كفاية الأصول - ج ٣

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-562-2
الصفحات: ٤٤٣

ما في الواجبات من المصلحة وكونها ألطافا (١) ، فافهم.

وحصول اللطف (٢) والمصلحة في العبادة وإن كان يتوقّف على الإتيان بها على وجه الامتثال ، إلّا أنّه لا مجال لاحتمال اعتبار معرفة الأجزاء وإتيانها على وجهها ، كيف! ولا إشكال في إمكان الاحتياط هاهنا كما في المتباينين ، ولا يكاد يمكن مع اعتباره (٣). هذا.

مع وضوح (٤) بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه كذلك. والمراد ب «الوجه»

__________________

(١) حاصل الإيراد : أنّ التكلّم في المسألة على مذهب الأشعريّ وإن ينتج حكم العقل بالبراءة ، إلّا أنّه لا يجدي لنا القائلين بمذهب المشهور من العدليّة. وكذا التكلّم فيها على مذهب بعض العدليّة لا يجدي لنا ، لاحتمال أن يكون مقصود البعض أنّه يجوز أن تكون المصلحة في نفس الأمر كما يجوز أن يكون في المأمور به ، وعليه فيحتمل أن تكون المصلحة في المأمور به ، ومعه لا يمكن الاقتصار على الأقلّ ، لعدم العلم بحصول الغرض به.

(٢) أورد المصنّف قدس‌سره على الجواب الثاني الّذي ذكره الشيخ بوجوه. وهذا شروع في بيان الوجه الأوّل. وحاصله : أنّ حصول المصلحة في العبادات ، وإن كان متوقّفا على الإتيان بالعبادة بقصد الامتثال ، إلّا أنّ اعتبار معرفة الأجزاء وقصد وجهها غير معلوم ، بل لا مجال لاحتمال اعتبارهما ، ضرورة أنّه لو كان قصد وجه الأجزاء ـ المنوط بمعرفتها ـ معتبرا في الامتثال لما كان الاحتياط في المتباينين أيضا ممكنا ، مثلا : إذا دار الأمر في العبادة بين القصر والتمام وكان قصد وجه الأجزاء معتبرا في امتثالها لما أمكن فيها الاحتياط بإتيانها قصرا وتماما ، لأنّه لو أراد إتيان العبادة تماما من دون قصد وجه ما زاد على الركعتين فلم يأت بها على وجه صحيح ، لأنّ المفروض اعتبار قصد وجه الأجزاء في تحقّق الامتثال ؛ ولو أراد الإتيان بها تماما مع قصد وجه ما زاد على الركعتين فلم يتمكّن منه ، لأنّ قصد وجه الأجزاء متوقّف على العلم بجزئيّتها ، ولا علم بجزئيّة ما زاد على الركعتين. ولا إشكال في إمكان الاحتياط في المتباينين. وهذا دليل على عدم اعتبار قصد وجه الأجزاء في العبادة. فلا يتمّ كلام الشيخ الأعظم من عدم إمكان الاحتياط بإتيان الأكثر.

(٣) أي : ولا يكاد يمكن الاحتياط في المتباينين مع اعتبار إتيان الأجزاء بقصد وجهها.

(٤) هذا هو الوجه الثاني في الإيراد على ما ذكره الشيخ الأنصاريّ. وحاصله : أنّ اعتبار قصد الوجه وإن قد يتفوّه به في الكتب الفقهيّة ، إلّا أنّ المقصود منه اعتباره في العبادة في الجملة ، لا في كلّ واحد من الأجزاء ، وهذا المقدار يمكن تحقّقه بالاحتياط بإتيان الأكثر بأن يقصد وجوب الواجب بالوجوب النفسيّ.

١٢١

في كلام من صرّح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه به (١) هو وجه نفسه (٢) من وجوبه النفسيّ ، لا وجه أجزائه من وجوبها الغيريّ أو وجوبها العرضيّ. وإتيان الواجب مقترنا بوجهه غاية ووصفا بإتيان الأكثر بمكان من الامكان ، لانطباق الواجب عليه ولو كان هو الأقلّ ، فيتأتّى من المكلّف معه قصد الوجه.

واحتمال اشتماله (٣) على ما ليس من أجزائه ليس بضائر إذا قصد وجوب المأتيّ على إجماله بلا تمييز ما له دخل في الواجب من أجزائه ، لا سيّما إذا دار الزائد بين كونه جزءا لماهيّته وجزءا لفرده حيث ينطبق الواجب على المأتيّ حينئذ بتمامه وكماله ، لأنّ الطبيعيّ يصدق على الفرد بمشخّصاته.

نعم ، لو دار بين كونه جزءا أو مقارنا (٤) ، لما كان منطبقا عليه بتمامه لو لم يكن جزءا. لكنّه غير ضائر ، لانطباقه عليه أيضا فيما لم يكن ذاك الزائد جزءا ، غايته لا بتمامه بل بسائر أجزائه. هذا.

مضافا (٥) إلى أنّ اعتبار قصد الوجه من رأس ممّا يقطع بخلافه (٦).

مع أنّ الكلام (٧) في هذه المسألة لا يختصّ بما لا بدّ أن يؤتى به على وجه

__________________

(١) كما صرّح بذلك ابن البرّاج والحلبيّ وابن زهرة وابن ادريس والعلّامة والمحقّق الثاني.

فراجع المهذّب ١ : ٤٣ ، الكافي في الفقه : ١٣٢ ، الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٤٩١ ، السرائر ١ : ٩٨ ، تذكرة الفقهاء ١ : ١٤٠ ، إرشاد الأذهان ١ : ٢٩٩ ، قواعد الأحكام ١ : ١٩٩.

(٢) أي : نفس الواجب في الجملة.

(٣) أي : اشتمال الأكثر.

(٤) وبعبارة أوضح : لو دار أمر المشكوك فيه بين كونه جزءا للماهيّة أو فردا لها وبين كونه أمرا أجنبيّا مقارنا للطبيعيّ ، لم ينطبق الطبيعيّ على المأتيّ به بتمامه ، إذ المشكوك فيه ـ على تقدير عدم جزئيّته ـ خارج عن حاقّ الفعل العباديّ وإن لم يكن منافيا له. لكن عدم انطباق الطبيعيّ على المأتيّ به بتمامه ـ فيما لم يكن ذاك الزائد جزءا ـ غير ضائر ، لأنّه ينطبق عليه لا بتمامه بل بسائر أجزائه.

(٥) هذا هو الوجه الثالث من الإيرادات على ما أفاد الشيخ الأنصاريّ.

(٦) والشيخ الأعظم أيضا اعترف بعدم اعتباره. راجع كتاب الطهارة ٢ : ٣٩٥ و ٥٤٥ ، كتاب الصلاة ١ : ٥٢٩ ، كتاب الصوم ١ : ٩٧.

(٧) هذا هو الوجه الرابع من وجوه الإيرادات على الشيخ الأعظم.

١٢٢

الامتثال من العبادات (١).

مع أنّه لو قيل (٢) باعتبار قصد الوجه في الامتثال فيها على وجه ينافيه التردّد والاحتمال فلا وجه معه (٣) للزوم مراعاة الأمر المعلوم أصلا ولو بإتيان الأقلّ ولو لم يحصل الغرض ، وللزم الاحتياط بإتيان الأكثر مع حصوله ليحصل القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال ، لاحتمال بقائه مع الأقلّ بسبب بقاء غرضه (٤) ، فافهم (٥).

__________________

(١) وبتعبير آخر : انّه لو سلّم ما ذكره فإنّما يتمّ في التعبّديّات دون التوصّليّات ، لعدم توقّف حصول الغرض فيها على قصد الوجه. وحينئذ يلزم القول بوجوب الاحتياط في التوصّليّات دون التعبّديّات ، وهو مقطوع البطلان ولم يلتزم به الشيخ الأعظم.

(٢) وهذا هو الوجه الخامس من الإيراد على الجواب الثاني الّذي ذكره الشيخ الأعظم الأنصاريّ عن الدليل الثاني. توضيحه : أنّه لو سلّم اعتبار قصد الوجه في الامتثال ففي اعتباره وجهان :

الأوّل : أن يقال باعتباره على وجه ينافيه احتمال الجزئيّة والتردّد فيها ، بأن يكون المعتبر قصد كلّ جزء جزء على ما هو عليه من الوجوب وعدمه على كلّ تقدير ، وهو متوقّف على العلم بكلّ جزء تفصيلا ، والمفروض عدمه في المقام ، فحينئذ لا يتمكّن المكلّف من امتثال ما دار أمره بين الأقلّ والأكثر ، فيسقط التكليف من رأسه ولا يلزم مراعاة المعلوم الإجماليّ أصلا ، لا بإتيان الأقلّ لأنّ المفروض عدم حصول الغرض به ، ولا بإتيان الأكثر لعدم التمكّن منه.

