الإكتفا - ج ١

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ١

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبدالقادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2943-0
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

فأيده رب العباد بنصره

وأظهر دينا حقه غير باطل

فو الله لو لا أن أجئ بسبة

تجر على أشياخنا فى القبائل

لكنا ابتعناه على كل حالة

من الدهر جدا غير قول التهازل

لقد علموا أن ابننا لا مكذب

لدينا ولا يعنى بقول الأباطل

فأصبح فينا أحمد فى أرومة

تقصر عنها سورة المتطاول

حدبت بنفسى دونه وحميته

ودافعت عنه بالذّرا والكلاكل

والقصيدة أطول من هذا ، وإنما تركنا ما تركنا منها اختصارا.

وذكر ابن هشام أن بعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها (١) ، قال : وحدثني من أثق به قال : أقحط أهل المدينة فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشكوا إليه ذلك ، فصعد المنبر فاستسقى ، فما لبث أن جاء من المطر ما أتاه أهل الضواحى يشكون منه الغرق. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم حوالينا ولا علينا». فانجاب السحاب عن المدينة ، فصار حواليها كالإكليل (٢) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لسره» ، فقال له بعض أصحابه : كأنك يا رسول الله أردت لقوله :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

قال : «أجل» (٣).

__________________

 ـ فو الله لو لا أن أجئ بسبة

تجر على أشياخنا فى المحافل

لكنا اتبعناه على كل حالة

من الدهر جدا غير قول التهازل

لقد علموا أن ابننا لا مكذب

لدينا ولا يعنى بقول الأباطل

فأصبح فينا أحمد فى أرومة

تقصر عنها سورة المتطاول

حدبت بنفسى دونه وحميته

ودافعت عنه بالذرا والكلاكل

فأيده رب العباد بنصره

وأظهر دينا حقه غير باطل

رجال كرام غير ميل نماهم

إلى الخير آباء كرام المحاصل

فإن تك كعب من لؤيّ صقيبة

فلا بد يوما مرة من تزايل

انظر : السيرة (١ / ٢٣٠).

(١) انظر : السيرة (١ / ٢٣٠).

(٢) الإكليل : هو شبه عصابة مزينة بالجواهر ، وقيل : يريد أن الغيم تقشع عنها واستدار بآفاقها ، وقيل : هو منزل من منازل القمر وهى أربعة أنجم. انظر : اللسان (مادة كلل).

(٣) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٢ / ١٥ ، ٣٥ ، ٣٧ ، ٣٨ ، ٤٠ ، ٨ / ٩٢) ، مسلم كتاب الاستسقاء (٨ / ٩) ، النسائى (٣ / ١٦٠ ، ١٦١ ، ١٦٢ ، ١٦٦ ، ١٦٧) ، سنن ابن ماجه ـ

١٨١

قال ابن إسحاق (١) : فلما انتشر أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى العرب وبلغ البلدان ، ذكر بالمدينة ، ولم يك حى من العرب أعلم بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين ذكر وقبل أن يذكر من الأوس والخروج ، وذلك لما كانوا يسمعون من أخبار يهود ، وكانوا لهم حلفاء ومعهم فى بلادهم.

فلما وقع ذكره بالمدينة وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف ، قال أبو قيس بن الأسلت الأوسى ، وكان يحب قريشا ، وكان يقيم فيهم السنين بامرأته أرنب بنت أسد ابن عبد العزى بن قصى ، قصيدة يعظم فيها الحرمة ، وينهى قريشا عن الحرب ويذكر فضلهم وأحلامهم ، ويأمرهم بالكف بعضهم عن بعض وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويذكرهم بلاء الله عندهم ودفعه الفيل عنهم فقال :

ويا راكبا إما عرضت فبلغن

مغلغلة عنى لؤيّ بن غالب (٢)

رسول امرئ قد راعه ذات بينكم

على النأى محزون بذلك ناصب

وقد كان عندى للهموم معرس

ولم أقض منها حاجتى ومآربى

أعيذكم بالله من شر صنعكم

وشر تباغيكم ودس العقارب

وإظهار أخلاق ونجوى سقيمة

كوخز الأثافى وقعها حق صائب (٣)

فذكرهم بالله أول وهلة

وإحلال إحرام الظباء الشوازب (٤)

__________________

ـ (١٢٦٩) ، مسند الإمام أحمد (٣ / ١٠٤ ، ١٨٧ ، ١٩٤ ، ٢٦١ ، ٢٧١ ، ٤ / ٢٣٦) ، البيهقي فى السنن الكبرى (٣ / ٣٥٣ ، ٣٥٤ ، ٣٥٥ ، ٣٥٦ ، ٤ / ٢٢١) ، الدر المنثور للسيوطى (٦ / ٢٨) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٣ / ١٢) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (٥٩٠٢) ، نصب الراية للزيلعى (٢ / ٢٣٩) ، فتح البارى (٢ / ٤١٣ ، ٥٠١ ، ٥٠٨ ، ٥١٠ ، ٥١٢ ، ٥١٩ ، ١٠ / ٥٠٤ ، ١١ / ١٤٣) ، صحيح ابن خزيمة (١٤٢٣ ، ١٧٨٩) ، شرح السنة للبغوى (٤ / ٤١٤) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٢٣٥٤٠ ، ٢٣٥٤٨) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (٧ / ١٩٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ١٠٧ ، ٥ / ٨٩ ، ٦ / ١٠٢ ، ١٠٦) ، دلائل النبوة للبيهقى (٢ / ٨٩ ، ٦ / ١٣٩ ، ١٤٤) ، طبقات ابن سعد (١ / ١ / ١٧ ، ١ / ٢ / ٤٢) ، المعجم الكبير للطبرانى (١٠ / ٣٤٦) ، مصنف ابن أبى شيبة (١٠ / ٢١٩ ، ٣٤٦ ، ١١ / ٤٨١).

