ، أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذي أنت على دينه أن فى الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم؟! قال : بلى. قال : فأنظرنى إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هنالك حقك ، فو الله لا تكون أنت وأصحابك يا خباب آثر عند الله منى ولا أعظم حظا فى ذلك!.

فأنزل الله فى ذلك : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً) [مريم : ٧٧ ، ٨٠] (٥).

__________________

(١) الفهر : حجر على مقدار ملء الكف.

(٢) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٢ / ١٩٥) ، تفسير ابن كثير (٨ م ٥٣٦ ، ٣٥٧) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٧ / ١٤٤) ، المطالب العالية لابن حجر (٣ / ٣٩٩). مستدرك الحاكم (٢ / ٣٦١).

(٣) انظر الحديث فى : صحيح البخاري كتاب المناقب (٣٥٣٣) ، مسند الإمام أحمد (٢ / ٢٤٤ ، ٣٦٩).

(٤) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٣ / ١٣٥).

(٥) انظر الحديث فى : صحيح البخاري كتاب البيوع (٢٠٩١) ، صحيح مسلم كتاب صفات المنافقين (٤ / ٣٥).

٢١٢

ولقى أبو جهل بن هشام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغنى ، فقال له : والله يا محمد لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي بعثك ، فأنزل الله تعالى : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام : ١٠٨] ، فذكر لى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كف عن سب آلهتهم وجعل يدعوهم إلى الله (١).

والنضر بن الحارث بن كلدة ، من شياطين قريش ممن كان يؤذى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينصب له العداوة ، وكان قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس ، فكان إذا جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجلسا فذكر فيه بالله ودعا فيه إلى الله وحذر قومه ما أصاب الأمم الخالية من نقمة الله ، خلفه فى مجلسه إذا قام ثم قال : أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه ، فهلم فأنا أحدثكم أحسن من حديثه. ثم يحدثهم عن رستم الشيذ واسبنديار وملوك فارس ، ثم يقول : بما ذا محمد أحسن حديثا منى؟ والله ما محمد بأحسن حديثا منى ، وما أحاديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتها ، فأنزل الله عزوجل فيه :(وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان : ٥ ، ٦] وكل ما ذكر فيه الأساطير من القرآن ، وأنزل أيضا فيه : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الجاثية : ٧ ، ٨] (٢). وهو القائل : سأنزل مثل ما أنزل الله! فيما ذكر ابن هشام.

قال ابن إسحاق (٣) : وجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغنى ، يوما مع الوليد بن المغيرة فى المسجد ، فجاء النضر بن الحارث فجلس معهم فى المجلس ، وفيه غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعرض له النضر ، فكلمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أفحمه ، ثم تلا عليه وعليهم : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) [الأنبياء : ٩٨ ، ١٠٠] (٤).

ثم قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمى حتى جلس ، فقال له الوليد : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد ، وقد زعم محمد أنا

__________________

(١) ذكره الطبرى فى تفسيره (٧ / ٢٠٧).

(٢) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٣ / ١٣٦).

(٣) انظر : السيرة (١ / ٢٩٤ ـ ٢٩٥).

(٤) ذكره ابن كثير فى تفسيره (٥ / ٣٧٥).

٢١٣

وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم ، فقال ابن الزبعرى : أما والله لو وجدته لخصمته ، فسلوا محمدا : أكل ما يعبد من دون الله فى جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد عيسى ابن مريم.

فعجب الوليد ومن كان معه من قول ابن الزبعرى ، ورأوا أنه قد احتج وخاصم. فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهم : «كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده ، إنهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته». فأنزل الله عليه : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) [الأنبياء : ١٠١] ، أى عيسى وعزيرا ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله ، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله (١).

ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) إلى قوله : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٢٦ ، ٢٩](٢).

وأنزل فيما ذكر من أمر عيسى أنه يعبد من دون الله وعجب الوليد ومن حضر من حجته وخصومته : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) ثم قال : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) [الزخرف : ٥٧ ، ٦١] ، أى ما وضعت على يديه من إحياء الموتى وإبراء الأسقام فكفى به دليلا على علم الساعة ، يقول : (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ).

والأخنس بن شريق الثقفى حليف بنى زهرة ، وكان من أشراف القوم وممن يستمع منه ، فكان يصيب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويرد عليه ، فأنزل الله فيه : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [ن : ١٠ ، ١٣] ، إلى قوله : (زَنِيمٍ).

