كفاية الأصول - ج ٣

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-562-2
الصفحات: ٤٤٣

أو الموضوعيّة ـ بنفسه قابل للرفع والوضع شرعا ، وإن كان في غيره لا بدّ من

__________________

ـ وعليه فلا بدّ في الاستدلال بالرواية من التقدير. والمقدّر في الرواية ـ باعتبار دلالة الاقتضاء ـ إمّا جميع الآثار في كلّ واحد من التسعة ، وهو الأقرب اعتبارا إلى المعنى الحقيقيّ ؛ وإمّا الأثر الظاهر المناسب لكلّ واحد من التسعة ؛ وإمّا خصوص المؤاخذة في الكلّ ، وهذا أقرب عرفا من الأوّل وأظهر من الثاني. فرائد الاصول ٢ : ٢٨ ـ ٢٩.

وأمّا تعريض المصنّف به : فتوضيحه : أنّ في المراد من الموصول في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما لا يعلمون» وجوه ثلاثة :

الأوّل : أن يكون المراد بالموصول هو الحكم المجهول مطلقا ، سواء كان منشأ الجهل بالحكم فقدان النص أم إجماله ـ كما في الشبهات الحكميّة ـ أم الاشتباه في الامور الخارجيّة ـ كما في الشبهات الموضوعيّة ـ.

الثاني : أن يكون المراد به خصوص الفعل الخارجيّ المجهول عنوانه ، كشرب المائع الّذي لا يعلم الشارب هل هو خمر أو ماء.

الثالث : أن يراد به الفعل والحكم.

والتحقيق ـ كما مرّ ـ هو الوجه الأوّل. وعليه يتمّ الاستدلال بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما لا يعلمون» على جريان البراءة في الشبهات الحكميّة والموضوعيّة. ولا حاجة إلى ما أفاده الشيخ الأعظم من لزوم التقدير في «ما لا يعلمون» ، لأنّ التكليف غير المعلوم والحكم المجهول بنفسه قابل للوضع والرفع تشريعا ، سواء منشأ الجهل به فقدان النصّ أو إجماله ـ كما في الشبهات الحكميّة ـ أو الاشتباه في الامور الخارجيّة ـ كالشبهات الموضوعيّة ـ ، فيدلّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما لا يعلمون» على جريان البراءة في كلتا الشبهتين من دون حاجة إلى التقدير.

نعم ، دلالة الاقتضاء في غير : «ما لا يعلمون» من سائر الجمل المذكورة تقضي إمّا تقدير جميع الآثار أو الالتزام بالمجاز في الإسناد ـ بأن يسند الرفع إلى نفس تلك الامور وكان المقصود رفع المؤاخذة ونحوها ـ ، لاستلزام رفع نفس هذه العناوين للكذب ، لتحقّقها في الخارج قطعا.

هذا كلّه على الوجه الأوّل.

وأمّا على الوجه الثاني : فلا بدّ من تقدير أحد الامور الّتي ذكرها الشيخ أو الالتزام بالمجاز في إسناد الرفع إليه.

وأمّا الوجه الثالث : فهو ـ على ما أفاده المصنّف رحمه‌الله في حاشية الرسائل : ١١٤ ـ ممنوع ، لأنّ إسناد الرفع إلى الحكم إسناد إلى ما هو له ، وإسناده إلى الموضوع إسناد إلى غير ما هو له ، والجامع بين الإسنادين غير معقول.

٢١

تقدير الآثار ، أو المجاز في إسناد الرفع إليه ، فإنّه ليس «ما اضطرّوا وما استكرهوا ...» ـ إلى آخر التسعة ـ بمرفوع حقيقة. نعم ، لو كان المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» ما اشتبه حاله ولم يعلم عنوانه لكان أحد الأمرين لا بدّ أيضا.

ثمّ لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة (١) بعد وضوح أنّ المقدّر في غير واحد غيرها (٢) ؛ فلا محيص عن أن يكون المقدّر هو الأثر الظاهر في كلّ منها ، أو تمام آثارها الّتي تقتضي المنّة رفعها. كما أنّ ما يكون بلحاظه الإسناد إليها مجازا هو هذا (٣) ، كما لا يخفى. فالخبر دلّ على رفع كلّ أثر تكليفيّ أو وضعيّ كان في رفعه منّة على الامّة (٤) ؛ كما استشهد الإمام عليه‌السلام بمثل هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من الطلاق والصدقة والعتاق (٥).

__________________

(١) وهذا أيضا تعريض بالشيخ الأعظم الأنصاريّ ، حيث استظهر أن يكون المقدّر في الكلّ خصوص المؤاخذة ، فقال : «وأن يقدّر المؤاخذة في الكلّ. وهذا أقرب عرفا من الأوّل وأظهر من الثاني أيضا ، لأنّ الظاهر أنّ نسبة الرفع إلى مجموع التسعة على نسق واحد. فإذا اريد من (الخطاء) و (النسيان) و (ما اكرهوا عليه) و (ما اضطرّوا إليه) المؤاخذة على أنفسها كان الظاهر في (ما لا يعلمون) ذلك أيضا». فرائد الاصول ٢ : ٢٩.

فأورد عليه المصنّف قدس‌سره بأنّه لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة في جميع الفقرات ، إذ المقدّر في بعضها ـ بقرينة استشهاد الإمام بمثل هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من الطلاق والعتاق ـ هو الحكم الوضعيّ من طلاق الزوجة وانعتاق العبد وصيرورة الأموال ملكا للفقراء ، فلا محيص عن أن يكون المقدّر هو الأثر الظاهر في كلّ منها أو جميع الآثار.

(٢) أي : غير المؤاخذة.

(٣) أي : كما أنّه لو لم نقدّر في الحديث شيئا بل التزمنا بأنّ إسناد الرفع إلى كلّ واحد من التسعة مجاز بلحاظ الآثار ، يلزم أن يكون الإسناد المجازيّ إلى التسعة بلحاظ الأثر الظاهر أو جميع الآثار ، لا بلحاظ رفع خصوص المؤاخذة.

(٤) فيعتبر في شمول حديث الرفع أن يكون في رفع المرفوع منّة على الامّة ، فلا يرتفع به ضمان الإتلاف المتحقّق بالاضطرار أو الإكراه ، لأنّ في رفعه خلاف الامتنان بالنسبة إلى المالك ؛ ولا يرفع به صحّة بيع المضطرّ ، فإنّ رفعها خلاف الامتنان.

(٥) عن صفوان بن يحيى وأحمد بن محمّد بن أبي نصر جميعا عن أبي الحسن عليه‌السلام في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك ، أيلزمه ذلك؟ فقال عليه‌السلام : ـ

٢٢

ثمّ لا يذهب عليك : أنّ المرفوع في «ما اضطرّ إليه» وغيره ممّا اخذ بعنوانه الثانويّ إنّما هو الآثار المترتّبة عليه بعنوانه الأوّليّ ، ضرورة أنّ الظاهر أنّ هذه العناوين صارت موجبة للرفع ، والموضوع للأثر مستدع لوضعه ، فكيف يكون موجبا لرفعه؟! (١).

__________________

ـ «لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وضع عن امّتي ما اكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطئوا». المحاسن ٢ : ٣٣٩ ؛ وسائل الشيعة ١٦ : ١٦٤ ، الباب ١٢ من أبواب الأيمان ، الحديث ١٢.

ولا يخفي : أنّ ما أورد المصنّف رحمه‌الله على الشيخ ـ من ظهور استشهاد الإمام عليه‌السلام في رفع جميع الآثار أو الأثر الظاهر ـ قد استدركه الشيخ الأعظم نفسه أيضا ، فقال : «نعم يظهر من بعض الأخبار الصحيحة عدم اختصاص الموضوع عن الامّة بخصوص المؤاخذة ...» ، ولكن رجع عنه بقوله : «لكن النبويّ المحكيّ في كلام الإمام عليه‌السلام مختصّ بثلاثة من التسعة ، فلعلّ نفي جميع الآثار مختصّ بها ، فتأمّل». فرائد الاصول ٢ : ٢٩.

