كفاية الأصول - ج ٣

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-562-2
الصفحات: ٤٤٣

الحلّية (١) ؛ ومع الشكّ في تلك الخصوصيّة فالأصل عدم تحقّق التذكية بمجرّد

__________________

(١) المراد من الخصوصيّة هو قابليّة الحيوان للتذكية المفيدة للحلّ والطهارة أو للطهارة فقط.

والضمير المستتر في «يؤثّر» راجع إلى فري الأوداج الأربعة مع سائر الشرائط.

والضمير في قوله : «فيه» يرجع إلى الحيوان.

وقوله : «الطهارة» مفعول لقوله : «يؤثّر».

فمعنى العبارة : أنّ فري الأوداج الأربعة بشرائطه يؤثّر في الحيوان بسبب خصوصيّة قابليّته للتذكية الطهارة وحدها ـ كما في تذكية غير المسوخ ممّا لا يؤكل ـ أو الطهارة مع الحلّيّة ـ كما في تذكية مأكول اللحم ـ.

ولا يخفى : أنّه قد ذكر في معنى التذكية محتملات :

الأوّل : أنّها عبارة عن المجموع المركّب من الامور الخاصّة الخارجيّة ـ أي فري الأوداج الأربعة بالحديد على القبلة مع التسمية وكون الذابح مسلما ـ ومن قابليّة المحلّ ، فتكون القابليّة جزءا من معنى التذكية.

الثاني : أنّها عبارة عن خصوص الامور الخارجيّة الصادرة من الفاعل مشروطا بورودها على المحلّ القابل ، فتكون القابليّة خارجة من مفهوم التذكية ومأخوذة بنحو الشرطيّة ، بحيث لم تطلق التذكية على تلك الامور إلّا إذا وردت على المحلّ القابل.

الثالث : أنّها عبارة عن خصوص الامور الخاصّة الخارجيّة الصادرة من الفاعل ، سواء وردت على المحلّ القابل أم لا ، غاية الأمر أنّ تأثير تلك الامور في الطهارة والحلّيّة مشروط بقابليّة المحلّ ، فلا تكون القابليّة داخلة في مفهوم التذكية ولا شرطا في تحقّقه ، بل هي شرط في تأثيرها في الطهارة والحلّيّة.

الرابع : أنّها عبارة عن معنى بسيط وحدانيّ يتحصّل من الأفعال الخاصّة وقابليّة المحلّ.

الخامس : أنّها عبارة عمّا يساوق النزاهة والنظافة والطهارة ، فتكون التذكية من الاعتبارات الشرعيّة المتحقّقة بالأفعال الخاصّة الخارجيّة.

السادس : أنّ التذكية عبارة عن أمر وجوديّ هو إزهاق الروح بفري المسلم الأوداج الأربعة متوجّها للحيوان إلى القبلة ذاكرا اسم الله مع قابليّته للتذكية. فتكون التذكية اسما للمسبّب عن فري الأوداج بشرائطه ، وهو إزهاق الروح. وتكون القابليّة مأخوذة بنحو الشرطيّة.

وفي كلام المصنّف وجهان : (أحدهما) أن يحمل كلامه على المعنى الثاني. و (ثانيهما) أن يحمل على المعنى الثالث. والأقرب حمله على المعنى الثالث. وهو مختار المحقّقين النائينيّ والعراقيّ في فوائد الاصول ٣ : ٣٨٢ وأجود التقريرات ٢ : ١٩٤ ونهاية الأفكار ٣ : ٢٥٧.

وظاهر كلام المحقّق الاصفهانيّ هو الخامس. راجع نهاية الدراية ٢ : ٥١٢. ـ

٦١

الفري بسائر شرائطها ، كما لا يخفى.

نعم ، لو علم بقبوله التذكية وشكّ في الحلّيّة فأصالة الإباحة فيه محكّمة ، فإنّه حينئذ إنّما يشكّ في أنّ هذا الحيوان المذكّى حلال أو حرام ، ولا أصل فيه إلّا أصالة الإباحة ، كسائر ما شكّ في أنّه من الحلال أو الحرام (١).

هذا إذا لم يكن هناك أصل موضوعيّ آخر مثبت لقبوله التذكية ، كما إذا شكّ ـ مثلا ـ في أنّ الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليّته لها أم لا؟ فأصالة قبوله لها معه محكّمة (٢) ، ومعها لا مجال لأصالة عدم تحقّقها ، فهو قبل الجلل كان يطهر ويحلّ بالفري بسائر شرائطها فالأصل أنّه كذلك بعده.

وممّا ذكرنا ظهر الحال فيما اشتبهت حلّيّته وحرمته بالشبهة الموضوعيّة من الحيوان ، وأنّ أصالة عدم التذكية محكّمة فيما شكّ فيها لأجل الشكّ في تحقّق ما اعتبر في التذكية شرعا.

كما أنّ أصالة قبول التذكية محكّمة إذا شكّ في طروء ما يمنع عنه ، فيحكم بها فيما احرز الفري بسائر شرائطها عداه (٣) ، كما لا يخفى ، فتأمّل جيّدا.

__________________

ـ وصريح كلام السيّد الإمام الخمينيّ ـ في كتاب الطهارة ٣ : ٥٢٥ ـ هو المعنى السادس.

هذا ، وتصديق بعض المحتملات خارج عن المقام ، فإنّه مربوط بالبحث الفقهيّ.

(١) وقد أورد عليه المحقّق الاصفهانيّ بما حاصله : أنّ القابليّة والخصوصيّة المفروضة في الحيوان تختلف بحسب الموارد ، فربّما حيوان له قابليّة للحلّيّة والطهارة فتؤثّر التذكية فيهما ، كما في تذكية مأكول اللحم ؛ وربّما حيوان له قابليّة للطهارة فقط فتؤثّر التذكية فيها فقط ، كما في تذكية غير المسوخ ممّا لا يؤكل لحمه ؛ وربّما حيوان له قابليّة للحلّيّة فقط فتؤثّر التذكية فيها فقط ، كما في السمك ، فإنّ ميتته طاهرة ولا ترتبط طهارته بتذكيته. وهذا يكشف أنّ الخصوصيّة والقابليّة المؤثّرة في بعض الحيوانات غير الخصوصيّة والقابليّة المؤثّرة في غيرها.