ولم يقل : «زنيم» لعيب فى نسبه ، إن الله لا يعب أحدا بنسبه ولكنه حقق بذلك نعته

__________________

(١) انظر الحديث فى : مجمع الزوائد للهيثمى (٧ / ١٠٤) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٣١٧) ، مستدرك الحاكم (٣ / ٢٨٤ ، ٢٨٥).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٢٩٦).

٢١٤

ليعرف ، والزنيم العديد للقوم (١). قال الخطيم التميمى ، فى الجاهلية :

زنيم تداعاه الرجال زيادة

كما زيد فى عرض الأديم الأكارع (٢)

والوليد بن المغيرة ، قال : أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها ، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفى سيد ثقيف ونحن عظيما القريتين! فأنزل الله فيه ، فيما بلغنى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) إلى قوله : (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف : ٢٠ ، ٢٢].

وأبى بن خلف الجمحى وعقبة بن أبى معيط ، وكانا متصافيين حسنا ما بينهما ، فكان عقبة بن أبى معيط قد جلس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمع منه ، فبلغ ذلك أبيا فأتى عقبة فقال : ألم يبلغنى أنك جالست محمدا وسمعت منه؟! ثم قال : وجهى من وجهك حرام أن أكلمك ، واستغلظ من اليمين ، إن أنت جلست إليه أو سمعت منه ، أو لم تأته فتتفل فى وجهه.

ففعل ذلك عدو الله عقبة ، فأنزل الله فيه : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) [الفرقان : ٢٧ ، ٢٩].

ومشى أبى بن خلف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم بال قد ارفتّ فقال : يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما [أرمّ] (٣)؟! ثم فته بيده ثم نفخه فى الريح نحو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم أنا أقول ذلك ، يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا ، ثم يدخلك النار» (٤) ، فأنزل الله فيه : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) [يس : ٧٨ ، ٨٠].

واعترض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [وهو يطوف بالكعبة] (٥) ، فيما بلغنى ، الأسود بن المطلب

__________________

(١) العديد للقوم : الذي يعد فى الناس وليس منهم.

(٢) الأكارع : جمع كراع بضم الكاف بمعنى الأطراف.

(٣) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل : «أرى» ، وما أوردناه من السيرة. وأرم : أى بليت.

(٤) ذكره ابن الجوزى فى زاد المسير (٦ / ٢٨٣) ، الطبرى فى تفسيره (٢٣ / ٢١) ، الحاكم فى المستدرك (٢ / ٤٢٩) ، الواحدى فى أسباب النزول (٣٠٨).

(٥) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل وما أوردناه من السيرة ، والمصنف ينقل منها.

٢١٥

والوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل ، وكانوا ذوى أسنان فى قومهم ، فقالوا : يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت فى الأمر ، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه ، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه!.

فأنزل الله فيهم : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ، السورة كلها ، أى إن كنتم لا تعبدون الله إلا أن أعبد ما تعبدون فلا حاجة لى بذلك منكم ، لكم دينكم ولى دين.

وأبو جهل بن هشام ، لما ذكر الله شجرة الزقوم تخويفا بها لهم ، قال يا معشر قريش : هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد؟ قالوا : لا. قال : عجوة يثرب بالزبد! والله لئن استمكنا منها لنتزقّمنّها تزقما (١)!.

فأنزل الله فيه : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) [الدخان : ٤٣] ، ووقف الوليد بن المغيرة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسول الله يكلمه وقد طمع فى إسلامه ، فبينا هو فى ذلك مر به ابن أم مكتوم الأعمى ، فكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعل يستقرئه القرآن ، فشق ذلك منه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أضجره ، وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد وما طمع فيه من إسلامه ، فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا ، وتركه ، فأنزل الله فيه : (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) إلى قوله : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ) [عبس : ١ ، ١٤] (٢).

أى : إنما بعثتك بشيرا ونذيرا لم أخص بك أحدا دون أحد ، فلا تمنعه ممن ابتغاه ولا تتصد به لمن لا يريده.

قال ابن إسحاق (٣) : ولما بلغ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين خرجوا إلى أرض الحبشة إسلام أهل مكة فأقبلوا لما بلغهم ذلك ، حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ذلك كان باطلا ، فلم يدخل أحد منهم ، إلا بجوار أو مستخفيا.

وذكر موسى بن عقبة أن رجوع هؤلاء الذين رجعوا كان قبل خروج جعفر وأصحابه إلى أرض الحبشة ، وأنهم الذين خرجوا أولا قبله ثم رجعوا حين أنزل الله سورة النجم.

__________________

(١) لتزقمنها تزقما : أى تبتلعها ابتلاعا.

