الإكتفا - ج ١

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ١

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبدالقادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2943-0
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

وأنزل الله تبارك وتعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة : ١٧٧ ـ ١١٩].

قال كعب : فو الله ما أنعم الله على نعمة قط بعد أن هدانى للإسلام كانت أعظم فى نفسى من صدقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ ، أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه ، فإن الله تبارك وتعالى قال فى الذين كذبوه شر ما قال لأحد : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) [التوبة : ٩٥ ـ ٩٦].

قال : وكنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر هؤلاء الذين قبل منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين حلفوا له فعذرهم واستغفر لهم ، وأرجأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه ما قضى ، فلذلك قال الله تبارك وتعالى : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) وليس الذي ذكر من تخليفنا لتخلفنا عن الغزوة ، ولكن لتخليفه إيانا وإرجائه أمرنا عن من حلف له واعتذر إليه فقبل منه(١).

ذكر إسلام ثقيف

وقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة من تبوك فى رمضان وقدم عليه فى ذلك الشهر وفد ثقيف.

وكان من حديثهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما انصرف عنهم اتبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة ، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يتحدث قومه : إنهم قاتلوك. وعرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن فيهم نخوة

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري كتاب المغازى (٧ / ٤٤١٨) ، صحيح مسلم كتاب التوبة (٤ / ٥٣) مسند الإمام أحمد (٣ / ٤٥٤ ـ ٤٥٩) ، سنن الترمذى كتاب التفسير (٣١٠٢) ، دلائل النبوة للبيهقى (٥ / ٢٧٣ ـ ٢٧٩) ، مصنف عبد الرزاق (٥ / ٩٧٤٤).

٥٦١

الامتناع الذي كان منهم. فقال عروة : يا رسول الله ، أنا أحب إليهم من أبكارهم. ويقال : من أبصارهم. وكان فيهم كذلك محببا مطاعا.

فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه لمنزلته فيهم ، فلما أشرف لهم على علية له وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه رموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله ، فقيل له : ما ترى فى دمك؟ قال : كرامة أكرمنى الله بها وشهادة ساقها إلى فليس فى إلا ما فى الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يرتحل عنكم فادفنونى معهم. فزعموا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن مثله فى قومه لكمثل صاحب ياسين فى قومه»(١).

ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهرا ، ثم إنهم ائتمروا بينهم ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب ، وقد بايعوا وأسلموا ، فمشى عمرو بن أمية أخو بنى علاج وكان من أدهى العرب إلى عبد ياليل بن عمرو حتى دخل داره وكان قبل مهاجرا له الذي بينهما سيئ ثم أرسل إليه ، أن عمرو بن أمية يقول لك : اخرج إلى فقال عبد ياليل للرسول : ويلك أعمرو أرسلك إلى؟ قال : نعم وها هو ذا واقفا فى دارك. قال : إن هذا لشىء ما كنت أظنه ، لعمرو كان أمنع فى نفسه من ذلك. فخرج إليه فلما رآه رحب به فقال له عمرو : إنه قد نزل بنا ما ليست معه هجرة ، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت ، وقد أسلمت العرب كلها ، وليست لكم بحربهم طاقة فانتظروا فى أمركم (٢).

فعند ذلك ائتمرت ثقيف بينها وقال بعضهم لبعض : ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع؟ فائتمروا بينهم وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا كما أرسلوا عروة. فكلموا عبد ياليل وكان سن عروة ، وعرضوا عليه ذلك فأبى أن يفعل وخشى أن يصنع به إذا رجع كما صنع بعروة فقال : لست فاعلا حتى ترسلوا معى رجالا. فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بنى مالك فيكونوا ستة ، فبعثوا مع عبد ياليل الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب ، وشرحبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب. ومن بنى مالك : عثمان بن أبى العاص وأوس بن عوف ونمير بن خرشة.

فخرج بهم عبد ياليل وهو ناب القوم وصاحب أمرهم ، ولم يخرج بهم إلا خشية من

__________________

(١) انظر الحديث فى : مستدرك الحاكم (٣ / ٦١٥ ، ٦١٦) ، تاريخ الطبرى (٢ / ١٧٩) ، دلائل النبوة للبيهقى (٥ / ٢٩٩ ، ٣٠٠) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٩ / ٣٨٦) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (١ / ٣١٢).

(٢) انظر : السيرة (٤ / ١٦٤ ـ ١٦٦).

٥٦٢

مثل ما صنع بعروة بن مسعود لكى يشغل كل رجل منهم إذا رجعوا إلى الطائف رهطه ، فلما دنوا من المدينة ونزلوا قناة ألفوا بها المغيرة بن شعبة يرعى فى نوبته ركاب أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت رعيتها نوبا عليهم ، فلما رآهم ترك الركاب عند الثقفيين وضبر يشتد (١) يبشر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقدومهم ، فلقيه أبو بكر الصديق قبل أن يدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبره بقدومهم يريدون البيعة والإسلام وأن يشترطوا شروطا ويكتتبوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا. فقال أبو بكر رضى الله عنه للمغيرة : أقسمت عليك بالله لا تسبقنى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أكون أنا أحدثه. ففعل المغيرة. فدخل أبو بكر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بذلك ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم وعلمهم كيف يحيون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية.

ولما قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب عليهم قبة فى ناحية مسجده كما يزعمون فكان خالد بن سعيد هو الذي يمشى بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى اكتتبوا كتابهم ، كتبه خالد بيده وكانوا لا يطعمون طعاما ياتيهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يأكل منه خالد حتى أسلموا وفرغوا من كتابهم.

وقد كان فيما سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدع لهم الطاغية وهى اللات لا يهدمها ثلاث سنين فأبى ذلك عليهم ، فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى حتى سألوه شهرا واحدا بعد مقدمهم فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمى ، وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام ، فأبى عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها. وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما كسر أوثانكم فسنعفيكم منه ، وأما الصلاة فلا خير فى دين لا صلاة فيه» ، [فقالوا : يا محمد ، فسنؤتيكها ، وإن كانت دناءة] (٢) ، فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا أمر عليهم عثمان بن أبى العاص وكان من أحدثهم سنا فقال أبو بكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، إنى قد رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التفقه فى الإسلام وتعلم القرآن (٣).

__________________

(١) ضبر يشتد : أى وثب ، ويقال : ضبر الفرس إذا جمع قوائمه ووثب.

(٢) ما بين المعقوفتين سقط فى الأصل ، وما أوردناه من السيرة.

(٣) انظر الحديث فى : سنن أبى داود (٣ / ٣٠٢٦) ، مسند الإمام أحمد (٤ / ٢١٨).

٥٦٣

فحدث (١) عثمان بن أبى العاص قال : كان من آخر ما عهد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بعثنى على ثقيف أن قال : «يا عثمان تجاوز فى صلاتك واقدر الناس بأضعفهم فإن فيهم الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة» (٢).