وعليه فإذا شككنا في حلّيّة الحيوان يرجع الشكّ إلى ثبوت القابليّة الّتي بها تؤثّر التذكية في حلّيّته وإن علمنا بثبوت القابليّة الّتي بها تؤثّر التذكية في طهارته ، ومعه لا مجال لأصالة الحلّ ، بل تجري أصالة عدم تلك القابليّة المستتبع عدم التذكية المؤثّرة في حلّيّته. نهاية الدراية ٢ : ٥١٤.

(٢) أي : فأصالة قبول الحيوان للتذكية مع الجلل محكّمة.

(٣) أي : ما عدا ما يمنع عن قبول التذكية.

٦٢

[التنبيه] الثاني : [حسن الاحتياط شرعا وعقلا]

أنّه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا وعقلا في الشبهة الوجوبيّة أو التحريميّة ، في العبادات وغيرها. كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب فيما إذا احتاط وأتى أو ترك بداعي احتمال الأمر أو النهي.

[تقرير إشكال الاحتياط في العبادة]

وربما يشكل في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب من جهة أنّ العبادة لا بدّ فيها من نيّة القربة المتوقّفة على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا (١).

[ما قيل في الجواب عن إشكال الاحتياط ، والإيراد عليه]

وحسن الاحتياط عقلا (٢) لا يكاد يجدي في رفع الإشكال ولو قيل بكونه

__________________

(١) حاصل الإشكال : أنّه لا يمكن جريان الاحتياط فيما لو دار الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب. بيان ذلك: أنّه لا شكّ في اعتبار قصد القربة ـ بمعنى قصد امتثال الأمر ـ في العمل العباديّ ، وهو متوقّف على العلم بتعلّق أمر الشارع بالعمل تفصيلا ـ كالعلم بتعلّق الأمر بصلاة الظهر إذا حان وقته ـ أو إجمالا ـ كالعلم بتعلّق الأمر بإحدى الصلوات الأربع عند اشتباه القبلة ـ ، فمع الجهل بتعلّق أمر الشارع بالعمل لا يمكن قصد القربة ، ومعلوم أنّ الشكّ بين الوجوب وغير الاستحباب يرجع إلى الشكّ بين تعلّق الأمر بالعمل وعدمه ، وإذا شكّ في تعلّق الأمر بالعمل لم يكن الاحتياط به من الاحتياط في العبادة ، فإنّ الاحتياط من العبادة عبارة عن الإتيان بمحتمل العبادة ، ومع عدم إحراز تعلّق الأمر بالعمل لا يمكن قصد امتثال الأمر به ، فيكون الإتيان به بلا نيّة القربة ، وحينئذ يعلم بأنّ المأتي به ليس عبادة قطعا.

هذا كلّه فيما إذا دار الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب ، وأمّا إذا دار الأمر بين الوجوب والاستحباب ، فلا مجال للإشكال ، للعلم بالأمر المصحّح لنيّة القربة.

وهذا الإشكال تعرّض له الشيخ الأعظم في فرائد الاصول ٢ : ١٥٠ ـ ١٥١.

(٢) إشارة إلى الجواب الأوّل من الأجوبة الّتي ذكروها لدفع الإشكال المتقدّم. وهو مركّب ـ

٦٣

__________________

ـ من قياسين :

الأوّل : أنّ الاحتياط حسن عقلا ، وكلّ ما حكم العقل بحسنه حكم الشرع بحسنه ، فالاحتياط حسن شرعا.

الثاني : الاحتياط حسن شرعا ، وكلّ ما حكم الشرع بحسنه تعلّق الأمر به شرعا ، فالاحتياط تعلّق به الأمر شرعا.

والحاصل : أنّ الاحتياط لمّا كان حسنا عقلا كان ـ بمقتضى قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ـ متعلّقا للأمر الشرعيّ ، فيثبت الأمر به بنحو اللمّ ، وقصد هذا الأمر الشرعيّ كاف في الاحتياط في العبادة.

وقد ناقشه المصنّف قدس‌سره بوجهين :

الأوّل : ما أشار إليه بقوله : «ولو قيل بكونه موجبا لتعلّق الأمر به شرعا». ثمّ وضّحه بقوله الآتي : «مع أنّ حسن الاحتياط لا يكون بكاشف ... بل يكون حاله في ذلك حال الإطاعة ، فإنّه نحو من الانقياد والطاعة». وحاصل ما أفاده : أنّ حسن الاحتياط عقلا انّما يدلّ ـ بقاعدة الملازمة ـ على تعلّق الأمر الإرشاديّ بالاحتياط ، والأمر الإرشاديّ لا يصلح للتقرّب به. وبعبارة اخرى : لا يستكشف من قاعدة الملازمة تعلّق الأمر المولويّ بالاحتياط كي يمكن قصد امتثاله والتقرّب به ، بل غاية ما يستكشف منه تعلّق الأمر الإرشاديّ به ، ومن المعلوم أنّ الأمر الإرشاديّ لا يصلح للتقرّب به.

والوجه في عدم استكشافه من قاعدة الملازمة أنّ مورد قاعدة الملازمة هو الحكم العقليّ الواقع في مرتبة علل الأحكام من المصالح والمفاسد ، فإنّ هذا الحكم نشأ عن مصلحة في نفس متعلّقه ويكشف بقاعدة الملازمة أنّه مأمور به شرعا. وأمّا الحكم العقليّ الواقع في مرتبة معلولات الأحكام ـ من الإطاعة والمعصية والثواب والعقاب ـ فليس من موارد قاعدة الملازمة. والحكم العقليّ في باب الاحتياط من قبيل الثاني ، فإنّ حكم العقل بحسن الاحتياط كحكمه بحسن الإطاعة وقبح المعصية ، فحكمه بحسنه واقع في مرتبة معلولات الأحكام ، وحينئذ لا يكون الأمر بالاحتياط ـ المستفاد من قاعدة الملازمة أو الأخبار ـ إلّا إرشادا إلى ما يستقلّ به العقل من حسن الانقياد واستيفاء الواقع والتحرّز عن الوقوع في المفسدة الواقعيّة وفوات المصلحة النفس الأمريّة. فلا يستكشف من قاعدة الملازمة تعلّق الأمر الشرعيّ المولويّ بالاحتياط.

وهذا الوجه تعرّض له المحقّق النائينيّ وارتضى به على ما في فوائد الاصول ٣ : ٣٩٩.