ولا يخفي أيضا : أنّ ما أفاده المصنّف رحمه‌الله في المقام ـ من دعوى عدم الوجه لتقدير خصوص المؤاخذة ـ ينافي ما أفاده في حاشية الرسائل ـ من دعوى إمكان تصحيح تقدير خصوص المؤاخذة ـ ، حيث أورد على ذلك الاستظهار بقوله : «ما يظهر من الخبر لا ينافي تقدير خصوص المؤاخذة مع تعميمها إلى ما كانت مترتّبة عليها بالواسطة ، كما في الطلاق والصدقة والعتاق ، فإنّها مستتبعة إيّاها بواسطة ما يلزمها من حرمة الوطي في المطلّقة ومطلق التصرّف في الصدقة والعتاق». حاشية الرسائل : ١١٦ ـ ١١٧.

(١) توضيحه : أنّ الحكم الثابت للموضوع تارة يكون ثابتا له بوصف العمد أو الذكر أو الاختيار ، كوجوب الكفّارة المترتّب على الإفطار العمديّ ؛ واخرى يكون ثابتا له بوصف الخطأ أو النسيان أو الاضطرار أو الإكراه ، كوجوب الكفّارة الثابت للقتل خطأ ، ووجوب سجدتي السهو الثابت لترك بعض أجزاء الصلاة نسيانا ؛ وثالثة يكون ثابتا له بما هو وبعنوانه الأوّلي ، لا بوصف العمد أو الذكر أو الاختيار ، ولا بوصف النسيان أو الخطأ أو الاضطرار أو الإكراه ، كحرمة شرب الخمر ووجوب الصوم وغيرهما من الأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأوّليّة.

وذهب المصنّف رحمه‌الله ـ تبعا للشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٢ : ٣٢ ـ إلى أنّ المرفوع بحديث الرفع إنّما هو الأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأوّليّة قطع النظر عن طروء صفة الاضطرار أو الخطأ أو النسيان أو الإكراه ، فهذه الأوصاف رافعة للأحكام الثابتة لها بعناوينها الأوّليّة ، لا ما كان ثابتا لها بعد طروء العناوين الثانويّة.

أمّا الأحكام الثابتة لها بوصف العمد أو الذكر أو الاختيار : فلأنّها ترتفع قهرا بانتفاء موضوعها ، من دون حاجة إلى حديث الرفع ، ضرورة أنّه إذا كان موضوع الحكم مقيّدا ـ

٢٣

لا يقال : كيف! وإيجاب الاحتياط فيما لا يعلم وإيجاب التحفّظ في الخطأ والنسيان يكون أثرا لهذه العناوين (١) بعينها وباقتضاء نفسها (٢).

__________________

ـ بقيد العمد ـ مثلا ـ ينتفي ذلك الموضوع بانتفاء قيده ، وينتفي الحكم أيضا بانتفاء موضوعه قهرا ، فمع الخطأ وعدم العمد يرتفع الحكم بنفسه ، ولا حاجة في ارتفاعه إلى التمسّك بحديث الرفع.

وأمّا الأحكام الثابتة للموضوعات بوصف النسيان أو الخطأ أو الاضطرار أو الإكراه : فلا يتكفّلها حديث الرفع ، لأنّ الظاهر من حديث الرفع أنّ هذه العناوين الثانويّة موجبة لرفع الحكم عن الموضوع ، وهو ـ أي رفع الحكم ـ يتفرّع على ثبوت الحكم المرفوع للموضوع قبل طروء هذه العناوين كي يكون طروّها له موجبا لرفعه.

وأمّا الحكم الثابت له بالعناوين الثانويّة ـ بمعنى أنّ هذه العناوين موجبة لثبوته للموضوع ـ : فلا يعقل ارتفاعه بحديث الرفع ، لاستلزامه أن يكون العنوان الواحد ـ كعنوان «المضطرّ إليه» ـ مقتضيا لعدم الحكم ومقتضيا لثبوته في آن واحد ، وهو من اجتماع المتنافيين. فليس حديث الرفع ظاهرا في رفع الحكم الثابت للموضوع بالعنوان الثانويّ ، بل هو ظاهر في رفع الحكم الثابت له بعنوانه الأوّليّ لأجل طروء هذه العناوين الثانويّة.

وهذا المطلب ذكره المحقّقان النائينيّ والعراقيّ بالبيان المذكور ملخّصا. فوائد الاصول ٣ : ٣٤٨ ، نهاية الأفكار ٣ : ٢١٣.

وأوضحه المحقّق الاصفهانيّ ببيان آخر. وهو : أنّ حديث الرفع ورد مورد الامتنان ، وهذا يقتضي أن تكون الجهات الموجبة للامتنان ـ برفع الأحكام والآثار ـ نفس هذه العناوين المأخوذة في الخبر من الجهل والنسيان والاضطرار وغيرها ، فإذا كانت هذه العناوين مقتضية لرفع تلك الأحكام فلا محالة ليست بما هي مقتضية لثبوتها ، إذ لا يعقل أن يكون العنوان الواحد مقتضيا لطرفي النقيض. نهاية الدراية ٢ : ٤٤٢.

(١) أي : العناوين الثانويّة من الجهل والخطأ والنسيان.

(٢) توضيح الإشكال : أنّه لا شكّ أنّ إيجاب الاحتياط ليس من آثار الموضوع بعنوانه الأوّليّ ، بل هو من آثاره بعنوانه الثانويّ ـ أي كون الموضوع مجهول الحكم ـ ؛ وكذا إيجاب التحفّظ ليس من آثار الموضوع بعنوانه الأوّلي ، بل هو من آثار الخطأ والنسيان. وما ذكرتم من أنّ حديث الرفع إنّما يرفع آثار الموضوع بعنوانه الأوّلى ، لا آثاره بعنوانه الثانويّ ، يقتضي أن لا يرفع إيجاب الاحتياط وإيجاب التحفّظ ، إذ هما ليسا من آثار الموضوع بعنوانه الأوّلى ، بل هما من آثاره بعنوانه الثانويّ ـ أي الجهل والخطأ والنسيان ـ ، مع أنّ حديث الرفع يرفع إيجاب الاحتياط والتحفّظ ، كما لا يخفى. ـ

٢٤

فإنّه يقال : بل إنّما يكون باقتضاء الواقع في موردها ، ضرورة أنّ الاهتمام به يوجب إيجابهما ، لئلّا يفوت على المكلّف ، كما لا يخفى (١).

__________________

ـ وبتعبير آخر : أنّ لكم دعويين متناقضين :

الاولى : أنّ حديث الرفع إنّما يدلّ على رفع آثار الموضوع بعنوانه الأوّليّ. وهذا يقتضي عدم دلالته على رفع إيجاب الاحتياط في الموضوع المجهول حكمه الواقعيّ ، لأنّ إيجاب الاحتياط من آثار الموضوع بعنوانه الثانويّ ـ وهو كونه مجهول الحكم ـ.

الثانية : أنّ حديث الرفع يدلّ على رفع التكليف الواقعيّ في ظرف الجهل ظاهرا ، ولمّا كان ثبوت التكليف الواقعيّ في ظرف الجهل مقتضيا لإيجاب الاحتياط فيقتضي رفعه في ظرف الجهل ارتفاع إيجاب الاحتياط. وعليه فالدليل على رفع التكليف الواقعيّ دليل على رفع إيجاب الاحتياط. فإذا حديث الرفع يدلّ على رفع إيجاب الاحتياط الّذي كان ثابتا للموضوع بعنوانه الثانويّ. وكذا الكلام في إيجاب التحفّظ.

ومعلوم أنّ الدعوى الثانية تنافي الدعوى الاولى.

وبالجملة : أنّ الدعوى الثانية دليل واضح على عدم صحّة الدعوى الاولى ، فلا يخصّ حديث الرفع برفع آثار الموضوع بعنوانه الأوّلى ، بل يرفع آثاره بعنوانه الثانويّ أيضا.

(١) توضيحه : أنّ إيجاب الاحتياط ليس من آثار الجهل بالتكليف كي يقال : «أنّه من آثار الموضوع بعنوانه الثانويّ» ، بل هو من آثار ثبوت التكليف الواقعيّ الناشئ عن ثبوت المصلحة في متعلّقه ، فإنّ اهتمام الشارع به وعدم رضائه بتركه حتّى في ظرف الجهل به يوجب إيجاب الاحتياط لئلّا تفوت المصلحة على المكلّف. فإذا دلّ دليل على رفع التكليف الواقعيّ في ظرف الجهل ظاهرا ، دلّ على عدم اهتمام الشارع به في ظرف الجهل ورضائه بتركه في الحال ، فيدلّ على رفع إيجاب الاحتياط الّذي يقتضيه ثبوت التكليف في عالم الواقع وعدم رضاء الشارع بتركه حتّى في حال الجهل. وكذا الحال في إيجاب التحفّظ.