فلما فرغوا من أمرهم وتوجهوا راجعين إلى بلادهم بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فى هدم الطاغية فخرجا مع القوم حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان ، فأبى ذلك عليه أبو سفيان وقال : ادخل أنت على قومك. وأقام أبو سفيان بماله بذى الهدم ، فلما دخل علاها يضربها بالمعول وقام دونه بنو معتب خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة ، وخرج نساء ثقيف حسرا (٣) يبكين عليها ويقلن :

لتبكين دفاع

أسلمها الرضاع (٤)

لم يحسنوا المصاع

فلما هدمها المغيرة وأخذ مالها وحليها أرسل إلى أبى سفيان وحليها مجموع ومالها من الذهب والجزع.

وقد كان أبو مليح بن عروة وقارب بن الأسود قدما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل وفد ثقيف حين قتل عروة يريدان فراق ثقيف وأن لا يجامعاهم على شيء أبدا. فأسلما فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : توليا من شئتما. فقالا : نتولى الله ورسوله فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :«وخالكما أبا سفيان بن حرب». فقالا : وخالنا أبا سفيان ، فلما أسلم أهل الطائف ووجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا سفيان والمغيرة إلى هدم الطاغية سأل أبو مليح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقضى عن أبيه عروة دينا كأن عليه من مال الطاغية. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم». فقال له قارب بن الأسود : وعن الأسود يا رسول الله فاقضه ، وعروة والأسود أخوان لأب وأم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الأسود مات مشركا». فقال قارب : يا رسول الله ، لكن تصل مسلما ذا قرابة ، يعنى نفسه ، إنما الدين على وإنما أنا الذي أطلب به. فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا سفيان أن يقضى دين عروة والأسود من مال الطاغية ، فلما جمع

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ١٦٧).

(٢) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٤ / ٢١) ، صحيح مسلم (١ / ١٨٧ / ٣٤٢).

(٣) حسرا : بضم الحاء وتشديد السين مفتوحة ، جمع حاسرة ، وهى المكشوفة الوجه.

(٤) دفاع : هى صيغة مبالغة من الدفع ، وإنما سموا طاغيتهم دفاعا لأنهم كانوا يعتقدون أن الأصنام تدفع عنهم البلاء والمحن. الرضاع : جمع راضع وأريد بهم اللئام.

٥٦٤

المغيرة مالها ذكر أبا سفيان بذلك فقضى منه عنهما (١).

هكذا ذكر ابن إسحاق إسلام أهل الطائف بعقب غزوة تبوك فى رمضان من سنة تسع قبل حج أبى بكر بالناس آخر تلك السنة. وجعل ابن عقبة قدوم عروة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومقتله فى قومه وإسلام ثقيف كل ذلك بعد صدر أبى بكر عن حجه. وبين حديثه وحديث ابن إسحاق بعض اختلاف ، رأيت ذكر حديث ابن عقبة وإن كان أكثره معادا لأجل ذلك الاختلاف ، ثم أذكر بعده حجة أبى بكر فى الموضع الذي ذكرها فيه ابن إسحاق.

قال موسى بن عقبة : فلما صدر أبو بكر من حجه بالناس قدم عروة بن مسعود الثقفى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلم ثم استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الرجوع إلى قومه فقال له : إنى أخاف ان يقتلوك ، قال : لو وجدونى نائما ما أيقظونى. فأذن له فرجع إلى الطائف وقدمها عشاء فجاءته ثقيف يسلمون عليه فدعاهم إلى الإسلام ونصح لهم فاتهموه وأعضوه وأسمعوه من الأذى ما لم يكن يخشاه منهم فخرجوا من عنده حتى إذا أسحر وسطع الفجر قام على غرفة فى داره فأذن بالصلاة وتشهد ، فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بلغه قتله : «مثل عروة مثل صاحب ياسين ، دعا قومه إلى الله ، فقتلوه» (٢).

وأقبل بعد قتله وفد من ثقيف بضعة عشر رجلا هم أشراف ثقيف ، فيهم كنانة بن عبد ياليل وهو رأسهم يومئذ ، وفيهم عثمان بن أبى العاص وهو أصغر القوم حتى قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة يريدون الصلح حين رأوا أن قد فتحت مكة وأسلم عامة العرب ، فقال المغيرة بن شعبة : يا رسول الله ، أنزل على قومى أكرمهم بذلك فإنى حديث الجرم فيهم. قال : لا أمنعك أن تكرم قومك ولكن تنزلهم حيث يسمعون القرآن. فأنزلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى المسجد وبنى لهم خياما لكى يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خطب لم يذكر نفسه ، فلما سمعه وفد ثقيف قالوا : يأمرنا ان نشهد أنه رسول الله ولا يشهد به فى خطبته! فلما بلغه قولهم قال : «فإنى أول

__________________

(١) انظر الحديث فى : الطبقات الكبرى لابن سعد (٥ / ٥٠٤ ، ٥٠٥).

(٢) انظر الحديث فى : مستدرك الحاكم (٣ / ٦١٥) ، طبقات ابن سعد (٥ / ٣٧٠) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٩ / ٣٨٦) ، المعجم الكبير للطبرانى (١٧ / ١٤٨) ، الدر المنثور للسيوطى (٥ / ٢٦٢) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٣٣٦١٥).

٥٦٥

من يشهد أنى رسول الله» (١). وكانوا يغدون على رسول الله كل يوم ويخلفون عثمان بن أبى العاص على رحالهم لأنه أصغرهم ، فكان عثمان كلما رجع الوفد إليه وقالوا بالهاجرة عمد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله عن الذين واستقرأه القرآن ، فاختلف إليه عثمان مرارا حتى فقه فى الدين وعلم. وكان إذا وجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نائما عمد إلى أبى بكر ، وكان يكتم ذلك من أصحابه ، فأعجب ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحبه.

فمكث الوفد يختلفون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يدعوهم إلى الإسلام ، فقال له كنانة ابن عبد ياليل : هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا ثم نرجع إليك؟ فقال : «نعم ، إن أنتم أقررتم بالإسلام قاضيتكم وإلا فلا قضية ولا صلح بينى وبينكم».

قالوا : أرأيت الزنا؟ فإنا قوم نغترب ولا بد لنا منه. قال : «هو عليكم حرام إن الله» يقول : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٣٢].

قالوا : فالربا؟ قال : «والربا». قالوا : إنه أموالنا كلها. قال : «فلكم رءوس أموالكم» ، قال الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٢٧٨]. قالوا فالخمر؟ فإنها عصير أرضنا ولا بد لنا منها. قال : «إن الله قد حرمها» ، قال الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة : ٩٠].