(١) انظر : السيرة (١ / ٢٣٢).

(٢) مغلغله : قال السهيلى : المغلغلة : الداخل إلى أقصى ما يراد بلوغه منها أى محموة من بلد إلى بلد وقيل : المسرعة من الفلفلة وهى سرعة السير. انظر : اللسان (مادة غلغل).

(٣) الوخز : الطعن الغير نافذ ، وقيل : هو الطعن النافذ فى جنب المطعون. الأشافى : جمع إشفى ، وهى حديدة يفرز بها الإسكافي.

(٤) إحرام الظباء : التي يحرم صيدها فى الحرم. الشوازب : المضمرات ، وقيل : الشازب الضامر اليابس من الناس وغيرهم.

١٨٢

وقل لهم والله يحكم حكمه

ذروا الحرب تذهب عنكم فى المراحب

متى تبعثوها تبعثوها ذميمة

هى الغول للأقصين أو للأقارب

تقطع أرحاما وتهلك أمة

وتبرى السديف من سنام وغارب (١)

فإياكم والحرب لا تغلقنكم

وحوضا وخيم الماء مر المشارب (٢)

تزين للأقوام ثم يرونها

بعاقبة إذ بينت أم صاحب (٣)

تحرق لا تشوى ضعيفا وتنتحى

ذوى العز منكم بالحتوف الصوائب

ألم تعلموا ما كان فى حرب داحس

فتعتبروا أو كان فى حرب حاطب

وكم قد أصابت من شريف مسود

طويل العماد ضيفه غير خائب

وماء هريق فى الضلال كأنما

أذاعت به ريح الصبا والجنائب (٤)

يخبركم عنها امرؤ حق عالم

بأيامها والعلم علم التجارب

فبيعوا الحراب ملمحارب واذكروا

حسابكم والله خير محاسب

ولى امرئ فاختار دينا فلا يكن

عليكم رقيبا غير رب الثواقب

أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتم

لنا غاية قد يهتدى بالذوائب

وأنتم لهذا الناس نور وعصمة

تؤمون والأحلام غير عوازب

وأنتم إذا ما حصل الناس جوهم

لكم سره البطحاء شم الأرانب (٥)

تصونون أجسادا كراما عتيقة

مهذبة الأنساب غير أشائب

ترى طالبى الحاجات نحو بيوتكم

عصائب هلكى تهتدى بعصائب

__________________

(١) تبرى : تقطع. السديف : هو اللحم الذي يكون فى أعلى ظهر الإبل ، وهو ما يسمى بالسنام ، والغارب : أعلى الظهر.

(٢) ذكر فى السيرة قبل هذا البيت بيتان لم يذكرهما هنا وهما :

وتستبدلوا بالأتحمية بعدها

شليلا وأصداء ثياب المحارب

وبالمسك الكافور غبرا سوابغا

كأن قتيريها عيون الجنادب

انظر : السيرة (١ / ٢٣٤).

(٣) بينت : أى ظهر أمرها واتضح. أم صاحب : قال السهيلى فى الروض الأنف : أى عجوز كأم صاحب لك إذا لا يصحب الرجل إلا الرجل فى سنه.

(٤) ريح الصبا : ريح معروفة تقابل الدبور ، وقيل : الصبا ريح ومهبها المستوى أن تهب من موضع مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار ، وينحتها الدبور ، وقيل : الصبا ريح تستقبل البيت. انظر : اللسان (مادة صبا).

(٥) سرة : قيل : سرة الشيء ، خيره وأعلاه. الشم : ارتفاع فى قصبة الأنف مع استواء أعلاه وإشراف الأرنبة قليلا. الأرانب : جمع أرنبة وهى القصبة التي فيها ثقب الأنف.

١٨٣

لقد علم الأقوام أن سراتكم

على كل حال خير أهل الجباجب (١)

فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا

بأركان هذا البيت بين الأخاشب

فعندكم منه بلاء ومصدق

غداة أبى يكسوم هادى الكتائب

كتيبته بالسهل تمسى ورجله

على القاذفات فى رءوس المناقب (٢)

فلما أتاكم نصر ذى العرش ردهم

جنود إله بين ساف وحاصب

فولوا سراعا هاربين ولم يؤب

إلى قومه ملحبش غير عصائب

فإن تهلكوا نهلك وتهلك عصائب

يعاش بها قول امرئ غير كاذب

ثم إن قريشا اشتد أمرهم ، للشقاء الذي أصابهم ، فى عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن أسلم معه منهم ، فأغروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سفهاءهم ، فكذبوه وآذوه ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مظهر لأمر الله لا يستخفى به ، مباد لهم بما يكرهون من عيب دينهم ، واعتزال أوثانهم ، وفراقه إياهم على كفرهم.