وعليه يرجع الضمير في قوله : «في موردها» إلى الجهل والخطأ والنسيان. وفي قوله : «يوجب إيجابهما» إلى الاحتياط والتحفّظ.

تتمّة :

لا يخفى : أنّ في المقام مباحث أخر حول دلالة حديث الرفع ، لم يتعرّض لها المصنّف رحمه‌الله هنا. فنشير إليها إجمالا.

منها : أنّ حديث الرفع هل يشمل الامور العدميّة أم يشمل الوجوديّات فقط؟ مثلا : لو نذر شخص أن يشرب من ماء دجلة فاكره على الترك أو اضطرّ إليه أو نسى أن يشرب ـ وقلنا بعدم اختصاص الكفّارة بصورة تعمّد الحنث ـ هل يمكن التمسّك بحديث الرفع وإثبات ـ

٢٥

ومنها : حديث الحجب (١).

__________________

ـ عدم وجوب الكفّارة أم لا؟.

ذهب المحقّق العراقيّ والسيّد الإمام الخمينيّ إلى الأوّل. نهاية الأفكار ٣ : ٢١٩ ، وتهذيب الاصول ٢ : ١٥٩.

وذهب المحقّق النائينيّ إلى الثاني معلّلا بأنّ ظاهر الحديث تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود. فوائد الاصول ٣ : ٣٥٢ ـ ٣٥٣.

ومنها : أنّه لا شكّ في شمول الحديث للأحكام الاستقلاليّة ، فيرفع وجوب الإمساك على الصائم لو اكره على تركه أو اضطرّ إليه أو نسيه ، ويرفع حرمة شرب الخمر فيما اكره على شربه أو اضطرّ إليه أو شربه نسيانا. إنّما الكلام في الأحكام الضمنيّة ـ كما لو اضطرّ المكلّف إلى ترك بعض أجزاء الصلاة أو اكره عليه أو نسي جزئيّته فتركه ـ فهل يشملها حديث الرفع فيرفع التكليف الضمنيّ المتعلّق بالجزء أو الشرط أم لا يشملها؟

ذهب بعضهم إلى الأوّل ، وبعض آخر إلى الثاني ، وبعض آخر إلى التفصيل. راجع نهاية الأفكار ٣ : ٢١٧ ، فوائد الاصول ٣ : ٣٥٣ ، أنوار الهداية ٢ : ٥٣ ـ ٦١ ، مصباح الاصول ٢ : ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

ومنها : أنّ حديث الرفع هل يشمل الأحكام الوضعيّة كما يشمل الأحكام التكيفيّة أم لا؟ فبناء على الشمول يرفع وجوب الكفّارة على المكلّف فيما إذا اضطرّ إلى الإفطار في نهار شهر رمضان كما يرفع حرمة الإفطار. وبناء على عدم الشمول إنّما يرفع حرمة الإفطار ولا يرفع وجوب الكفّارة.

والأكثر على الأوّل.

ومنها : أنّه هل يشمل موارد سوء الاختيار أم لا؟ ذهب المحقّق العراقيّ إلى الثاني. نهاية الأفكار ٣ : ٢١٨.

ومنها : أنّ حديث الرفع هل يشمل جميع موارد الجهالة ـ من الجهالة تقصيرا وقصورا ، والجهالة قبل الفحص وبعده ـ أم يشمل خصوص بعض الموارد؟

ومنها : أنّ الحديث هل يختصّ بموارد الشكّ في التكاليف الإلزاميّة أم يعمّ موارد الشكّ في التكاليف غير الإلزاميّة؟

هذه أهمّ المباحث المتعلّقة بحديث الرفع. وتوضيح ما أفاده الأعلام حول هذه المباحث من الأقوال والمناقشات يحتاج إلى بحث أوسع لسنا بصدده. وعلى الطالب المحقّق أن يراجع عنه تقريرات بعض المعاصرين ، فراجع فوائد الاصول ٣ : ٣٣٦ ـ ٣٦٢ ، ونهاية الأفكار ٣ : ٢٠٩ ـ ٢٢٦ ، ومصباح الاصول ٢ : ٢٥٧ ـ ٢٧١ ، وأنوار الهداية ٢ : ٣٣ ـ ٦٩.

(١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم». التوحيد : ٤١٣ ؛ ـ

٢٦

وقد انقدح تقريب الاستدلال به ممّا ذكرنا في حديث الرفع (١).

__________________

ـ وسائل الشيعة ١٨ : ١١٩ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٨.

ورواه في الكافي هكذا : «ما حجب الله عن العباد فهو موضوع منهم». الكافي ١ : ١٦٤.

وفي بعض الكتب : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ، حتّى يعرّفوه». تحف العقول: ٣٦٥ ، بحار الأنوار ٧٥ : ٢٤٨.

(١) لا يخفى : أنّ تقريب الاستدلال به يتوقّف على بيان المراد من مفردات الحديث. وهي ثلاثة :

١ ـ «ما» ، فإنّ المحتمل في المراد به في قوله : «ما حجب» وجوه :

الأوّل : أن يكون المراد به كلّ حكم أو موضوع ذي حكم ، لعموم الموصول. وهذا ظاهر كلام المصنّفرحمه‌الله. وذهب إليه السيّد المحقّق الخوئيّ في مصباح الاصول ٢ : ٢٧١.

الثاني : أن يكون المراد به ـ بقرينة إسناد الحجب إلى الله تعالى ـ خصوص الحكم الشرعيّ ، فإنّ استناد الحجب إليه يختصّ بالأحكام الّتي كان رفع الجهل عنها من مقتضيات تكليفه تعالى. وهذا ما احتمله المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار : ٢٢٦.

الثالث : أن يكون المراد بالموصول بعض الموضوعات الخارجيّة الّتي تقتضي المصلحة عدم علم العباد بها ، كوقت ظهور الإمام الثاني عشر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) وقيام الساعة والقيامة وليلة القدر وغيرها. والدليل عليه أنّه سبحانه لم يحجب شيئا من الأحكام الشرعيّة على العباد ، بل بيّنها جميعا ، كما هو مقتضى إكمال الدين وإتمام النعمة.

الرابع : أن يكون المراد خصوص الحكم الوجوبيّ ، فيختصّ الحديث بالشبهة الوجوبيّة ، بقرينة قوله : «موضوع عنهم» ، فإنّ الواجب هو الفعل الثابت القابل للرفع ، وأمّا الحرام فالمكلّف مزجور عنه ، لا أنّه ثابت عليه. وهذا ما ذهب إليه الشيخ الحرّ العامليّ في وسائل الشيعة ١٨ : ١١٩ ـ ١٢٠.

الخامس : أن يكون المراد بالموصول من كان محجوبا عن الحكم ، كما أنّ المراد من الموصول في قوله : «رفع ما لا يعلمون» كلّ من لا يعلم الحكم ، فإنّ الظاهر من قوله : «موضوع عنهم» أنّ الحكم المجهول المجعول بحسب الواقع موضوع عن الجاهل. وهذا ما اختاره السيّد الإمام الخمينيّ في أنوار الهداية ٢ : ٧٠ ـ ٧١ وتهذيب الاصول ٢ : ٢٣٧.

٢ ـ «حجب الله علمه» ، إنّ الحجب في اللغة هو الستر أو المنع. والمراد منه في الحديث أحد الوجهين:

الأوّل : أن يكون المراد أنّ الله لم يبيّن الحكم أو الموضوع للعباد ، ولم يأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الأئمّة عليه‌السلام بتبليغه إليهم ، لبعض المصالح. وهذا ما استظهره الشيخ الأنصاريّ بقرينة إسناد الحجب إلى الله تعالى. فرائد الاصول ٢ : ٤١. ـ

٢٧

__________________

ـ ومال إليه المصنّف رحمه‌الله في المقام حيث تعرّض لما أفاده الشيخ إشكالا على الاستدلال بالحديث ولم يردّه.

