كفاية الأصول - ج ٣

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-562-2
الصفحات: ٤٤٣

وجه (١) ، أو لا يكون له دلالة على وجوب الميسور في الواجبات على آخر (٢) ، فافهم (٣).

وأمّا الثالث : فبعد تسليم ظهور الكلّ (٤) في المجموعيّ لا الأفراديّ ، لا دلالة له إلّا على رجحان الإتيان بباقي الفعل المأمور به ـ واجبا كان أو مستحبّا ـ عند تعذّر بعض أجزائه ، لظهور الموصول فيما يعمّهما. وليس ظهور «لا يترك» في الوجوب ـ لو سلّم ـ موجبا لتخصيصه (٥) بالواجب لو لم يكن ظهوره (٦) في الأعمّ قرينة على إرادة خصوص الكراهة أو مطلق المرجوحيّة من النفي. وكيف كان فليس ظاهرا في اللزوم هاهنا ، ولو قيل بظهوره فيه في غير المقام (٧).

__________________

ـ الأوّل : أن يرجعا إلى نفس الميسور ، فيكون المعنى : «ليست قضيّة الميسور عبارة عن عدم سقوط الميسور بنفسه وبقائه على عهدة المكلّف». وهذا المعنى ذكره الشيخ الأعظم واختاره في المقام. وتبعه السيّد الإمام الخمينيّ ، فذهب إلى أنّ ظهور الرواية في خصوص الواجبات غير بعيد ، لعدم العهدة في المستحبّات. فرائد الاصول ٢ : ٣٩١ ، أنوار الهداية ٢ : ٣٨٩ ـ ٣٩٢.

الثاني : أن يرجعا إلى حكم الميسور ، فيكون المعنى : «ليست قضيّة الميسور عبارة عن عدم سقوط حكم الميسور بنفسه وبقائه على عهدة المكلّف». وهذا المعنى ذكره المحقّق النراقي وذهب إلى ظهورها في خصوص عدم سقوط الأفراد الميسورة ، فلا تدلّ على ما نحن فيه. عوائد الأيّام : ٢٦٥.

وهذا الوجه ذكره الشيخ الأعظم الأنصاريّ وأثبت به مختاره ـ وهو اختصاص الرواية بالواجبات وشمولها للأفراد والأجزاء ـ. فراجع فرائد الاصول ٢ : ٣٩١ ـ ٣٩٢.

(١) وهو القول بدلالة قوله عليه‌السلام : «لا يسقط» على عدم السقوط لزوما وبقائه على العهدة.

(٢) أي : على وجه آخر. وهو القول بأنّ المراد من قوله عليه‌السلام : «لا يسقط» هو المطلوبيّة المطلقة.

(٣) ولا يخفى : أنّ المحقّق الاصفهانيّ ذهب إلى أنّ مدلول الرواية عدم سقوط الميسور عن موضوعيّته للحكم ، لا عدم سقوط نفس الميسور عن عهدة المكلّف ، ولا عدم سقوط حكمه عن عهدته ، ولا عدم سقوط الميسور بما له من الحكم. راجع نهاية الدراية ٢ : ٧٠٤

(٤) وفي بعض النسخ : «ظهور كون الكلّ». والصحيح ما أثبتناه.

(٥ ـ ٦) الضميران يرجعان إلى الموصول.

(٧) توضيح ما أفاده : أنّ الاستدلال بالحديث الثالث على ما نحن فيه ـ أي وجوب الباقي ـ يتوقّف على أمرين:

١٤١

ثمّ إنّه حيث كان الملاك في قاعدة الميسور هو صدق الميسور على الباقي عرفا ، كانت القاعدة جارية مع تعذّر الشرط أيضا ، لصدقه حقيقة عليه مع تعذّره عرفا ، كصدقه عليه كذلك مع تعذّر الجزء في الجملة وإن كان فاقد الشرط مباينا للواجد عقلا (١) ؛ ولأجل ذلك ربّما لا يكون الباقي الفاقد لمعظم الأجزاء أو لركنها موردا لها (٢)

__________________

ـ الأوّل : أن لم يكن المراد من الكلّ في قوله عليه‌السلام : «كلّه» الكلّ الأفراديّ ، بل كان المراد به خصوص الكلّ المجموعيّ ـ المركّب ذي الأجزاء ـ أو الأعمّ منه ومن الكلّ الأفراديّ.

الثاني : أن لم يكن المراد من الموصول في قوله عليه‌السلام : «ما لا يدرك ...» مطلق الفعل المأمور به ـ واجبا كان أو مستحبّا ـ ، بل كان المراد منه خصوص الواجب.

أمّا الأمر الأوّل : فذهب المصنّف قدس‌سره ـ تسليما لما أفاده استاذه الشيخ الأعظم الأنصاريّ ـ إلى ظهور الكلّ في المجموعيّ. ووجه الظهور : أنّ المراد من الموصول في قوله عليه‌السلام : «ما لا يدرك ...» هو الفعل الواحد ، لا الأفعال المتعدّدة كي يقال بظهوره في أنّ الأفعال المتعدّدة لا يسقط بعضها مع تعذّر البعض الآخر ، فيكون مختصّا بمورد تعلّق الحكم بأفراد العامّ ، ولا معنى للكلّ في الفعل الواحد إلّا مجموعه المركّب من الأجزاء. فرائد الاصول ٢ : ٣٩٤.

وأمّا الأمر الثاني : فذهب المصنّف قدس‌سره إلى عدم ظهور الموصول في خصوص الواجب ، بل ذهب إلى ظهوره في مطلق الفعل المأمور به ، سواء كان واجبا أو مستحبّا. وحينئذ فلا يدلّ الحديث إلّا على رجحان الإتيان بباقي الأجزاء ، ضرورة أنّ الإتيان بأجزاء المستحبّ مستحبّ.

وذهب الشيخ الأعظم إلى ظهوره في خصوص الواجب بدعوى أنّ قوله عليه‌السلام : «لا يترك» ظاهر في الوجوب ، وظهوره في الوجوب قرينة على أنّ المراد من الموصول خصوص الواجب. فرائد الاصول ٢ : ٣٩٤.

وأورد عليه المصنّف قدس‌سره بقوله : «وليس ظهور (لا يترك) في الوجوب ...». وحاصله : أنّ ظهور مثل قوله : «لا يترك» ـ وهو جملة خبريّة ـ في الوجوب ممّا لا ينكر ، إلّا أنّ ظهوره فيه ليس قرينة على أنّ المراد من الموصول خصوص الواجب ، بل يمكن أن يقال : إنّ الموصول بنفسه عامّ يشمل الواجب والمستحبّ ، وعمومه قرينة على التصرّف في ظهور «لا يترك» بحمله على الكراهة أو مطلق المرجوحيّة ، فلا يدلّ الحديث على وجوب الباقي من الأجزاء.