فارتفع القوم فخلا بعضهم إلى بعض وقالوا : ويحكم إنا نخاف إن خالفناه يوما كيوم مكة ، انطلقوا فأعطوه ما سأل وأجيبوه. فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : لك ما سألت. أرأيت الربة ما ذا نصنع فيها؟ قال : «اهدموها». قالوا : هيهات! لو تعلم الربة أنا نريد هدمها لقتلت أهلنا. فقال عمر : ويحك يا بن عبد ياليل ما أحمقك إنما الربة حجر ، قال : إنا لم نأتك يا ابن الخطاب. ثم قال : يا رسول الله ، تول أنت هدمها ، فأما نحن فلن نهدمها أبدا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فسأبعث إليكم من يكفيكم هدمها». قال كنانة : ائذن لنا قبل رسولك ثم ابعث فى آثارنا ، فإنى أعلم بقومى ، فأذن لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأكرمهم وحملهم. قالوا : يا رسول الله ، أمر علينا رجلا يؤمنا ، فأمر عليهم عثمان بن أبى العاص (٢) لما رأى من حرصه على الإسلام وقد كان علم سورا من القرآن قبل أن يخرج.

__________________

(١) ذكره البيهقي فى دلائل النبوة (٥ / ٣٠٠).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٧٩١) ، الإصابة الترجمة رقم (٥٤٥٧) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٣٥٨١) ، تهذيب الكمال (٦ / ٢١٢) ، تهذيب التهذيب (٧ / ١٢٨ ، ١٢٩) ، خلاصة تذهيب الكمال (٩١٣) ، شذرات الذهب (١ / ٣٦) ، سير أعلام النبلاء (٢ / ٣٧٤).

٥٦٦

وقال كنانة (١) لأصحابه : أنا أعلمكم بثقيف فاكتموهم إسلامكم وخوفوهم الحرب والقتال وأخبروهم أن محمدا سألنا امورا أبيناها عليه ، سألنا أن نهدم اللات ونبطل أموالنا فى الربا ونحرم الخمر.

حتى إذا دنوا من الطائف خرجت إليهم ثقيف يتلقونهم ، فلما رأوهم قد ساروا العنق وقطروا الإبل وتغشوا ثيابهم كهيئة قوم قد حزنوا أو كذبوا قالت ثقيف بعضهم لبعض : ما جاؤكم بخير. فلما دخلوا حصنهم عمدوا للّات فجلسوا عندها ، واللات بيت كانوا يعبدونه ويسترونه ويهدون له الهدى يضاهون به بيت الله ، ثم رجع كل واحد منهم إلى أهله فجاء كل رجل حامية من ثقيف فسألوه : ما ذا جئتم به؟ قالوا : أتينا رجلا فظا غليظا يأخذ من أمره ما شاء قد ظهر بالسيف وأداخ العرب ودان له الناس ، فعرض علينا أمورا شدادا : هدم اللات وترك الأموال فى الربا إلا رءوس أموالكم وحرم الخمر والزنا. قالت ثقيف : والله لا نقبل هذا أبدا. قال الوفد : أصلحوا السلاح وتهيئوا للقتال ورموا حصنكم.

فمكثت ثقيف بذلك يومين أو ثلاثة تريد القتال ثم ألقى الله الرعب فى قلوبهم وقالوا : والله ما لنا به طاقة أداخ العرب كلها فارجعوا إليه فأعطوه ما سأل وصالحوه عليه. فلما رأى الوفد أنهم قد رعبوا واختاروا الأمن على الخوف وعلى الحرب ، قالوا لهم : إنا قد فرغنا من ذلك ، قد قاضيناه وأسلمنا وأعطانا ما أحببنا واشترطنا ما أردنا وجدناه اتقى الناس وأوفاهم وأرحمهم وأصدقهم وقد بورك لنا ولكم فى مسيرنا إليه وفيما قاضيناه عليه. فقالت ثقيف : فلم كتمتمونا هذا الحديث وغممتمونا بذلك أشد الغم؟ قالوا : أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان ، فأسلموا مكانهم واستسلموا.

فمكثوا أياما ثم قدم عليهم رسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمر عليهم خالد بن الوليد وفيهم المغيرة بن شعبة ، فلما قدموا عليهم عمدوا للات ليهدموها وانكفأت ثقيف كلها الرجال والنساء والصبيان حتى خرج العواتق من الحجال وهم لا يرون أنها تهدم ويظنون أنها ستمتنع. فقام المغيرة بن شعبة (٢) وقال لأصحابه : لأضحكنكم من ثقيف فأخذ الكرزن

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٢٤٣) ، الإصابة الترجمة رقم (٧٤٧٨) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٤٥٠٥).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٥١٢) ، الإصابة الترجمة رقم (٨١٩٧) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٥٠٧١) ، التاريخ لابن معين (٢ / ٥٧٩) ، ترتيب الثقات (٤٣٧) ، الطبقات لابن سعد (٢ / ٢٨٤) ، أنساب الأشراف (١ / ١٦٨) ، مروج الذهب (١٦٥٦) ، الكامل فى التاريخ ـ

٥٦٧

فضرب به ثم أخذ يرتكض فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة وقالوا : أبعد الله المغيرة قد قتلته الربة! وفرحوا حين رأوه ساقطا وقالوا : من شاء منكم فليقترب ويجهد على هدمها فو الله لا تستطاع أبدا. فوثب المغيرة فقال : قبحكم الله يا معشر ثقيف! إنما هى لكاع حجارة ومدر! ثم ضرب الباب فكسره ثم علا على سورها وعلا الرجال معه ، فما زالوا يهدمونها حجرا حجرا حتى سووها بالأرض وجعل صاحب المفاتيح يقول : ليغضبن الأساس فليخسفن بهم. فلما سمع ذلك المغيرة قال لخالد : دعنى أحفر أساسها. فحفروها حتى أخرجوا ترابها وأخذوا حليها وثيابها. فبهتت ثقيف.

وانصرف الوفد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحليتها وكسوتها فقسمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يومه وحمد الله على نصر نبيه وإعزاز دينه.

ذكر حج أبى بكر الصديق

رضى الله عنه بالناس سنة تسع وتوجيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

على بن أبى طالب بعده بسورة براءة

وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر أميرا على الحج من سنة تسع ليقيم للمسلمين حجهم ، ونزلت بعد بعثه إياه «براءة» فى نقض ما بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم : أن لا يصد عن البيت أحد جاءه ، ولا يخاف على أحد فى الشهر الحرام ، وكان ذلك عهدا عاما بينه وبين أهل الشرك ، وكان بين ذلك عهود خصائص بينه وبين قبائل العرب إلى آجال مسماة فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عن تبوك وفى قول من قال منهم فكشف الله سرائر قوم كانوا يستخفون بغير ما يظهرون (١).

فقيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو بعثت بها إلى أبى بكر؟ فقال : «لا يؤدى عنى إلا رجل من أهل بيتى» ، ثم دعا على بن أبى طالب فقال : «اخرج بهذه القصة من صدر براءة وأذن فى الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى : أنه لا يدخل الجنة كافر ولا يحج بعد العام مشرك

__________________

ـ (٣ / ٤٦١) ، المعين من طبقات المحدثين (١٢٤) ، العبر (١ / ٥٦) ، مرآة الجنان (١ / ١٢٤) ، سير أعلام النبلاء (٣ / ٢١) ، تقريب التهذيب (٢ / ٢٦٩) ، خلاصة تذهيب التهذيب (٣٢٩) ، شذرات الذهب (١ / ٥٦) ، العقد الثمين (٧ / ٢٥٥).

(١) انظر : السيرة (٤ / ١٧٠).