ولكنّ المحقّق الأصفهانيّ أورد على هذا الوجه بما حاصله : أنّ قياس أوامر الاحتياط ـ

٦٤

__________________

ـ بأوامر الإطاعة قياس مع الفارق ، لأنّ المانع عن تعلّق الأمر المولويّ بالطاعة ليس مجرّد استقلال العقل بحسنها ، ولا كون حسن الطاعة في رتبة متأخّرة عن الأمر ، بل المانع عن تعلّق الأمر المولويّ بها هو عدم قابليّة موردها للحكم المولويّ ، لكونه محكوما عليه بالحكم المولويّ ، فإثبات الحكم المولويّ الآخر في موردها لغو. ومعلوم أنّ هذا المانع في موارد الاحتياط مفقود ، ضرورة أنّه ليس في موارد الاحتياط إلّا مجرّد احتمال الأمر المولويّ ، وهذا الاحتمال لا يكفي للدعوة ، فلا مانع من أن يأمر المولى نحو المحتمل مولويّا. نهاية الدراية ٢ : ٥٢٢ ـ ٥٢٣.

وهذا الإيراد أورده السيّد المحقّق الخوئيّ أيضا على المحقّق النائينيّ بتقرير آخر. راجع مصباح الاصول ٢ : ٣١٧ ـ ٣١٨.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «بداهة توقّفه على ثبوته ... من مبادئ ثبوته؟!». وحاصله : أنّه لو سلّم استكشاف تعلّق الأمر المولويّ بالاحتياط من قاعدة الملازمة ، لا يكاد يجدى إثبات الأمر به في رفع الإشكال ، للزوم الدور. وتوضيحه : أنّ الاحتياط في العبادة عبارة عن إتيان العبادة بجميع ما يعتبر فيها من الأجزاء والشرائط ، ومن شرائطها إتيانها بقصد أمرها ، فلا يتحقّق الاحتياط في العبادة إلّا إذا احرز كونها مأمورا بها ، فالأمر بالاحتياط بهذا الاعتبار مقدّم على الاحتياط تقدّم الموضوع على حكمه ، وهو باعتبار كونه مستكشفا من حكم العقل بحسن الاحتياط مؤخّر عن الاحتياط تأخّر الحكم عن موضوعه. وعليه فالأمر بالاحتياط متوقّف على ثبوت الاحتياط ، وهو متوقّف على الأمر به ، وهذا دور باطل.

وقد أورد المحقّق الأصفهانيّ على هذا الوجه بما حاصله : أنّ العارض على قسمين :

أحدهما : عارض الوجود. وهو ما يحتاج إلى موضوع موجود ، كالبياض المحتاج في وجوده إلى موضوع موجود.

ثانيهما : عارض الماهيّة. وهو ما لا يحتاج إلى موضوع موجود خارجا أو ذهنا ، بل ثبوت المعروض هاهنا بثبوت عارضه ، والعروض تحليليّ ، كالفصل العارض على الجنس ، فإنّ الجنس في حدّ ذاته مبهمة ولا يتعيّن إلّا بعروض الفصل ، فلا ثبوت له إلّا بثبوت الفصل.

والحكم بالإضافة إلى موضوعه من قبيل عوارض الماهيّة ، فإنّ الحكم عارض على ماهيّة العمل لا على وجوده ، فلا يتوقّف ثبوته على ثبوت موضوعه ، بل يثبت موضوعه بثبوته ويكون العروض تحليليّا ، فلا دور ، إذ ليس هناك تعدّد الوجود حتّى يلزم الدور.

ثمّ تصدّى للمناقشة في الجواب الأوّل بوجه آخر ، فقال : «الأمر الاحتياطيّ إن تعلّق بذات الفعل بعنوانه لا بعنوان التحفّظ على الواقع فإنّه وإن أمكن أخذ قصد الأمر في موضوع ـ

٦٥

موجبا لتعلّق الأمر به شرعا ، بداهة توقّفه على ثبوته (١) توقّف العارض على معروضه ، فكيف يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته؟!

وانقدح بذلك (٢) أنّه لا يكاد يجدي في رفعه أيضا القول بتعلّق الأمر به من جهة ترتّب الثواب عليه (٣) ، ضرورة أنّه فرع إمكانه ، فكيف يكون من مبادئ جريانه؟! هذا.

مع أنّ حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلّق الأمر به بنحو اللمّ ، ولا ترتّب الثواب عليه بكاشف عنه بنحو الإنّ ، بل يكون حاله في ذلك حال

__________________

ـ نفسه إلّا أنّ لازمه خروج الشيء عن كونه احتياطا ، لأنّ موضوعه محتمل الوجوب حتّى ينحفظ عليه ؛ وبعد فرض تعلّق الأمر بذات الفعل بقصد هذا الأمر كان تحقيقا للعبادة الواقعيّة المعلومة المنافية لعنوان الاحتياط ، وهو خلف. وإن تعلّق الأمر بالاحتياط بعنوانه المأخوذ فيه قصد شخص الأمر فهو خلف من وجه آخر ، لأنّ معناه جعل الاحتياط عبادة ، لا جعل الاحتياط في العبادة ، والكلام في الثاني دون الأوّل». نهاية الدراية ٢ : ٥١٨ ـ ٥٢٢.

(١) أي : توقّف الأمر بالاحتياط على ثبوت الاحتياط.

(٢) أي : بما مرّ في المناقشة على الجواب الأوّل.

(٣) وهذا هو الجواب الثاني من الأجوبة الّتي ذكروها للجواب عن الإشكال المتقدّم. وحاصله : أنّ ترتّب الثواب على الاحتياط يكشف ـ بنحو الإنّ ـ عن تعلّق الأمر به ، لأنّ ثبوت الثواب معلول ثبوت الأمر ، فيحرز به تعلّق الأمر الشرعيّ بالاحتياط.

وناقش فيه المصنّف قدس‌سره أيضا بالوجهين السابقين :

أحدهما : ما أشار إليه بقوله : «ضرورة أنّه فرع إمكانه ...». وحاصله : أنّ ترتّب الثواب على الاحتياط فرع إمكان الاحتياط ، وقد مرّ عدم إمكانه لمحذور الدور ، فلا يمكن استكشاف تعلّق الأمر بالاحتياط من ترتّب الثواب عليه.

ثانيهما : ما أشار إليه بقوله الآتي : «ولا ترتّب الثواب عليه بكاشف بنحو الإنّ ...».

وحاصله : أنّ ترتّب الثواب على الاحتياط لا يستلزم الأمر المولويّ به ، فإنّ حال الاحتياط في ترتّب الثواب عليه حال الإطاعة فيه ، فكما أنّ الطاعة الحقيقيّة حسنة عقلا ويترتّب عليها الثواب بمجرّد كونها في نفسها انقيادا من دون تعلّق الأمر المولويّ به فكذلك الاحتياط ، فلا يكشف تعلّق الأمر الشرعيّ من ترتّب الثواب عليه.