فحدث عروة بن الزبير أنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص : ما أكثر ما رأيت قريشا أصابوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما كانوا يظهرون من عداوته؟ قال : حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما فى الحجر ، فذكروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط! سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا ، لقد صبرنا معه على أمر عظيم. أو كما قالوا. فبينما هم فى ذلك طلع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقبل يمشى حتى استلم الركن ، ثم مر بهم طائفا بالبيت ، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول.

قال : فعرفت ذلك فى وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها ، فعرفت ذلك فى وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها ، فوقف ثم قال : «أتسمعون يا معشر قريش؟! والذي نفسى بيده لقد جئتكم بالذبح». قال : فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع ، حتى أن أشدهم وصاة فيه قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول ، حتى إنه ليقول : انصرف يا أبا القاسم ، فو الله ما كنت جهولا. قال : فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا كان الغد

__________________

(١) الجباجب : بالضم هو المستوى من الأرض وهى هنا أسماء منازل بمنى سميت به لأنه كروش الأضاحى تلقى فيها أيام الحج.

(٢) القاذفات : أعالى الجبال ، وقيل : هى كل ما أشرف من رءوس الجبال وأعاليها. المناقب : جمع منقبة ، الطريق الضيق بين دارين أو جبلين لا يستطاع سلوكه.

١٨٤

اجتمعوا فى الحجر وأنا معهم ، فقال بعضهم لبعض : ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه!.

فبيناهم فى ذلك طلع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون : أنت الذي تقول كذا وكذا ، للذى يقول من عيب آلهتهم. فيقول رسول الله : «نعم أنا الذي أقول ذلك». فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه ، فقام أبو بكر دونه وهو يبكى ويقول : أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله!! ثم انصرفوا عنه. فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط (١).

ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه

قال ابن إسحاق (٢) : وحدثني رجل من أسلم ، كان واعية ، أن أبا جهل مر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره ، فلم يكلمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومولاة لعبد الله بن جدعان فى مسكن لها تسمع ذلك. ثم انصرف عنه فعمد إلى نادى قريش عند الكعبة فجلس معهم. فلم يلبث حمزة ابن عبد المطلب أن أقبل متوحشا قوسه راجعا من قنص له ، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له ، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة ، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم ، وكان أعز فتى فى قريش وأشده شكيمة.

فلما مر بالمولاة ، وقد رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيته قالت له : يا أبا عمارة ، لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد آنفا من أبى الحكم بن هشام! وجده هاهنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره ، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد. فاحتمل حمزة الغضب ، لما أراد الله به من كرامته ، فخرج يسعى لم يقف على أحد ، معدا لأبى جهل إذا لقيه أن يقع به.

فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا فى القوم فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه بها شجة منكرة ، ثم قال : أتشتمه ، فأنا على دينه أقول ما يقول ، فرد على إن استطعت. فقامت رجال بنى مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل ،

__________________

(١) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٢ / ٢٧٦) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (٧ / ٦٦) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ١٥).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٢٤٠).

١٨٥

فقال أبو جهل : دعوا أبا عمارة ، فإنى والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا. وتم حمزة على إسلامه وعلى ما بايع عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله. فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عز وامتنع ، وأن حمزة سيمنعه ، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه (١).

وعن محمد بن كعب القرظى ، قال : حدثت أن عتبة بن ربيعة ، وكان سيدا ، قال يوما وهو جالس فى نادى قريش ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس فى المسجد وحده : يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟

وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يزيدون ويكثرون. فقالوا : بلى يا أبا الوليد ، فقم إليه فكلمه.

فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا ابن أخى ، إنك منا حيث قد علمت من السطة فى العشيرة والمكان فى النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع منى أعرض عليك أمورا تنظر فيها ، لعلك تقبل منا بعضها. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قل يا أبا الوليد أسمع».

قال : يا ابن أخى ، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا لا تستطيع رده من نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه. أو كما قال له.

حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمع منه قال : «أقد فرغت يا أبا الوليد؟» قال : نعم. قال : «فاسمع منى». قال : أفعل ، قال : بسم الله الرحمن الرحيم (حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) [فصلت : ١ ، ٤]. ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها يقرؤها عليه ، فلما سمعها عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها

__________________

(١) ذكره أبو نعيم فى حلية الأولياء (١ / ٤٠) ، وفى الدلائل (١٩٤) ، الهيثمى فى المجمع (٩ / ٢٦٧) ، ابن عساكر فى التاريخ (١٢ / ٧٢٠).

١٨٦

يستمع منه ، ثم انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السجدة منها ، فسجد ثم قال : «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك». فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.

فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : ورائى أنى سمعت قولا ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة ، يا معشر قريش أطيعونى واجعلوها بى ، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به. قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ، قال : هذا رأيى فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم (١).

قال ابن إسحاق (٢) : ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة فى قبائل قريش فى الرجال والنساء ، وقريش تحبس من قدرت على حبسه ، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين ، ثم إن أشراف قريش من كل قبيلة ، اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، ثم قال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه.

فبعثوا إليه فجاءهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سريعا ، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء ، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم ، حتى جلس إليهم ، فقالوا : يا محمد ، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك ، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء ، وعبت الدين ، وشتمت الآلهة ، وسفهت الأحلام ، وفرقت الجماعة ، فلما بقى أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك ، أو كما قالوا به ، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت إنما تريد به الشرف فينا فنحن نسودك علينا ، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك ، وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا ، فربما كان ذلك ، بذلنا أموالنا فى طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك.

فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بى ما تقولون ، ما جئت بما جئت به أطلب أموالكم ولا

__________________

(١) انظر الحديث فى : كنز العمال للمتقى الهندى (٣٥٤٢٨) ، دلائل النبوة للبيهقى (٢ / ٢٠٤ ، ٢٠٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ٦٢ ـ ٦٤).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٢٤٣).

١٨٧

الشرف فيكم ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثنى إليكم رسولا وأنزل على كتابا ، وأمرنى أن أكون لكم بشيرا ونذيرا ، فبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم ، فإن تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة ، وإن تردوه على أصبر لحكم الله حتى يحكم الله بينى وبينكم». أو كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالوا : يا محمد ، فإن كنت غير قابل شيئا مما عرضنا عليك فإنك قد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا ، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ، وليبسط لنا بلادنا وليخرق فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصى بن كلاب ، فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول : أحق هو أم باطل ، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله وأنه بعثك رسولا إلينا كما تقول.

فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بهذا بعثت إليكم ، إنما جئتكم من الله بما بعثنى به ، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ، فإن تقبلوه فهو حظكم فى الدنيا والآخرة ، وإن تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم» ، قالوا : فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك ، سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك ، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغى ، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أنا بفاعل وما أنا بالذى يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا ، ولكن الله بعثنى بشيرا ونذيرا». أو كما قال : «فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة ، وإن تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم».

قالوا : فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ، فإنا لا نؤمن بك إلا أن تفعل. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل». قالوا : يا محمد ، فما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب ، فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع فى ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به؟ إنه بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له : الرحمن ، وإنا والله ما نؤمن بالرحمن أبدا ، فقد أعذرنا إليك يا محمد ، وإنا والله لا نتركك ، وما بلغت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا.

وقال قائلهم : نحن نعبد الملائكة وهى بنات الله. وقال قائلهم : لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا.

١٨٨

فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام عنهم ، وقام معه عبد الله بن أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب ، فقال له : يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا ، فلم تقبله منهم ، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك ، فلم تفعل ، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله ، فلم تفعل ، ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب ، فلم تفعل. أو كما قال له ، فو الله لا أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر ، حتى تأتيها ، ثم تأتى معك بصك معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول ، وأيم الله لو فعلت ذلك ما طننت أنى أصدقك. ثم انصرف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ، ولما رأى من مباعدتهم إياه.

فلما قام عنهم قال أبو جهل : يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وشتم آلهتنا ، وإنى أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله ، أو كما قال ، فإذا سجد فى صلاته فضخت به رأسه ، فأسلمونى عند ذلك أو امنعونى ، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم. قالوا : والله لا نسلمك لشىء أبدا فامض لما تريد.

فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف ، ثم جلس لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينتظره ، وغدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما كان يغدر ، وكان بمكة وقبلته إلى الشام ، فكان إذا صلى صلى بين الركنين : الركن اليمانى والحجر الأسود وجعل الكعبة بينه وبين الشام.

فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى ، وقد غدت قريش فى أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل ، فلما سجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه ، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره حتى قذف الحجر من يده. وقامت إليه رجال قريش فقالوا : ما لك يا أبا الحكم؟ قال : قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة ، فلما دنوت منه عرض لى دونه فحل من الإبل لا والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ، ولا أنيابه لفحل قط ، فهم بى أن يأكلنى.

قال ابن إسحاق (١) : فذكر لى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ذلك جبريل ، لو دنا لأخذه» (٢).

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ٢٤٦).

(٢) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٢ / ١٩١).

١٨٩

فلما قال لهم ذلك أبو جهل قام النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف ابن عبد الدار بن قصى ، فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد ، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم فى صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم : ساحر. لا والله ما هو بساحر ، قد رأينا السحرة نفثهم وعقدهم. وقلتم : كاهن. لا والله ما هو بكاهن ، قد رأينا الكهنة تخالجهم وسمعنا سجعهم. وقلتم : شاعر ، لا والله ما هو بشاعر ، لقد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه. وقلتم : مجنون. لا والله ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه ، يا معشر قريش ، انظروا فى شأنكم فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم.

فلما قال لهم ذلك النضر بن الحارث بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبى معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، وقالوا لهما : سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء.

فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووصفا لهم أمره وأخبراهم ببعض قوله ، وقالا لهم : إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا!.

فقالت لهما أحبار يهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبى مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم ، سلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول ما كان أمرهم؟ فإنه كان لهم حديث عجيب ، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبى ، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا فى أمره ما بدا لكم.

فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط حتى قدما مكة ، فقالا : يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد. أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء ، فإن أخبركم عنها فهو نبى ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فروا فيه رأيكم.

فجاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألوه عن تلك الأشياء ، فقال لهم : «أخبركم بما سألتم عنه غدا» ، ولم يستثن ، فانصرفوا عنه ، ومكث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يذكرون خمس عشرة ليلة لا يحدث الله عزوجل ، إليه فى ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل ، حتى أرجف آل مكة ، وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما

١٩٠

سألناه عنه. وحتى أحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكث الوحى عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبريل من الله بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف والروح.