واختاره المحقّق النائينيّ في أجود التقريرات ٢ : ١٨١ ، بل هو ظاهر كلام المحقّق الأصفهانيّ في نهاية الدراية ٢ : ٤٤٥ ـ ٤٤٦.

الثاني : أن يكون المراد أنّ الله بلّغ الحكم أو الموضوع إلى الناس وبيّن لهم ، ولكنّه خفي عليهم ولم يصل إليهم لبعض الأسباب ، كظلم الظالمين ووقوع المهالك العامّة وسدّ باب الإمامة والولاية وغيرها. وهذا ما اختاره السيّدان العلمان ـ الإمام الخمينيّ والسيّد الخوئيّ ـ بعد تصحيح استناد الحجب إلى الله والجواب عن الشيخ الأنصاريّ. راجع أنوار الهداية ٢ : ٧٠ ـ ٧١ ، مصباح الاصول ٢ : ٢٧١.

٣ ـ «العباد» ، وفيه وجهان :

الأوّل : أن يكون المراد مجموع المكلّفين بما هو مجموع ، فيكون المجموع موضوعا واحدا ، فلا يرتفع التكاليف عن العباد إلّا إذا كانت مستورة على جميعهم ، فإن كان حكم مستورا عن بعض لا عن الكلّ فلا يكون مرفوعا حتّى بالنسبة إلى الجاهلين.

الثاني : أن يكون المراد به طبيعيّ العباد ، بحيث إذا كان الحكم مستورا عن بعض يرفع عنهم ولو كان معلوما لغيره من سائر المكلّفين ، وإذا كان مستورا عن الجميع يرفع عن الجميع.

إذا عرفت هذه المقدّمة ، فاعلم أنّ بعض الوجوه المحتملة في المفردات يوجب أن يكون الحديث أجنبيّا عن أدلّة البراءة ، وبعضها يوجب كونه أخصّ من المدّعي ، وبعضها يوجب كونه تامّ الدلالة على المدّعي.

فالتحقيق يستدعي الكلام في مقامات ثلاثة :

المقام الأوّل : الوجوه الّتي توجب كون الحديث أجنبيّا عن أدلّة البراءة. وهي ما يلي :

١ ـ أن يكون المراد بالموصول في قوله : «ما حجب» هو الاحتمال الثالث ، أي يكون المراد به بعض الموضوعات الخارجيّة الّتي لا ترتبط بالأحكام الشرعيّة ، كوقت ظهور الإمام الثاني عشر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف). والوجه في ذلك واضح.

٢ ـ أن يكون المراد بالحجب هو الاحتمال الأوّل من الاحتمالين المذكورين ، فيكون المراد به أنّ الله لم يبيّن الحكم أو الموضوع للعباد ، لبعض المصالح ، بقرينة استناد الحجب إليه تعالى. وذلك لأنّ النزاع بين الاصوليّين والأخباريّين في الأحكام الّتي بيّنها الله تعالى للعباد ولم تصل إليهم لبعض الأسباب ، لا في الأحكام الّتي لم يبيّنها لهم لوجود مصالح ـ

٢٨

__________________

ـ في بقاءها في مرتبة الإنشاء.

ولكن لا يخفى : أنّ كلا الوجهين مخدوش :

أمّا الأوّل : فلأنّه غير مناسب لذيل الحديث ـ أي قوله : «فهو موضوع عنهم» ـ ، فإنّ الوضع والرفع إنّما يناسب ما يكون قابلا لهما ، وتلك الامور الخارجيّة ليست كذلك. مضافا إلى أنّ عدم وصول بعض الأحكام لبعض الأسباب لا ينافي إكمال الدين وإتمام النعمة ، فإنّ الشارع بيّن وظيفة المكلّف في ظرف عدم وصول الأحكام بإيجاب الاحتياط أو جريان البراءة.

وأمّا الثاني : ـ وهو الّذي استظهره الشيخ الأنصاريّ وتبعه بعض المتأخّرين ـ فأجاب عنه السيّدان العلمان بدعوى إمكان تصحيح إسناد الحجب إليه تعالى ولو كان المراد من الحجب هو الاحتمال الثاني.

أمّا السيّد الإمام الخمينيّ : فأفاد ما حاصله : أنّ السبب لخفاء الأحكام الّتي بيّنها الله تعالى بلسان رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه هو الجهات الخارجيّة والأسباب الطبيعيّة ، كوقوع المهالك العامّة ـ نظير الزلزلة والحريق والغرق ـ. وهذه الامور ممّا تنسب إلى الله تعالى ، كما ينسب إليه أنّه المحيي والمميت والضارّ والنافع. فقوله : «كلّ ما حجب الله علمه عن العباد» أي : كلّ حكم يكون المكلّف محجوبا عنه لا بتقصير منه ـ بل بواسطة امور خارجة عن قدرته ـ فهو موضوع عنه. أنوار الهداية ٢ : ٧٠ ـ ٧١.

وأمّا السيّد المحقّق الخوئيّ : فأفاد بما حاصله : أنّ الموجب لخفاء الأحكام الّتي بيّنها الشارع وإن كان هو الظالمين ، إلّا أنّه تعالى قادر على بيانها بأن يأمر المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) بالظهور وبيان الأحكام ، فحيث لم يأمره بالبيان ـ لحكمة لا يعلمها إلّا هو ـ صحّ إسناد الحجب إليه تعالى. وكذا الحال في الشبهات الموضوعيّة ، فإنّ الله تعالى قادر على إعطاء مقدّمات العلم الوجداني لعباده ، فمع عدم الإعطاء صحّ إسناد الحجب إليه تعالى. مصباح الاصول ٢ : ٢٧٢.

المقام الثاني : الوجوه الّتي توجب كون الحديث أخصّ من المدّعى. وهي ما يلي :

١ ـ أن يكون المراد بالموصول ـ بقرينة إسناد الحجب إليه تعالى ـ خصوص الحكم الشرعيّ ، حيث أنّ استناد الحجب إليه يختصّ بالأحكام الّتي كان رفع الجهل عنها من مقتضيات تكليفه تعالى. فحينئذ يدلّ على البراءة في خصوص الشبهات الحكميّة.

٢ ـ أن يكون المراد به خصوص الحكم الوجوبيّ ـ كما أفاده الشيخ الحرّ العامليّ ـ ، فيختصّ الحديث بالشبهة الوجوبيّة.

٣ ـ أن يكون المراد من العباد مجموع المكلّفين بما هو مجموع. فيختصّ الحديث بما ـ

٢٩

__________________

ـ إذا كان الحكم مستورا عن جميع العباد ، فلا يشمل ما إذا كان الحكم مستورا عن بعضهم ـ لا عن الكلّ ـ ، فلا يرفع حتّى بالنسبة إلى الجاهلين.

ولكن لا يخفى : أنّ الكلّ مخدوش :

أمّا الأوّل : فلأنّ مقتضى عموم الحديث شموله للشبهات الموضوعيّة أيضا. ولا وجه لتوهّم اختصاصه بإحدى الشبهتين. واستناد الحجب إليه تعالى وإن كان يختصّ بالأحكام المجهولة ، إلّا أنّ منشأ الجهل بها قد يكون فقدان النص أو إجماله ـ كما في الشبهات الموضوعيّة ـ وقد يكون الاشتباه في الامور الخارجيّة ـ كما في الشبهات الموضوعيّة ـ ، وبهذا الاعتبار يشمل الحديث كلتا الشبهتين.

وأمّا الثاني : فأجاب عنه المحقّق الاصفهانيّ في نهاية الدراية ٢ : ٤٤٧ ـ ٤٤٨. وحاصل ما أفاده : أنّ التكليف اللزوميّ بملاحظة ثقله على المكلّف يكون على المكلّف ؛ ولذا كما يتعدّى الوجوب بحرف الاستعلاء بالإضافة إلى المكلّف فيقال : «لا يجب عليه» كذلك الحرمة تتعدّى به بالإضافة إليه فيقال : «يحرم عليه».

كما تشهد الاستعمالات القرآنيّة حتّى في المحرّمات التكوينيّة ، كقوله تعالى : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) القصص / ١٢ ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) الأعراف / ٥٠ ، إلى غير ذلك.

وأمّا الثالث : فلأنّه لا يعقل أن يكون جهل بعض الأشخاص دخيلا في رفع الحكم عن الآخرين ، كما لا يعقل أن يكون علم بعضهم بالأحكام دخيلا في ثبوته للآخرين.