(١) تعريض بالشيخ الأعظم الأنصاريّ ، فإنّه ذهب أوّلا إلى اختصاص القاعدة بتعذّر الجزء ، ثمّ اختار جريانها في بعض الشروط الّتي يحكم العرف ـ ولو مسامحة ـ باتّحاد المشروط الفاقد لها مع الواجد لها. فرائد الاصول ٢ : ٣٩٥.

(٢) أي : لقاعدة الميسور.

١٤٢

فيما إذا لم يصدق عليه الميسور عرفا وإن كان غير مباين للواجد عقلا.

نعم ، ربّما يلحق به شرعا ما لا يعدّ بميسور عرفا تخطئة للعرف (١) ، وأنّ عدم العدّ كان لعدم الاطّلاع على ما هو عليه الفاقد من قيامه في هذا الحال بتمام ما قام عليه الواجد أو بمعظمه في غير الحال ، وإلّا عدّ أنّه ميسوره ، كما ربّما يقوم الدليل على سقوط ميسور عرفيّ لذلك ـ أي للتخطئة ـ وأنّه لا يقوم بشيء من ذلك.

وبالجملة : ما لم يكن دليل على الإخراج أو الإلحاق كان المرجع هو الإطلاق ، ويستكشف منه أنّ الباقي قائم بما يكون المأمور به قائما بتمامه أو بمقدار (٢) يوجب إيجابه في الواجب واستحبابه في المستحبّ.

وإذا قام دليل على أحدهما فيخرج أو يدرج تخطئة أو تخصيصا في الأوّل ، وتشريكا في الحكم من دون الاندراج في الموضوع في الثاني ، فافهم.

تذنيب

لا يخفى : أنّه إذا دار الأمر بين جزئيّة شيء أو شرطيّته وبين مانعيّته أو قاطعيّته (٣) ، لكان من قبيل المتباينين ، ولا يكاد يكون من الدوران بين المحذورين (٤) ، لإمكان الاحتياط بإتيان العمل مرّتين ، مع ذاك الشيء مرّة وبدونه

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «بتخطئته للعرف».

(٢) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «إنّ الباقي قائم بتمام ما يكون المأمور به الواجد قائما به أو بمقدار ...» ، أو يقول : «إنّ الباقي قائم بما يكون المأمور به الواجد قائما به ، بتمامه أو بمقدار ...».

(٣) كما إذا شكّ في أنّ جواب السلام أثناء الصلاة شرط أو قاطع ، أو كما إذا دار الأمر بين كون الصلاة قصرا أو تماما فشكّ في أنّ الركعتين الأخيرتين جزء الصلاة أو قاطع الصلاة ، أو شكّ في أنّ الجهر بالقراءة في ظهر الجمعة واجب أو قاطع.

(٤) خلافا للشيخ الأعظم الأنصاريّ ، حيث حكم بالتخيير بينهما ، لكون المورد من موارد دوران الأمر بين المحذورين. فرائد الاصول ٢ : ٤٠٠ ـ ٤٠١.

١٤٣

اخرى ، كما هو أوضح من أن يخفى.

__________________

ـ وذهب السيّد المحقّق الخوئيّ إلى التفصيل بين موارد ثلاثة :

الأوّل : ما إذا كان الواجب واحدا شخصيّا لم تكن له أفراد طوليّة ولا عرضيّة ، كما إذا ضاق الوقت ولم يتمكّن المكلّف إلّا من الإتيان بصلاة واحدة ، ودار الأمر بين الإتيان بها عاريا أو في الثوب المتنجّس. والحكم حينئذ هو التخيير مطلقا.

الثاني : ما إذا كان الواجب وقائع متعدّدة وإن لم يكن له أفراد طوليّة ولا عرضيّة ، كما إذا دار الأمر بين كون شيء شرطا في الصوم أو مانعا عنه. والحكم حينئذ هو التخيير الابتدائيّ.

الثالث : ما إذا كان الواجب واحدا ذا أفراد طوليّة ، كما في المثال المذكور في المورد الأوّل مع سعة الوقت. والحكم فيه وجوب الاحتياط والإتيان بالواجب مع هذا الشيء تارة وبدونه اخرى. راجع مصباح الاصول ٢ : ٤٨٥ ـ ٤٨٧.

١٤٤

خاتمة

في شرائط الاصول (١)

[ما يعتبر في جريان أصالة الاحتياط]

أمّا الاحتياط : فلا يعتبر في حسنه شيء أصلا ، بل يحسن على كلّ حال ، إلّا إذا كان موجبا لاختلال النظام (٢).

ولا تفاوت فيه بين المعاملات والعبادات مطلقا ، ولو كان موجبا للتكرار فيها.

وتوهّم «كون التكرار عبثا ولعبا بأمر المولى وهو ينافي قصد الامتثال المعتبر في العبادة» (٣) فاسد ، لوضوح أنّ التكرار ربّما يكون بداع صحيح

__________________

(١) والمراد هو الاصول الثلاثة : الاحتياط والبراءة والتخيير.

(٢) وكلمات الفقهاء في المستثنى مختلفة :

ذهب بعضهم إلى استثناء ما يلزم منه الحرام. فرائد الاصول ٢ : ١٣٩.

وذهب بعض آخر إلى استثناء ما إذا كانت الشبهة مقرونة بالعلم الإجماليّ ، وكان على خلاف الاحتياط فيها حجّة شرعيّة محرزة ، وتمكّن المكلّف من الامتثال التفصيليّ بواسطة الحجّة ، فيجب على المكلّف أن يعمل أوّلا بمؤدّى الحجّة ثمّ يعقّبه بالعمل على خلاف ما اقتضته الحجّة إحرازا للواقع. فوائد الاصول ٤ : ٢٦٥ ـ ٢٦٩.

وذهب السيّد الحكيم إلى أنّ الاحتياط حسن إلّا فيما إذا خالف الاحتياط من جهة اخرى ، أو انطبق عليه عنوان مكروه أو حرام ، أو أدّى إلى عنوان مكروه أو حرام. مستمسك العروة ١ : ٤٤٨.

(٣) لم أجد من صرّح بأنّ مجرّد كون الاحتياط موجبا للتكرار في العبادة مانع عن جريان الاحتياط. وإنّما يمكن استظهاره من كلام ابن إدريس في السرائر ١ : ١٨٥. ـ

١٤٥

عقلائيّ (١) ؛ مع أنّه لو لم يكن بهذا الداعي ، وكان أصل إتيانه بداعي أمر مولاه بلا داع له سواه (٢) ، لما ينافي قصد الامتثال ، وإن كان لاغيا في كيفيّة امتثاله ، فافهم.

بل يحسن أيضا فيما قامت الحجّة على البراءة عن التكليف ، لئلّا يقع فيما كان في مخالفته على تقدير ثبوته من المفسدة وفوت المصلحة.

[ما يعتبر في جريان أصالتي البراءة والتخيير]

وأمّا البراءة العقليّة : فلا يجوز إجراؤها إلّا بعد الفحص واليأس عن الظفر بالحجّة على التكليف ، لما مرّت الإشارة إليه من عدم استقلال العقل بها إلّا بعدهما (٣).