٥٦٨

ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فهو إلى مدته» ، فخرج على على ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر الصديق بالطريق ، فلما رآه أبو بكر قال : أمير أم مأمور؟ قال : بل مأمور. ومضيا ، فأقام أبو بكر للناس الحج ، والعرب فى تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها فى الجاهلية ، حتى إذا كان يوم النحر قام على بن أبى طالب فأذن فى الناس بالذى أمره به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم ، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحد كان له عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد إلى مدة فهو له إلى مدته ، فلم يحجج بعد ذلك العام مشرك ولم يطف بالبيت عريان (١).

وكانت براءة تسمى فى زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المبعثرة» لما كشفت من سرائر الناس ، وكانت تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكان جميع ما غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه سبعا وعشرين غزاة : غزوة ودان وهى غزوة الأبواء ، ثم غزوة بواط من ناحية رضوى ، ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع ، ثم غزوة بدر الأولى يطلب كرز بن جابر ، ثم غزوة بدر التي قتل الله فيها صناديد قريش ، ثم غزوة بنى سليم حين بلغ الكدر ، ثم غزوة السويق يطلب أبا سفيان بن حرب ، ثم غزوة غطفان إلى نجد ، وهى غزوة ذى أمر ، ثم غزوة بحران معدن بالحجاز ، ثم غزوة أحد ، ثم غزوة حمراء الأسد ، ثم غزوة بنى النضير ، ثم غزوة ذات الرقاع من نخل ، ثم غزوة بدر الآخرة ، ثم غزوة دومة الجندل ، ثم غزوة الخندق ، ثم غزوة بنى قريظة ، ثم غزوة بنى لحيان من هذيل ، ثم غزوة ذى قرد ، ثم غزوة بنى المصطلق من خزاعة ، ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصده المشركون ، ثم غزوة خيبر ، ثم عمرة القضاء ، ثم غزوة الفتح ، ثم غزوة حنين ، ثم غزوة الطائف ، ثم غزوة تبوك ، قاتل صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى تسع غزوات منها : بدر ، وأحد ، والخندق ، وقريظة ، وبنى المصطلق وخيبر ، والفتح ، وحنين ، والطائف. وهذا الترتيب عن ابن إسحاق (٢) ، وخالفه ابن عقبه فى بعضه.

السرايا

وكانت بعوث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسراياه ثمانية ، وثلاثين من بين بعث وسرية : غزوة

__________________

(١) انظر الحديث فى : فتح البارى لابن حجر (٧ / ٦٨٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٣٧) ، وله شواهد منها ما فى مسند الإمام أحمد (٢ / ٢٩٩) من طريق : محرز بن أبى هريرة عن أبيه ، قال : «كنت مع على بن أبى طالب فكنت أنادى حتى صحل صوتى».

(٢) انظر : السيرة (٤ / ٢٣٣).

٥٦٩

عبيدة بن الحارث أسفل ثنية المرة ، وغزوة حمزة بن عبد المطلب ساحل البحر من ناحية العيص ، وبعض الناس يقدم غزوة حمزة قبل غزوة عبيدة.

وغزوة سعد بن أبى وقاص الخرار ، وغزوة عبد الله بن جحش نخلة ، وغزوة زيد بن حارثة القردة ، وغزوة محمد بن مسملة كعب بن الأشرف ، وغزوة مرثد بن أبى مرثد الغنوى الرجيع ، وغزوة المنذر بن عمرو بئر معونة ، وغزوة أبى عبيدة بن الجراح ذا القصة ، من طريق العراق ، وغزوة عمر بن الخطاب تربة من أرض بنى عامر ، وغزوة على ابن أبى طالب اليمن ، وغزوة غالب بن عبد الله الكلبى كلب ليث ، الكديد فأصاب بنى الملوح (١).

وكان من حديثها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه فى سرية وأمره أن يشن الغارة على بنى الملوح وهم بالكديد ، قال جندب بن مكيث الجهنى ، وكان مع غالب فى سريته هذه : فخرجنا حتى إذا كنا بقديد لقينا الحارث بن مالك وهو ابن البرصاء الليثى فأخذناه فقال : إنى جئت أريد الإسلام وما خرجت إلا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقلنا له : إن تك مسلما فلن يضرك رباط ليلة ، وإن تك على غير ذلك كنا قد استوثقنا منك فشددناه رباطا ثم خلفنا عليه رجلا من أصحابنا وقلنا له : إن عازك (٢) فاحتز رأسه.

قال : ثم سرنا حتى اتينا الكديد عند غروب الشمس فكمنا فى ناحية الوادى وبعثنى أصحابى ربيئة لهم (٣) ، فخرجت حتى آتى تلا مشرفا على الحاضر ، فأسندت فيه فعلوت فى رأسه فنظرت إلى الحاضر فو الله إنى لمنبطح على التل إذ خرج رجل منهم من خبائه فقال لامرأته : إنى لأرى على التل سوادا ما رأيته فى أول يومى فانظرى إلى أوعيتك هل تفقدين شيئا لا تكون الكلاب جرت بعضها. فنظرت فقالت : لا والله ما أفقد شيئا. قال : فناولينى قوسى وسهمين. فناولته فأرسل سهما فو الله ما أخطأ جنبى فأنزعه وأضعه وثبت مكانى. ثم أرسل الآخر فوضعه فى منكبى فأنزعه وأضعه وثبت مكانى. فقال لامرأته : لو كان ربيئة تحرك لقد خالطه سهماى ، لا أبا لك ، إذا أصبحت فابتغيهما فخذيهما لا يمضغهما الكلاب على. ثم دخل.

وأمهلناهم ، حتى إذا اطمأنوا وناموا ، وكان فى وجه السحر ، شننا عليهم الغارة

__________________

(١) انظر : السيرة (٢٣٣ ، ٢٣٤).

(٢) عازك : أى غالبك ، ومنه قوله تعالى : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أى غلبنى.

(٣) ربيئة القوم : أى طليعة القوم الذي ينظر لأصحابه.

٥٧٠

فقتلنا ، واستقنا النعم ، وخرج صريخ القوم ، فجاءنا دهم لا قبل لنا به ، ومضينا بالنعم ، ومررنا بابن البرصاء وصاحبه ، فاحتملناهما معنا ، وأدركنا القوم حتى قربوا منا فما بيننا وبينهم إلا وادى قديد ، فأرسل الله الوادى بالسيل من حيث شاء الله تبارك وتعالى ، من غير سحابة نراها ، ولا مطر ، فجاء بشيء ليس لأحد به قوة ، ولا يقدر على أن يجاوزه ، فوقفوا ينظرون إلينا ، وإنا لنسوق نعمهم ، وما يستطيع منهم رجل أن يجيز إلينا ، حتى فتناهم ، فقدمنا بها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

وغزوة على بن أبى طالب بنى عبد الله بن سعد من أهل فدك ، وغزوة أبى العوجاء السلمى أرض بنى سليم ، فأصيب بها هو وأصحابه جميعا ، وغزوة عكاشة بن محصن الغمرة ، وغزوة أبى سلمة بن عبد الأسد قطنا ماء من مياه بنى أسد ، من ناحية نجد ، قتل فيها مسعود بن عروة ، وغزوة محمد بن مسلمة القرطاء من هوازن ، وغزوة بشير بن سعد بنى مرة بفدك ، وغزوته أيضا بناحية خيبر ، وغزوة زيد بن حارثة الجموح ، من أرض بنى سليم ، وغزوته أيضا جذام ، من أرض خشين ، ويقال : من أرض حسمى (٢).