فذكر لى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لجبريل حين جاءه : «لقد احتبست عنى يا جبريل حتى سؤت ظنا». فقال له جبريل : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم : ٦٤] (١).

فلما جاءهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما عرفوا من الحق ، وعرفوا صدقه فيما حدث وموقع نبوته فيما جاءهم به من علم الغيوب حين سألوه عما سألوه عنه ، حال الحسد منهم له بينهم وبين اتباعه وتصديقه ، فعتوا على الله وتركوا أمره عيانا ولجوا فيما هم عليه من الكفر ، فقال قائلهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : ٢٦] أى اجعلوه لغوا وباطلا ، واتخذوه هزوا لعلكم تغلبونه بذلك ، فإنكم إن ناظرتموه وخاصمتموه غلبكم.

فقال أبو جهل بن هشام يوما وهو يهزأ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به من الحق : يا معشر قريش ، يزعم محمد أنما جنود الله الذين يعذبونكم فى النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر ، وأنتم أعظم الناس عددا وكثرة ، أفيعجز كل مائة رجل منكم عن رجل منهم؟!. فأنزل الله فى ذلك من قوله : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) [المدثر : ٣١] إلى آخر القصة (٢).

فلما قال ذلك بعضهم لبعض ، جعلوا إذا جهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن وهو يصلى يتفرقون عنه ويأبون أن يستمعوا له ، فكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلى استرق السمع دونهم فرقا منهم ، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يستمع ، وإن خفض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صوته فظن الذي يستمع أنهم لا يسمعون شيئا من قراءته وسمع هو شيئا دونهم أصاخ يستمع له (٣).

__________________

(١) ذكره الواحدى فى أسباب النزول (٢٥٢) ، ابن حجر فى فتح البارى (٨ / ٢٨٤).

(٢) ذكره الشوكانى فى فتح القدير (٥ / ٤٧١) ، وقال : أخرجه ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس ولم يذكر له إسنادا.

(٣) ذكره الطبرى فى تفسيره (١٥ / ١٦٤).

١٩١

وقال عبد الله بن عباس (١) : إنما نزلت هذه الآية : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) [الإسراء : ١١٠] من أجل أولئك النفر (٢).

يقول : (لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) فيتفرقوا عنك (وَلا تُخافِتْ بِها) فلا يسمعها من يحب أن يسمعها ممن يسترق ذلك دونهم ، لعله يرعوى إلى بعض ما يستمع فينتفع بذلك.

وكان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة عبد الله بن مسعود فيما حدث به عروة بن الزبير (٣) قال : اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط ، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود : أنا. قالوا : إنا نخشاهم عليك ، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه. قال : دعونى فإن الله سيمنعنى. قال : فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام فى الضحى ، وقريش فى أنديتها ، حتى قام عند المقام ثم قال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) رافعا بها صوته (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ). ثم استقبلها يقرؤها ، وتأمموه فجعلوا يقولون : ما قال ابن أم عبد؟ ثم قالوا : إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد.

فقاموا إليه فجعلوا يضربون فى وجهه وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه. فقالوا : هذا الذي خشينا عليك. قال : ما كان أعداء الله أهون على منهم الآن ، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها قالوا : لا ، حسبك ، فقد أسمعتهم ما يكرهون (٤).

وذكر الزهرى (٥) أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلى من الليل فى بيته ، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق ، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم فى نفسه شيئا.

ثم انصرفوا ، حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ٢٥٩).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح البخاري حديث رقم (٧٤٩٠) ، صحيح مسلم كتاب الصلاة (١ / ١٤٥) ، سنن الترمذى (٣١٤٦).

(٣) انظر : السيرة (١ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠).

(٤) ذكره القرطبى فى تفسيره (٧ / ١٤٧) ، الطبرى فى تاريخه (٢ / ٣٣٤ ، ٣٣٥).

(٥) انظر : السيرة (١ / ٢٦٠ ـ ٢٦١).

١٩٢

يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة. ثم انصرفوا ، حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود. فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا.

فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان فى بيته فقال : أخبرنى يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال : يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها.

قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به ، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال : ما ذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ، أطمعوا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسى رهان قالوا : منا نبى يأتيه الوحى من السماء!!. فمن يدرك هذه؟! والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه. فقام عنه الأخنس وتركه (١).

قال ابن إسحاق (٢) : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله قالوا يستهزءون به : قلوبنا فى أكنة لا نفقه ما تقول ، وفى آذاننا وقر لا نسمع ما تقول ، ومن بيننا وبينك حجاب قد حال بيننا وبينك ، فاعمل بما أنت عليه إنا عاملون بما نحن عليه ، إنا لا نفقه عنك شيئا ، فأنزل الله عليه فى ذلك من قولهم : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) إلى قوله : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) [الإسراء : ٤٥ ، ٤٦].

أى كيف فهموا توحيدك ربك ، إن كنت جعلت على قلوبهم أكنة وفى آذانهم وقرا وبينك وبينهم حجابا بزعمهم؟ أى أنى لم أفعل. (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) [الإسراء : ٤٧].