وأمّا البراءة النقليّة : فقضيّة إطلاق أدلّتها (٤) ، وإن كانت هي عدم اعتبار الفحص في جريانها ، كما هو (٥) حالها في الشبهات الموضوعيّة ، إلّا أنّه استدلّ على اعتباره بالإجماع ، وبالعقل (٦) ، فإنّه لا مجال لها بدونه حيث يعلم إجمالا بثبوت التكليف بين موارد الشبهات بحيث لو تفحّص عنه لظفر به.

__________________

ـ وذهب الشيخ الأعظم الأنصاريّ إلى عدم حسن الاحتياط فيما إذا كان متوقّفا على تكرار العبادة وكان المكلّف متمكّنا من العلم التفصيليّ. راجع فرائد الاصول ٢ : ٤٠٠.

(١) كما إذا كان التكرار موجبا لدفع ضرر عدوّ عن نفسه إذا استحيى العدوّ من الإضرار به ما دام كان عابدا.

(٢) أي : سوى أمر مولاه.

(٣) مرّت الإشارة إليه في الصفحة : ٤٠ من هذا الجزء.

(٤) كحديث الرفع والحجب وغيرهما.

(٥) أي : عدم الاعتبار. والضمير في قوله : «حالها» راجع إلى البراءة النقليّة.

(٦) استدلّ بهما الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٢ : ٤١٢ ـ ٤١٣.

أمّا الاستدلال بالإجماع فمعلوم.

وأمّا الاستدلال بالعقل فتقريبه : أنّه يعلم إجمالا بثبوت تكاليف إلزاميّة بين موارد الشبهات أراد الشارع تبليغها إلى المكلّفين بالطرق المتعارفة العادية ، ويعلم أنّه لا يصل المكلّف عادة إلى تلك التكاليف الإلزاميّة إلّا بعد الفحص عنها ، والعقل بمقتضى هذا العلم يحكم بلزوم الفحص عن التكاليف ويمنع عن إجراء البراءة قبل الفحص.

١٤٦

ولا يخفى : أنّ الإجماع هاهنا غير حاصل ، ونقله لوهنه بلا طائل ، فإنّ تحصيله في مثل هذه المسألة ـ [وهي] ممّا للعقل إليه سبيل ـ صعب ، لو لم يكن عادة بمستحيل ، لقوّة احتمال أن يكون المستند للجلّ ـ لو لا الكلّ ـ هو ما ذكر من حكم العقل (١).

وأنّ الكلام في البراءة فيما لم يكن هناك علم موجب للتنجّز ، إمّا لانحلال العلم الإجماليّ بالظفر المعلوم بالإجمال ، أو لعدم الابتلاء إلّا بما لا يكون بينها علم بالتكليف من موارد الشبهات ولو لعدم الالتفات إليها.

فالأولى الاستدلال للوجوب بما دلّ من الآيات والأخبار على وجوب التفقّه والتعلّم والمؤاخذة على ترك التعلّم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم بقوله تعالى ، كما في الخبر : «هلّا تعلّمت» (٢). فيقيّد بها أخبار البراءة ، لقوّة ظهورها

__________________

(١) فلا يكون إجماعا تعبّديّا كاشفا عن قول المعصوم عليه‌السلام.

(٢) أمّا الآيات :

فمنها : قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) التوبة / ١٢٢.

ومنها : قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الانبياء / ٧.

وأمّا الأخبار :

فمنها : ما عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : طلب العلم فريضة على كلّ مسلم». الكافي ١ : ٣٠ ، الحديث ١.

ومنها : ما عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «طلب العلم فريضة». الكافي ١ : ٣٠ ، الحديث ٢.

ومنها : ما عن علي بن أبي حمزة ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «تفقّهوا في الدين ، فإنّه من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابيّ». الكافي ١ : ٣١ ، الحديث ٦.

ومنها : ما عن مسعدة بن زياد ، قال : سمعت جعفر بن محمّد عليه‌السلام وقد سئل عن قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) [الأنعام / ١٤٩]. فقال : «إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي أكنت عالما؟ فإن قال : نعم ، قال له : أفلا عملت بما علمت؟ ، وإن قال : كنت جاهلا ، قال له : أفلا تعلّمت حتّى تعمل ، فيخصمه ، فتلك الحجّة البالغة». الأمالي (للشيخ الطوسيّ) : ٩ ، الحديث ١٠ ؛ البرهان في تفسير القرآن ١ : ٥٦٠.

ولا يخفى : أنّ الاستدلال بهذه الآيات والأخبار ثالث الوجوه الّتي استدلّ بها الشيخ الأعظم على وجوب الفحص. فراجع فرائد الاصول ٢ : ٤١٢.

١٤٧

في أنّ المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلّم فيما لم يعلم ، لا بترك العمل فيما علم وجوبه ولو إجمالا ، فلا مجال للتوفيق بحمل هذه الأخبار على ما إذا علم إجمالا (١) ، فافهم (٢).

__________________

(١) توضيح الاستدلال بالآيات والأخبار المذكورة على وجوب الفحص متوقّف على تقديم مقدّمة :

وهي : أنّ في مفاد الآيات والأخبار الدالّة على وجوب التعلّم والمؤاخذة على تركه وجهان :

الأوّل : أن يكون مفادها وجوب التعلّم والفحص فيما إذا لم نعلم بوجوب العمل أصلا ، بل شككنا في حكمه وكانت الشبهة بدويّة. فتدل الآيات والأخبار على توجّه العقاب والمؤاخذة إليه بترك التعلّم فيما لم يعلم.

الثاني : أن يكون مفادها وجوب التعلّم والفحص فيما إذا علمنا بوجوب العمل إجمالا ، فتدلّ الآيات والأخبار على توجّه العقاب والمؤاخذة إليه بترك العمل الّذي علم إجمالا بوجوبه.

إذا عرفت هذه ، فاعلم أنّما يصحّ الاستدلال بالآيات والأخبار على وجوب الفحص في مورد البراءة النقليّة على الوجه الأوّل ، بأن يقال : إنّ مورد الآيات والأخبار الدالّة على وجوب الفحص والتعلّم والمؤاخذة على تركهما هو الشبهات البدويّة الّتي لا علم فيها للمكلّف بالحكم أصلا ، كما أنّ مورد أخبار البراءة هو الشبهات البدويّة أيضا ؛ فتدلّ أدلّة البراءة على نفي التكليف وعدم المؤاخذة في الشبهات البدويّة مطلقا ، سواء فحص عن التكليف أو لم يفحص عنه ؛ وتدلّ الآيات والأخبار المذكورة في المقام على نفي التكليف وعدم المؤاخذة في خصوص ما إذا فحص المكلّف من التكليف ولم يظفر به ؛ فتكون النسبة بين أدلّة البراءة وبين الآيات والأخبار نسبة المطلق إلى المقيّد ، فيقيّد بها إطلاق أدلّة البراءة.