الثاني : أن يقال باعتباره لا على وجه ينافيه احتمال الجزئيّة والتردّد فيها ، بأن يكون المعتبر قصد الوجه مقيّدا بالتمكّن منه ، بمعنى أنّه إذا تمكّن المكلّف من قصد كلّ جزء على ما هو عليه من الوجوب وعدمه فيجب عليه قصد الوجه كذلك ، كما إذا علم جزئيّة كلّ جزء تفصيلا ، وإلّا فلا يعتبر قصد الوجه أصلا. وعليه يلزم عدم اعتبار قصد الوجه فيما دار أمره بين الأقلّ والأكثر ، لأنّ المفروض عدم تمكّن المكلّف من قصد الوجه. وحينئذ يمكن تحصيل الغرض الداعي إلى الأمر مجرّدا عن قصد الوجه. فبما أنّه يقطع باشتغال ذمّته للزم عليه الاحتياط بإتيان الأكثر ليحصل له القطع بالفراغ.

(٣) أي : مع التردّد والاحتمال.

(٤) ولا يخفى : أنّ العبارة غير خالية من الغموض. فتأمّل فيما ذكرناه في التعليقة السابقة كي يرفع غموضها ويتّضح مرام المصنّف قدس‌سره.

(٥) ولا يخفى : أنّ المحقّق الاصفهانيّ خالف المصنّف قدس‌سره وأجاب عن هذه الوجوه الخمسة دفاعا عن مرام الشيخ الأعظم الأنصاريّ ، فراجع نهاية الدراية ٢ : ٤٣٥ ـ ٦٤٤. ـ

١٢٣

هذا بحسب حكم العقل.

[جريان البراءة نقلا]

وأمّا النقل (١) : فالظاهر أنّ عموم مثل حديث الرفع قاض برفع جزئيّة ما شكّ في جزئيّته ؛ فبمثله يرتفع الإجمال والتردّد عمّا تردّد أمره بين الأقلّ والأكثر ، ويعيّنه في الأوّل.

لا يقال : إنّ جزئيّة السورة المنسيّة (٢) ـ مثلا ـ ليست بمجعولة ، وليس لها أثر

__________________

ـ ثمّ إنّ المحقّق النائينيّ وإن وافق المصنّف قدس‌سره قولا وذهب إلى وجوب الاحتياط في المقام بدليل عدم وجود ما يوجب انحلال العلم الإجماليّ في المقام ـ بدعوى أنّ الموجب لانحلال العلم الإجماليّ هو العلم التفصيليّ بوجوب الأقلّ بنحو الإطلاق ، والموجود في المقام هو العلم التفصيليّ بوجوب الأقلّ على نحو الإهمال الجامع بين الإطلاق والتقييد ـ ، إلّا أنّه أورد على الدليل الثاني الّذي أفاده المصنّف قدس‌سره لإثبات وجوب الاحتياط في المقام. ولا يهمّ التعرّض له بطوله وتفصيله بعد ما ناقش فيه بعض تلامذته. وإن شئت الاطّلاع على ما أفاده والعثور على المناقشة فيه فراجع فوائد الاصول ٤ : ١٦٥ ـ ١٨٠ ، ومصباح الاصول ٢ : ٤٣٦ ـ ٤٣٧.

(١) لكنّه لا يخفى : أنّه لا مجال للنقل فيما هو مورد حكم العقل بالاحتياط ، وهو ما إذا علم إجمالا بالتكليف الفعليّ ، ضرورة أنّه ينافيه رفع الجزئيّة المجهولة ، وإنّما يكون مورده ما إذا لم يعلم به كذلك ، بل علم مجرّد ثبوته واقعا. وبالجملة : الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة وإن كان جامعا بين الموردين ، إلّا أنّ مورد حكم العقل القطع بالفعليّة ومورد النقل هو مجرّد الخطاب بالإيجاب ، فافهم. منه [أعلى الله مقامه].

(٢) ولا يخفى : أنّ المكتوب في النسخ المخطوطة الّتي بأيدينا لفظ «السورة المنسيّة». وابدل في بعض النسخ بلفظ : «السورة المجهولة» كما ابدل لفظ «بعد التذكّر» و «إلّا مع نسيانها» بلفظي «بعد العلم» و «إلّا مع الجهل بها».

والصحيح عندنا ما أثبتناه من «السورة المنسيّة» ، «بعد التذكّر» ، «إلّا مع نسيانها» ، ضرورة أنّ لفظ «إلّا مع الجهل بها» لا يناسب قوله : «وهو معها يكون دالّا على جزئيّتها» كما ستقف على وجه عدم المناسبة ذيل التعليقة (٣) و (٤) من الصفحة : ١٢٦.

وذهب بعض المحشّين إلى أنّ الصحيح إبدال ما في النسخ المخطوطة بألفاظ «السورة المجهولة ، بعد العلم ، إلّا مع الجهل بها» ، بدعوى أنّ محلّ الكلام هو الأجزاء الخارجيّة ـ

١٢٤

مجعول ، والمرفوع بحديث الرفع إنّما هو المجعول بنفسه أو أثره. ووجوب الإعادة إنّما هو أثر بقاء الأمر الأوّل بعد التذكّر ، مع أنّه عقليّ ، وليس إلّا من باب وجوب الإطاعة عقلا (١).

__________________

ـ الّتي كانت جزئيّتها مجهولة ، فيطبّق حديث (رفع ما لا يعلمون) عليها ويحكم بنفي جزئيّتها. وأمّا الأجزاء المنسيّة فلا يطبّق عليها (رفع ما لا يعلمون) ، فهي خارجة عن محلّ البحث.

وفيه : أنّ كلام المصنّف قدس‌سره : «جزئيّة السورة المنسيّة» ناظر إلى بيان مورد من موارد الجهل بالجزئيّة ، وهي الجهل بجزئيّة الجزء المنسيّ حال النسيان ، بأن يشكّ في أنّ الجزء المنسيّ هل يبقى على جزئيّته حال النسيان فيجب إعادة المأمور به بعد التذكّر أو لا يبقى على جزئيّته حال النسيان ولا يجب إعادته بعد التذكّر؟ وحينئذ يستدلّ على نفي جزئيّته حال النسيان بفقرة : «رفع ما لا يعلمون». وأمّا الاستدلال على رفعه بفقرة : «رفع النسيان» فيتعرّض له المصنّف في ثاني التنبيهات الآتية.

(١) توضيح الإشكال : أنّ حديث الرفع انّما يشمل ما تناله يد الجعل والرفع التشريعيّين ، فلا يشمل ما إذا لم يكن المجهول مجعولا شرعيّا أو ممّا يترتّب عليه أثر شرعيّ. ومعلوم أنّ جزئيّة الجزء المنسيّ حال النسيان ليست بمجعولة ولا ممّا يترتّب عليه أثر شرعيّ ، فلا يشملها حديث الرفع.

إن قلت : إنّ الجزئيّة وإن لم تكن بنفسها أمرا مجعولا شرعيّا ، إلّا أنّها ممّا يترتّب عليه الأثر الشرعيّ ، فإنّ أثرها الشرعيّ وجوب إعادة العبادة بعد التذكّر ، كما أنّ أثر عدم جزئيّته في هذا الحال عدم وجوب إعادتها بعد التذكّر ، وعليه فيشملها حديث الرفع وتجري البراءة في الجزئيّة بلحاظ أثرها.

قلت : إنّ وجوب الإعادة ليس من آثار ثبوت الجزئيّة حال النسيان ، بل هو من آثار بقاء الأمر الأوّل المتعلّق بالمركّب التامّ على نحو الكلّي ، كقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) البقرة / ٤٣ ، أو من آثار الأمر الأوّل المتعلّق بكلّ جزء من الأجزاء على حدة كقوله عليه‌السلام : «لا تقرأ في المكتوبة بأقلّ من سورة ولا بأكثر» ـ وسائل الشيعة ٤ : ٧٣٦ ، الباب ٤ من أبواب القراءة في الصلاة ، الحديث ٢ ـ ، فإنّ اشتغال الذمّة بالأمر الأوّل يقينيّ ، وبعد التذكّر يشكّ في تحقّق الامتثال بإتيان الأقلّ الخالي عن الجزء المنسيّ وعدمه ، ويحكم العقل بأنّ الاشتغال اليقينيّ يقتضي الفراغ اليقينيّ وهو يحصل بإعادة العبادة.