(٢) انظر الحديث فى : سنن الترمذى (٥ / ٣٣١) ، تفسير الطبرى (٣٠ / ٣٣) ، فتح القدير للشوكانى (٥ / ٥٤٤) ، المستدرك للحاكم (٢ / ٥١٤).

(٣) انظر : السيرة (١ / ٣٠٠ ـ ٣٠٢).

٢١٦

قال : وكان المشركون يقولون : لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارة بمثل الذي يذكر به آلهتنا من الشتم والشر.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم ، وأحزنه ضلالتهم وكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله تعالى سورة «النجم» قال : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ١٩ ، ٢٠] ، ألقى الشيطان عندها على لسانه كلمات حين ذكر الطواغيت فقال : وإنهم لمن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لهى التي ترتجى(١).

كان ذلك من سجع الشيطان وفتنته ، فوقعت هاتان الكلمتان فى قلب كل مشرك بمكة وذلت بها ألسنتهم وتباشروا بها وقالوا : إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين آبائه. فلما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخر «والنجم» سجد وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك ، غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا ، فرفع ملء كفه ترابا فسجد عليه.

فعجب الفريقان كلاهما من اجتماعهم فى السجود لسجود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين ، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان على ألسنة المشركين.

وأما المشركون فاطمأنت نفوسهم إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه لما ألقى الشيطان فى أمنية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسجدوا لتعظيم آلهتهم.

وفشت تلك الكلمة فى الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين ، عثمان بن مظعون وأصحابه ، وحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفيه ، وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة. فأقبلوا سراعا وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته ، وقال عز من قائل : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ

__________________

(١) ذكره البيهقي فى دلائل النبوة (٢ / ٦٦) ، وأشار إلى أن هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، وقد جرح رواتها. وذكره القاضى عياض فى الشفاء (٢ / ١١٦ ـ ١٢٣) وقال : يكفيك أن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل ، مع ضعف نقلته ، واضطراب روايته ، وانقطاع إسناده ، واختلاف كلمته.

٢١٧

وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الحج : ٥٢ ، ٥٤].

فلما بين الله قضاءه فبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم للمسلمين فاشتدوا عليهم. فلهذا الذي ذكره ابن عقبة لم يستطع أحد ممن رجع من أرض الحبشة أن يدخل مكة إلا بجوار أو مستخفيا ، كما ذكر ابن إسحاق.

قال : فكان جميع من قدم مكة منهم ثلاثة وثلاثين رجلا ، دخل منهم بجوار ، فيمن سمى لنا : عثمان بن مظعون الجمحى ، دخل بجوار من الوليد بن المغيرة ، وأبو سلمة بن عبد الأسد بجوار خاله أبى طالب.

فأما عثمان (١) فإنه لما رأى ما فيه أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من البلاء ، وهو يغدو ويروح فى أمان الوليد ، قال : والله إن غدوى ورواحى آمنا بجوار رجل من أهل الشرك ، وأصحابى وأهل دينى يلقون من البلاء والأذى فى الله ما لا يصيبني لنقص كبير فى نفسى.

فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له : يا أبا عبد شمس ، وفت ذمتك وقد رددت إليك جوارك ، قال : لم يا ابن أخى؟ لعله آذاك أحد من قومى؟ قال : لا ولكني أرضى بجوار الله ولا أريد أن أستجير بغيره. قال : فانطلق إلى المسجد فرد على جوارى علانية كما أجرتك علانية.

فخرجا حتى أتيا المسجد ، فقال الوليد : هذا عثمان جاء يرد على جوارى. قال : صدق ، قد وجدته وفيا كريم الجوار ، ولكنى أحببت أن لا أستجير بغير الله. ثم انصرف عثمان ، ولبيد بن ربيعة فى مجلس من قريش ينشدهم ، فجلس معهم عثمان ، فقال لبيد(٢) :

__________________

(١) هو : عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص القرشى الجمحى ، يكنى أبا السائب ، وأمه سخيلة بنت العنبس بن أهبان بن حذافة بن جمح ، وهى أم السائب وعبد الله. انظر ترجمته فى : الاستيعاب (٣ / ١٦٥) الترجمة رقم (١٧٩٨).

(٢) هو : لبيد أبى ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب العامرى ، ويكنى لبيد بن عقيل وكان من شعراء الجاهلية وأدرك لبيد الإسلام وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى وفد بنى كلاب فأسلموا ورجعوا إلى بلادهم. انظر ترجمته فى : الشعر والشعراء (ص ٦٩).

٢١٨

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

قال عثمان : صدقت. قال :

وكل نعيم لا محالة زائل

قال عثمان : كذبت ، نعيم الجنة لا يزول.