وأمّا على الوجه الثاني : فلا يصحّ الاستدلال بالآيات والأخبار على وجوب الفحص في مورد البراءة النقليّة ، وهو الشبهات البدويّة ، فإنّ عليه يكون مورد الآيات والأخبار ما إذا علمنا وجوب العمل إجمالا ؛ بخلاف مورد أدلّة البراءة ، فإنّ موردها الشبهات البدويّة وعدم العلم بالتكليف أصلا ولو إجمالا ، وعليه تكون النسبة بين الآيات والأخبار وبين أدلّة البراءة نسبة التباين ، فلا موجب لتقييد إطلاق أدلّة البراءة بالآيات والأخبار ، بل تدلّ أدلّة البراءة على نفي التكليف وعدم المؤاخذة في الشبهات البدويّة مطلقا ، لا في خصوص ما إذا فحص عن التكليف.

والمصنّف قدس‌سره ذهب إلى الوجه الأوّل ، فقال : «فيقيّد بها أخبار البراءة ، لقوّة ظهورها في أنّ المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلّم فيما لم يعلم». والوجه في قوّة ظهورها فيه أنّ موضوع الآيات وأكثر الأخبار هو نفس التعلّم والتفقّه ، دون العمل.

وأشار إلى الوجه الثاني وعدم صحّة الاستدلال بها على هذا الوجه بقوله : «لا بترك العمل فيما علم وجوبه ولو إجمالا ، فلا مجال للتوفيق بحمل هذه الأخبار على ما إذا علم إجمالا».

(٢) لعلّه إشارة إلى ما أفاد المحقّق الأصفهانيّ من أنّه يمكن أن يكون مورد الآيات والروايات ـ

١٤٨

ولا يخفى : اعتبار الفحص في التخيير العقليّ أيضا بعين ما ذكر في البراءة ، فلا تغفل.

[حكم العمل بالبراءة قبل الفحص]

ولا بأس بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة والأحكام.

أمّا التبعة : فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة (١) فيما إذا كان ترك التعلّم والفحص مؤدّيا إليها ، فإنّها وإن كانت مغفولة حينها وبلا اختيار ، إلّا أنّها منتهية إلى الاختيار (٢) ، وهو (٣) كاف في صحّة العقوبة ؛ بل مجرّد تركهما كاف في

__________________

ـ ما اذ علمنا بأصل الواجبات والمحرّمات ، لا بعناوينها الخاصّة. فتدلّ الآيات والروايات على وجوب التعلّم بالنسبة إلى عناوينها الخاصّة مقدّمة للامتثال فيما إذا علمنا إجمالا بتعلّق التكاليف نحو أفعال وتروك. وعليه فلا يكون مورد التوبيخ والمؤاخذة في الآيات والأخبار هو الشبهة البدويّة كي يقيّد بها إطلاق أدلّة البراءة ويثبت به وجوب الفحص في الشبهة البدويّة ، بل موردهما هو الشبهة المقرونة بالعلم الإجماليّ بتعلّق تكاليف نحو أفعال وتروك.

ولكن لا يخفى : أنّ حمل الآيات والأخبار على ما ذكر غير موجّه ، بل صريح الأخبار ـ كرواية مسعدة بن زياد ـ أنّ مورد التوبيخ هو ترك التعلّم فيما لم يعلم أصلا ، لا ترك التعلّم فيما لم يعلم العناوين الخاصّة ولو علم أصل التكليف إجمالا.

(١) أي : مخالفة الواقع.

(٢) الضمير في قوله : «إليها» و «فإنّها» و «حينها» و «أنّها» راجع إلى المخالفة.

والوجه في انتهاء المخالفة إلى الاختيار أنّه كان قادرا على التعلّم والفحص عن الحكم ، فترك التعلّم والفحص اختيارا ، فيؤدّي إلى مخالفة الواقع.

وأورد عليه المحقّق الأصفهانيّ بأنّ عدم التمكّن من الانبعاث بالبعث الواقعيّ مستند إلى الغفلة عن التكليف ، لكن الغفلة مستندة إلى ترك التحفّظ ، لا إلى ترك الفحص ، والتحفّظ غير لازم في صورة العلم بالتكليف فضلا عن احتماله ، فكيف يعاقب عليه؟. نهاية الدراية ٢ : ٧٢٧ ـ ٧٢٨.

(٣) أي : الانتهاء إلى الاختيار.

١٤٩

صحّتها وإن لم يكن مؤدّيا إلى المخالفة مع احتماله (١) ، لأجل التجرّي وعدم المبالاة بها(٢).

نعم ، يشكل (٣) في الواجب المشروط والموقّت لو أدّى (٤) تركهما قبل الشرط والوقت إلى المخالفة بعدهما ، فضلا عمّا إذا لم يؤدّ إليها ، حيث لا يكون حينئذ

__________________

(١) أي : مع احتمال التكليف.

(٢) أي : عدم المبالاة بالمخالفة.

ولا يخفى : أنّ الأقوال في استحقاق العقاب وعدمه ثلاثة :

الأوّل : استحقاق العقاب على ترك التعلّم مطلقا ، سواء صادف عمله للواقع أم لم يصادفه. فلو شرب العصير العنبيّ من غير فحص عن حكمه يستحقّ العقاب على ترك الفحص والتعلّم ، سواء كان العصير العنبيّ حراما واقعا أو لم يكن حراما. وذلك لأنّ وجوب التعلّم والفحص وجوب نفسيّ تهيّئيّ. هذا ما نسب إلى السيّد صاحب المدارك وشيخه المحقّق الأردبيليّ. راجع فرائد الاصول ٢ : ٤١٨ ، مدارك الأحكام ٢ : ٣٤٥ و ٣ : ٢١٩ ، مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ١١٠.

الثاني : استحقاق العقاب على مخالفة الواقع لو اتّفقت ، لا على ترك التعلّم ، ولا فيما إذا لم يصادف الواقع. ففي المثال المزبور انّما يستحقّ المكلّف العقاب على مخالفة الواقع إذا كان شرب العصير العنبيّ حراما في الواقع. وهذا ما نسبه الشيخ الأعظم إلى المشهور ، وقوّاه المحقّق العراقيّ. راجع فرائد الاصول ٢ : ٤١٦ ، ونهاية الأفكار ٣ : ٤٨١.

الثالث : أنّ تارك التعلّم والفحص مستحقّ للعقاب مطلقا ، سواء صادف الواقع أم لا. أمّا في صورة المصادفة فلمخالفته للواقع وتحقّق العصيان. وأمّا في صورة عدم المصادفة فلأجل التجرّي وعدم المبالاة بمخالفة الواقع. وهذا ما ذهب إليه المصنّف قدس‌سره في المقام.

الرابع : استحقاق العقوبة على ترك التعلّم فيما إذا أدّى إلى مخالفة الواقع. وهذا ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ ، واستظهره المحقّق العراقيّ من كلام الشيخ الأعظم في الفرائد. راجع فوائد الاصول ٤ : ٢٨١ ، ونهاية الأفكار ٣ : ٤٧٦.