مضافا إلى أنّ وجوب الإعادة ليس بأثر شرعيّ ، بل هو أثر عقليّ من باب وجوب إطاعة الأمر الأوّل الباقي على حاله ، فلا يرتفع بمثل حديث الرفع.

١٢٥

لأنّه يقال : إنّ الجزئيّة وإن كانت غير مجعولة بنفسها ، إلّا أنّها مجعولة بمنشإ انتزاعها ، وهذا كاف في صحّة رفعها (١).

لا يقال : إنّما يكون ارتفاع الأمر الانتزاعيّ برفع منشأ انتزاعه ، وهو الأمر الأوّل ، ولا دليل آخر على أمر آخر بالخالي عنه (٢).

لأنّه يقال : نعم ، وإن كان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه ، إلّا أنّ نسبة حديث الرفع ـ الناظر إلى الأدلّة الدالّة على بيان الأجزاء ـ إليها نسبة الاستثناء ، وهو معها يكون دالّا على جزئيّتها إلّا مع نسيانها (٣) ، كما لا يخفى (٤) ، فتدبّر

__________________

(١) توضيح الجواب : أنّ الجزئيّة وإن لم تكن مجعولة بنفسها ولا ممّا يترتّب عليه أثر شرعيّ ، إلّا أنّها منتزعة عن الأمر الأوّل المتعلّق بالمركّب التامّ على نحو الكلّيّ أو على نحو الجزئيّ ، والامور الانتزاعيّة مجعولة بتبع جعل منشأ انتزاعها ، كما أنّها مرفوعة بارتفاع منشأ انتزاعها ، فالجزئيّة قابلة للجعل بتبع جعل الأمر الأوّل ، وهذا كاف في صحّة رفعها بارتفاع الأمر الأوّل الّذي هو منشأ انتزاعها ، فيشملها حديث الرفع.

(٢) توضيح الإشكال : أنّكم اعترفتم بأنّ رفع جزئيّة المنسيّ حال النسيان بحديث الرفع تابع لرفع منشأ انتزاعها ، وهو الأمر الأوّل المتعلّق بالمركّب التامّ ، وإذا رفع الأمر الأوّل فيبقى المركّب بلا أمر ، وحينئذ لا يمكن الالتزام بوجوب الأقلّ ، لعدم دليل آخر ـ غير الأمر الأوّل ـ يدلّ على أمر آخر بالأقلّ الخالي عن الجزء المنسيّ المشكوك جزئيّته حال النسيان. وعدم وجوب الأقلّ ممّا لم يتفوّه به أحد.

(٣) وفي بعض النسخ : «وهو معها تكون دالّة على جزئيّتها إلّا مع الجهل بها». والصحيح ما أثبتناه. ومعنى العبارة : أنّ حديث الرفع بعد ضمّه إلى أدلّة الأجزاء يكون دالّا على جزئيّة الجزء إلّا مع نسيانها.

(٤) توضيح الجواب : أنّ مستند الأمر بالأقلّ ليس هو حديث الرفع الدالّ على جريان البراءة الشرعيّة ، كي يقال : «إثبات الأمر بالأقلّ بجريان أصالة البراءة في نفي الأكثر من قبيل إثبات أحد الضدّين بنفي الآخر ، وهو من أظهر مصاديق الاصول المثبتة الّتي لم يثبت حجيّتها». بل مستنده الجمع بين الأدلّة الدالّة على بيان جزئيّة الأجزاء وبين حديث الرفع الدالّ على عدم جزئيّتها حال نسيانها. بيان ذلك : أنّ مثل قوله عليه‌السلام : «لا تقرأ في المكتوبة بأقلّ من سورة ولا بأكثر» يدلّ على جزئيّة السورة مطلقا ، ولو في حال النسيان ، وحديث الرفع ينفي جزئيّتها حال النسيان ، فيكون نسبة حديث الرفع إلى ذلك الدليل الدالّ على جزئيّة السورة ـ

١٢٦

جيّدا (١).

[تنبيهات حول مسألة الأقلّ والأكثر]

وينبغي التنبيه على امور :

[التنبيه] الأوّل : [حكم دوران الأمر بين المشروط وغيره أو بين الخاصّ والعامّ]

أنّه ظهر ممّا مرّ (٢) حال دوران الأمر بين المشروط بشيء ومطلقه (٣) ، وبين الخاصّ ـ كالإنسان ـ وعامّه ـ كالحيوان (٤) ـ ، وأنّه لا مجال هاهنا للبراءة

__________________

ـ نسبة المستثنى إلى المستثنى منه ، فيقيّد إطلاق الأدلّة الدالّة على جزئيّة الأجزاء ـ مثل السورة ـ بحديث الرفع ، فهو بعد ضمّها إلى تلك الأدلّة يكون دالّا على اختصاص أدلّة جزئيّة مثل السورة بحال العلم والتذكّر. وأمّا في حال الجهل بجزئيّتها ـ سواء جهل بأصل جزئيّتها في أيّ حال ، أو جهل بجزئيّتها حال النسيان ـ فلا تدلّ تلك الأدلّة على جزئيّتها ، بل يدلّ حديث الرفع على صحّة الامتثال بالأقلّ الخالي عن الجزء المشكوك.

(١) وأورد عليه السيّد الإمام الخمينيّ تبعا للمحقّق العراقيّ بأنّ حديث الرفع لا يصلح لأن يكون ناظرا إلى نفي فعليّة التكليف عن الجزء المشكوك واقعا ، إذ مفاد الحديث هو مجرّد الرفع الظاهريّ الثابت في المرتبة المتأخّرة عن الجهل بالواقع ، ومثله لا يصلح لتقييد إطلاق الجزئيّة الواقعيّة المحفوظة حتّى بمرتبة فعليّتها في المرتبة السابقة عن تعلّق الجهل بها. أنوار الهداية ٢ : ٣٠٦ ، نهاية الأفكار ٣ : ٣٩٠ ـ ٣٩١.

ثمّ إنّ المحقّق النائينيّ قرّب جواز الرجوع إلى البراءة الشرعيّة بوجه آخر. وأورد عليه أيضا المحقّق العراقيّ. وتركنا كلامهما خوفا من التطويل المملّ. وإن شئت فراجع فوائد الاصول وهامشه ٤ : ١٦٢ ـ ١٦٣.

(٢) في مبحث دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

(٣) كما إذا دار الأمر بين أن يكون متعلّق التكليف هو الصلاة متستّرا أو مطلق الصلاة ، أو دار الأمر بين أن يكون المكلّف به هو عتق مطلق الرقبة أو عتق الرقبة المؤمنة.

(٤) كما إذا دار الأمر بين تعلّق التكليف بالتيمّم بالتراب أو تعلّقه بمطلق الأرض الشامل للرمل والحجر وغيرهما ، أو دار الأمر بين تعلّق التكليف بإطعام الحيوان من دون خصوصيّة أو تعلّقه بإطعام الحيوان المتميّز بفصل الناطقيّة.

١٢٧

عقلا ، بل كان الأمر فيهما (١) أظهر ، فإنّ الانحلال المتوهّم في الأقلّ والأكثر لا يكاد يتوهّم هاهنا ، بداهة أنّ الأجزاء التحليليّة لا تكاد تتّصف باللزوم من باب المقدّمة عقلا ، فالصلاة ـ مثلا ـ في ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصّة موجودة بعين وجودها وفي ضمن صلاة اخرى فاقدة لشرطها أو خصوصيّتها تكون متباينة للمأمور بها ، كما لا يخفى.

نعم ، لا بأس بجريان البراءة النقليّة في خصوص دوران الأمر بين المشروط وغيره ، دون الدوران بين الخاصّ وغيره (٢) ، لدلالة مثل حديث الرفع على عدم شرطيّة ما شكّ في شرطيّته ؛ وليس كذلك خصوصيّة الخاصّ ، فإنّها إنّما تكون منتزعة عن نفس الخاصّ ، فيكون الدوران بينه و [بين] (٣) غيره من قبيل الدوران بين المتباينين (٤) ، فتأمّل

__________________

(١) أي : في دوران الأمر بين المشروط ومطلقه ودورانه بين الخاصّ والعامّ.

(٢) وفي بعض النسخ : «دون دوران الأمر بين الخاصّ وغيره».

(٣) ما بين المعقوفتين ليس في النسخ ، وانّما أثبتناه تصحيحا للمتن.