أى ذلك ما تواصوا به من ترك ما بعثتك به إليهم. (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٤٨] ، أى أخطئوا المثل الذي ضربوا لك ، فلا يصيبون

__________________

(١) ذكره ابن كثير فى تفسيره (٥ / ٨١).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٢٦١ ـ ٢٦٢).

١٩٣

به هدى ولا يعتدل بهم فيه قول (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) [الإسراء : ٤٩] أى قد جئت تخبرنا أنا سنبعث بعد موتنا إذا كنا عظاما ورفاتا وذلك ما لا يكون. (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الإسراء : ٥٠ ، ٥١] أى الذي خلقكم مما تعرفون ، فليس خلقكم من تراب بأعز من ذلك عليه. وسئل ابن عباس عن قول الله عزوجل : (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) ما الذي أراد الله به؟ فقال : الموت.

قال ابن إسحاق (١) : ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أصحابه ، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين ، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش ، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر ، من استضعفوا منهم ، يفتنونهم عن دينهم ، منهم من يفتتن من شدة البلاء الذي يصيبه ، ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم.

فكان بلال بن رباح وهو ابن حمامة لبعض بنى جمح (٢) مولدا من مولديهم ، وكان صادق الإسلام طاهر القلب ، فكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره فى بطحاء مكة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول له : لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى فيقول وهو فى ذلك البلاء : أحد أحد.

وكان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب بذلك ، وهو يقول : أحد أحد ، فيقول : أحد أحد والله يا بلال! (٣) ثم يقبل على أمية ومن يصنع ذلك به من بنى جمح فيقول : أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا.

أى : لأتخذن قبره منسكا ومسترحما ، والحنان : الرحمة. حتى مر به أبو بكر الصديق يوما وهم يصنعون ذلك به فقال لأمية : ألا تتقى الله فى هذا المسكين؟! حتى متى؟!

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ٢٦٢).

(٢) بنى جمح : ينتسبون إلى جمح بن عمرو ، وهو بطن من العدنانية. انظر : معجم قبائل العرب (١ / ٢٠٢ ، ٢٠٣).

(٣) قال ابن كثير فى البداية والنهاية (٣ / ١٠٧) : قد استشكل بعضهم هذا من جهة أن ورقة توفى بعد البعثة فى فترة الوحى ، وإسلام من أسلم إنما كان بعد نزول : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) فكيف يمر ورقة ببلال وهو يعذب؟ وفيه نظر.

١٩٤

قال : أنت الذي أفسدته فأنقذه. فقال أبو بكر : أفعل : عندى غلام أسود أجلد منه وأقوى ، على دينك ، أعطيكه به. قال : قد قبلت. قال : هو لك. فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك ، وأخذ بلالا فأعتقه (١).

وأعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب ، بلال سابعهم ، عامر ابن فهيرة ، وأم عبيس (٢) ، وزنيرة (٣) ، فأصيب بصرها حين أعتقها ، فقالت قريش : ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى. فقالت : كذبوا وبيت الله ، ما تضر اللات والعزى ولا تنفعان. فرد الله إليها بصرها (٤).

وأعتق النهدية وابنتها ، وكانتا لامرأة من بنى عبد الدار ، فمر بهما أبو بكر وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهى تقول : والله لا أعتقكما أبدا. فقال أبو بكر : حلا يا أم فلان. فقالت : حل أنت ، أفسدتهما فأعتقهما. قال : فبكم هما؟ قالت : بكذا وكذا. قال : قد أخذتهما ، وهما حرتان ، أرجعا إليها طحينها. قالتا : أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟ قال : أو ذلك إن شئتما (٥).

ومر بجارية بنى نوفل حى من بنى عدى ، وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام وهو يومئذ مشرك ، فابتاعها أبو بكر فأعتقها. وقال له أبوه أبو قحافة : يا بنى ، إنى أراك تعتق رقابا ضعافا فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلداء يمنعونك ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر : يا أبت إنى إنما أريد ما أريد.

فيتحدث أنه ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه وفيما قال أبوه : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) إلى آخر السورة [الليل : ٧] (٦).

__________________

(١) ذكره أبو نعيم فى حلية الأولياء (١ / ١٤٨) ، ابن سعد فى الطبقات (١ / ٢٤٣).

(٢) قال ابن عبد البر فى الاستيعاب (٤ / ٥٠٠) : أم عبيس ، قال الزبير : كانت فتاة لبنى تيم بن مرة فأسلمت ، وكانت ممن يعذب فى الله فاشتراها أبو بكر فأعتقها.

(٣) قال ابن عبد البر فى الاستيعاب (٤ / ٤٠٦) : زنيرة : مولاة أبى بكر الصديق ، هى أحد السبعة الذين كانوا يعذبون فى الله ، فاشتراهم أبو بكر وأعتقهم. انظر ترجمتها فى : أسد الغابة الترجمة رقم (٦٩٤٨) ، الإصابة الترجمة رقم (١١٢٢٢).

(٤) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٣ / ١٠٧).

(٥) ذكره ابن كثير فى البداية (٣ / ١٠٧).

(٦) ذكره الطبرى فى تفسيره (٣٠ / ٢٢١) ، الحاكم فى المستدرك (٢ / ٥٢٥) ، وابن كثير فى تفسيره (٨ / ٤٤٤).

١٩٥

وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه ، وكانوا أهل بيت إسلام ، إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة ، فيمر بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول فيما بلغنى : «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» (١). فأما أمه فقتلوها وهى تأبى إلا الإسلام.

