وذاك سبب الخذلان ، ولا زالت تتوالى الثورات في الجزائر على الفرنسيس منذ دخلها إلى الآن تارة مشتدة وتارة خفيفة ولله عاقبة الأمور.
مطلب في كيفية إجراء السياسة الداخلية في الجزائر :
اعلم أن إدارة الجزائر في الحقيقة مناطة بأرباب الأمر والنهي في باريس على ما هي قاعدة الفرنسيس من إرجاع كل الأمور في ممالكهم ومستعمراتهم إلى باريس من غير التفات إلى بعد المستعمرات أو قربها ولا إلى الجهل بأحوالها وأخلاق أهلها وعوائدهم ، فيضطر أصحاب الحكومة إلى اعتماد أقوال المباشر في المستعمر المبحوث فيه فيؤل الأمر إلى ما تقتضيه حالة ذلك المباشر من الإنصاف أو ضده ، مع أنه في نفس الأمر غير مسؤل عما يقع إلا في الإجراء فلا يلزمه الإحتراس اللازم للمسؤل ومع ذلك فالأحكام والإدارة كلها في الجزائر كانت استبدادية بحتة تحت الحكم العسكري فما هي إلا اجتهادات من المباشرين بلا تعقب لحكمهم لأن الدولة منعت الأهالي من الحرية السياسية ومنحتهم بعض الحرية الشخصية من التصرف في ديانتهم وأشخاصهم وأموالهم كيفما أرادوا فيما لا يضر بالدولة ولا بأحد في نظر الحكام ، والدولة تنتخب حاكما عاما من أهل المناصب العالية من الفرنسيس ويولي حاكما عاما على الجزائر جميعها ويستقر في مدينة الجزائر ، وهي أيضا تنتخب ثلاثة حكام أخر من كبار الفرنسيس تناط بأحدهم ولاية الجزائر ، وبالآخر ولاية وهران ، وبالآخر ولاية قسنطينة ، ويرجعون في النظر لحاكم الجزائر العام وعلى كل قبيلة قائد والأغلب أن يكون من بني القبائل ويلقب كبراء هؤلاء القياد «بالاغة» ويتصرفون حسب اجتهادهم وحسب ما يلقنون به من الأوامر من الولاة ، وفي كل بلدة قسم من العساكر ولكبرائهم نفوذ كبير في الأهالي وفي كل بلدة أو قرية حاكم فرنساوي والرسوم الظاهرية في الجباية وإن كانت محدودة مقوننة بأخذ الأعشار من المزروعات والزكاة على الحيوانات فكثيرا ما تمتد الأيدي إلى المكاسب من غير الثقات من المتوظفين على أوجه شبيهة بالسرية ، حيث أنه ليس عليها احتساب حقيقي ثم للمتوظف مخلص عندما تقع به الشكاية بأن ينسب المأخوذ منه إلى الثورة أو السعي فيها وبأدنى قول في ذلك تثبت التهمة وإثباتها موقوف على القرائن لدى الحاكم المستبد ، وكل من ثبت عليه شيء من ذلك يؤخذ جميع كسبه للحكومة زيادة عن عقابه البدني الشديد ولا معقب لتلك الأحكام ، وقد ابتدأ ذلك العمل منذ دخلوا الجزائر فإن حمدان بن عثمان خوجه (١) الذي هو من الأعيان العلماء الأغنياء العارف بالألسن الأجنبية اتهم بأنه كانت الحكومة السابقة أمنت عنده أموالا فأخذ
__________________
(١) هو حمدان بن عثمان الخوجة الجزائري الحنفي (١١٨٧ ـ ١٢٦١ ه). أديب ولد في الجزائر وتعلم بها ، زعيم أول حزب سياسي عرف بلجنة المغاربة أو حزب المقاومة. نفاه الفرنسيون من الجزائر ، فأقام مدة بفرنسة ، وسافر إلى اسطنبول فعمل مترجما في مطبعة الحكومة إلى أن توفي. الأعلام ٢ / ٢٧٤ ، وهدية العارفين ١ / ٣٣٥.