المقام الثالث : الوجوه الّتي توجب كون الحديث تامّ الدلالة على المدّعى. وهي ما يلي :

١ ـ أن يكون المراد بالموصول في «ما حجب» كلّ حكم أو موضوع ذي حكم. وأن يكون المراد بالحجب أنّ الله بلّغ الأحكام وبيّنها للناس ، لكنّها خفيت على العباد لبعض الأسباب الخارجيّة. وأن يكون المراد من العباد طبيعيّ العباد الصادق على البعض والكلّ. وهذا ما أفاده السيّد لمحقّق الخوئيّ في مصباح الاصول ٢ : ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٢ ـ أن يكون المراد بالموصول في «ما حجب» كلّ من كان محجوبا عن الحكم. وأن يكون المراد بالحجب والعباد ما مرّ في الوجه السابق. وهذا ما أفاده السيّد الإمام الخميني في أنوار الهداية ٢ : ٧٠ ـ ٧١.

وبالجملة : فيمكن الاستدلال بالحديث على البراءة بأحد تقريبين :

الأوّل : أنّ الحديث يدلّ على أنّ الأحكام الّتي بيّنها الله تعالى للعباد وخفيت عليهم لإخفاء الظالمين وغيره من الأسباب الشرعيّة مرفوعة عنهم في ظرف الجهل بها. فيدلّ على البراءة. ـ

٣٠

إلّا أنّه ربما يشكل بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من التكليف ، بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلّقت عنايته تعالى بمنع اطّلاع العباد عليه لعدم أمر رسله بتبليغه ، حيث إنّه بدونه لما صحّ إسناد الحجب إليه تعالى (١).

ومنها : [حديث الحلّ]

قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه ...» الحديث (٢). حيث دلّ على حلّيّة ما لم تعلم (٣) حرمته مطلقا (٤) ، ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته.

__________________

ـ الثاني : أنّه يدلّ على أنّ كلّ حكم يكون المكلّف محجوبا عنه لا بتقصير منه ـ بل بالأسباب الخارجة عن قدرته ـ فهو مرفوع عنه.

(١) هذا الإشكال من الشيخ الأعظم الانصاريّ في فرائد الاصول ٢ : ٤١. وتبعه على ذلك المحقّق النائينيّ في أجود التقريرات ٢ : ١٨١. وأوضحه المحقّق الاصفهانيّ ببيان آخر في نهاية الدراية ٢ : ٤٤٥ ـ ٤٤٦.

(٢) لا يخفى : أنّ الحديث لم يوجد بهذا النص في جوامع الأخبار ، بل هو مضمون روايات الحلّ ، وهي كثيرة :

منها : رواية عبد الله بن سنان ، عن الصادق عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه». وسائل الشيعة ١٢ : ٥٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث١.

ومنها : رواية عبد الله بن سليمان ، قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ... قال : «سأخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف بعينه فتدعه». وسائل الشيعة ١٧ : ٩١ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ١.

ومنها : موثّقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ...». وسائل الشيعة ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٣) وفي بعض النسخ : «ما لم يعلم». والأولى ما أثبتناه.

(٤) سواء كان منشأ الجهل فقدان النص ـ كما في الشبهات الحكميّة ـ أو كان منشؤه الاشتباه في الامور الخارجيّة ـ كما في الشبهات الموضوعيّة ـ ، وسواء كانت الشبهة تحريميّة أم وجوبيّة. ـ

٣١

__________________

ـ ثمّ لا يخفى : أنّ الأعلام من المحقّقين من المعاصرين اختلفوا في دلالة الحديث على البراءة وعدمه. فمنهم من خالفه وذهب إلى اختصاصه بالشبهة الموضوعيّة ، كالمحقّق النائينيّ والمحقّق الاصفهانيّ والسيّد الخوئيّ ؛ ومنهم من خالفه في موضع ووافقه فى موضع آخر ، كالمحقّق العراقيّ ؛ ومنهم من خالفه في جهة ووافقه في جهة اخرى ، كالسيّد الإمام الخمينيّ.

أمّا المحقّق النائينيّ : فأفاد ما حاصله : أنّ الحديث لا يدلّ على البراءة في الشبهة الحكميّة ، إذ فيه قرينتان تقتضيان اختصاصه بالشبهة الموضوعيّة :

إحداهما : كلمة «فيه» ـ أو «منه» على اختلاف النسخ ـ في قوله : «فيه حلال وحرام» ، فإنّها ظاهرة في الانقسام الفعليّ ، بمعنى كون الشيء بالفعل منقسما إلى الحلال والحرام ، بأن يكون قسم منه حلالا وقسم منه حراما واشتبه الحلال منه بالحرام ولم يعلم أنّ المشكوك فيه من القسم الحلال أو من الحرام ، كاللحم المشكوك كونه من الميتة أو المذكّى ، فإنّ اللحم بالفعل منقسم إلى ما يكون حلّا وما يكون حراما. وذلك لا يتصوّر إلّا في الشبهات الموضوعيّة كما مثّلنا. وأمّا الشبهات الحكميّة فلا تكون القسمة فيها فعليّة ، بل إنّما تكون القسمة فيها فرضيّة ، بمعنى احتمال الحرمة والحلّيّة ، فإنّ شرب التتن المشكوك حلّيّته وحرمته ليس له قسمان : قسم حلال وقسم حرام ، بل هو إمّا أن يكون حراما وإمّا أن يكون حلالا ، فلا يصحّ أن يقال : إنّ شرب التتن فيه حلال وحرام. فكلمة «فيه» ظاهرة في اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعيّة.

وثانيتهما : كلمة «بعينه» ، حيث قال : «حتّى تعرف أنّه حرام بعينه» ، فإنّ معرفة الشيء بعينه إنّما يكون في الموضوعات الخارجيّة ، إذ لا يتصوّر العلم بالحرام لا بعينه في الشبهات الحكميّة ، ضرورة أنّه لا معنى لأن يقال : «حتّى تعرف الحكم بعينه». فوائد الاصول ٣ : ٣٦٣ ـ ٣٦٤.

وصرّح المحقّق الاصفهانيّ باختصاصه بالشبهة الموضوعيّة بقرينة أنّ الإمام عليه‌السلام طبّق القضيّة الكلّيّة «كلّ شيء هو لك حلال ...» على الشبهة الموضوعيّة بقوله عليه‌السلام : «وذلك مثل ...». نهاية الدراية ٢ : ٤٤٩.

والمحقّق الخوئيّ تبع هذين العلمين وأفاد ما أفاداه. مصباح الاصول ٢ : ٢٧٣ ـ ٢٧٧.

وأمّا المحقّق العراقيّ : فوافق المصنّف رحمه‌الله على ما في تقريرات درسه «نهاية الأفكار» وما في «مقالات الاصول» ، فإنّه تعرّض فيهما للقرينة الاولى من القرينتين اللتين ذكرهما المحقّق النائينيّ ودفع قرينيّتها بدعوى إمكان تصوّر الانقسام الفعليّ في الشبهات الحكميّة أيضا ، كما في كلّيّ اللحم ، فإنّا إذا علمنا بحلّيّة لحم نوع من الحيوان ـ كالغنم ـ فيحكم بحليّته ، وإذا علمنا بحرمة لحم نوع آخر من الحيوان ـ كالأرنب ـ فيحكم بحرمته ، وإذا شككنا ـ

٣٢

وبعدم الفصل قطعا بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط فيه (١) وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبيّة يتمّ المطلوب (٢) ؛ مع إمكان أن يقال : «ترك

__________________

ـ في لحم نوع ثالث من الحيوان ـ كالحمير ـ فيحكم بحلّيّته ما لم يعلم أنّه حرام بمقتضى هذا الحديث ، إذ يصدق عليه أنّ فيه حلالا وحراما. نهاية الأفكار ٣ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، مقالات الاصول ٢ : ١٧٣.

ودفع أيضا قرينيّة القرينة الثانية الّتي ذكرهما المحقّق النائينيّ ، فقال في هامش فوائد الاصول : «معنى معرفة الحرام بعينه تشخيص الحرام من الحلال ، لا تشخيصه خارجا ، فلا قصور في شمول الحديث ـ لو لا الأمثلة في ذيلها ـ للشبهات الحكميّة. هذا مع إمكان حمل «بعينه» على بيان التأكيد لموضوع الحرمة وأنّه حقيقة معروضها ، لا أنّه من توابع المعروض ، فيرتفع حينئذ الإشكال رأسا». راجع هامش فوائد الاصول ٣ : ٣٦٤.