ولا يخفى : أنّ ما أفاده المحقّق الأصفهانيّ إيرادا على الوجهين جار في المقام أيضا.

٦٦

الإطاعة (١) ، فإنّه نحو من الانقياد والطاعة.

وما قيل (٢) في دفعه : من كون المراد بالاحتياط في العبادات هو مجرّد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة (٣).

فيه : ـ مضافا إلى عدم مساعدة دليل حينئذ على حسنه بهذا المعنى فيها (٤) ، بداهة أنّه (٥) ليس باحتياط حقيقة ، بل هو أمر (٦) لو دلّ عليه دليل كان مطلوبا مولويّا نفسيّا عباديّا ؛ والعقل لا يستقلّ إلّا بحسن الاحتياط ، والنقل لا يكاد يرشد إلّا إليه. نعم ، لو كان هناك دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة لما كان محيص عن دلالته اقتضاء على أنّ المراد به ذاك المعنى بناء على عدم إمكانه فيها بمعناه حقيقة ، كما لا يخفى ـ أنّه التزام بالإشكال وعدم جريانه

__________________

(١) أي : بل يكون حال الاحتياط في حسنه وترتّب الثواب عليه حال الإطاعة.

(٢) والقائل هو الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٢ : ١٥٢ ـ ١٥٣.

(٣) هذا هو الجواب الثالث من الأجوبة المذكورة في دفع إشكال الاحتياط في العبادة. وهو ما أفاد الشيخ الأعظم الأنصاريّ. وتوضيحه : أنّ في أوامر الاحتياط الواردة في الأخبار وجهين :

الأوّل : أن يكون المراد من الاحتياط المأمور به هو الاحتياط بمعناه الحقيقيّ ، وهو إتيان العمل بجميع ما يعتبر فيه من الأجزاء والشرائط حتّى نيّة التقرّب وقصد الأمر.

الثاني : أن يكون المراد من الاحتياط المأمور به هو الاحتياط بمعناه المجازيّ ، وهو إتيان العمل الجامع لتمام ما يعتبر فيه إلّا نيّة التقرّب وقصد الأمر.

والتحقيق أنّ محذور الدور إنّما يلزم على الوجه الأوّل ، ولكنّه غير مراد. وأمّا على الوجه الثاني ـ وهو المراد من الاحتياط في الروايات الآمرة به ـ فلا يستلزم محذور الدور ، إذ لا يكون قصد القربة ـ أي قصد الأمر ـ دخيلا في موضوع الأمر بالاحتياط ، بل كان موضوعه مجرّد إتيان الفعل بجميع أجزائه وشرائطه عدا نيّة القربة. وحينئذ يمكن تحقّق عنوان الاحتياط في العبادة بالإتيان بالعمل بتمام أجزائه وشرائطه ـ عدا نيّة القربة ـ ولو مع الجهل بتعلّق الأمر به ، بل يكفي احتمال الأمر به شرعا. وعليه فيمكن للمكلّف أن يقصد التقرّب بهذا العمل بنفس الأمر بالاحتياط. فرائد الاصول ٢ : ١٥٢ ـ ١٥٣.

(٤) أي : حسن الاحتياط في العبادات بالمعنى المجازيّ.

(٥) أي : الاحتياط بالمعنى المجازيّ.

(٦) أي : بل مجرّد إتيان المركّب بجميع أجزائه وشرائطه عدا نيّة القربة فعل لو دلّ عليه ...

٦٧

فيها (١) ، وهو كما ترى.

[الجواب الصحيح عن الإشكال المذكور]

قلت : لا يخفى أنّ منشأ الإشكال هو تخيّل كون القربة المعتبرة في العبادة مثل سائر الشروط المعتبرة فيها ممّا يتعلّق بها الأمر المتعلّق بها ، فيشكل جريانه حينئذ ، لعدم التمكّن من جميع ما اعتبر فيها (٢) ، وقد عرفت (٣) أنّه فاسد (٤) ، وإنّما اعتبر قصد القربة فيها عقلا لأجل أنّ الغرض منها لا يكاد يحصل بدونه ، وعليه كان جريان الاحتياط فيه بمكان من الإمكان ، ضرورة التمكّن من الإتيان بما احتمل وجوبه بتمامه وكماله ؛ غاية الأمر أنّه لا بدّ أن يؤتى به على نحو لو كان مأمورا به لكان مقرّبا ، بأن يؤتى به بداعي احتمال الأمر أو احتمال كونه محبوبا له تعالى ، فيقع حينئذ على تقدير الأمر به امتثالا لأمره تعالى ، وعلى تقدير عدمه انقيادا لجنابه تبارك وتعالى ، ويستحقّ الثواب على كلّ حال إمّا على الطاعة أو

__________________

(١) أي : والتزام بعدم جريان الاحتياط في العبادة.

(٢) وفي بعض النسخ : «لعدم التمكّن من قصد القربة المعتبر فيها».

(٣) راجع الجزء الأوّل : ١٣٩ ـ ١٤٠.

(٤) هذا. مع أنّه لو اغمض عن فساده لما كان في الاحتياط في العبادات إشكال غير الإشكال فيها. فكما يلتزم في دفعه بتعدّد الأمر فيها ليتعلّق أحدهما بنفس الفعل والآخر بإتيانه بداعي أمره كذلك فيما احتمل وجوبه منها كان على هذا احتمال أمرين كذلك ، أي أحدهما كان متعلّقا بنفسه والآخر بإتيانه بداعي ذاك الأمر ، فيتمكّن من الاحتياط فيها بإتيان ما احتمل وجوبه بداعي رجاء أمره واحتماله ، فيقع عبادة وإطاعة لو كان واجبا ، وانقيادا لو لم يكن كذلك. نعم ، كان بين الاحتياط هاهنا وفي التوصّليّات فرق ، وهو أنّ المأتيّ به فيها قطعا كان موافقا لما احتمل وجوبه مطلقا ، بخلافه هاهنا ، فإنّه لا يوافق إلّا على تقدير وجوبه واقعا ، لما عرفت من عدم كونه عبادة إلّا على هذا التقدير ، ولكنّه ليس بفارق ، لكونه عبادة على تقدير الحاجة إليه وكونه واجبا. ودعوى عدم كفاية الإتيان برجاء الأمر في صيرورته عبادة أصلا ولو على هذا التقدير مجازفة ، ضرورة استقلال العقل بكونه امتثالا لأمره على نحو العبادة لو كان ، وهو الحاكم في باب الإطاعة والعصيان ، فتأمّل جيّدا. منه [أعلى الله مقامه].