(٣) وهذا الإشكال تعرّض له الشيخ الأعظم في فرائد الاصول ٢ : ٤٢١.

(٤) وفي بعض النسخ : «ولو أدّى». وعليه يكون كلمة «لو» وصليّة ، فيكون معنى العبارة : يشكل الالتزام باستحقاق العقوبة في التكاليف المشروطة والموقّتة مطلقا ، حتّى في صورة أداء ترك التعلّم والفحص إلى مخالفة الواقع بعد الوقت وحصول الشرط ، فضلا عما إذا لم يؤدّ تركهما إلى المخالفة.

١٥٠

تكليف فعليّ أصلا ، لا قبلهما ـ وهو واضح ـ ولا بعدهما ـ وهو كذلك (١) ـ ، لعدم التمكّن منه بسبب الغفلة (٢) ؛ ولذا التجأ المحقّق الأردبيليّ (٣) وصاحب المدارك قدس‌سرهما (٤) إلى الالتزام بوجوب التفقّه والتعلّم نفسيّا تهيّئيّا ، فتكون العقوبة على ترك التعلّم نفسه ، لا على ما أدّى إليه من المخالفة ، فلا إشكال حينئذ في المشروط والموقّت. ويسهل بذلك (٥) الأمر في غيرهما لو صعب على أحد ولم تصدّق كفاية الانتهاء إلى الاختيار في استحقاق العقوبة على ما كان فعلا مغفولا عنه وليس بالاختيار.

ولا يخفى : أنّه لا يكاد ينحلّ هذا الإشكال إلّا بذلك ، أو الالتزام بكون المشروط أو الموقّت مطلقا معلّقا ، لكنّه قد اعتبر على نحو لا تتّصف مقدّماته الوجوديّة عقلا بالوجوب قبل الشروط أو الوقت غير التعلّم ، فيكون الإيجاب حاليّا ، وإن كان الواجب استقباليّا قد اخذ على نحو لا يكاد يتّصف بالوجوب شرطه ولا غير التعلّم من مقدّماته قبل شرطه أو وقته.

وأمّا لو قيل بعدم الإيجاب إلّا بعد الشرط والوقت ـ كما هو ظاهر الأدلّة وفتاوى المشهور ـ فلا محيص عن الالتزام بكون وجوب التعلّم نفسيّا ، لتكون العقوبة ـ لو قيل بها ـ على تركه ، لا على ما أدّى إليه من المخالفة ، ولا بأس به ، كما لا يخفى.

__________________

(١) أي : وهو أيضا واضح.

(٢) إلّا أن يقال بصحّة المؤاخذة على ترك المشروط أو الموقّت عند العقلاء إذا تمكّن منهما في الجملة ، ولو بأن تعلّم وتفحّص إذا التفت ، وعدم لزوم التمكّن منهما بعد حصول الشرط ودخول الوقت مطلقا ، كما يظهر ذلك من مراجعة العقلاء ومؤاخذتهم العبيد على ترك الواجبات المشروطة أو الموقّتة بترك تعلّمها قبل الشرط أو الوقت المؤدّي إلى تركها بعد حصوله أو دخوله ، فتأمّل. منه [أعلى الله مقامه].

(٣) راجع مجمع الفائدة ٢ : ١١٠.

(٤) راجع مدارك الأحكام ٢ : ٣٤٥ و ٣ : ٢١٩.

(٥) أي : بوجوب التفقّه والتعلّم نفسيّا.

١٥١

ولا ينافيه (١) ما يظهر من الأخبار (٢) من كون وجوب التعلّم إنّما هو لغيره لا لنفسه ، حيث إنّ وجوبه لغيره لا يوجب كونه واجبا غيريّا يترشّح وجوبه من وجوب غيره ، فيكون مقدّميّا ، بل للتهيّؤ لإيجابه (٣) ، فافهم.

وأمّا الأحكام : فلا إشكال في وجوب الإعادة في صورة المخالفة ، بل في صورة الموافقة أيضا في العبادة فيما لا يتأتّى منه قصد القربة ، وذلك لعدم الإتيان بالمأمور به ، مع عدم دليل على الصحّة والإجزاء إلّا في الإتمام في موضع القصر أو الإجهار أو الإخفات في موضع الآخر ، فورد في الصحيح (٤) ـ وقد أفتى به (٥) المشهور (٦) ـ صحّة الصلاة وتماميّتها في الموضعين مع الجهل مطلقا ، ولو كان عن تقصير موجب لاستحقاق العقوبة على ترك الصّلاة المأمور بها ، لأنّ ما اتي بها وإن صحّت وتمّت إلّا أنّها ليست بمأمور بها.

__________________

(١) أي : لا ينافي وجوب التعلّم نفسيّا تهيّئيّا ما يظهر من الأخبار.

(٢) كقوله عليه‌السلام في خبر مسعدة بن زياد : «أفلا تعلّمت حتّى تعمل؟!». الأمالي (للشيخ الطوسيّ) : ٩ ، الحديث ١٠.

(٣) أي : لإيجاب الغير.

(٤) أمّا الخبر الصحيح الدالّ على صحّة الصلاة تماما في موضع القصر أو قصرا في موضع الإتمام فهو صحيح زرارة ومحمّد بن مسلم ، قالا : قلنا لأبي جعفر عليه‌السلام : رجل صلّى في السفر أربعا ، أيعيد أم لا؟ قال عليه‌السلام : «إن كان قرئت عليه آية التقصير وفسرّت له فصلّى أربعا ، أعاد.

وإن لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه». وسائل الشيعة ٥ : ٥٣١ ، الباب ١٧ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ٤.

وأمّا الخبر الصحيح الدالّ على صحّة الصلاة جهرا في موضع الإخفات وبالعكس فهو صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه وأخفى فيما لا ينبغي الإخفات فيه ، فقال عليه‌السلام : «أيّ ذلك فعل متعمّدا فقد نقض صلاته وعليه الإعادة ، فإن فعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمّت صلاته». وسائل الشيعة ٤ : ٧٦٦ ، الباب ٢٦ من أبواب القراءة ، الحديث ١.

(٥) أي بما ورد في الصحيح.

(٦) وغرضه إثبات عدم كون الصحيح من الصحاح المعرض عنها عند المشهور كي يسقط بسبب إعراضهم عن الحجّيّة. فراجع رياض المسائل ١ : ١٦٢ و ٢٥٧ ـ ٢٥٨ ، تذكرة الفقهاء ١ : ١١٧ و ١٩٣ ، جواهر الكلام ١٤ : ٣٤٣.

١٥٢

إن قلت : كيف يحكم بصحّتها مع عدم الأمر بها؟! وكيف يصحّ الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصّلاة الّتي امر بها حتّى فيما إذا تمكّن ممّا امر بها (١) ـ كما هو (٢) ظاهر إطلاقاتهم ـ بأن علم بوجوب القصر أو الجهر بعد الإتمام والإخفات وقد بقي من الوقت مقدار إعادتها قصرا أو جهرا؟! ضرورة أنّه لا تقصير هاهنا يوجب استحقاق العقوبة.