هذا كلّه بالنسبة إلى القرينتين اللّتين ذكرهما المحقّق النائينيّ. وأمّا القرينة الّتي ذكرها المحقّق الاصفهانيّ : فالظاهر من كلام المحقّق العراقيّ في هامش فوائد الاصول أنّه سلّم قرينيّتها ، لكن لا على اختصاصها بالشبهات الموضوعيّة ، بل على عدم دلالة الحديث على البراءة ، فقال : «نعم ، العمدة في هذه الرواية الأمثلة الواقعة في ذيلها. والّذي يسهل الخطب أنّ هذه الأمثلة لا يناسب قاعدة الحلّيّة ، حتّى على اختصاصها بالشبهات الموضوعيّة ، فلا بدّ من التفصّي عنها على كلا التقديرين ، كما لا يخفى». راجع هامش فوائد الاصول ٣ : ٣٦٤.

وبالجملة : فالمحقّق العراقيّ وافق المصنّف رحمه‌الله على ما في نهاية الأفكار ومقالات الاصول ، وخالفه على ما في هامش فوائد الاصول.

وأمّا السيّد الإمام الخمينيّ : فوافق المصنّف رحمه‌الله في تعميم مدلول الحديث للشبهات الحكميّة ، لعدم قرينيّة قوله عليه‌السلام : «بعينه» على اختصاصه بالشبهات الموضوعيّة ، فإنّه تأكيد لقوله عليه‌السلام : «تعرف» ، ومفاده كناية عن وقوف المكلّف على الأحكام وقوفا علميّا. وخالفه في تعميمه للشبهات التحريميّة البدويّة ، بدعوى ظهور قوله عليه‌السلام : «بعينه» في مقابل المعلوم بالإجمال ، فيكون الحديث بعدد الترخيص في ارتكاب أطراف المعلوم بالإجمال حتّى يعرف بعينه ـ أي تفصيلا ـ ، ويكون وزانه وزان قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه» ، فإنّ مفاده الترخيص في التصرّف بالمال المختلط بالحرام.

وعليه فيكون الحديثان أجنبيّين عن الشبهات التحريميّة البدويّة. راجع تهذيب الاصول ٢ : ٢٤١ و ٣١٣ ، أنوار الهداية ٢ : ٧٢ ـ ٧٤.

(١) هذا الضمير وضمير «إباحته» راجعان إلى ما لم يعلم حرمته.

(٢) والأولى سوق العبارة هكذا : «يتمّ المطلوب بعدم الفصل بين إباحة الشيء المشكوك ـ

٣٣

ما احتمل وجوبه ممّا لم يعرف حرمته فهو حلال» (١) ، تأمّل (٢).

ومنها : [حديث السعة]

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الناس في سعة ما لا يعلمون» (٣).

فهم في سعة ما لم يعلم أو ما دام لم يعلم وجوبه أو حرمته (٤) ؛ ومن الواضح أنّه

__________________

ـ حرمته وعدم وجوب الاحتياط في الشبهة التحريميّة وبين إباحة الشيء المشكوك وجوبه وعدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبيّة».

(١) والحاصل : أنّ الحديث وإن كان بحسب ظهوره الأوّلي مختصّا بالشبهة التحريميّة ، إلّا أنّه يمكن تعميم الحكم للشبهة الوجوبيّة بأحد وجهين :

الأوّل : عدم الفصل قطعا بين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة التحريميّة وعدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبيّة.

الثاني : أنّ ترك ما احتمل وجوبه محتمل الحرمة ، إذا الترك على تقدير الوجوب محرّم ، فيكون ترك الواجب المحتمل من مصاديق ما لم يعرف حرمته ، فيشمله الحديث ويحكم بحلّيّته.

(٢) قال المحقّق الاصفهانيّ : «وجهه أنّ كلّ حكم إيجابيّ أو تحريميّ لا ينحلّ إلى حكمين إيجابيّ وتحريميّ فعلا وتركا ، بل ترك الواجب ـ من حيث أنّه ترك الواجب ـ يستحقّ عليه العقاب ، لا أنّه حرام. وكذلك في طرف الحرام». نهاية الدراية ٢ : ٤٤٩.

(٣) لم أجد الحديث بهذا النص في جوامع الحديث.

نعم ، رواه ابن أبي جمهور في عوالي اللئالي هكذا : وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الناس في سعة ما لم يعلموا». عوالى اللئالي ١ : ٤٢٤.

ورواه السكونيّ عن أبي عبد الله ، عن أمير المؤمنين عليهما‌السلام ذيل رواية السفرة المرويّة بألفاظ ثلاثة :

أحدها : قوله عليه‌السلام : «هم في سعة حتّى يعلموا» ، كما في وسائل الشيعة ١٧ : ٣٧٢ ، الباب ٢٣ من كتاب اللقطة ، الحديث ١.

وثانيها : قوله عليه‌السلام : «هم في سعة من أكلها ما لم يعلموا حتّى يعلموا» ، كما في الجعفريّات : ٢٧.

وثالثها : قوله عليه‌السلام : «هم في سعة ما لم يعلموا» ، كما في نوادر الراونديّ : ٥٠.

(٤) إشارة إلى أنّ في الحديث وجهين :

الأوّل : أن تكون كلمة «ما» موصولة ، اضيفت إليها كلمة «سعة». وعليه يكون مفاد الحديث : «إنّ الناس في سعة الّذي لا يعلمون».

٣٤

لو كان الاحتياط واجبا لما كانوا في سعة أصلا ، فيعارض به ما دلّ على وجوبه ، كما لا يخفى (١).

لا يقال : قد علم به (٢) وجوب الاحتياط (٣).

فإنّه يقال : لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد ، فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله؟ نعم لو كان الاحتياط واجبا نفسيّا كان وقوعهم في ضيقه بعد العلم بوجوبه ؛ لكنّه عرفت أنّ وجوبه كان طريقيّا لأجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحيانا (٤) ،

__________________

ـ الثاني : أن تكون كلمة «ما» ظرفيّة ، ويكون لفظ «سعة» منوّنا ، وعليه يكون مفاده : «الناس في سعة ما داموا لا يعلمون».

(١) ظاهر كلام المصنّف رحمه‌الله أنّ الحديث يدلّ على البراءة على كلا الوجهين ، لأنّه يدلّ على أنّ الناس في سعة وتخفيف من جهة التكليف الواقعيّ الّذي لا يعلمونه ، أو أنّهم في سعة وتخفيف ما داموا لا يعلمون التكليف الواقعيّ. فيعارض أدلّة الاحتياط ، لأنّها تقتضي الضيق حال الجهل.

(٢) أي : بما دلّ على وجوب الاحتياط.

(٣) هذا إيراد من الشيخ الأعظم الأنصاريّ ـ في فرائد الاصول ٢ : ٣٥٨ ـ على الاستدلال بالحديث. وتوضيحه : أنّه لا شكّ في أنّ الموضوع للسعة والبراءة الشرعيّة هو الجهل بالوظيفة الفعليّة ، كما أنّ الموضوع للسعة والبراءة العقليّة هو قبح العقاب بلا بيان. فما دام المكلّف جاهلا بوظيفته الفعليّة فهو في سعة ، وأمّا إذا صار عالما بوظيفته الفعليّة فلا سعة له ، لأنّ العلم بها قاطع لعذره الجهليّ ، ومن المعلوم أنّ أدلّة وجوب الاحتياط يوجب علمه بوظيفته الفعليّة ، وهي الاحتياط ، وإن كان نفس الحكم الواقعيّ باقيا على المجهوليّة. فأدلّة الاحتياط بيان رافع لموضوع قبح العقاب بلا بيان ، وموجب لرفع الجهل بالوظيفة الفعليّة ، فتكون أدلّته واردة على حديث السعة.

وأورد عليه المحقّق النائينيّ بدعوى حكومة أدلّة الاحتياط على حديث السعة ، لأنّ هذا الحديث عامّ يشمل مطلق الشبهة ، وأدلّة الاحتياط تختصّ بالشبهة التحريميّة. أجود التقريرات ٢ : ١٨١.