(٤) ويتحصّل ما أفاده المصنّف قدس‌سره ذيل امور :

الأوّل : أنّ للمصنّف قدس‌سره دعويين : (إحداهما) عدم جريان البراءة العقليّة في كلا الموردين. (ثانيتهما) جريان البراءة النقليّة في المورد الأوّل دون المورد الثاني.

الثاني : أنّ الوجه في عدم جريان البراءة العقليّة في الموردين عدم وجود القدر المتيقّن في البين لينحلّ العلم الإجماليّ وتجري أصالة البراءة. بخلاف موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، حيث تجري فيها البراءة ، لانحلال العلم الإجماليّ بكون الأقلّ متيقّنا على كلّ تقدير. بيان ذلك : أنّ الأجزاء في موارد دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر أجزاء خارجيّة يمكن أن تتّصف بالوجوب على كلّ تقدير ، فتتّصف بالوجوب النفسيّ إذا لم يكن الجزء المشكوك واجبا ، فإنّ الأقلّ حينئذ مقدّمة للأكثر ؛ وحينئذ يمكن دعوى انحلال العلم الإجماليّ إلى علم تفصيليّ بوجوب الأقلّ وشكّ بدويّ في وجوب الأكثر. بخلاف الأجزاء في المقام ، فإنّها أجزاء تحليليّة لا ميز لها في الخارج ، ولا وجود لها مستقلّا ، فلا تتّصف بالوجوب النفسيّ ، كما أنّ بعضها ليس مقدّمة لبعض آخر كي تتّصف بالوجوب الغيريّ ، ضرورة أنّ ذاتي المطلق والعامّ ليستا مقدّمتين للمقيّد والخاصّ كي تكونا واجبتين على كلّ تقدير ، بل يعدّ واجد الجزء التحليليّ ـ كالصلاة متستّرا ـ وفاقده ـ أي : الصلاة عريانا ـ من المتباينين ، لا من الأقلّ والأكثر. ـ

١٢٨

جيّدا (١).

__________________

ـ الثالث : أنّ بين المشروط ومطلقه وبين الخاصّ وعامّه فرقا ، وهو يوجب الحكم بجريان البراءة النقليّة في الأوّل وعدمه في الثاني.

وحاصل الفرق بينهما : أنّ الشرطيّة خصوصيّة تنتزع من أمر الشارع ، فتكون قابلة للوضع والرفع بتبع منشأ انتزاعها ـ أي : أمر الشارع ـ ، فلا مانع من نفيه بحديث الرفع عند الشكّ فيه. بخلاف خصوصيّة الخاصّ ، كخصوصيّة الناطقيّة للحيوان ، فإنّها منتزعة عن ذات المأمور به ، لا من أمر خارج عنه كي تكون قابلة للرفع ، وحينئذ يدور الأمر بين وجوب الخاصّ ووجوب العامّ ، فيكونان من قبيل المتباينين ، والاشتغال اليقينيّ يقتضي الإتيان بالخاصّ احتياطا.

(١) لا يخفى : أنّ ما أفاده المصنّف في هذا التنبيه تعريض بالشيخ الأعظم الأنصاريّ ، فإنّه ذهب إلى جريان البراءة في كلا الموردين. راجع فرائد الاصول ٢ : ٣٥٧.

ولا يخفى أيضا : أنّ الأعلام الثلاثة والسيّدين العلمين خالفوا المصنّف قدس‌سره في المقام :

أمّا المحقّق النائينيّ : فذهب إلى جريان البراءة العقليّة والنقليّة في دوران الأمر بين المشروط ومطلقه ، بدعوى أنّ كلّا من الشرط والجزاء ممّا تناله يد الوضع والرفع التشريعيّين ، ولو بوضع منشأ انتزاعهما ورفعه.

وذهب إلى عدم جريان البراءة في دوران الأمر بين الخاصّ وعامّه. واستدلّ عليه تارة برجوعه إلى دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، لأنّه لا معنى للقول بأنّ تعلّق التكليف بالجنس متيقّن ، فإنّ الجنس لا تحصّل له في الخارج إلّا في ضمن الفصل ، فلا يعقل تعلّق التكليف به إلّا إذا كان متميّزا بفصل ، فتقيّده بالفصل متيقّن ، وإنّما الشكّ في تقيّده بفصل معيّن ـ كالناطقيّة ـ كي يكون المكلّف به هو الحيوان الخاصّ ، أو بفصل من فصوله كي يكون المكلّف به هو الحيوان العامّ ، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير ، والعقل يحكم بالتعيين ، فلا مجال للبراءة. وتارة اخرى بأنّ الترديد بين الجنس والنوع وإن كان بالتحليل العقليّ من الأقلّ والأكثر ، إلّا أنّه بنظر العرف يكون من الترديد بين المتباينين. فوائد الاصول ٤ : ٢٠٨.

ثمّ أنّه تعرّض لأقسام دوران الأمر بين التعيين والتخيير واختار في جميعها الحكم بالتعيين. فراجع فوائد الاصول ٣ : ٤١٧ ـ ٤٣٥.

وأمّا المحقّق العراقيّ : فإنّه أيضا فصّل بين دوران الأمر بين المشروط ومطلقه وبين دورانه بين الخاصّ وعامّه ، فذهب إلى جريان البراءة ـ عقلا ونقلا ـ في الأوّل وعدم جريانها في الثاني.

واستدلّ على الأوّل بأنّ مرجع الشكّ في شرطيّة شيء للمأمور به إلى الشكّ في أنّ موضوع التكليف النفسيّ هل هو ذات الشيء أو الشيء مقيّدا بشيء آخر ، وحينئذ تجري البراءة.

واستدلّ على الثاني بعدم تحقّق ملاك الأقلّ والأكثر فيه ، فإنّ الملاك هو كون الأقلّ على ـ

١٢٩

__________________

ـ نحو يكون سوى حدّه الأقلّيّة محفوظا في ضمن الأكثر ، وهو مفقود في المقام ، لأنّ الطبيعيّ المطلق بما هو جامع الحصص لا يكون محفوظا في ضمن زيد مثلا ، بل انّما المحفوظ في ضمنه هو الحصّة الخاصّة من الطبيعيّ ، فلا يندرج في الأقلّ والأكثر ويرجع إلى الاحتياط. نهاية الأفكار ٣ : ٣٩٦ ـ ٣٩٧.

وفصّل بينهما المحقّق الأصفهانيّ في نهاية الدراية ٢ : ٦٥٤ ـ ٦٥٧.

وذهب السيّد الإمام الخمينيّ إلى جريان البراءة في كلا الموردين. واستدلّ عليه بما لفظه : «أنّ ملاك جريان البراءة موجود في جميع الموارد المتقدّمة ، فإنّ جميع الأمثلة في الوجود الخارجيّ موجودة بوجود واحد ، وفي الانحلال العقليّ تنحلّ إلى المعلوم والمشكوك فيه ، فالصلاة المشروطة بالطهارة عين الصلاة في الخارج ، كما أنّ الرقبة المؤمنة عين مطلقها فيه ، والإنسان عين الحيوان ؛ وإنّما الفرق في التحليل العقليّ ، وهو أيضا في جميعها على السواء ، فكما تنحلّ الصلاة المشروطة بالصلاة والاشتراط كذا ينحلّ الإنسان بالحيوان والناطق. ففي جريان البراءة وعدم تماميّة الحجّة بالنسبة إلى الزائد لا فرق بين جميع الموارد». أنوار الهداية ٢ : ٣١٤ ، تهذيب الاصول ٢ : ٤٠١.

وأمّا السيّد المحقّق الخوئيّ : فذهب إلى جريان البراءة العقليّة والنقليّة في دوران الأمر بين المشروط ومطلقه ، سواء كان ما يحتمل دخله في المأمور به على نحو الشرطيّة موجودا مستقلّا ، كما إذا احتمل دخل التستّر في الصلاة ، أو لم يكن موجودا مستقلّا عن المأمور به بل كان من مقوّماته الداخلة في حقيقته ، كما إذا احتمل اعتبار الإيمان في عتق الرقبة.

وأمّا في دوران الأمر بين الخاصّ والعامّ فبعد تسليم رجوع دوران الأمر بينهما إلى دوران الأمر بين التخيير والتعيين أشار إلى حكم ما ذكره المحقّق النائينيّ من الأقسام الثلاثة لدوران الأمر بين التخيير والتعيين :

القسم الأوّل : ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مرحلة الجعل في الأحكام الواقعيّة ، كما إذا شكّ في أنّ صلاة الجمعة في عصر الغيبة هل هي واجب تعيينيّ أو تخييريّ. فالمرجع حينئذ هو البراءة عن وجوب الإتيان بخصوص ما يحتمل كونه واجبا تعيينا.