وكان أبو جهل الفاسق الذي يغرى بهم ، فى رجال من قريش ، إذا سمع بالرجل له شرف ومنعة قد أسلم أنبه وأخزاه فقال : تركت دين أبيك وهو خير منك! لنسفهن حلمك ولنفيلن رأيك ولنضعن شرفك. وإن كان تاجرا قال : والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك. وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به.

وقال سعيد بن جبير لعبد الله بن عباس (٢) : أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العذاب ما يعذرون به فى ترك دينهم؟ قال : نعم والله ، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوى جالسا من شدة الضر الذي به حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة حتى يقولوا له : اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول : نعم. حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له : أهذا الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول : نعم. افتداء منهم مما يلغون من جهده (٣).

ذكر الهجرة إلى أرض الحبشة

قال ابن إسحاق (٤) : فلما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء ، وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمه أبى طالب ، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم : «لو خرجتم إلى أرض الحبشة ، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد ،

__________________

(١) انظر الحديث فى : مستدرك الحاكم (٣ / ٣٨٣) ، المطالب العالية لابن حجر (٤٠٣٤) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٣٧٣٦٦ ، ٣٧٣٦٨) ، حلية الأولياء لأبى نعيم (١ / ١٤٠) ، البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ٥٩).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٢٦٥).

(٣) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٣ / ١٧١). وقال : وفى مثل هذا أنزل الله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) الآية ، فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الإهانة والعذاب البليغ ، أجارنا الله من ذلك بحوله وقوته.

(٤) انظر : السيرة (١ / ٢٦٦ ـ ٢٦٨).

١٩٦

وهى أرض صدق ، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه» (١).

فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا بدينهم إلى الله. فكانت أول هجرة كانت فى الإسلام.

وكان أول من خرج من المسلمين عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة معه امرأته سهلة بنت سهيل ، والزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار ، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومى معه امرأته أم سلمة ، وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح ، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب بن نفيل معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة ، وسهل بن بيضاء من بنى الحارث بن فهر ، وأبو سبرة بن أبى رهم ، ويقال : بل أبو حاطب بن عمرو. ويقال : هو كان أول من قدمها.

وكان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين ، ثم خرج جعفر بن أبى طالب وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة منهم من خرج بأهله ومنهم من خرج بنفسه.

فكان جميع من لحق بأرض الحبشة من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا أو ولدوا بها ، ثلاثة وثمانين رجلا ، إن كان عمار بن ياسر فيهم ، وهو يشك فيه.

وكان مما قيل من الشعر فى الحبشة أن عبد الله بن الحارث بن قيس بن عدى بن سعيد بن سهم ، حين أمنوا بأرض الحبشة وحمدوا جوار النجاشى ، وعبدوا الله لا يخافون على ذلك أحدا قال :

يا راكبا بلغن عنى مغلغلة

من كان يرجو بلاغ الله والدين (٢)

كل امرئ من عباد الله مضطهد

ببطن مكة مقهور ومفتون

أنا وجدنا بلاد الله واسعة

تنجى من الذي والمخزاة والهون

فلا تقيموا على ذل الحياة وخز

ى فى الممات وغيب غير مأمون

إنا تبعنا رسول الله واطرحوا

قول النبيّ وعالوا فى الموازين

فاجعل عذابك بالقوم الذين بغوا

وعائذا بك أن يعلوا فيطغونى

وقال عبد الله بن الحارث أيضا ، يذكر نفى قريش إياهم من بلادهم ويعاتب بعض

__________________

(١) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٣ / ٦٦).

(٢) مغلغلة : بفتح العين هى الرسالة المحمولة من بلد إلى بلد.

١٩٧

قومه فى ذلك :

أبت كبدى لا أكذبنك قتالهم

على وتأباه على أناملى

وكيف قتالى معشرا أدبوكم

على الحق ألا تأشبوه بباطل

نفتهم عباد الجن من حر أرضهم

فأضحوا على أمر شديد البلابل (١)

فإن تك كانت فى عدى أمانة

عدى بن سعد عن تقى أو تواصل

فقد كنت أرجو أن ذلك فيهم

بحمد الذي لا يطبى بالجعائل

وبدلت شبلا شبل كل ضعيفة

بذى فجر مأوى الضعاف الأرامل (٢)

وقال عبد الله بن الحارث أيضا :

وتلك قريش تجحد الله حقه

كما جحدت عاد ومدين والحجر (٣)

فإن أنا لم أبرق فلا يسعنى

من الأرض بر ذو فضاء ولا بحر

بأرض بها عبد الإله محمد

أبين ما فى النفس إذ بلغ النفر

فسمى عبد الله يرحمه‌الله ، المبرق ببيته الذي قال.

وقال عثمان بن مظعون يعاتب أمية بن خلف وهو ابن عمه ، وكان يؤذيه فى إسلامه ، وكان أمية شريف قومه فى زمانه ذلك :

أتيم بن عمرو للذى جاء بغضه

ومن دونه الشرمان والبرك أكتع (٤)

أأخرجتنى من بطن مكة آمنا

وأسكنتنى فى صرح بيضاء تقذع

تريش نبالا لا يواتيك ريشها

وتبرى نبالا ريشها لك أجمع

وحاربت أقواما كراما أعزة

وأهلكت أقواما بهم كنت تقرع

ستعلم إن نابتك يوما ملمة

وأسلمك الأوباش ما كنت تصنع

وتيم بن عمرو ، الذي يدعو عثمان ، هو جمح بن عمرو ، كان اسمه تيما.