وكان من حديثها كما حدث رجال من جذام كانوا علماء بها : أن رفاعة بن زيد الجذاميّ لما قدم على قومه من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتابه يدعوهم إلى الإسلام فاستجابوا له لم يلبث أن قدم دحية بن خليفة الكلبى من عند قيصر صاحب الروم ، حين بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه تجارة له ، حتى إذا كان بواد من أوديتهم أغار عليه الهنيد بن عوص الضليعى بطن منهم وابنه عوص ، فأصابا كل شيء كان معه ، فبلغ ذلك قوما من بنى الضبيب رهط رفاعة ممن كان أسلم وأجاب ، فنفروا إلى الهنيد وابنه فاستنفذوا ما كان فى أيديهما فردوه على دحية ، فخرج دحية حتى قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره خبره ، واستسقاه دم الهنيد وابنه ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيد بن حارثة وبعث معه جيشا فأغاروا فجمعوا ما وجدوا من مال أو ناس وقتلوا الهنيد وابنه ورجلين معهما ، فلما سمعت بذلك بنو الضبيب ركب نفر منهم فيهم حسان بن ملة فلما وقفوا على زيد بن حارثة قال حسان : إنا قوم مسلمون ، فقال له زيد : فاقرأ أم الكتاب ، فقرأها حسان ، فقال زيد بن حارثة : نادوا فى الجيش : إن الله قد حرم علينا ثغرة القوم التي جاءوا منها إلا من ختر ، وإذا أخت حسان فى الأسارى فقال له زيد : خذها ، فقالت أم الفزر الصلعية : أتنطلقون ببناتكم وتذرون أمهاتكم؟! فقال أحد بنى الخصيب : إنها بنو

__________________

(١) انظر الحديث فى : الطبقات الكبرى لابن سعد (٢ / ١١٩) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ٢٠٣).

(٢) انظر : السيرة (٤ / ٢٣٦).

٥٧١

الضبيب وسحر ألسنتهم سائر اليوم فسمعها بعض الجيش فأخبر بها زيدا فأمر بأخت حسان وقد كانت أخذت بحقوقى أخيها ففكت يداها من حقويه وقال لها : اجلسى مع بنات عمك حتى يحكم الله فيكن حكمه.

فرجعوا ونهى الجيش أن يهبطوا إلى واديهم الذي جاءوا منه فأمسوا فى أهليهم ، فلما شربوا عتمتهم ركبوا إلى رفاعة بن زيد فصبحوه فقال له حسان بن ملة : إنك لجالس تحلب المعزى ونساء جذام أسارى قد غرها كتابك الذي جئت به ، فدعا رفاعة بجمل له ، فشد عليه رحله وهو يقول :

هل أنت حى أو تنادى حيا (١)

ثم غدا وهم معه مبركين ، فساروا إلى جوف المدينة ثلاث ليال ، فلما دخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورآهم ألاح إليهم بيده أن تعالوا. من وراء الناس ، فلما استفتح رفاعة بن زيد المنطق قال رجل من الناس : يا رسول الله ، إن هؤلاء قوم سحرة. فرددها مرتين. فقال رفاعة : رحم الله من لم يحذنا فى يومنا هذا إلا خيرا.

ثم دفع رفاعة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابه الذي كان كتب له ، فقال : دونك يا رسول الله قديما كتابه حديثا غدره. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اقرأه يا غلام وأعلن. فلما قرأ كتابه استخبرهم فأخبره فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف أصنع بالقتلى؟ ثلاث مرات فقال رفاعة : أنت أعلم يا رسول الله لا نحرم عليك حلالا ولا نحل لك حراما. فقال أبو زيد بن عمرو أحد من قدم مع رفاعة : أطلق لنا يا رسول الله من كان حيا ومن قتل فهو تحت قدمي هذه. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدق أبو زيد اركب معهم يا على» ، فقال له على : يا رسول الله ، إن ريدا لن يطيعنى ، قال : «فخذ سيفى هذا» ، فأعطاه سيفه.

فخرجوا فإذا رسول الله لزيد بن حارثة على ناقة من إبلهم ، فأنزلوه عنها فقال : «يا على ما شأنى؟» فقال : ما لهم عرفوه فأخذوه ، ثم ساروا فلقوا الجيش ، فأخذوا ما بأيديهم حتى كانوا ينتزعون لبيد المرأة من تحت الرحل (٢).

وغزوة زيد بن حارثة أيضا الطرف من ناحية نخل من طريق العراق ، وغزوته أيضا وادى القرى لقى فيه بنى فزارة فأصيب بها ناس من أصحابه وارتث زيد من بين القتلى فلما قدم زيد آلى أن لا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزو بنى فزارة ، فلما استبل من

__________________

(١) انظر البيت فى : السيرة (٤ / ٢٣٨).

(٢) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٢١٨) ، طبقات ابن سعد (٢ / ٨٨).

٥٧٢

جراحه بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بنى فزارة فى جيش فقتلهم بوادى القرى وأصاب فيهم.

وغزوة عبد الله بن رواحة خيبر مرتين ، إحداهما التي أصاب فيها اليسير بن رزام ويقال : ابن رازم (١) ، وكان من حديثه أنه كان بخيبر يجمع غطفان لغزو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبعث إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن رواحة فى نفر من أصحابه منهم عبد الله بن أنيس حليف بنى سلمة ، فلما قدموا عليه كلموه وقربوا له وقالوا له : إنك إن قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استعملك وأكرمك. فلم يزالوا به حتى خرج معهم فى نفر من يهود ، فحمله عبد الله بن أنيس على بعيره ، حتى إذا كان بالقرقرة من خيبر على ستة أميال ندم اليسير على مسيره إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففطن له عبد الله بن أنيس وهو يريد السيف فاقتحم به ثم ضربه بالسيف فقطع رجله وضربه اليسير بمخرش فى يده من شوحط فأمه ومال كل رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صاحبه من يهود فقتله إلا رجلا واحدا أفلت على رجليه. فلما قدم عبد الله بن أنيس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تفل على شجته فلم تقح ولم تؤذه (٢).

وغزوة عبد الله بن عتيك خيبر فأصاب بها أبا رافع بن أبى الحقيق.