القسم الثاني : ما إذا دار الأمر بينهما في مرحلة الجعل في الأحكام الظاهريّة ومقام الحجّيّة ، كما إذا شكّ في أنّ تقليد الأعلم واجب تعيينيّ أو واجب تخييريّ. والحقّ فيه هو الحكم بالتعيين.

القسم الثالث : ما إذا دار الأمر بينهما في مقام الامتثال لأجل التزاحم ، كما إذا كان هناك غريقان يحتمل كون أحدهما بعينه نبيّا ، ولم نتمكّن إلّا من إنقاذ أحدهما ، فيدور الأمر بين وجوب إنقاذه تعيينا أو تخييرا بينه وبين الآخر. والحكم حينئذ هو التعيين أيضا. راجع ـ

١٣٠

الثاني : [حكم الجزء أو الشرط المتروك نسيانا]

أنّه لا يخفى أنّ الأصل فيما إذا شكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته في حال نسيانه عقلا ونقلا (١) ما ذكر في الشكّ في أصل الجزئيّة أو الشرطيّة ؛ فلو لا مثل حديث الرفع مطلقا و «لا تعاد» في الصلاة (٢) لحكم عقلا بلزوم إعادة ما اخلّ بجزئه أو شرطه نسيانا ، كما هو الحال فيما ثبت شرعا جزئيّته أو شرطيّته مطلقا ، نصّا (٣) أو إجماعا (٤).

ثمّ لا يذهب عليك (٥) : أنّه كما يمكن رفع الجزئيّة أو الشرطيّة في هذا الحال

__________________

ـ تفصيل كلامه في دراسات في الاصول ٣ : ٤٣٦ ـ ٤٤٦.

(١) قيدان لقوله : «الأصل».

(٢) أي : ومثل حديث لا تعاد في الصلاة. وإليك نصّ الحديث : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود». تهذيب الأحكام ٢ : ١٦١ ، الحديث ٥٩٧ ؛ وسائل الشيعة ١ : ٢٦٠ ، الباب ٣ من أبواب الوضوء ، الحديث ٨.

(٣) كالخمسة المستثناة في حديث «لا تعاد».

(٤) كتكبيرة الإحرام ، فإنّها ممّا قام الإجماع على اعتباره ، ويعمّ معقده جميع الحالات.

(٥) لا يخفى : أنّ ما أفاده المصنّف قدس‌سره بقوله : «ثمّ لا يذهب عليك» تعريض بالشيخ الأعظم الأنصاريّ. وتوضيح وجه التعريض موقوف على بيان محلّ البحث وذكر ما ذهب إليه الشيخ الأعظم وإيضاح ما أفاده المصنّف قدس‌سره في المقام.

أمّا محلّ البحث : فهو في أنّه إذا ثبت جزئيّة شيء أو شرطيّته ودار الأمر بين كون الجزئيّة مطلقة ليبطل العمل بفقدانه ولو في حال النسيان وبين كونها مختصّة بحال الذكر ليختصّ البطلان بصورة تركه عمدا ، فهل القاعدة تقتضي الإطلاق ما لم يثبت التقييد بدليل خاصّ أو تقتضي الاختصاص بحال الذكر ما لم يثبت الإطلاق بدليل خاصّ؟ ومنشأ النزاع أنّه هل يمكن تعلّق التكليف وتوجيه الخطاب بالناقص إلى الناسي ، فيصر الواجب ما عدا الجزء أو الشرط المنسيّ ، ولا يجب إعادته بعد التذكّر ، أو لا يمكن توجيه التكليف إليه كذلك ، بل التكليف ساقط عنه وإذا التفت وجب عليه إعادة المأمور به؟

ذهب الشيخ الأعظم إلى استحالة تعلّق التكليف بالناسي بعنوان الناسي. واستدلّ عليه بأنّ الناسي لا يمكن أن يلتفت إلى نسيانه في حال النسيان ، بل بمجرّد الالتفات إلى نسيانه يزول النسيان وينقلب إلى الذاكر. وبما أنّ التكليف إليه لا يمكن أن يكون باعثا ومحرّكا للعبد نحو ـ

١٣١

بمثل حديث الرفع ، كذلك يمكن تخصيصها (١) بهذا الحال بحسب الأدلّة الاجتهاديّة ؛ كما إذا وجّه الخطاب على نحو يعمّ الذاكر والناسي بالخالي عمّا شكّ في دخله مطلقا ، وقد دلّ دليل آخر على دخله في حقّ الذاكر ؛ أو وجّه إلى الناسي خطاب يخصّه بوجوب الخالي بعنوان آخر عامّ أو خاصّ ، لا بعنوان الناسي كي يلزم استحالة إيجاب ذلك عليه بهذا العنوان ، لخروجه عنه بتوجيه الخطاب إليه لا محالة ؛ كما توهّم لذلك استحالة تخصيص الجزئيّة أو الشرطيّة بحال الذكر وإيجاب العمل الخالي عن المنسيّ على الناسي ، فلا تغفل(٢).

__________________

ـ العمل إلّا مع الالتفات إليه وإلى موضوعه ، وما لم يمكن الانبعاث لا يمكن البعث بالضرورة ، فلا يمكن توجيه التكليف إليه فعلا. فرائد الاصول ٢ : ٣٦٣.

ولكن ذهب المصنّف قدس‌سره إلى إمكان توجيه التكليف بالناقص إلى الناسي لا بعنوان الناسي ، بل بأحد طريقين :

الأوّل : ما أشار إليه بقوله : «كما إذا وجّه الخطاب ...». وحاصله : أن يتعلّق التكليف بما عدا الجزء المنسيّ ، سواء كان المكلّف ذاكرا أو ناسيا ، ثمّ يتعلّق تكليف آخر لخصوص الذاكر بالجزء الّذي يذكره ، فيختصّ الناسي بالتكليف بما عدا الجزء المنسيّ بعنوان أنّه مكلّف لا بعنوان أنّه ناس.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «أو وجّه إلى الناسي ...». وحاصله : أن يوجّه الخطاب بالناقص إلى الناسي لا بعنوان الناسي ، بل بعنوان آخر ملازم للنسيان واقعا ، كقليل الحافظة أو بلغمي المزاج وغيرهما ، فيكون الخطاب باعثا ومحرّكا حال النسيان.

والحاصل : أنّه يمكن اختصاص الجزئيّة أو الشرطيّة بحال الذكر وتخصيصها بحال النسيان ، فيقال : «لا يعتبر الجزء والشرط في المأمور به إلّا في حال النسيان».

وممّا ذكرنا يظهر أنّه يمكن الجمع بين كلام الشيخ وكلام المصنّف قدس‌سره ، بأن يقال : «توجّه التكليف إلى الناسي بعنوان الناسي محال ، وبعنوان آخر ممكن».

(١) وفي بعض النسخ : «تخصيصهما». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) وقد وقع كلام الشيخ والمصنّف مورد النقض والإبرام عند المحقّقين من الأعلام ، فذكروا وجوها أخر في إثبات إمكان توجيه التكليف إلى الناسي وجريان البراءة في الجزء أو الشرط المنسيّ. فراجع فوائد الاصول ٤ : ٢١٠ ، نهاية الأفكار ٣ : ٤٢٠ ـ ٤٢٢ ، نهاية الدراية ٢ : ٦٥٩ ـ ٦٦٦ ، أجود التقريرات ٢ : ٣٠٤ ـ ٣١٠ ، درر الفوائد ٢ : ١٤١ ـ ١٤٣ ، أنوار الهداية ٢ : ٣٣٣ ـ ٣٤٧ ، مصباح الاصول ٢ : ٤٦٠ ـ ٤٦٥ ، مجمع الأفكار ٣ : ٥٦٢ ـ ٥٦٦.

١٣٢

الثالث : [حكم زيادة الجزء عمدا أو سهوا]

انّه ظهر ممّا مرّ حال زيادة الجزء إذا شكّ في اعتبار عدمها شرطا أو شطرا في الواجب مع عدم اعتباره في جزئيّته (١) ، وإلّا لم يكن من زيادته بل من نقصانه ، وذلك لاندراجه في الشكّ في دخل شيء فيه جزءا أو شرطا ، فيصحّ لو أتى به مع الزيادة عمدا تشريعا ، أو جهلا ـ قصورا أو تقصيرا أو سهوا ، وإن استقلّ العقل ـ لو لا النقل (٢) ـ بلزوم الاحتياط لقاعدة الاشتغال (٣).