وبالجملة : كيف يحكم بالصحّة بدون الأمر؟! وكيف يحكم باستحقاق العقوبة مع التمكّن من الإعادة لو لا الحكم شرعا بسقوطها وصحّة ما اتي به؟!

قلت : إنّما حكم بالصحّة لأجل اشتمالها على مصلحة تامّة لازمة الاستيفاء في نفسها مهمّة في حدّ ذاتها ، وإن كانت دون مصلحة الجهر والقصر ، وإنّما لم يؤمر بها لأجل أنّه امر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الأكمل والأتمّ.

وأمّا الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكّن من الإعادة ، فإنّها بلا فائدة ، إذ مع استيفاء تلك المصلحة لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة الّتي كانت في المأمور بها ،

__________________

(١) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «ممّا امر به» ، أو يقول : «حتّى فيما إذا تمكّن منها».

(٢) أي : استحقاق العقوبة حتّى فيما إذا تمكّن من إتيان المأمور به.

والحاصل : أنّ في المقام إشكالان :

أحدهما : أنّ الصحّة هي انطباق المأمور به على المأتي به ، والمفروض أنّ المأتي به ـ وهو الصلاة جهرا المأتي بها في موضع الإخفات ـ ليس مأمورا به ، فكيف يعقل الحكم بصحّة المأتي به مع عدم الأمر به؟

ثانيهما : أنّ الظاهر من إطلاقات الفقهاء أنّه لو أتى المكلّف بالصلاة جهرا في موضع الإخفات أو أتى بها قصرا في موضع الإتمام وكان عن تقصير ، يستحقّ العقوبة على ترك المأمور به ـ وهو الصلاة إخفاتا والصلاة تماما ـ ، وإن صحّت ما أتى به ـ أي الصلاة جهرا والصلاة قصرا ـ فلا إعادة عليه ، سواء تمكّن من فعل المأمور به على ما هو عليه ثانيا كأن يبقى من الوقت بمقدار إعادته ، أو لم يتمكّن منه. وحينئذ يشكل بأنّه كيف يعقل الحكم باستحقاق العقاب على ترك المأمور به مع كون المكلّف متمكّنا من إتيانه على ما هو عليه مع بقاء الوقت لو لا حكم الشارع بسقوط إعادته وصحّة ما أتى به.

١٥٣

ولذا لو أتى بها في موضع الآخر جهلا مع تمكّنه من التعلّم فقد قصّر ولو علم بعده وقد وسع الوقت.

فانقدح أنّه لا يتمكّن من صلاة القصر صحيحة بعد فعل صلاة الإتمام ، ولا من الجهر كذلك (١) بعد فعل صلاة الإخفات وإن كان الوقت باقيا.

إن قلت : على هذا يكون كلّ منهما (٢) في موضع الآخر سببا لتفويت الواجب فعلا ، وما هو السبب لتفويت الواجب كذلك حرام ، وحرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام.

قلت : ليس سببا لذلك ، غايته أنّه يكون مضادّا له ، وقد حقّقنا في محلّه أنّ الضدّ وعدم ضدّه متلازمان ليس بينهما توقّف أصلا (٣).

لا يقال : على هذا فلو صلّى تماما أو صلّى إخفاتا في موضع القصر والجهر مع العلم بوجوبهما في موضعهما لكانت صلاته صحيحة وإن عوقب على مخالفة الأمر بالقصر أو الجهر.

فإنّه يقال : لا بأس بالقول به لو دلّ دليل على أنّها (٤) تكون مشتملة على المصلحة ولو مع العلم (٥). لاحتمال اختصاص أن يكون كذلك في صورة الجهل ، ولا بعد أصلا في اختلاف الحال فيها باختلاف حالتي العلم بوجوب شيء والجهل به ، كما لا يخفى (٦).

__________________

(١) أي : صحيحة.

(٢) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «يكون إتيان كلّ منهما ...».

(٣) راجع الجزء الأوّل : ٢٣٨. ومرّ توضيح التلازم بينهما فيما علّقنا عليه ، فراجع.

(٤) أي : الصلاة غير المأمور بها.

(٥) أي : ولو مع العلم بعدم الأمر بها.

(٦) حاصل ما أفاده في حلّ الإشكال : أنّه يكون المأتي به ـ وهو الصلاة تماما في موضع القصر ـ واجدا لمصلحة وافية بمعظم مصلحة المأمور به ، وهذا المقدار من المصلحة المستوفاة بالمأتي به مضادّة في مقام الاستيفاء مع المصلحة القائمة بالمأمور به التامّ ، فبما أنّ المأتي به الناقص يوجب استيفاء مقدار من المصلحة المضادّة لمصلحة التامّ يسقط أمر التامّ ، فيكون ـ

١٥٤

وقد صار بعض الفحول (١) بصدد بيان إمكان كون المأتيّ في غير موضعه مأمورا به بنحو الترتّب (٢).

__________________

ـ المأتي به صحيحا لأجل استيفاء ذلك المقدار من المصلحة ، وإن لم يكن مأمورا به لعدم اشتماله على تمام المصلحة الملزمة.

وأورد عليه المحقّق النائينيّ بما حاصله : أنّ المصلحة الملزمة القائمة بإتيان المأمور به التامّ ـ وهو الصلاة قصرا في المثال المزبور ـ إن كانت هي الغرض الداعي إلى جعل الواجب فلا وجه لسقوطها بإتيان ما يكون فاقدا لتلك المرتبة من المصلحة ـ أي الصلاة تماما ـ ، خصوصا مع إمكان استيفاء تمام المصلحة بإعادته في الوقت.

ودعوى عدم القدرة على استيفاء تمام المصلحة بعد استيفاء معظمها بالمأتي به واضحة الفساد ، لعدم الشكّ في قدرة المكلّف على إتيان الصلاة قصرا ـ القائمة بها المصلحة التامّة ـ ، ولا يعتبر في استيفاء المصلحة سوى القدرة على فعل متعلّقها ، وهو حاصل بالوجدان.

وإن لم تكن المصلحة الملزمة القائمة بإتيان المأمور به داعية إلى جعل الواجب ، فاللازم الحكم بالتخيير بين القصر والتمام ، غايته كون القصر ـ في المثال المزبور ـ أفضل الفردين ، فلا وجه لاستحقاق العقاب. فوائد الاصول ٤ : ١٠٢.