وغزوة (٣) عبد الله بن أنيس خالد بن سفيان بن نبيح بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه وهو بنخلة أبو بعرنة يجمع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليغزوه ، فقتله. قال عبد الله بن أنيس : دعانى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لى : «إنه بلغنى أن ابن سفيان بن نبيح الهذلى يجمع لى الناس ليغزونى وهو بنخلة أبو بعرنة فأته فاقتله» ، فقلت : يا رسول الله ، انعته لى حتى أعرفه ، قال : «إنك إذا رأيته أذكرك الشيطان ، وآية ما بينك وبينه أنك إذا رأيته وجدت له قشعريرة» ، قال : فخرجت متوشحا سيفى حتى دفعت إليه وهو فى ظعن يرتاد لهن منزلا وكان وقت العصر ، فلما رأيته وجدت ما قال لى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القشعريرة ، فأقبلت نحوه وخشيت أن تكون بينى وبينه مجاولة تشغلنى عن الصلاة فصليت وأنا أمشى نحوه وأومأ برأسى ، فلما انتهيت إليه قال : من الرجل؟ قلت : رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لذلك ، قال : أجل أنا فى ذلك.

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٤١ ـ ٢٤٢).

(٢) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٥ / ٢١٩) ، ابن سعد فى الطبقات (٢ / ٩٢) ، وليس فيه : «تفل على شجته فلم تقح ولم تؤذه».

(٣) انظر : السيرة (٢٤٢ ـ ٢٤٣).

٥٧٣

قال : فمشيت معه شيئا حتى إذا أمكننى حملت عليه بالسيف فقتلته ، ثم خرجت وتركت ظعائنه منكبات عليه. فلما قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرآنى قال : «أفلح الوجه»! قلت : قد قتلته يا رسول الله ، قال : «صدقت» ، ثم قام بى فأدخلنى بيته فأعطانى عصا ، فقال : «أمسك هذه العصا عندك يا عبد الله بن أنيس» ، قال : فخرجت بها على الناس ، فقالوا : ما هذه لعصا؟ قلت : أعطانيها رسول ؛ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمرنى أن أمسكها عندى. قالوا : أفلا ترجع إليه فتسأله لم ذلك؟ فرجعت فقلت : يا رسول الله ، لم أعطيتنى هذه العصا؟ قال : «آية بينى وبينك يوم القيامة ، إن أقل الناس المتخصرون يومئذ» ، فقرنها عبد الله بن أنيس بسيفه فلم تزل معه حتى مات ثم أمر بها فضمت فى كفنه ثم دفنا جميعا (١).

وقال عبد الله فى ذلك :

تركت ابن ثور كالحوار وحوله

نوائح تفرى كل جيب مقدد

تناولته والظعن خلفى وخلفه

بأبيض من ماء الحديد مهند

عجوم لهام الدار عين كأنه

شهاب غضبا من ملهب متوقد (٢)

أقول له والسيف يعج رأسه

أنا ابن أنيس فارسا غير قعدد (*)

وقلت له خذها بضربة ماجد

حنيف على دين النبيّ محمد

وكنت إذا هم النبيّ بكافر

سبقت إليه باللسان وباليد

ومن البعوث أيضا : بعث مؤتة حيث أصيب جعفر بن أبى طالب وأصحابه ، وغزوة كعب بن عمير الغفارى ذات أطلاح من أرض الشام أصيب بها هو وأصحابه جميعا ، وغزوة عيينة بن حصن بنى العنبر من تميم.

وكان من حديثهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه إليهم ، فأغار عليهم ، وأصاب منهم أناسا ، وسبى منهم أناسا ، وقالت عائشة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، إن علىّ رقبة من ولد

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٣ / ٤٦٩) ، سنن أبو داود (١٢٤٩) ، صحيح ابن حبان (٩ / ٧١١٦) ، سنن البيهقي (٣ / ٢٥٦) ، صحيح ابن خزيمة (٢ / ٩٨٢).

(٢) عجوم : هو من صفات الأبيض وهى صيغة مبالغة من العجم وهو العض. الغضا : شجر يشتد التهاب النار فيه.

(*) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت بيت آخر لم يذكره هنا ، وهو :

أنا ابن الذي لم ينزل الدهر قدره

رحيب فناء الدار غير مزند

انظر : السيرة (٤ / ٢٤٤).

٥٧٤

إسماعيل ، قال : «هذا سبى بنى العنبر يقدم الآن ، فنعطيك منهم إنسانا فتعتقينه» (١).

فلما قدم بسبيهم ركب فيهم وفد من بنى تميم منهم ربيعة بن رفيع ، وسبرة بن عمرو والقعقاع بن معبد ووردان بن محرز وقيس بن عاصم ومالك بن عمرو والأقرع بن حابس وفراس بن حابس ، فكلموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم فأعتق بعضا ، وأفدى بعضا ، وذلك هو الذي عنى الفرزدق بقوله (٢) :

وعند رسول الله قام ابن حابس

بخطة سوار إلى المجد حازم

له أطلق الأسرى التي فى حباله

مغللة أعناقها والشكائم

كفى أمهات الخالفين عليهم

غلاء المفادى أو سهام المقاسم

وغزوة غالب بن عبد الله الكليبى أرض بنى مرة وفيها قتل أسامة بن زيد حليفا لهم يقال له مرداس بن نهيك بن الحرقة من جهينة ، قال : أدركته أنا ورجل من الأنصار ، فلما شهرنا عليه السلاح قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، فلم ننزع عنه حتى قتلناه. هكذا ذكر ابن إسحاق فى حديثه (٣).

وخرج مسلم فى صحيحه عن أسامة بن زيد قال : فكف عنه الأنصاري وطعنته برمحى حتى قتلته ، فلما قدمنا بلغ ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا أسامة ، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟» قلت : يا رسول الله إنما كان متعوذا ، فقال : «أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟!» فما زال يكررها على حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (٤).

وفى بعض طرق مسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأسامة : «لم قتلته؟» قال : يا رسول الله ، أوجع فى المسلمين وقتل فلانا وفلانا وفلانا وسمى له نفرا وإنى حملت عليه فلما رأى السيف قال : لا إله إلا الله. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقتلته؟» قال : نعم ، قال : «فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟» قال : يا رسول الله استغفر لى ، قال: «وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة!» فجعل لا يزيده على أن يقول:

__________________

(١) ذكره ابن حجر فى فتح البارى (٥ / ٢٠٤).

(٢) انظر الأبيات فى : السيرة (٤ / ٢٤٥).

(٣) انظر : السيرة (٤ / ٢٤٦) ، والحديث أخرجه الطبرى فى تاريخه (٢ / ١٤٢) ، المتقى الهندى فى الكنز (١٤٦٢).

(٤) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٥ / ١٨٣ ، ٩ / ٤) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (١٥٩) ، فتح البارى لابن حجر (١٢ / ١٩١) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٢٢٢).

٥٧٥

«كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة» (١).

وفى حديث ابن إسحاق أن أسامة قال : أنظرنى يا رسول الله ، إنى أعاهد الله أن لا أقتل رجلا يقول : لا إله إلا الله أبدا (٢).

وغزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل من أرض بنى عذره ، وكان من حديثه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه يستنفر العرب إلى الشام ، وذلك أن أم أبيه العاص بن وائل كانت امرأة من بلى فبعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم يستألفهم لذلك ، حتى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال له : السلسل وبذلك سميت تلك الغزوة غزوة ذات السلاسل ، خاف فبعث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستمده فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح فى المهاجرين الأولين فيهم أبو بكر وعمر وقال لأبى عبيدة حين وجهه : لا تختلفا. فخرج أبو عبيدة حتى إذا قدم عليه قال له عمرو : إنما جئت مددا لى. قال أبو عبيدة : لا ، ولكنى على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه. فقال له عمرو : بل أنت مدد لى. فقال له أبو عبيدة وكان رجلا لينا هينا سهلا عليه أمر الدنيا : يا عمرو ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لى لا تختلفا وإنك إن عصيتنى أطعتك ، قال : فإنى الأمير عليك وأنت مدد لى. قال : فدونك. فصلى عمرو بالناس (٣).

وحدث (٤) رافع بن أبى رافع الطائى وهو رافع بن عميرة قال : كنت امرأ نصرانيا فلما أسلمت خرجت فى تلك الغزاة يعنى غزوة ذات السلاسل فقلت : والله لأختارن لنفسى صاحبا فصحبت أبا بكر فكنت معه فى رحله فكانت عليه عباءة له فدكية (٥) فكان إذا نزلنا بسطها وإذا ركبنا لبسها ثم شكها عليه بخلال له وذلك الذي يقول اهل نجد حين ارتدوا كفارا بعد موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومبايعة الناس بعده لأبى بكر : أنحن نبايع ذا العباءة! جهلوا يومئذ أن فضل الكمال ليس فى ظاهر البهاء وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، قال رافع : فلما دنونا من المدينة قافلين ، قلت : يا أبا بكر إنما صحبتك لينفعنى

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح مسلم كتاب الإيمان (١٥٩) ، فتح البارى لابن حجر (١٢ / ١٩٦).

(٢) انظر : السيرة (٤ / ٢٤٦).

(٣) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٧ / ٣٦٦٢ ، ٤٣٥٨) ، دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ٣٩٩ ، ٤٠٠) ، صحيح مسلم (٤ / ٨ / ١٨٥٦).

(٤) انظر : السيرة (٤ / ٢٤٧ ـ ٢٤٨).

(٥) فدكية : منسوبة إلى فدك ، وهو موضع بالحجاز ، بينها وبين المدينة يومان وقيل : ثلاثة. انظر : معجم البلدان (٤ / ٢٣٨).

٥٧٦

الله بك فانصحنى وعلمنى ، قال : لو لم تسلنى ذلك لفعلت ، آمرك أن توحد الله لا تشرك به شيئا ، وأن تقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج هذا البيت وتغتسل من الجنابة ولا تتأمرن على رجلين من المسلمين أبدا.

قال قلت : يا أبا بكر ، أما أنا والله فإنى أرجو أن لا أشرك بالله أبدا ، وأما الصلاة فلن أتركها أبدا إن شاء الله ، وأما الزكاة فإن يكن لى مالى أؤديها إن شاء الله ، وأما الحج فإن أستطع أحج إن شاء الله ، وأما الجنابة فسأغتسل منها إن شاء الله وأما الإمارة فإنى رأيت الناس يا أبا بكر لا يشرفون عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعند الناس إلا بها فلم تنهى عنها؟ قال : إنما استجهدتنى لجهده لك ، وسأخبرك عن ذلك : إن الله تبارك وتعالى بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الدين فجاهد فيه حتى دخل الناس فيه طوعا وكرها ، فلما دخلوا فيه كانوا عواذ الله وجيرانه وفى ذمته ، فإياك أن تخفر الله (١) فى جيرانه فيتبعك الله فى خفرته ، فإن احدكم يخفر فى جاره فيظل نائتا (٢) عضله غضبا لجاره إن أصيب له شاة أو بعير ، فالله أشد غضبا لجاره.

قال : ففارقته على ذلك ، فلما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر أبو بكر على الناس قدمت عليه فقلت : يا أبا بكر ، ألم تكن نهيتنى عن أن أتامر على رجلين من المسلمين؟ قال : بلى ، وأنا الآن أنهاك عن ذلك. فقلت له : فما حملك على أن تلى أمر الناس؟ قال : لا أجد من ذلك بدا خشيت على أمة محمد الفرقة (٣).

وفى هذه الغزاة أيضا صحب عوف بن مالك الأشجعى أبا بكر وعمر رضى الله عنهما قال : فمررت بقوم على جزور لهم قد نحروها وهم لا يقدرون على أن يعضوها فقلت : أتعطونني منها عشيرا على أن أقسمها بينكم؟ قالوا : نعم.

فأخذت الشفرتين فجزأتها وأخذت منها جزء فحملته إلى أصحابى فاطبخناه فأكلناه ، فقال أبو بكر وعمر : أنى لك هذا اللحم يا عوف؟ فأخبرتهما خبره فقالا : والله ما أحسنت حين أطعمتنا هذا ، ثم قاما يتقيّئان ما فى بطونهما من ذلك. فلما قفل الناس كنت أول قادم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجئته وهو يصلى فى بيته فقلت : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. قال : أعوف بن مالك؟ قلت : نعم بأبى أنت

__________________

(١) تخفر الله : أى تنقض عهده.

(٢) فيضل نائتا : أى يضل مرتفعا.

(٣) انظر : السيرة (٤ / ٢٤٨).

٥٧٧

وأمى يا رسول الله. قال : أصاحب الجزور؟ ولم يزدنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك (١).

وغزوة ابن أبى حدرد وأصحابه بطن إضم ، وكانت قبل الفتح قال عبد الله بن أبى حدرد : بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى إضم (٢) فى نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة ومحلم بن جثامة ، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعى على قعود له معه متيع له ووطب من لبن فسلم علينا بتحية الإسلام فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة قتله لشىء كان بينهما وأخذ بعيره ومتيعه. فلما قدمنا على رسول الله وأخبرناه الخبر نزل فينا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [النساء : ٩٤] إلى آخر الآية (٣).

وعن (٤) ضميرة بن سعد السلمى عن أبيه ، وكان شهد حنينا قال : صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظهر ثم عمد إلى ظل شجرة فجلس تحتها وهو بحنين فقام إليه الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن يختصمان فى عامر بن الأضبط ، وعيينة يطلب بدمه. وهو يومئذ رئيس غطفان ، والأقرع يدفع عن محلم بن جثامة لمكانه من خندف ، فتداولا الخصومة عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن نسمع ، فسمعنا عيينة يقول : والله يا رسول الله لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحر مثل ما أذاق نسائى ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : بل تأخذون الدية خمسين فى سفرنا هذا وخمسين إذا رجعنا. وهو يأبى عليه ثم ذكر تكرار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله هذا ، فقبلوا الدية ثم قالوا : أين صاحبكم هذا يستغفر له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقام رجل آدم ضرب طويل عليه حلة له قد كان تهيأ فيها للقتل حتى جلس بين يدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : ما اسمك؟ فقال : أنا محلم ابن جثامة ، فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يديه ثم قال : اللهم لا تغفر لمحلم بن جثامة. ثلاثا ، فقام يتلقى دمعه بفضل ردائه قال : فأما نحن فنقول فيما بيننا إنا لنرجو أن يكون

__________________

(١) انظر الحديث فى : مجمع الزوائد للهيثمى (٤ / ٩٧) ، دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ٤٠٢).