نعم ، لو كان عبادة وأتى به كذلك على نحو لو لم يكن للزائد دخل فيه لما يدعو إليه وجوبه (٤) ، لكان باطلا مطلقا ، أو في صورة عدم دخله فيه (٥) ، لعدم قصد الامتثال (٦) في هذه الصورة ، مع استقلال العقل بلزوم الإعادة مع اشتباه الحال ،

__________________

(١) أي : مع عدم اعتبار عدم زيادة الجزء في جزئيّة الجزء. والمراد أنّه يعتبر أن لا يكون الجزء الزائد الّذي شكّ في اعتبار عدم زيادته مقيّدا بقيد الوحدة ، كالركوع ، فإنّه يعتبر في جزئيّة الركوع قيد الوحدة ، بحيث لو أتى به مرّتين صدق عليه نقص الجزء ، لأنّ إتيانه مرّتين يوجب بطلانه رأسا ، فيصدق أنّ الصلاة فاقدة للركوع.

(٢) وفي بعض النسخ : «لولاه».

(٣) والحاصل : أنّ المجرى فيه أصالة البراءة الشرعيّة دون العقليّة ، فلولا البراءة النقليّة القاضية بعدم مانعيّة الزيادة كان مقتضى الاحتياط العقليّ بطلان الواجب ولزوم إعادته.

(٤) أي : نعم ، إذا لم يكن الواجب توصّليّا بل كان عبادة وأتى به مع الزيادة ـ عمدا تشريعا أو جهلا أو سهوا ـ بقصد كونها جزءا للواجب بحيث لو لم تكن الزيادة جزءا للواجب ودخيلا فيه لم يكن وجوب الواجب داعيا ومحرّكا للمكلّف إلى الواجب.

(٥) أي : عدم دخل الزائد في الواجب.

ولعلّ الوجه في ترديد المصنّف قدس‌سره أنّه على القول باعتبار الجزم في النيّة يكون الواجب باطلا مطلقا ، لعدم تحقّقه على كلّ حال ، ضرورة أنّه لم يقصد امتثال الأمر ، فلم يحقّق الجزم.

وعلى القول بعدم اعتبار الجزم في النيّة يكون الواجب باطلا في خصوص صورة عدم دخله واقعا ، إذ في صورة الدخل لا قصور في الامتثال ، لوجود قصد الأمر في المأتيّ به.

(٦) وفي بعض النسخ : «لعدم قصور الامتثال». والصحيح ما أثبتناه ، أو ما في بعض النسخ : «ولعدم تصوّر الامتثال».

١٣٣

لقاعدة الاشتغال. وأمّا لو أتى به على نحو يدعوه إليه على أيّ حال ، كان صحيحا ، ولو كان مشرّعا في دخله الزائد فيه بنحو مع عدم علمه بدخله ، فإنّ تشريعه في تطبيق المأتيّ مع المأمور به ، وهو لا ينافي قصده الامتثال والتقرّب به على كلّ حال (١).

ثمّ إنّه ربّما تمسّك لصحّة ما أتى به مع الزيادة باستصحاب الصحّة (٢). وهو

__________________

(١) ولا يخفى : أنّ كلام المصنّف قدس‌سره في المقام ناظر إلى ما أفاده الشيخ الأعظم والإيراد عليه.

توضيحه : أنّ الشيخ الأعظم ـ بعد ما أشار إلى اعتبار قصد الجزئيّة في صدق الزيادة وأنّ الإتيان بصورة الجزء بلا قصد الجزئيّة لا يحقّق الزيادة ـ ذكر أنّ الزيادة العمديّة تتصوّر على وجوه ثلاثة :

الأوّل : أن يأتي بالجزء الزائد بقصد كونه جزءا مستقلّا ، كما لو اعتقد شرعا أو تشريعا أنّ الواجب في كلّ ركعة ركوعان.

الثاني : أن يأتي به بقصد كون المجموع من المزيد والمزيد عليه جزءا واحدا ، كما لو اعتقد أنّ الواجب في الصلاة جنس الركوع الصادق على الواحد والمتعدّد.

الثالث : أن يأتي بالزائد بدلا عن المزيد عليه.

ثمّ حكم بفساد العبادة في الصورة الاولى مطلقا ، وعدم فسادها في الصورتين الأخيرتين.

واستدلّ على الفساد في الصورة الاولى بأنّ ما قصده لم يقع وما وقع لم يقصد. راجع فرائد الاصول ٢ : ٣٧٠ ـ ٣٧١.

والمصنّف قدس‌سره لم يذهب إلى الفساد في الصورة الاولى بقول مطلق ، بل فصّل في المقام بأنّ الواجب لو كان توصّليّا فالعمل صحيح في جميع الصور المذكورة ، وأمّا لو كان عبادة فلا يخلو : إمّا أن يأتي المكلّف بالمركّب المشتمل على الجزء الزائد بداعي الأمر المتعلّق بهذا المركّب ، بنحو لو كان الأمر متعلّقا بالمركّب الخالي عن الجزء الزائد لم يكن في مقام امتثاله ، فحينئذ يكون العمل باطلا ، إذ المكلّف لم يقصد الأمر الواقعيّ على ما هو عليه ، بل قصد أمرا لا ثبوت له في الواقع.

وإمّا أن يأتي بالمركّب بداعى الأمر الواقعيّ المتعلّق به ، فيقصد إتيان العمل العباديّ على ما هو عليه في الواقع ، غاية الأمر يعتقد أنّ الأمر الواقعيّ هو الأمر المتعلّق بالمركّب المشتمل على الزائد من جهة الخطأ أو التشريع في مقام التطبيق. فحينئذ يكون العمل صحيحا ، لأنّه أتى بالواجب الواقعيّ على ما هو عليه ، وقصد الزيادة من جهة الخطأ في التطبيق ، وهو لا يضرّ في قصد الامتثال والتقرّب.

(٢) تمسّك به الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٢٧٣. وصحّحه المحقّق العراقيّ وذهب إلى جريانه. راجع نهاية الأفكار ٣ : ٤٦٧ و ٤ : ٢٤١.

١٣٤

لا يخلو من كلام ونقض وإبرام خارج عمّا هو المهمّ في المقام ، ويأتي تحقيقه في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى (١).

الرابع : [حكم الشكّ في كون الجزء أو الشرط ركنا]

[المختار : البراءة عن الباقي]

أنّه لو علم بجزئيّة شيء أو شرطيّته في الجملة ودار الأمر بين (٢) أن يكون جزءا أو شرطا مطلقا ولو في حال العجز عنه ، وبين أن يكون جزءا أو شرطا في خصوص حال التمكّن منه ـ فيسقط الأمر بالعجز عنه على الأوّل ، لعدم القدرة حينئذ على المأمور به ، لا على الثاني فيبقى متعلّقا بالباقي (٣) ـ ، ولم يكن هناك ما يعيّن أحد الأمرين من إطلاق دليل اعتباره جزءا أو شرطا ، أو إطلاق دليل المأمور به مع إجمال دليل اعتباره أو إهماله ، لاستقلّ (٤) العقل بالبراءة عن الباقي ، فإنّ العقاب على تركه بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان.

لا يقال : نعم ، ولكنّ قضيّة مثل حديث الرفع عدم الجزئيّة أو الشرطيّة إلّا في حال التمكّن منه (٥).

فإنّه يقال : إنّه لا مجال هاهنا لمثله ، بداهة أنّه ورد في مقام الامتنان ، فيختصّ بما يوجب نفي التكليف ، لا إثباته.

__________________

(١) لا يخفى : أنّ المصنّف قدس‌سره لم يتعرّض لتحقيقه في مبحث الاستصحاب. وإن شئت تحقيق المطلب فراجع نهاية الدراية ٢ : ٦٧٧ ـ ٦٩٣ ، فوائد الاصول ٤ : ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

(٢) وفي بعض النسخ : «ودار بين».

(٣) وفي بعض النسخ : «معلّقا بالباقي». والأولى ما أثبتناه.

(٤) جواب قوله : «لو علم ...».

(٥) وبما أنّ المكلّف متعذّر من إتيان الجزء فيرفع جزئيّة الجزء المتعذّر في حال التعذّر ويثبت ما عدا المتعذّر من الأجزاء والشرائط.

وأجاب المحقّق الاصفهانيّ عن الإشكال المذكور بوجهين آخرين أيضا. فراجع نهاية الدراية ٢ : ٦٩٥ ـ ٦٩٦.