وأجاب عنه السيّد الإمام الخمينيّ بما حاصله : أنّ المصلحة التامّة القائمة على المأمور به التامّ لازمة الاستيفاء ، ولكن لا دخالة لها في حصول المصلحة القائمة بالمأتي به الناقص ، فيستوفى المصلحة القائمة بالناقص بالإتيان به فاقدا للباقي من المصلحة اللازمة الاستيفاء بحسب الغرض الأكمل ، ومع الإتيان بالناقص وتحصيل المصلحة القائمة به تكون المصلحة القائمة بالمأمور به التامّ غير ممكنة الاستيفاء ، للتضادّ الواقع بين المصلحتين ، أو لعدم إمكان استيفائها إلّا في ضمن المجموع ، فلا تقدر المكلّف على استيفاء المصلحة الزائدة بعد الإتيان بالناقص. أنوار الهداية ٢ : ٤٣٤.

(١) وهو كاشف الغطاء في كشف الغطاء : ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) وحاصل ما أفاده من الترتّب : أنّ المأتي به ـ كالصلاة جهرا في موضع الإخفات ـ يتعلّق به الأمر بشرط العزم على عصيان الأمر بالصلاة إخفاتا بنحو الشرط المتأخّر.

واستشكل عليه : تارة بعدم معقوليّة الترتّب ـ كما في فرائد الاصول ٢ : ٤٤٠ ـ ، واخرى بوجوه أخر ذكرها المحقّق النائينيّ ، وتعرّض لها السيّدان العلمان ـ الإمام الخمينيّ والسيّد الخوئيّ ـ ثمّ ناقشا فيها. بل قد يذكر في المقام وجوها أخر في مقام التفصيّ عن الإشكال المذكور. تركناها مخافة التطويل. وإن شئت الاطّلاع عليها فراجع فرائد الاصول ٢ : ٤٣٨ ، فوائد الاصول ٤ : ٢٨٩ ـ ٣٠١ ، نهاية الأفكار ٣ : ٤٨٧ ، أنوار الهداية ٢ : ٤٣١ ـ ٤٤٠ ، مصباح الاصول ٢ : ٥٠٦ ـ ٥١٠.

١٥٥

وقد حقّقنا في مبحث الضدّ امتناع الأمر بالضدّين مطلقا ولو بنحو الترتّب بما لا مزيد عليه (١) ، فلا نعيد.

[ما أفاد الفاضل التونيّ حول شروط جريان البراءة]

ثمّ إنّه ذكر لأصل البراءة شرطان آخران (٢) :

أحدهما : أن لا يكون موجبا لثبوت حكم شرعيّ من جهة اخرى (٣).

ثانيهما : أن لا يكون موجبا للضرر على آخر (٤).

ولا يخفى : أنّ أصالة البراءة عقلا ونقلا في الشبهة البدويّة بعد الفحص لا محالة تكون جارية. وعدم استحقاق العقوبة ـ الثابت بالبراءة العقليّة ـ والإباحة أو رفع التكليف ـ الثابت بالبراءة النقليّة ـ لو كان موضوعا لحكم شرعيّ أو ملازما له فلا محيص عن ترتّبه عليه بعد إحرازه (٥). فإن لم يكن مترتّبا عليه بل على نفي التكليف واقعا فهي وإن كانت جارية إلّا أنّ ذاك الحكم لا يترتّب ، لعدم ثبوت

__________________

(١) راجع الجزء الأوّل : ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

(٢) ذكرهما الفاضل التونيّ في الوافية : ١٩٣.

(٣) مثاله : ما إذا شكّ في ثبوت الدين على الذمّة ، وإجراء أصالة البراءة من الدين موجب للحكم بوجوب الحجّ ، لحصول الاستطاعة حينئذ.

ومثال آخر : ما إذا شكّ في حرمة شرب التتن ، فتجري البراءة ويوجب جواز بيع التتن.

(٤) وفي الوافية : «مثلا : إذا فتح إنسان قفصا للطائر فطار ، أو حبس شاة فمات ولدها ، أو أمسك رجلا فهربت دابّته ، فإنّه لا يصحّ حينئذ التمسّك ببراءة الذمّة ، بل ينبغي للمفتي التوقّف عن الإفتاء حينئذ ، ولصاحب الواقعة الصلح إذا لم يكن منصوصا بنصّ خاصّ أو عامّ ، لاحتمال اندراج مثل هذه الصورة في قوله : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» ، وفيما يدلّ على حكم من أتلف مالا لغيره ...». الوافية : ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٥) أي : لو كان عدم استحقاق العقوبة والإباحة موضوعا لحكم شرعيّ أو ملازما له ـ كما إذا شكّ في إباحة شرب التتن فتجري البراءة وتصير موضوعا لجواز البيع ـ فلا محيص عن ترتّب ذلك الحكم الشرعيّ على الإباحة وعدم استحقاق العقوبة بعد إحراز رفع التكليف وثبوت عدم استحقاق العقوبة.

١٥٦

ما يترتّب عليه بها ؛ وهذا ليس بالاشتراط (١).

وأمّا اعتبار أن لا يكون موجبا للضرر : فكلّ مقام تعمّه قاعدة نفي الضرر وإن لم يكن مجال فيه لأصالة البراءة ـ كما هو حالها مع سائر القواعد الثابتة بالأدلّة الاجتهاديّة ـ ، إلّا أنّه حقيقة لا يبقى لها مورد ، بداهة أنّ الدليل الاجتهاديّ يكون بيانا وموجبا للعلم بالتكليف ولو ظاهرا. فإن كان المراد من الاشتراط ذلك فلا بدّ من اشتراط أن لا يكون على خلافها دليل اجتهاديّ ، لا خصوص قاعدة الضرر ، فتدبّر.

__________________

(١) والحاصل : أنّ موضوع الحكم الشرعيّ لا يخلو : إمّا أن يكون أمرا ظاهريّا ، كعدم استحقاق العقوبة ورفع التكليف ، كما إذا فرض أنّ موضوع جواز البيع هو كون الشيء حلالا ولو ظاهرا ، فحينئذ إذا شكّ في حرمة شرب التتن جرت فيه البراءة الشرعيّة ، فيحكم بحلّيّته الظاهريّة ويترتّب عليه جواز البيع ، لتحقّق موضوعه وهو حلّيّته ولو ظاهرا.

وإمّا أن يكون أمرا واقعيّا ، كما إذا ترتّب الحكم الشرعيّ على عدم الحكم واقعا لا ظاهرا ، كما إذا فرض أنّ موضوع وجوب الحجّ هو الاستطاعة واقعا ، فهو انّما يترتّب على عدم ثبوت دين على عهدة المكلّف واقعا ، فإذا شكّ في ثبوت الدين وعدمه تجري أصالة البراءة عن الدين ، ولكن لا يترتّب عليه وجوب الحجّ ، لأنّ أصالة البراءة عن الدين انّما تثبت عدم الدين ظاهرا ، والمفروض أنّ موضوع وجوب الحجّ هو عدم ثبوت الدين واقعا ، فلم يتحقّق موضوعه ولم يترتّب عليه. فعليه لا محصّل للشرط الأوّل ، إذ تجري البراءة بعد الفحص في الشبهات البدويّة لا محالة ، غاية الأمر لا محيص عن ترتّب الحكم على تقدير ، ولا موضوع لذلك الحكم على تقدير آخر.