٦٨

الانقياد (١).

وقد انقدح بذلك أنّه لا حاجة في جريانه في العبادات إلى تعلّق أمر بها ، بل لو فرض تعلّقه بها لما كان من الاحتياط بشيء ، بل [كان] (٢) كسائر ما علم وجوبه أو استحبابه منها ، كما لا يخفى.

[حول الجواب عن الإشكال بقاعدة التسامح في أدلّة السنن]

فظهر أنّه لو قيل (٣) ب «دلالة أخبار (من بلغه ثواب) (٤) على استحباب

__________________

(١) والحاصل : أنّ الإشكال المذكور في المتن انّما يلزم بناء على أنّ عباديّة العبادة متوقّفة على الإتيان بها بقصد الأمر الجزميّ. وليس الأمر كذلك ، بل يكفي في عباديّة العمل مجرّد إتيانه بداع قربيّ إلهيّ ، فيكفي أن يؤتى بالعمل برجاء المطلوبيّة أو المحبوبيّة مع احتمال تعلّق أمر المولى به. وحينئذ فإن كان المأتيّ به مأمورا به في الواقع صار المكلّف مطيعا ، وإن لم يكن مأمورا به صار منقادا.

وهذا الجواب تشبّث به كثير من المتأخّرين ، فراجع فرائد الاصول ٣ : ٤٠ ـ ٤١ ، نهاية الأفكار ٣ : ٢٧٤ ، أنوار الهداية ٢ : ١٢٥ ، مصباح الاصول ٢ : ٣١٦.

(٢) ما بين المعقوفتين ليس في النسخ.

(٣) كما قال به الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٢ : ١٥٢ ـ ١٥٣.

(٤) وهي أخبار كثيرة يستدلّ بها على قاعدة التسامح في أدلّة السنن :

منها : صحيحة هشام بن سالم الآتية في المتن آنفا.

ومنها : ما روي عن صفوان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أنّه قال : «من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به كان له أجر ذلك وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله». وسائل الشيعة ١ : ٥٩ ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١.

ومنها : خبر محمّد بن مروان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «من بلغه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان له ذلك الثواب ، وإن كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله». وسائل الشيعة ١ : ٦٠ ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٤.

ومنها : خبره الآخر ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : «من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه». المصدر السابق ، الحديث ٧.

ومنها : خبر آخر عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «من سمع شيئا من الثواب ـ

٦٩

العمل الّذي بلغ عليه الثواب ولو بخبر ضعيف» لما كان يجدي في جريانه (١) في خصوص ما دلّ على وجوبه أو استحبابه خبر ضعيف ، بل كان ـ عليه ـ مستحبّا (٢) ، كسائر ما دلّ الدليل على استحبابه (٣).

__________________

ـ على شيء فصنعه كان له وإن لم يكن على ما بلغه». وسائل الشيعة ١ : ٦٠ ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٦.

وهذه الأخبار هي المدرك لقاعدة التسامح في أدلّة السنن الّتي مفادها إثبات الاستحباب بالخبر الضعيف. وسيأتي مزيد توضيح آنفا.

(١) أي : في جريان الاحتياط في العبادة.

(٢) أي : بل كان العمل ـ على القول بدلالة تلك الأخبار على استحبابه ـ مستحبّا.

(٣) غرض المصنّف قدس‌سره من العبارة هو الإشارة إلى ضعف جواب آخر عن إشكال الاحتياط في العبادة.

توضيح الجواب : أنّ الشيخ الأعظم الأنصاريّ ـ بعد ما أجاب عن إشكال الاحتياط في العبادة بما مرّ ـ تعرّض لجواب آخر ، وهو : أنّ مدار إشكال الاحتياط في العبادة هو عدم إحراز تعلّق الأمر بالعمل ، فإنّ الاحتياط في العبادة عبارة عن إتيان العمل العباديّ بجميع ما له دخل فيه ، حتّى قصد الأمر ؛ فإذا دار الأمر بين كون عمل واجبا وكونه غير مستحبّ شكّ في تعلّق الأمر به وعدمه ، وما لم يحرز تعلّق الأمر به لا يتمشّى منه قصد القربة ، وما لم يتمشّ قصد القربة لم يتحقّق الاحتياط في العبادة. هذا. ويمكن دفع الإشكال باستكشاف تعلّق الأمر به من أخبار «من بلغ» ، فإنّها تدلّ على ثبوت الثواب في كلّ عمل يأتي به المكلّف بداعى التماس الثواب ، وثبوت الثواب لعمل دليل على استحبابه ، فهذه الأخبار تكشف عن تعلّق الأمر الاستحبابيّ بالعمل الّذي كان أمره دائرا بين الوجوب وغير الاستحباب ، فإنّ المكلّف يأتي به بداعى التماس الثواب. فيمكن له أن يتقرّب به بقصد امتثال أمره.

ثمّ ناقش الشيخ في هذا الجواب بأن ثبوت الثواب غير ملازم للاستحباب ولا بكاشف عن تعلّق الأمر بالشيء ، لاحتمال كون الثواب على الانقياد. راجع فرائد الاصول ٢ : ١٥٣ ـ ١٥٤.

وأمّا المصنّف قدس‌سره فناقش في الجواب بوجه آخر ، حاصله : أنّه لو سلّم دلالة أخبار «من بلغ» على استحباب كلّ فعل يأتي به المكلّف بداعى التماس الثواب ، لم يكن الإتيان بالفعل الدائر بين الوجوب وغير الاستحباب بداعي أمره المستفاد من أخبار «من بلغ» من الاحتياط ، بل حينئذ يثبت الأمر الاستحبابيّ لهذا العمل حقيقة ، ويكون إتيانه مستحبّا واقعا ، فلا مساس له حينئذ بالاحتياط المتقوّم باحتمال الأمر.

وبالجملة : فلا يجدي الأمر الاستحبابيّ المستفاد من أخبار «من بلغ» في إمكان الاحتياط في العبادة.