١٣٥

[ضعف الاستدلال بالاستصحاب على وجوب الباقي]

نعم ، ربما يقال : «إنّ قضيّة الاستصحاب في بعض الصور (١) وجوب الباقي في حال التعذّر أيضا». ولكنّه لا يكاد يصحّ إلّا بناء على صحّة القسم الثالث من استصحاب الكلّي (٢) ، أو على المسامحة في تعيين الموضوع في الاستصحاب وكان ما تعذّر ممّا يسامح به عرفا (٣) بحيث يصدق مع تعذّره بقاء الوجوب لو قيل بوجوب الباقي ، وارتفاعه لو قيل بعدم وجوبه. ويأتي تحقيق الكلام فيه (٤) في غير المقام (٥).

[ضعف الاستدلال بقاعدة الميسور على وجوب الباقي]

كما أنّ وجوب الباقي في الجملة ربّما قيل (٦) بكونه مقتضى ما يستفاد من

__________________

(١) وهي صورة العلم بوجوب الباقي قبل طرو العجز.

(٢) فيقال : إنّ المركّب ـ بما هو مركّب ـ واجب بالوجوب النفسيّ ، وأجزائه واجب بالوجوب الغيريّ. وإذا ارتفع الوجوب النفسيّ بمجرّد تعذّر واحد من الأجزاء يرتفع الوجوب الغيريّ المتعلّق بالأجزاء أيضا. وفي المقام نعلم بارتفاع الوجوب الغيريّ المتعلّق بالأجزاء الباقية بمجرّد ارتفاع الوجوب النفسيّ المتعلّق بالمركّب بالتعذّر ، ونشكّ في حدوث الوجوب للأجزاء الباقية بوجوب حادث نفسيّ مقارنا لتعذّر بعض الأجزاء ، فنستصحب الوجوب الجامع بين الغيريّ المرتفع بتعذّر البعض والنفسيّ المحتمل حدوثه للباقي مقارنا لارتفاع الوجوب الغيريّ.

(٣) أي : إنّ العرف يرى الباقي والمركّب التامّ شيئا واحدا.

(٤) أي : في صحّة القسم الثالث من الاستصحاب الكلّيّ أو المسامحة في تعيين الموضوع في الاستصحاب.

(٥) يأتي في التنبيه الثالث والتنبيه الرابع عشر من تنبيهات الاستصحاب ، فلاحظ الصفحة : ٢١٦ و ٢٢٣ من هذا الجزء.

ولا يخفى : أنّه قد ذكر في كتب الأعلام من المحقّقين وجوه أخر في تقريب الاستصحاب في المقام ، ثمّ وقعت هذه الوجوه موردا للنقض والإبرام. ولا يهمّ التعرّض لها. وإن شئت الاطّلاع عليها فراجع أجود التقريرات ٢ : ٤٤٤ ـ ٤٤٥ ، نهاية الدراية ٢ : ٦٩٧ ـ ٧٠١ ، نهاية الأفكار ٣ : ٤٤٩ ـ ٤٥٢ ، مصباح الاصول ٢ : ٤٧٢ ـ ٤٧٤ ، أنوار الهداية ٢ : ٣٨٠ ـ ٣٨٥ ، منتهى الاصول ٢ : ٣٤٤ ـ ٣٤٧.

(٦) تعرّض له الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٢ : ٣٨٩.

١٣٦

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» (١) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الميسور لا يسقط بالمعسور» (٢) ، وقوله عليه‌السلام : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (٣).

ودلالة الأوّل مبنيّة على كون كلمة «من» تبعيضيّة ، لا بيانيّة ، ولا بمعنى الباء (٤) ؛ وظهورها في التبعيض وإن كان ممّا لا يكاد يخفى (٥) ، إلّا أنّ كونه بحسب الأجزاء غير واضح ، لاحتمال أن يكون بلحاظ الأفراد.

ولو سلّم ، فلا محيص عن أنّه هاهنا بهذا اللحاظ يراد ، حيث ورد جوابا عن

__________________

(١) هذا مضمون الرواية ، وقد وردت بألفاظ مختلفة. راجع عوالي اللآلي ٤ : ٥٨ ، الحديث ٢٠٦ ، وبحار الأنوار ٢٢ : ٣١ ، وصحيح مسلم ٤ : ١٠٢ ، وصحيح البخاريّ ٨ : ١٤٢.

(٢) هذا مضمون الرواية. وإليك نصّها : «لا يترك الميسور بالمعسور». عوالي اللآلي ٤ : ٥٨ ، الحديث ٢٠٥.

(٣) عوالي اللآلي ٤ : ٥٨ ، الحديث ٢٠٧.

(٤) وقد ذكر المحقّق النراقيّ لمعنى كلمة «من» في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فأتوا منه ...» احتمالات أربعة :

الأوّل : أن تكون كلمة «من» للتبعيض ، ويكون «منه» مفعولا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فأتوا». ويكون المعنى : فأتوا بعضه ، البعض الّذي استطعتم.

الثاني : أن تكون كلمة «من» للتبعيض ، ويكون المفعول قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما استطعتم». فيكون المعنى : فأتوا ما استطعتم حال كونه بعضه.

الثالث : أن تكون كلمة «من» مرادفة للباء. فيكون المعنى : فأتوا به ما دامت استطاعتكم.

الرابع : أن تكون كلمة «من» بيانيّة ، بأن تكون بيانا للمأتي أو للموصول. وعليه يكون المعنى : فأتوا ما استطعتم منه بعضا أو كلّا.

ثمّ أفاد أنّ دلالة الحديث على المقام مبتنية على الاحتمالين الأوّلين أو الشقّ الثاني من الأخير ، وهو غير معلوم. راجع عوائد الأيام : ٢٦٢ ـ ٢٦٥.

(٥) كما أنّ الشيخ الأعظم أوضح دلالتها على المدّعى ، ودفع الاحتمال الثالث والشقّ الأوّل من الاحتمال الأخير ، وبنى على ظهور لفظ «من» في التبعيض. فرائد الاصول ٢ : ٣٩٠.

وقد أفاد المحقّق الاصفهاني تقريبا لكلام الشيخ الأنصاريّ ما حاصله : أنّه لا معنى لكون «من» بيانيّة ، لأنّ مدخولها ـ وهو الضمير ـ لا يصلح لأن يكون بيانا للشيء ، فإنّ الضمير مبهم. وأمّا كونها بمعنى الباء فالّذي يوهمه أنّ الإتيان لا يتعدّى بنفسه وانّما يتعدّى بالباء ؛ ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ الإتيان قد يتعدّى بنفسه ، كقوله تعالى : (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) ـ الأحزاب / ١٨ ـ ، وقد يتعدّى بالباء ، كقوله تعالى : (يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) ـ النساء / ١٩ ـ. نهاية الدراية ٢ : ٧٠٢.

١٣٧

السؤال عن تكرار الحجّ بعد أمره به (١). فقد روي أنّه خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال :

__________________

(١) حاصل الإشكال : أنّ المراد من «الشيء» بقرينة المورد هو الكلّيّ الّذي له أفراد طوليّة ، لا الكلّ المركّب من الأجزاء ، فإنّ المسئول عنه في الرواية هو وجوب تكرار الحجّ وعدمه بعد تعلّق الأمر به ، فتختصّ الرواية بالكلّي ذي الأفراد الطوليّة ، ويكون مفادها الكلّيّ بمقدار استطاعتكم. وعليه لا تشمل الرواية المركّب ذا الأجزاء الّذي هو محلّ البحث. فالاستدلال بها على المقام غير تامّ.

وقد تبعه كثير من الأعلام المتأخّرين وأوردوا على الاستدلال بالرواية بوجوه أخر. فينبغي أن نتعرّض لما أفادوه محصّلا.

أمّا المحقّق الاصفهانيّ : فذهب إلى أنّ كلمة «من» ليست بمعنى التبعيض بعنوانه حتّى لا يلائم الكلّي ، بل هي لمجرّد اقتطاع مدخولها عن متعلّقه ، وهذا الاقتطاع قد يوافق التبعيض أحيانا. وبما أنّ الفرد منشعب من الكلّي لانطباقه عليه ، صحّ اقتطاع ما يستطاع منه ، ولا يتعيّن مع ذلك إرادة المركّب ، بل المتيقّن بحسب مورد الرواية هو الكلّي ، فإنّه يلائم لفظ «الشيء» وكلمة «من» وكون كلمة «ما» بمعنى الموصول. نهاية الدراية ٢ : ٧٠٣.

وأمّا المحقّق النائينيّ : فذهب إلى اختصاص الرواية بالكلّيّ الّذي له أفراد طوليّة ، ولا تشمل الكلّ المركّب من الأجزاء ، وذلك بقرينة مورد الرواية.