قال ابن إسحاق (٥) : فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمنوا واطمأنوا

__________________

(١) حر أرضهم : هى الأرض الكريمة. البلابل : شدة الهم والوساوس فى الصدور وحديث النفس.

(٢) لا يطبى : أى لا يستمال ولا يستدعى. الجعائل : جمع جعالة وهى الرشوة.

(٣) الحجر : هو اسم ديار ثمود بوادى القرى من المدينة والشام ، وقيل : هو من وادى القرى على يوم بين جبال وبها قامت منازل ثمود. انظر : معجم البلدان (٢ / ٢٢١).

(٤) الشرم : لجة البحر ، وقيل : موضع فيه : وقيل : هو أبعد قعره والشروم غمرات البحر واحدها شرم. انظر : اللسان (مادة شرم). البرك : هو جماعة الإبل الباركة ، وقيل : اسم موضع.

(٥) انظر : السيرة (١ / ٢٧٥ ـ ٢٧٩).

١٩٨

بأرض الحبشة ، وأنهم قد أصابوا بها دارا وقرارا ، ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشى ، فيردهم عليهم ، ليفتنوهم فى دينهم ، ويخرجوهم من دارهم ، التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها.

فبعثوا عبد الله بن أبى ربيعة ، وعمرو بن العاص وجمعوا لهما هدايا للنجاشى ولبطارقته ثم بعثوهما.

فقال أبو طالب ، حين رأى ذلك من رأيهم وما بعثوهما فيه ، أبياتا يحض النجاشى على حسن جوارهم والدفع عنهم :

ألا ليت شعرى كيف فى النأى جعفر

وعمرو وأعداء العدو الأقارب

وهل نالت أفعال النجاشى جعفرا

وأصحابه أو عاق ذلك شاغب

تعلم أبيت اللعن أنك ماجد

كريم فلا يشقى لديك المجانب (١)

تعلّم فإن الله زادك بسطة

وأسباب خير كلها بك لازب

وأنك فيض ذو سجال غزيرة

ينال الأعادى نفعها والأقارب

وذكر ابن إسحاق : من حديث (٢) أم سلمة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت : لما نزلنا أرض الحبشة ، تعنى مع زوجها الأول أبى سلمة ، جاورنا بها خير جار النجاشى ، أمنا على ديننا ، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه ، فلما بلغ ذلك قريشا ، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشى فينا رجلين منهم جليدين ، وأن يهدوا للنجاشى هدايا مما يستظرف من متاع مكة ، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم ، فجمعوا له أدما كثيرا ، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا لهم ، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبى ربيعة ، وعمرو بن العاص ، وأمروهما بأمرهم ، وقالوا لهما : ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشى فيهم ، ثم قدما إلى النجاشى هداياه ، ثم اسألاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم.

قالت : فخرجا حتى قدما إلى النجاشى ، ونحن عنده بخير دار ، عند خير جار ، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلماه ، وقالا لكل بطريق : إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا فى دينكم ، وجاءوا بدين مبتدع ، لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم

__________________

(١) أبيت اللعن : هذه تحية العرب فى الجاهلية للملوك. المجانب : أراد به الداخل فى حماه.

(٢) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (١ / ٢٠٢) ، مجمع الزوائد (٦ / ٢٤ ، ٢٧).

١٩٩

إليهم ، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم ، فإن قومهم أعلى بهم عينا (١) ، وأعلم بما عابوا عليهم ؛ فقالوا لهما : نعم.

ثم إنهما قربا هداياهما إلى النجاشى فقبلها ، ثم قالا له : أيها الملك ، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا فى دينك ، جاءوا بدين ابتدعوه ، لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم عليهم ، فهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.

قالت : ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبى ربيعة ، وعمرو بن العاص من أن لا يسمع كلامهما النجاشى. فقالت بطارقته : صدقا أيها الملك ، قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم ، فأسلمهم إليهما ، فليرداهم إلى بلادهم وقومهم.

فغضب النجاشى ، ثم قال : لاها الله ، إذا لا أسلمهم إليهما ، ولا يكاد قوم جاورونى ونزلوا بلادى ، واختارونى على من سواى ، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان من أمرهم ، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ، ورددتهم إلى قومهم ، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم ، وأحسنت جوارهم ما جاورونى. ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ، ثم قال بعضهم لبعض : ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا : نقول والله ما علمنا ، وما أمرنا به نبينا كائنا فى ذلك ما هو كائن. فلما جاءوا ، وقد دعا النجاشى أساقفته ، فنشروا مصاحفهم حوله ، سألهم فقال لهم : ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا به فى دينى ولا فى دين أحد من هذه الملل؟.

قالت : فكان الذي كلمه جعفر بن أبى طالب ، قال : أيها الملك ، كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتى الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوى منا الضعيف ، فكنا على ذلك ، حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قالت : فعدد عليه أمور الإسلام.

__________________

(١) أعلى بهم عينا : أى أبصر بهم ، وقيل : أى عينهم وأبصارهم فوق عين غيرهم.

٢٠٠