٧٠

لا يقال : هذا لو قيل بدلالتها على استحباب نفس العمل الّذي بلغ عليه الثواب بعنوانه (١) ، وأمّا لو دلّ (٢) على استحبابه لا بهذا العنوان ، بل بعنوان أنّه محتمل الثواب (٣) ، لكانت دالّة على استحباب الإتيان به بعنوان الاحتياط ، كأوامر الاحتياط لو قيل بأنّها للطلب المولويّ لا الإرشاديّ.

فإنّه يقال : إنّ الأمر بعنوان الاحتياط (٤) ولو كان مولويّا لكان توصّليّا (٥). مع أنّه لو كان عباديّا لما كان مصحّحا للاحتياط ومجديا في جريانه في العبادات ، كما أشرنا إليه آنفا(٦).

[مفاد أخبار من بلغ]

ثمّ أنّه لا يبعد دلالة بعض تلك الأخبار (٧) على استحباب ما بلغ عليه الثواب ، فإنّ صحيحة هشام بن سالم المحكيّة عن المحاسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من بلغه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له ، وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله» (٨) ظاهرة في أنّ الأجر كان مترتّبا على نفس العمل الّذي

__________________

(١) أي : بعنوانه الأوّلي.

(٢) هكذا في جميع النسخ. ولكن الصحيح أن يقول : «لو دلّت».

(٣) بمعنى أنّها تدلّ على أنّ كلّ عمل متحمل الثواب مستحبّ.

(٤) هكذا في جميع النسخ. والصحيح أن يقول : «أنّ الأمر به بعنوان الاحتياط».

(٥) إذ لم يدل دليل على تعبّديّته ولا على توصّليّته ، والأصل حينئذ هو التوصّليّة. وإذا كان الأمر به ـ بعنوان الاحتياط ومحتمل الثواب ـ توصّليّا لم ينفع في تصحيح قصد القربة في العبادة المشكوكة.

(٦) حيث قال : «لما كان يجدي في جريانه ...». وحاصله : أنّه إذا دلّت أخبار «من بلغ» على استحباب محتمل الثواب صار العمل مستحبّا ، وحينئذ لا مجال للاحتياط المتقوّم باحتمال الأمر ، سواء صار نفس العمل مستحبّا بعنوانه الأوّلي أو صار مستحبّا بعنوان محتمل الثواب.

(٧) أي : أخبار «من بلغ».

(٨) المحاسن (للبرقيّ) ١ : ٢٥ ، الحديث ٢ ؛ وسائل الشيعة ١ : ٦٠ الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٣.

٧١

بلغه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه ذو ثواب (١).

وكون العمل متفرّعا على البلوغ ، وكونه الداعي إلى العمل (٢) ، غير موجب

__________________

(١) لا يخفى : أنّ المحتمل في مفاد صحيحة هشام بن سالم وغيرها من أخبار «من بلغ» وجوه كثيرة ، والمهمّ منها ستّة :

الأوّل : أن يكون مفادها حجّيّة خبر الضعيف بالنسبة إلى الاستحباب ، سواء قام على وجوب الشيء أو على استحبابه. فعليه يثبت الاستحباب بكلّ خبر ضعيف لم يكن موثوق الصدور. وهذا هو المناسب لما اشتهر في كلمات القوم من التسامح في أدلّة السنن.

الثاني : أن يكون مفادها إسقاط شرائط حجّيّة الخبر ـ من الوثاقة أو العدالة ـ في باب المستحبّات ، فلا يعتبر في الخبر الواحد القائم على استحباب الشيء ما يعتبر في الخبر الواحد القائم على وجوب الشيء. وهذا ما قوّاه المحقّق النائينيّ ـ بعد ما نسبه إلى المشهور ـ. فوائد الاصول ٣ : ٤١٥ ـ ٤١٦.

الثالث : أن يكون مفادها استحباب نفس العمل الّذي بلغ الثواب عليه ، فإذا بلغ ثواب على عمل في رواية صحّ الحكم باستحباب ذلك العمل. وعليه يكون بلوغ الثواب جهة تعليليّة للحكم باستحباب نفس العمل. وهذا ما اختاره المصنّف قدس‌سره في المقام. وتبعه تلميذه المحقّق الأصفهانيّ في نهاية الدراية ٢ : ٥٣٠ ـ ٥٤٠.

الرابع : أن يكون مفادها استحباب العمل بوصف كونه ممّا بلغ عليه الثواب ، بحيث يكون بلوغ الثواب جهة تقييديّة ودخيلا في موضوع الحكم ، فيكون المستحبّ هو العمل المأتيّ به برجاء الثواب عليه. وهذا ما يظهر من كلمات الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٢ : ١٥٥. وذهب إليه بعض المعاصرين في قواعده الفقهيّة ٣ : ٢٩٥ ـ ٢٩٧.

الخامس : أنّ مفادها هو الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الاحتياط والانقياد وترتّب الثواب على إتيان العمل الّذي بلغ عليه الثواب برجاء الثواب عليه ، سواء كان محتمل الوجوب فأتاه حفظا للواجب ، أو كان محتمل الندب فأتاه حفظا للمندوب. وهذا ما ذهب إليه المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ٣ : ٢٧٨ ـ ٢٧٩. وهو الظاهر أيضا من كلمات السيّد الإمام الخمينيّ في أنوار الهداية ٢ : ١٣٢.

السادس : أنّ مفادها مجرّد الإخبار عن فضل الله تعالى وأنّه سبحانه يتفضّل على العامل بإعطاء الثواب بما بلغه وأتاه. وهذا مختار المحقّق الخوئيّ في مصباح الاصول ٢ : ٣١٩.

ولا يخفى أيضا : أنّ البحث عن مفاد أخبار «من بلغ» مسألة اصوليّة على الوجه الأوّل والثاني ، ومسألة فقهيّة على الوجه الثالث والرابع ، ومسألة كلاميّة على الوجه الخامس والسادس. وتفصيل البحث عن هذه المسألة لا يسعه المقام ، بل موكول إلى محلّه.

(٢) تعريض بالشيخ الأعظم الأنصاريّ ، حيث استدلّ على الوجه الرابع ـ من الوجوه المذكورة ـ

٧٢

لأن يكون الثواب إنّما يكون مترتّبا عليه (١) فيما إذا أتى برجاء أنّه مأمور به وبعنوان الاحتياط ، بداهة أنّ الداعي إلى العمل لا يوجب له وجها وعنوانا يؤتى به بذاك الوجه والعنوان.

وإتيان العمل بداعي طلب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ـ كما قيّد به في بعض

__________________

ـ في التعليقة السابقة ـ بأنّ الفاء في قوله : «فعمله» ظاهرة في كونه تفريعا على بلوغ الثواب ، وهو ظاهر في داعويّة تحصيل الثواب لتحقّق العمل. فرائد الاصول ٢ : ١٥٥.