ثمّ أفاد أنّ إرادة الأعمّ من الكلّ والكلّي من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أمرتكم بشيء ...» توجب استعمال لفظة «من» في الأكثر ، لعدم الجامع بين الأجزاء والأفراد ، ولحاظ الأجزاء يباين لحاظ الأفراد ، فلا يصحّ استعمال كلمة «من» في الأعمّ ، وإن صحّ استعمال كلمة «شيء» فيه. فوائد الاصول ٤ : ٢٤٥ ـ ٢٥٥.

وأمّا المحقّق العراقيّ : فهو ـ بعد ما أجاب عن إشكال المصنّف قدس‌سره على الاستدلال بالرواية بأنّ مورد الرواية وإن كان الكلّيّ ذا أفراد ، إلّا أنّ مجرّد ذلك لا يقتضي تخصيصها بذلك ، فإنّ العبرة في مقام استفادة الحكم انّما هي عموم اللفظ لا خصوصيّة المورد ، فمع عموم كلمة «الشيء» لا يقتضي مجرّد تطبيقه على مورد خاصّ تخصيص عمومه به.

ثمّ ـ بعد ما أجاب عن إشكال المحقّق النائينيّ على الاستدلال من لزوم استعمال اللفظ في الأكثر بأن لا مانع من إرادة الكلّي والكلّ من الشيء المأمور به ، حيث يمكن إرادة التبعيض من الكلّي بلحاظ حصصه الموجودة في ضمن أفراده ـ أورد على الاستدلال بالرواية بأنّ العموم المستفاد من كلمة «شيء» وشموله لكلّ من الكلّ والكلّيّ انّما هو من جهة الإطلاق ومقدّمات الحكمة ، وحيث أنّ من مقدّماتها انتفاء القدر المتيقّن في مقام التخاطب فلا مجال للأخذ بإطلاقه ، لوجود القدر المتيقّن في المقام ، وهو ما يقتضيه المورد ـ

١٣٨

«إنّ الله كتب عليكم الحجّ» ، فقام عكاشه ـ ويروى سراقة بن مالك ـ فقال : أفي كلّ عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه ، حتّى أعاد مرّتين أو ثلاثا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ويحك! وما يؤمنك أن أقول : نعم ، والله لو قلت : نعم ، لوجب ، ولو وجب ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتم ، وإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» (١).

ومن ذلك ظهر الإشكال في دلالة الثاني أيضا ، حيث لم يظهر في عدم سقوط الميسور من الأجزاء بمعسورها ، لاحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من أفراد

__________________

ـ من الكلّيّ الّذي ذي أفراد ، فلا يصحّ الاستدلال بها على إثبات وجود ما عدا الجزء المتعذّر منه. نهاية الأفكار ٣ : ٤٥٦.

وأنت خبير : بأنّ ما أفاده المحقّق العراقيّ يرجع إلى ما أفاده المحقّق الأصفهانيّ.

وأمّا السيّد الإمام الخمينيّ : فذهب ـ بعد ما أجاب عن إشكال المصنّف قدس‌سره وإشكال المحقّق النائينيّ على الاستدلال بالرواية ـ إلى اختصاص الرواية بالكلّي. وحاصل ما أفاده : أنّ الظاهر من الرواية بالنظر إلى صدرها إرادة الأفراد ، لا الأجزاء ، ولا الأعمّ منهما ، فإنّ الظاهر من صدر الرواية أنّ إعراض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن عكاشة ـ أو سراقة ـ واعتراضه عليه يكون من جهة أنّ العقل يحكم بأنّ الطبيعة إذا وجبت يسقط وجوبها بإتيان أوّل مصداق منها ، فبعد هذا الحكم العقليّ لا مجال للسؤال والإصرار عليه ، ولذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ويحك ما يؤمنك أن أقول : نعم؟! ولو قلت : نعم ، لوجب» أي : في كلّ سنة. أنوار الهداية ٢ : ٣٨٨ ـ ٣٨٩.

وأمّا السيّد المحقّق الخوئيّ : فهو بعد ما ذكر لمعنى الرواية محتملات ثلاثة اختار ثالثها ، وهو كون كلمة «من» زائدة أو كونها للتعدية بمعنى الباء وكون كلمة «ما» مصدريّة زمانيّة. وعليه فلا مجال للاستدلال بالرواية على المقام. مصباح الاصول ٢ : ٤٧٨ ـ ٤٨٠.

وأورد السيّد المحقّق البروجرديّ على الاستدلال بالرواية ـ مضافا إلى ضعفها سندا ـ بأنّ الظاهر منها عدم كون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقام التشريع والتأسيس ، بل يحتمل كونه في مقام الإرشاد والموعظة ، فلا تدلّ على إثبات وجوب ما عدا الجزء المتعذّر منه. راجع حاشيته على كفاية الاصول ٢ : ٣١٠.

(١) رواه المجلسيّ في بحار الأنوار ٣٢ : ٣١ ، والطبرسيّ في مجمع البيان ٣ : ٣٨٦ ، مع اختلاف في بعض الألفاظ.

١٣٩

العامّ بالمعسور منها ، هذا (١). مضافا إلى عدم دلالته على عدم السقوط لزوما ، لعدم اختصاصه بالواجب. ولا مجال معه (٢) لتوهّم دلالته على أنّه بنحو اللزوم ، إلّا أن يكون المراد عدم سقوطه بما له من الحكم ـ وجوبا كان أو ندبا ـ بسبب سقوطه عن المعسور (٣) ، بأن تكون قضيّة الميسور كناية عن عدم سقوطه بحكمه ، حيث إنّ الظاهر من مثله هو ذلك ـ كما أنّ الظاهر من مثل «لا ضرر ولا ضرار» (٤) هو نفي ما له من تكليف أو وضع ـ ، لا أنّها (٥) عبارة عن عدم سقوطه بنفسه وبقائه على عهدة المكلّف (٦) ، كي لا يكون له دلالة على جريان القاعدة في المستحبّات على

__________________

(١) وخالفه الأعلام الثلاثة :

فذهب المحقّق الاصفهانيّ إلى ظهور الرواية في خصوص عدم سقوط الميسور من الأجزاء ، لأنّ السقوط متفرّع على الثبوت ، ولو كان المراد الميسور من الأفراد لا وجه لتوهّم سقوط الحكم عن فرد بسبب سقوطه عن فرد آخر ليحكم عليه بعدم السقوط ، فلا يناسب توهّم السقوط إلّا في الميسور من الأجزاء. نهاية الدراية ٢ : ٧٠٣.

وذهب المحقّق النائينيّ أيضا إلى ظهورها في خصوص الميسور من الأجزاء وتماميّة دلالتها على ما نحن فيه. فوائد الاصول ٤ : ٢٥٥.

وذهب المحقّق العراقيّ إلى ظهورها في عدم سقوط الميسور من كلّ شيء بسقوط معسوره ، وهو أعمّ من الأجزاء الميسورة من الكلّ والأفراد الميسورة من الكلّي. نهاية الأفكار ٣ : ٤٥٧.

(٢) أي : مع عدم دلالته على عدم السقوط لزوما.

(٣) وهذا ما اختاره المحقّقان النائينيّ والعراقيّ ، واستدلّا عليه بأنّ مثل هذه العبارة ظاهر في عدم سقوط ما ثبت سابقا وبقائه في العهدة لاحقا بعين ثبوته سابقا ، وهو يرجع إلى إبقاء الحكم السابق ، وجوبا كان أو استحبابا ، نظير قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ». راجع فوائد الاصول ٤ : ٢٥٥ ، نهاية الأفكار ٣ : ٤٥٧ ـ ٤٥٨.

وأورد عليهما السيّد الإمام الخمينيّ بأنّ الحكم الوحدانيّ الثابت للمركّب والإرادة الوحدانيّة المتعلّقة بالمجموع الوحدانيّ لا يمكن بقاؤهما بعد عدم بقاء الموضوع والمتعلّق ، وعدم بقاء المركّب بعدم بعض الأجزاء ضروريّ ، فكيف يمكن بقاؤهما؟! راجع هامش أنوار الهداية ٢ : ٣٩١.

(٤) وسائل الشيعة ١٧ : ٣٤١ ، الباب ١٢ من أبواب إحياء الموات ، الحديث ٣.

(٥) أي : قضيّة الميسور.

(٦) لا يخفى : أنّ في مرجع الضميرين في قوليه : «عدم سقوطه» و «وبقائه» وجهان :

١٤٠