(٤) توضيح الجواب : أنّ في وجوب الاحتياط وجهين :

الأوّل : أن يكون وجوبه نفسيّا ، بمعنى أنّ فعل محتمل الوجوب بما هو محتمل الوجوب واجب حقيقة لمصلحة فيه حال الجهل بالواقع ، كما أنّ فعل محتمل الحرمة بما هو محتمل الحرمة حرام حقيقة لمفسدة فيه حال الجهل بالواقع ؛ فالتكليف الواقعيّ وإن كان مجهولا ، إلّا أنّ التكليف الفعليّ ـ في ظرف الجهل بالواقعيّ ـ معلوم ، وهو وجوب فعل محتمل الوجوب ـ

٣٥

فافهم (١).

__________________

ـ وحرمة فعل محتمل الحرمة. وإذا كان التكليف الفعليّ معلوما يرفع موضوع السعة والبراءة ، وهو الجهل بالوظيفة الفعليّة ، بل يقع المكلّف في ضيق الاحتياط ، لأنّ المفروض أنّه تكليفه الفعليّ. فإذن كانت أدلّة الاحتياط واردة على حديث السعة.

الثاني : أن يكون وجوبه طريقيّا ، بمعنى أنّه يجب الاحتياط لكونه طريقا إلى الحكم الواقعيّ المجهول من الوجوب والحرمة ، فيكون الداعي إلى إيجاب الاحتياط مجرّد حفظ الواقع في ظرف الجهل بالوظيفة الفعليّة ، لا كونه وظيفة فعليّة للمكلّف حال الجهل بالواقع ، فتكون الوظيفة الفعليّة باقية على حالها من المجهوليّة. فلا يكون إيجاب الاحتياط رافعا لموضوع حديث السعة ليقدّم عليه ورودا ، بل هما متعارضان ، لأنّ حديث السعة ظاهر في الترخيص والتوسعة من ناحية الإلزام المجهول ، بخلاف دليل الاحتياط الطريقيّ ، فإنّه ظاهر في أنّ إيجابه لأجل حفظ الواقع المجهول ، فهما متعارضان.

وبالجملة : إن كان إيجاب الاحتياط نفسيّا يتمّ ما ذكره الشيخ الأعظم ، فيقع المكلّف في ضيق الاحتياط لرفع موضوع السعة. وإن كان إيجابه طريقيّا لا يتمّ ما ذكره الشيخ ولا يقع المكلّف في ضيق الاحتياط ، بل يواجه الدليلين المتعارضين : (أحدهما) حديث السعة الّذي يقتضي السعة وعدم ضيق المكلّف. (ثانيهما) أدلّة الاحتياط الطريقيّ الّتي تقتضي وجوب رعاية الاحتياط لأجل تحفّظ الواقع المجهول. فلا بدّ له من الرجوع فيهما إلى قواعد التعارض.

وقد عرفت في الاستدلال بحديث الرفع أنّ إيجاب الاحتياط طريقيّ ، فلا تكون أدلّة الاحتياط واردة على حديث السعة.

ولا يخفى عليك : أنّ في كون إيجاب الاحتياط طريقيّا غيريّا إشكال ، كما مرّ في التعليقة (٢) من هذا الفصل ، الصفحة : ١٩.

(١) لعلّه إشارة إلى ما أفاده المحقّق الاصفهانيّ ممّا حاصله : أنّه يمكن القول بورود أدلّة الاحتياط وإن كان واجبا طريقيّا ، لأنّ المراد من العلم مطلق الحجّة القاطعة للعذر ، فيكون مفاد دليل البراءة هو التوسعة فيما لم تقم حجّة على الواقع ، وبعد أن كان احتمال التكليف منجّزا بدليل الاحتياط كان كما وردت أمارة وقلنا بأنّ معنى حجّيّتها منجّزيّتها للواقع ، فكما كانت الأمارة واردة على دليل البراءة كذلك يكون دليل الاحتياط واردا على دليل البراءة. نهاية الدراية ٢ : ٤٥١.

وذهب السيّد المحقّق الخوئيّ إلى عدم دلالة الحديث على البراءة بدعوى أنّه مرسل لا يصحّ الاعتماد عليه ، بل لم يوجد في كتب الأخبار أصلا. مصباح الاصول ٢ : ٢٧٨.

وأنت خبير بورود مضمونه في جوامع الأخبار ، كما مرّ. وأمّا ضعفه سندا فينجبر بالشهرة.

٣٦

ومنها : [حديث الإطلاق]

قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (١). ودلالته تتوقّف على عدم صدق الورود إلّا بعد العلم أو ما بحكمه بالنهي عنه وإن صدر عن الشارع ووصل إلى غير واحد ، مع أنّه ممنوع ، لوضوح صدقه على صدوره عنه (٢) ، سيّما بعد بلوغه إلى غير واحد وقد خفي على من لم يعلم بصدوره (٣).

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ١٢٧ ـ ١٢٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٠.

وورد في المستدرك هكذا «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نصّ». مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٢٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٨.

(٢) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «على صدوره عنه أيضا».

(٣) توضيح ما أفاده : أنّ في معنى الحديث احتمالين :

الأوّل : أن يكون المراد من ورود النهي ـ الّذي جعل غاية للإطلاق والإباحة ـ هو وصول النهي إلى المكلّف وعلمه به ، لا مجرّد صدوره من الشارع وإن لم يصل إلى المكلّف. وعليه يكون معنى الحديث : أنّ كلّ شيء مشتبه الحكم مباح ظاهرا ما لم يصل إلى المكلّف نهي عن ذلك الشيء بخصوصه ، ولو صدر النهي عنه واقعا.

الثاني : أن يكون المراد من ورود النهي صدور الحكم من المولى وجعله ولو لم يصل إلى المكلّف ولم يعلم به. وعليه يكون معنى الحديث : أنّ كلّ شيء لم يصدر فيه نهي واقعا ولم تجعل فيه الحرمة حقيقة فهو مباح. فإذا صدر النهى عنه واقعا فليس حلالا وإن لم يعلم به المكلّف.

ومعلوم أنّ المقصود بالاستدلال بالحديث هو إثبات البراءة في كلّ شيء مشتبه الحكم ما لم يصل فيه نهي إلى المكلّف ، سواء صدر النهي عنه واقعا أم لا. فإذا جزمنا أنّ المراد من الورود في الحديث هو الاحتمال الأوّل فيتّجه الاستدلال به على البراءة ؛ ولم نجزم به إلّا إذا لم يصدق الورود على مجرّد صدور الحكم من المولى ، وهو ممنوع ، فإنّك قد عرفت أنّ الورود كما يصدق على وصول النهي إلى المكلّف كذلك يصدق على صدوره عن الشارع ، فلا موجب للجزم بظهوره في خصوص الاحتمال الأوّل ، فلا يتّجه الاستدلال به على البراءة.

ولا يخفى : أنّ السرّ في عدم صحّة الاستدلال به إلّا على الاحتمال الأوّل أنّه بناء على الاحتمال الثاني يكون مفاد الحديث إباحة الشيء المشتبه ما لم يصدر فيه نهي واقعا ، بمعنى أنّ الحكم بإباحته مشروط بالعلم بعدم تحقّق صدور النهي عنه واقعا. فما يشكّ في صدور النهي عنه من المولى وعدمه يكون من الشبهات الموضوعيّة ، وحينئذ لا يصحّ التمسّك بهذا الحديث لإثبات إباحته ، لأنّه من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ، وهو غير جائز. ـ

٣٧

__________________

ـ ولا يخفى أيضا : أنّ الشيخ الأعظم الأنصاريّ ذهب إلى أنّ دلالة هذا الحديث على المطلوب أوضح من الكلّ. فرائد الاصول ٢ : ٤٣.

وأمّا الأعلام الثلاثة والسيّدان العلمان :

فذهب المحقّق النائينيّ إلى عدم دلالته على المطلوب ، لكن لا لما أفاده المصنّف رحمه‌الله ، بل بلحاظ أنّ الاستدلال به يتوقّف على أن يكون المراد من الشيء في قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء» هو الشيء المجهول ، ولكنّ الظاهر من لفظ «شيء» هو الشيء بعنوانه الأوّلى ، فيكون دليلا على كون الأصل في الأشياء في الشريعة هو الإباحة حتّى يثبت المنع ، لا على أنّ كلّ شيء مجهول الحكم مباح ظاهرا حتّى يصل النهي عنه إلينا. أجود التقريرات ٢ : ١٨٢.