وجه التعريض : أنّ المصنّف قدس‌سره أجاب عن كلام الشيخ الأعظم بأنّ الفاء وإن كانت للتفريع وظاهرة في داعويّة الثواب إلى العمل ، إلّا أنّه لا منافاة بينه وبين ترتّب الثواب على ذات العمل ، لأنّ الداعي علّة لتحقّق العمل وخارج عن حقيقته ، فهو جهة تعليليّة ، لا جهة تقييديّة كي يكون قصد رجاء الثواب جزءا من موضوع حكم الشارع وموجبا لصيرورة المأمور به إتيان العمل برجاء الثواب ، فالثواب في تلك الأخيار مترتّب على نفس العمل ، ويثبت به استحباب ذات العمل.

(١) أي : على العمل.

(٢) تعريض آخر بالشيخ الأعظم الأنصاريّ ، حيث أنّه أيّد الاستدلال المذكور بقوله : «ويؤيّده تقييد العمل في غير واحد من تلك الأخبار بطلب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والتماس الثواب الموعود». وجه التأييد : أنّ إطلاق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فعمله» ـ في صحيحة هشام بن سالم ـ يقيّد بما ورد في خبر محمّد بن مروان من قوله عليه‌السلام : «ففعل ذلك طلب قول النبيّ» وقوله عليه‌السلام : «فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب ...» ، فإنّ صريح الخبرين أنّ الثواب يترتّب على العمل المأتيّ به برجاء الثواب ، فيثبت به استحباب العمل بهذا القيد لا نفس العمل.

ووجه التعريض : أنّ المصنّف قدس‌سره ردّ التأييد المذكور ، فأفاد ما حاصله : أنّ ضابط تقييد المطلق بالمقيّد هو وجود التنافي بينهما بحيث كان الجمع بينهما غير ممكن ، وهو مفقود في المقام. توضيحه : أنّ الثواب المذكور في الصحيحة مترتّب على نفس العمل الّذي ورد الثواب عليه في الخبر الضعيف مطلقا ، سواء أتى به بداعي ذلك الثواب أم لا. وأمّا خبر محمّد ابن مروان ففيه وجهان :

أحدهما : أن يكون قوله : «طلب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله» أو «التماس ذلك الثواب» جهة تقييديّة ، بأن يكون قيدا للعمل. وحينئذ يكون خبر محمّد بن مروان ظاهرا في ترتّب الثواب على خصوص العمل المأتيّ به برجاء طلب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو التماسا للثواب ، وعليه يحصل التنافي بينه وبين الصحيحة ويوجب تقييدها به.

وثانيهما : أن يكون قوله : «طلب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله» أو «التماس ذلك الثواب» جهة تعليليّة ، بأن يكون علّة لتحقّق العمل وخارجا عن حقيقته. وحينئذ يدلّ خبر محمّد بن مروان على ـ

٧٣

الأخبار (١) ـ وإن كان انقيادا ، إلّا أنّ الثواب في الصحيحة إنّما رتّب على نفس العمل ، ولا موجب لتقييدها به ، لعدم المنافاة بينهما ، بل لو أتى به كذلك (٢) أو التماسا للثواب الموعود ـ كما قيّد به في بعضها الآخر (٣) ـ لاوتي الأجر والثواب على نفس العمل ، لا بما هو احتياط وانقياد ، فيكشف عن كونه بنفسه مطلوبا وإطاعة ، فيكون وزانه وزان «من سرّح لحيته أو من صلّى أو صام فله كذا». ولعلّه لذلك أفتى المشهور بالاستحباب ، فافهم وتأمّل.

[التنبيه] الثالث : [التفصيل في جريان البراءة في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة](٤)

أنّه لا يخفى أنّ النهي عن شيء إذا كان بمعنى طلب تركه في زمان أو مكان ،

__________________

ـ ترتّب الثواب على نفس العمل ، غاية الأمر أنّ رجاء الثواب أو طلب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله داعي إلى تحقّق العمل وموجب للانقياد ، فلا منافاة بينه وبين الصحيحة.

والتحقيق هو الأخير كما مرّ.

(١) وهو خبر محمّد بن مروان. راجع وسائل الشيعة ١ : ٦٠ ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادة ، الحديث٤.

(٢) أي : طلب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٣) وهو خبر آخر عن محمّد بن مروان. وسائل الشيعة ١ : ٦٠ ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادة ، الحديث٧.

(٤) لا يخفى : أنّ ما أفاده المصنّف قدس‌سره في هذا التنبيه تعريض بالشيخ الأعظم الأنصاريّ وناظر بما أفاده في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة. فإيضاح ما أفاده المصنّف قدس‌سره يتوقّف على بيان محلّ البحث ، والتعرّض لما أفاده الشيخ الأعظم ، ثمّ توضيح ما أفاده المصنّف قدس‌سره.

أمّا محلّ البحث : فهو جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة التحريميّة وعدمه. فهل تجري فيها مطلقا أو لا تجري فيها كذلك أو تجري في بعض الموارد ولا تجري في بعض آخر؟

وأمّا الشيخ الأعظم الأنصاريّ : فذهب إلى جريانها فيها مطلقا ، فإنّه قال : «المسألة الرابعة دوران الحكم بين الحرمة وغير الوجوب مع كون الشكّ في الواقعة الجزئيّة لأجل الاشتباه في بعض الامور الخارجيّة ، كما إذا شكّ في حرمة شرب مائع وإباحته للتردّد في أنّه خلّ أو خمر ، وفي حرمة لحم للتردّد بين كونه من الشاة أو من الأرنب. والظاهر عدم الخلاف في أنّ مقتضى الأصل فيه الإباحة».

ثمّ تعرّض لتوهّم وأجاب عنه : ـ

٧٤

__________________

ـ حاصل التوهّم : أنّ البراءة لا تجري في الشبهة التحريميّة الموضوعيّة ، لأنّ الشكّ فيها ليس شكّا في التكليف كي تجري فيها قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو يرجع إلى حديث الرفع ، ضرورة أنّ وظيفة الشارع ـ بما هو شارع ـ جعل الحكم بنحو الكلّيّ ، بأن يقول : «الخمر حرام ، والخلّ حلال». ومن المعلوم أنّه جعل الحكم بهذا النحو وبيّنه ووصل إلى المكلّف ، وانّما الشكّ في التطبيق وأنّ هذا المائع الخارجيّ هل يكون ممّا ينطبق عليه متعلّق الحرمة ـ أي : الخمر ـ أم لا؟ وإزالة هذا الشكّ ليس من وظيفة الشارع الأقدس ، بل إزالته على عهدة المكلّف نفسه. وحينئذ فاشتغال ذمّة المكلّف بالاجتناب عن الخمر يقينيّ ، والاشتغال اليقينيّ يقتضي البراءة اليقينيّة ، وهي تحصل بالاحتياط والاجتناب عن المائع المردّد من باب المقدّمة العلميّة.