(٢) إضم : بالكسر ثم الفتح ، ماء يطؤه الطريق بين مكة واليمامة عند السمينة ، ويقال : هو واد بجبال تهامة ، وهو الوادى الذي فيه المدينة ويسمى من عند المدينة : القناة ، ومن أعلى منها عند السد يسمى الشظاة ، ومن عند الشظاة إلى أسفل يسمى إضما إلى البحر. انظر : معجم البلدان (١ / ٢١٤ ، ٢١٥).

(٣) انظر الحديث فى : تفسير الطبرى (٥ / ١٤٢) ، مسند الإمام أحمد (٦ / ١١) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٧ / ٨) ، أسباب النزول للواحدى (١٤٢) ، السنن الكبرى للبيهقى (٩ / ١١).

(٤) انظر : السيرة (٤ / ٢٥٠).

٥٧٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استغفر له وأما ما ظهر من رسول الله فهذا (١).

وذكر (٢) سالم أبو النضر أنه حدث أن عيينة بن حصن وقيسا لم يقبلوا الدية حتى خلا بهم الأقرع بن حابس وقال : يا معشر قيس ، منعتم رسول الله قتيلا يستصلح به الناس ، أفأمنتم أن يلعنكم رسول الله فيلعنكم الله بلعنته أو أن يغضب عليكم فيغضب الله عليكم بغضبه؟ والله الذي نفس الأقرع بيده لتسلمنه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليصنعن فيه ما أراد أو لأتيت بخمسين رجلا من بنى تميم يشهدون بالله لقتل صاحبكم كافرا ما صلى قط فلأطلن دمه. فقبلوا الدية.

وفى حديث عن الحسن البصرى قال : والله ما مكث محلم بن جثامة إلا سبعا حتى مات فلفظته الأرض والذي نفس الحسن بيده ، ثم عادوا له فلفظته ، ثم عادوا له فلفظته. فلما غلب قومه عمدوا إلى صدين فسطحوه بينهما ثم رضموا عليه الحجارة حتى واروه فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شأنه فقال : «والله إن الأرض لتطابق على من هو شر منه ولكن الله أراد أن يعظكم فى حرم ما بينكم بما أراكم منه» (٣).

وغزوة ابن أبى حدرد الأسلمى أيضا الغابة (٤) ، قال : تزوجت امرأة من قومى فجئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أستعينه على نكاحى فقال : وكم أصدقت؟ قلت : مائتى درهم. قال : سبحان الله! لو كنتم تأخذون الدراهم من بطن واد ما زدتم ، والله ما عندى ما أعينك به. قال : فلبثت أياما وأقبل رجل من بنى جشم بن معاوية يقال له : رفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة فى بطن عظيم من بنى جشم حتى ينزل بقومه ومن معه بالغابة يريد أن يجمع قيسا على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان ذا اسم فى جشم وشرف ، فدعانى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجلين معى من المسلمين فقال : اخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتوا منه بخبر وعلم ؛ قال : وقدم لنا شارفا عجفاء فحمل عليها أحدنا ، فو الله ما قامت به ضعفا حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم حتى استقلت وما كادت ثم قال : تبلغوا عليها واعتقبوها ، قال : فخرجنا ومعنا سلاحنا من النبل والسيوف حتى إذا جئنا قريبا من

__________________

(١) انظر الحديث فى : سنن ابن ماجه (٢ / ٢٦٢٥) ، سنن أبى داود (٤ / ٤٥٠٣) ، سنن البيهقي (٩ / ١١٦).

(٢) انظر : السيرة (٤ / ٢٥١).

(٣) انظر الحديث فى : كنز العمال للمتقى الهندى (١٥ / ٩٠).

(٤) الغابة : موضع قرب المدينة من ناحية الشام ، وفيه أموال لأهل المدينة. انظر : معجم البلدان (٤ / ١٨٢).

٥٧٩

الحاضر عشيشية مع غروب الشمس كمنت فى ناحية. وأمرت صاحبى فكمنا فى ناحية أخرى من حاضر القوم وقلت لهما : إذا سمعتمانى قد كبرت وشددت فى ناحية العسكر فكبرا وشدا معى. فو الله ، إنا لكذلك ننتظر غرة القوم أو أن نصيب منهم شيئا وقد غشينا الليل حتى ذهبت فحمة العشاء وكان لهم راع سرح فى ذلك البلد فأبطأ عليهم حتى تخوفوا عليه ، فقام صاحبهم ذلك فأخذ سيفه فجعله فى عنقه ثم قال : والله لأتبعن أثر راعينا هذا ولقد أصابه شر. فقال نفر ممن معه : والله لا تذهب أنت نحن نكفيك. قال : والله لا يذهب إلا أنا. قالوا : فنحن معك. قال : والله لا يتبعنى أحد منكم. وخرج حتى مر بى فلما أمكننى نفحته بسهم فوضعته فى فؤاده والله ما تكلم. ووثبت إليه فاحتززت رأسه وشددت فى ناحية العسكر وكبرت وشد صاحباى وكبرا فو الله ما كان إلا النجاء ممن فيه ، عندك ، بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم وما خف معهم من أموالهم واستقنا إبلا عظيمة وغنما كثيرة فجئنا بها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجئت برأسه أحمله معى فأعاننى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تلك الإبل بثلاثة عشر بعيرا فى صداقى فجمعت إلى أهلى (١).

وغزوة توجه فيها عبد الرحمن بن عوف ، قال عطاء بن أبى رباح : سمعت رجلا من اهل البصرة يسأل عبد الله بن عمر بن الخطاب عن إرسال العمامة من خلف الرجل إذا اعتم ، فقال عبد الله : سأخبرك إن شاء الله عن ذلك بعلم. ثم ذكر مجلسا شاهده من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر فيه عبد الرحمن بن عوف أن يتجهز لسرية بعثه عليها. قال : فأصبح وقد اعتم بعمامة من كرابيس سوداء فأدناه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه ثم نقضها ثم عمه بها وأرسل من خلفه أربع أصابع أو نحوا من ذلك. ثم قال : هكذا يا ابن عوف فاعتم فإنه أحسن وأعرف. ثم أمر بلالا أن يدفع إليه اللواء ، فدفعه إليه ، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نفسه ثم قال : «خذه يا ابن عوف ، اغزوا جميعا فى سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا ، فهذا عهد الله وسيرة نبيه فيكم» ، فأخذ عبد الرحمن بن عوف اللواء(٢).

__________________

(١) انظر الحديث فى : مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ٢٠٦ ، ٢٠٧) ، مسند الإمام أحمد (٦ / ١١) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٢٢٣) ، دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ٣٠٣).

(٢) انظر الحديث فى : كنز العمال للمتقى الهندى (٣٠٢٨٩) ، طبقات ابن سعد (٢ / ٨٩) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٥ / ٣١٧ ، ٣١٨).

٥٨٠