١٥٧

[تذييل]

[حول قاعدة لا ضرر ولا ضرار]

[أجنبيّة القاعدة عن مقاصد الكتاب]

ثمّ إنّه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان قاعدة الضرر والضرار على نحو الاقتصار ، وتوضيح مدركها وشرح مفادها ، وإيضاح نسبتها مع الأدلّة المثبتة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأوّليّة أو الثانويّة ، وإن كانت أجنبيّة عن مقاصد الرسالة (١) ، إجابة لالتماس بعض الأحبّة.

[مدرك القاعدة]

فأقول وبه أستعين : إنّه قد استدل عليها بأخبار كثيرة :

منها : موثّقة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : «إنّ سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار ، وكان منزل الأنصاريّ بباب البستان ، وكان سمرة يمرّ إلى نخلته ولا يستأذن ، فكلّمه الأنصاريّ أن يستأذن إذا جاء ، فأبى سمرة ، فجاء الأنصاريّ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فشكى إليه ، فأخبر بالخبر ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره

__________________

(١) لأنّ قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» من القواعد الفقهيّة العامّة ، فيكون محلّ البحث عنها هو القواعد الفقهيّة. فينبغي الاكتفاء في المقام بإيضاح ما أفاد المصنّف قدس‌سره من دون التعرّض لما أفاده الأعلام من الآراء والمناقشات ، فإنّه موكول إلى البحث عن القواعد الفقهيّة.

١٥٨

بقول الأنصاريّ وما شكاه ، فقال : إذا أردت الدخول فاستأذن ، فأبى ، فلمّا أبى فساومه حتّى بلغ من الثمن ما شاء الله ، فأبى أن يبيعه ، فقال : لك بها عذق في الجنّة ، فأبى أن يقبل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للأنصاريّ : اذهب فاقلعها وارم بها إليه ، فإنّه لا ضرر ولا ضرار» (١).

وفي رواية الحذّاء عن أبي جعفر عليه‌السلام مثل ذلك ، إلّا أنّه فيها بعد الإباء : «ما أراك يا سمرة إلّا مضارّا ؛ اذهب يا فلان ، فاقلعها وارم بها وجهه» (٢).

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في قصّة سمرة وغيرها (٣). وهي كثيرة ، وقد ادّعي تواترها مع اختلافها لفظا وموردا (٤) ، فليكن المراد به تواترها إجمالا ، بمعنى القطع بصدور بعضها.

والإنصاف : أنّه ليس في دعوى التواتر كذلك (٥) جزاف. وهذا مع استناد المشهور إليها موجب لكمال الوثوق بها وانجبار ضعفها ؛ مع أنّ بعضها موثّقة (٦) ؛ فلا مجال للإشكال فيها من جهة سندها ، كما لا يخفى.

__________________

(١) ما ذكره المصنّف قدس‌سره مضمون الموثّقة. وإليك بنصّها في الكافي ٥ : ٢٢٩ ، والتهذيب ٧ : ١٧٤ ، والوسائل ١٧ : ٣٤١ ، الباب ١٢ من أبواب إحياء الموات ، الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ٣٤٠ ، الباب ١٢ من أبواب احياء الموات ، الحديث ١.

(٣) منها : رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نفع الشيء ، وقضى بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع بأفضل كلاء ، وقال : لا ضرر ولا ضرار». الكافي ٥ : ٢٩٢.

ومنها : رواية اخرى عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن ، وقال : لا ضرر ولا ضرار ، وقال : إذا رفّت الأرف وحدّت الحدود فلا شفعة». الكافي ٥ : ٢٨٠ ، من لا يحضره الفقيه ٣ : ٥٠ ، الحديث ٣٣٦٨.

ومنها : ما رواه الصدوق في الفقيه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام». من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢٤٧ ، الحديث ٥٧١٨.

(٤) والمدّعي هو فخر المحقّقين (ابن العلّامة) في إيضاح الفوائد ٢ : ٤٨.

(٥) أي : إجمالا ، بمعنى القطع بصدور بعضها.

(٦) كموثّقة زرارة المتقدّمة.

١٥٩

[دلالة القاعدة]

وأمّا دلالتها : فالظاهر أنّ الضرر هو ما يقابل النفع (١) ـ من النقص في النفس أو الطرف أو العرض أو المال ـ تقابل العدم والملكة (٢).

كما أنّ الأظهر أن يكون الضرار بمعنى الضرر ، جيء به تأكيدا ـ كما يشهد به إطلاق المضارّ على سمرة (٣) ، وحكي عن النهاية (٤) ؛ لا فعل الاثنين ، وإن كان هو الأصل في باب المفاعلة ؛ ولا الجزاء على الضرر ، لعدم تعاهده من باب المفاعلة. وبالجملة : لم يثبت له معنى آخر غير الضرر.

كما أنّ الظاهر أن يكون «لا» لنفي الحقيقة ـ كما هو الأصل في هذا التركيب ـ حقيقة أو ادّعاء كناية عن نفي الآثار ، كما هو (٥) الظاهر من مثل «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» (٦) ، و «يا أشباه الرجال ولا رجال» (٧) ، فإنّ قضيّة البلاغة في الكلام هي إرادة نفي الحقيقة ادّعاء ، لا نفي الحكم أو الصفة كما لا يخفى. ونفي الحقيقة ادّعاء بلحاظ الحكم أو الصفة غير نفي أحدهما ابتداء مجازا في التقدير أو في الكلمة ، ممّا لا يخفى(٨) على من له معرفة بالبلاغة (٩).

وقد انقدح بذلك بعد إرادة نفي الحكم الضرريّ (١٠) أو الضرر غير

__________________

(١) كما في الكتب اللغويّة ، فراجع العين ٧ : ٧ ، الصحاح ٢ : ٧١٩ ، النهاية (لابن الأثير) ٣ : ٨١ ، لسان العرب ٤ : ٤٨٢.

(٢) إذ لا يطلق الناقص إلّا على الشيء الّذي من شأنه عدم ذلك النقص ، مثلا : لا يطلق الأعمى إلّا على فاقده الّذي من شأنه أن يكون بصيرا ، كالحيوان.

(٣) اطلق المضارّ على سمرة في رواية الحذّاء المتقدّمة.

(٤) النهاية (لابن الأثير) ٣ : ٨١.

(٥) أي : نفي الحقيقة ادّعاء.

(٦) دعائم الإسلام ١ : ١٤٨.

(٧) نهج البلاغة ، الخطبة : ٢٧.

(٨) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «كما لا يخفى».

(٩) والحاصل : أنّ المقصود من نفي الضرر في قوله : «لا ضرر» نفي أحكام الموضوع الضرريّ من باب نفي الحكم بلسان نفي موضوعه.

(١٠) بأن يكون المراد بالضرر في قوله : «لا ضرر» سببه ، وهو الحكم. فيطلق الضرر عليه من ـ

١٦٠