وذهب المحقّق العراقيّ أيضا إلى عدم دلالته على المطلوب ، حيث لم يستبعد أن يكون المراد بالورود مجرّد صدور النهي عن الشارع ، لا وصوله إلى المكلّف. نهاية الأفكار ٣ : ٢٣٠.

وأمّا المحقّق الاصفهانيّ : فقد حاول إثبات دلالته على المدّعى بأحد وجهين :

الوجه الأوّل : أنّ الورود وإن كان ظاهرا في الصدور ، إلّا أنّه لا بدّ من حمله على الوصول في المقام. وذلك لقرينة قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق» ، إذ الصدور لا يتلاءم الإطلاق مطلقا ، سواء كان المراد من الإطلاق هو الإباحة الشرعيّة الواقعيّة أو كان المراد منه الإباحة الشرعيّة الظاهريّة أو كان المراد منه الإباحة المالكيّة ـ بمعنى اللاحرج من قبل المولى في قبال المنع العقليّ ـ.

أمّا الإباحة الواقعيّة : فلأنّ إرادة الصدور من الورود تقتضي أن يكون معنى الحديث : «أنّ كلّ شيء مباح واقعا ما لم يصدر النهي عنه من المولى». ومرجعه إمّا إلى بيان أنّ غير الحرام مباح ، وإمّا إلى عدم أخذ الحرمة في موضوع الإباحة ؛ فعلى الأوّل يلزم أن يكون بيانه لغوا ، لأنّه واضح يحتاج إلى بيان ؛ وعلى الثاني يلزم جعل عدم أحد الضدّين شرطا للضدّ الآخر ، وهو ممنوع ، فإنّهما متلازمان.

وأمّا الإباحة الظاهريّة : فلأنّ جعلها مغيّاة بعدم صدور النهي واقعا غير صحيح من وجوه :

الأوّل : أنّ موضوع الحكم الظاهريّ الشرعيّ هو الجهل بالحكم الواقعيّ وعدم وصوله إلى المكلّف ، فلا يرتفع إلّا بوصوله إليه ، وأمّا مجرّد صدوره من الشارع من دون الوصول إلى المكلّف فلا يرتفع الحكم الظاهريّ ، فلا يصحّ جعل صدور النهي من الشارع غاية للإباحة الظاهريّة ، وإلّا لزم تخلّف الحكم عن موضوعه.

الثاني : أنّه إذا كان عدم صدور النهي موضوعا للإباحة الظاهريّة وكان مشكوك الحصول أيضا فلا بدّ من إثبات الإباحة الظاهريّة من التمسّك باستصحاب عدم الصدور ، وهو لا يجدي ، إمّا لكونه كافيا في إثبات الحكم الظاهريّ وإن لم يكن هذا الخبر موجودا ، ـ

٣٨

لا يقال : نعم ، ولكن بضميمة أصالة العدم (١) لصحّ الاستدلال به وتمّ.

فإنّه يقال : وإن تمّ الاستدلال به بضميمتها ويحكم بإباحة مجهول الحرمة وإطلاقه (٢) ، إلّا أنّه لا بعنوان أنّه مجهول الحرمة شرعا ، بل بعنوان أنّه ممّا لم يرد عنه النهي واقعا.

لا يقال : نعم ، ولكنّه لا يتفاوت فيما هو المهمّ من الحكم بالإباحة في مجهول الحرمة ، كان بهذا العنوان أو بذلك العنوان.

__________________

ـ وإمّا لعدم صحّة التمسّك به.

الثالث : أنّ ظاهر الخبر ـ بناء على أن يكون المراد من الورود هو الصدور ـ جعل صدور النهي غاية رافعة للإباحة الظاهريّة ؛ وهو يرجع إلى فرض عدم الحرمة حدوثا ؛ ومقتضاه عدم الشكّ في الحرمة.

وأمّا الإباحة المالكيّة : فلأنّ إرادة الإباحة المالكيّة قبل الشرع ـ الّتي يحكم بها عقل كلّ عاقل ـ بعيد غير مناسب لمنصب الإمام عليه‌السلام المعدّ لتبليغ الأحكام.

وإذا ظهر عدم تلاؤم الإطلاق بجميع أقسامها مع إرادة الصدور من الورود فلا بدّ من حمل الورود على الورود المساوق لوصول الحكم إلى المكلّف وإرادة الإباحة الشرعيّة الظاهريّة من الإطلاق.

الوجه الثاني : أنّ الورود يكون ظاهرا فيما يساوق الوصول عرفا. وذلك لأنّه متعدّ بنفسه إلى المورود. فهناك بلحاظه وارد ومورود ، فيقال : «ورد الماء» و «ورد البلد». وليس المورود في المقام إلّا المكلّف. وعليه فيكون مفاد الرواية : «حتّى يرد المكلّف نهي» ، أي : حتّى يصل إلى المكلّف نهي. نهاية الدراية ٢ : ٤٥١ ـ ٤٥٦.

وذهب السيّد الإمام الخمينيّ أيضا ـ بعد ما ناقش في إفادات المحقّق الاصفهانيّ ـ إلى دلالة الحديث على البراءة مطلقا. بدعوى أنّ معنى قوله عليه‌السلام : «حتّى يرد نهي» أنّ هذا الإطلاق والإرسال باق إلى ورود النهي ؛ وليس المراد من الورود هو الصدور عن الشارع ، لانقطاع الوحي في زمان صدور الرواية. تهذيب الاصول ٢ : ٢٤٣ ـ ٢٤٩.

وذهب السيّد المحقّق الخوئيّ إلى دلالته على البراءة في خصوص الشبهات التحريميّة.

راجع مصباح الاصول ٢ : ٢٧٩.

(١) أي : أصالة عدم الورود ، بمعنى استصحاب عدم صدور النهي من الشارع.

(٢) عطف تفسير لقوله : «إباحة» ، أي : وإطلاق مجهول الحرمة. والأولى أن يقول : «يحكم بإطلاق مجهول الحرمة وإباحته» كي يكون قوله : «إباحته» تفسيرا للإطلاق.

٣٩

فإنّه يقال : حيث أنّه بذاك اختصّ بما لم يعلم (١) ورود النهي عنه أصلا ، ولا يكاد يعمّ ما إذا ورد النهي عنه في زمان وإباحته في آخر (٢) واشتبها من حيث التقدّم والتأخّر.

لا يقال : هذا لو لا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته.

فإنّه يقال : وإن لم يكن بينها الفصل ، إلّا أنّه إنّما يجدي فيما كان المثبت للحكم بالإباحة في بعضها الدليل لا الأصل ، فافهم.

[الدليل الثالث : الإجماع]

وأمّا «الإجماع» : فقد نقل على البراءة (٣). إلّا أنّه موهون ولو قيل باعتبار الإجماع المنقول في الجملة ، فإنّ تحصيله في مثل هذه المسألة ـ ممّا للعقل إليه سبيل ومن واضح النقل عليه دليل ـ بعيد جدّا (٤).

[الدليل الرابع : العقل]

وأمّا «العقل» : فإنّه قد استقلّ بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف المجهول بعد الفحص واليأس عن الظفر بما كان حجّة عليه ، فإنّهما بدونها (٥) عقاب بلا بيان (٦) ومؤاخذة بلا برهان ، وهما قبيحان بشهادة الوجدان (٧).

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «لاختصّ بما لم يعلم». والصحيح ما أثبتناه ، فإنّ دخول اللام على جواب «حيث» المتضمّن لمعنى الشرط غير معهود.

(٢) وفي بعض النسخ : «وإباحة في آخر». والأولى ما أثبتناه.

(٣) راجع فرائد الاصول ٢ : ٥٠.

(٤) ويمكن أن يقال أيضا : أنّه لو فرض تحصيل الإجماع فلا يمكن الركون إليه ، لأنّه إجماع مدركيّ ، فلا يكون دليلا مستقلّا.

(٥) أي : العقوبة والمؤاخذة بدون الحجّة.

(٦) أي : بلا بيان واصل.

(٧) أي : بشهادة العقل.

والسرّ في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان أحد الامور التالية :

الأوّل : أنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لأجل أنّ فوات مطلوب المولى ومراده ـ

٤٠