قال لبيد : يا معشر قريش ، والله ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم! فقال رجل من القوم : إن هذا سفيه فى سفهاء معه فارقوا ديننا فلا تجدن فى نفسك منه. فرد عليه عثمان حتى شرى أمرهما ، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فحضرها والوليد ابن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان ، فقال : أما والله يا ابن أخى إن كانت عينك عما أصابها لغنية ، لقد كنت فى ذمة منيعة ، قال : بل والله إن عينى الصحيحة لفقيرة إلى ما أصاب أختها فى الله : وإنى لفى جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس. فقال له الوليد : هلم يا ابن أخى إن شئت إلى جوارك. فقال : لا (١).

وأما أبو سلمة بن عبد الأسد ، فإنه لما استجار بأبى طالب مشى إليه رجال بنى مخزوم فقالوا : يا أبا طالب هذا منعت منا ابن أخيك محمدا ، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا؟ فقال : إنه استجار بى وهو ابن أختى ، وإن أنا لم أمنع ابن أختى لم أمنع ابن أخى. فقام أبو لهب فقال : يا معشر قريش ، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ ما تزالون توثبون عليه فى جواره من بين قومه ، والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه فى كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد. فقالوا : بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة ، وكان لهم وليا وناصرا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأبقوا على ذلك.

فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما قال ، ورجا أن يقوم معه فى شأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يحرضه على ذلك :

وإن امرأ أبو عتيبة عمه

لفى روضة ما إن يسام المظالما

أقول له وأين منه نصيحتى

أبا معتب ثبت سوادك قائما (٢)

ولا تقبلن الدهر ما عشت خطة

تسب بها إما هبطت المواسما

وول سبيل العجز غيرك منهم

فإنك لم تخلق على العجز لازما

__________________

(١) ذكره أبو نعيم فى حلية الأولياء (١ / ١٠٣ ، ١٠٤) ، ابن الأثير فى أسد الغابة (٣ / ٥٩٨ ، ٥٩٩).

(٢) ثبت سوادك : يريد كثر قومك ولا تقللهم بفراقك والسواد الشخص.

٢١٩

وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى

أخا الحرب يعصى الخسف حتى يسالما

وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة

ولم يخذلوك غانما أو مغارما

جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا

وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما

بتفريقهم من بعد ود وألفة

جماعتنا كيما ينالوا المحارما

كذبتم وبيت الله نبزى محمدا

ولما تروا يوما لدى الشعب قائما

وكان أبو بكر رضى الله عنه ، كما حدثت عائشة رضى الله عنها ، حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الأذى ، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ما رأى ، قد استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الهجرة فأذن له ، فخرج مهاجرا حتى إذا سار من مكة يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة ، أخو بنى الحارث بن عبد مناة بن كنانة ، وهو يومئذ سيد الأحابيش فقال : أين يا أبا بكر؟.

قال : أخرجنى قومى وآذونى وضيقوا على. قال : لم؟ فو الله إنك لتزين العشيرة وتعين على النوائب وتفعل المعروف وتكسب المعدوم ، فارجع فأنت فى جوارى. فرجع معه حتى إذا دخل مكة قام ابن الدغنة فقال : يا معشر قريش ، إنى قد أجرت ابن أبى قحافة فلا يعرضن له أحد إلا بخير ، قالت : فكفوا عنه.

وكان لأبى بكر مسجد عند باب داره فى بنى جمح فكان يصلى فيه ، وكان رجلا رقيقا إذا قرأ القرآن استبكى ، فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته ، فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة فقالوا له : إنك لم تجر هذا ليؤذينا ، إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق وكانت له هيئة ونحو ، فنحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفتنا أن يفتنهم ، فائته فأمره أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء ، فمشى ابن الدغنة فقال : يا أبا بكر ، إنى لم أجرك لتؤذى قومك ، إنهم قد كرهوا مكانك الذي أنت به وتأذوا بذلك منك فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت ، قال : أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله؟ قال : فاردد على جوارى. قال : قد رددته عليك. فقام ابن الدغنة فقال : يا معشر قريش ، إن ابن أبى قحافة قد رد على جوارى فشأنكم بصاحبكم (١).

وعن القاسم بن محمد أن أبا بكر لقيه سفيه من سفهاء قريش وهو عامد إلى الكعبة ، فحثا على رأسه التراب ، فمر الوليد بن المغيرة أو العاص بن وائل فقال أبو بكر : ألا ترى

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري كتاب الكفالة (٢٢٩٧) ، مسند الإمام أحمد (٦ / ١٩٨).

٢٢٠