وحاصل الجواب : أنّ مجرّد العلم بجعل الحكم بنحو الكلّي ـ مثل : «الخمر حرام» ـ غير كاف في تنجّز التكليف على المكلّف ، بل الملاك في التنجّز ـ الّذي يمنع من جريان قاعدة القبح بلا بيان ـ هو العلم بحرمة الأفراد تفصيلا ـ كالعلم بأنّ هذا المائع الخارجيّ خمر حقيقة ـ أو إجمالا ـ كأن يعلم بأنّ أحد هذين الإنائين خمر ـ ، وأمّا الفرد المشتبه بالشبهة البدويّة ـ كما نحن فيه ـ فلا علم بحكمه ، لا تفصيلا ولا إجمالا ، فلا يكون التكليف بالنسبة إليه منجّزا. وعليه فلو ارتكبه المكلّف وصادف كونه خمرا واقعا فهو معذور ، لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان. هذا ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٢ : ١١٩ و ١٢١ ـ ١٢٢.

وأمّا المصنّف قدس‌سره : فمنع إطلاق كلام الشيخ وذهب إلى التفصيل بين ما إذا تعلّق النهي بترك الطبيعة رأسا في أيّ زمان أو مكان ، بحيث لو وجد فرد واحد منها في ذلك الزمان أو المكان لما حصل الامتثال أصلا ، وبين ما إذا تعلّق النهي بوجودات الطبيعة ، بحيث كان كلّ فرد من أفراد الموضوع محكوما بحكم واحد مستقلّ.

فعلى الأوّل : يكون الشكّ في محصّل الفعل الّذي تعلّق النهي بتركه رأسا معلوم ، فاشتغال الذمّة بالترك رأسا يقينيّ ، وهو يقتضي الفراغ اليقينيّ ، وهو لا يحصل إلّا بترك كلّ فرد يحتمل انطباق الفعل عليه.

نعم ، إذا كانت طبيعة الفعل مسبوقة بالترك مع الإتيان بذلك الفرد ، فيستصحب تركها مع الإتيان بذلك الفرد بالفعل. توضيحه : أنّه إذا كان ذلك الشيء المأتي به المشكوك الفرديّة مسبوقا بعدم الفرديّة ، فشكّ في أنّه صار فردا لطبيعة الفعل كي يكون الإتيان به موجبا لانتقاض ترك الطبيعة بالفعل أو كان باقيا على حالته السابقة فلا يكون فردا لها ولا الإتيان به موجبا لانتقاض ترك الطبيعة بالفعل ، فحينئذ يستصحب عدم فرديّته بالفعل ، ويحكم ببقاء الترك مع الإتيان بذلك الفرد. ـ

٧٥

بحيث لو وجد في ذاك الزمان أو المكان ـ ولو دفعة (١) ـ لما امتثل أصلا ، كان اللازم على المكلّف إحراز أنّه تركه بالمرّة ولو بالأصل ، فلا يجوز الإتيان بشيء يشكّ معه في تركه (٢) ، إلّا إذا كان مسبوقا به ليستصحب مع الإتيان به (٣).

نعم ، لو كان (٤) بمعنى طلب ترك كلّ فرد منه على حدة لما وجب إلّا ترك ما علم أنّه فرد ، وحيث لم يعلم تعلّق النهي إلّا بما علم أنّه مصداقه ، فأصالة البراءة في المصاديق المشتبهة محكّمة.

فانقدح بذلك أنّ مجرّد العلم بتحريم شيء لا يوجب لزوم الاجتناب عن أفراده المشتبهة فيما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كلّ فرد على حدة ، أو كان الشيء مسبوقا بالترك ، وإلّا لوجب الاجتناب عنها عقلا لتحصيل الفراغ قطعا (٥).

فكما يجب فيما علم وجوب شيء إحراز إتيانه إطاعة لأمره ، فكذلك يجب

__________________

ـ وعلى الثاني : يكون الشكّ في كون الفرد مصداقا للموضوع شكّا في ثبوت التكليف ، إذ المفروض كون كلّ فرد محكوما بحكم مستقلّ ، فالشكّ في فرديّة شيء يستتبع الشكّ في ثبوت الحكم له ، فتجري البراءة ويجوز ارتكابه.

والحاصل : أنّ ما أفاده الشيخ الأعظم من إطلاق الحكم بالبراءة في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة ممنوع.

(١) أي : ولو دفعة واحدة.

(٢) أي : فلا يجوز الإتيان بفرد يشكّ مع الإتيان به في ترك الشيء بالمرّة.

(٣) أي : إذا كان ذلك الشيء ـ بطبيعته ـ مسبوقا بالترك مع الإتيان بهذا الفرد المشكوك الفرديّة بالفعل فحينئذ يستصحب ترك الشيء مع الإتيان بهذا الفرد بالفعل.

واستشكل المحقّق الأصفهانيّ في هذا الاستصحاب بأنّ المستصحب ليس من المجعولات الشرعيّة ، ولا أنّه ذو أثر شرعيّ ، فإنّ المترتّب عليه هو الفراغ عن العهدة ، وهو أثر عقليّ. نهاية الدراية ٢ : ٥٥٣.

(٤) هكذا في جميع النسخ. والأولى أن يقول : «وإذا كان ...».

(٥) والحاصل : أنّ المصنّف قدس‌سره نفى إطلاق كلام من توهّم كفاية مجرّد العلم بتحريم الشيء على نحو الكلّي في لزوم الاجتناب عن أفراد المشتبه ، فلا تجري البراءة فيها مطلقا. كما نفى إطلاق كلام الشيخ الأعظم من عدم كفاية العلم بتحريم الشيء في لزوم الاجتناب عن أفراد المشتبه ، فتجري البراءة فيها مطلقا.

٧٦

فيما علم حرمته إحراز تركه وعدم إتيانه امتثالا لنهيه ، غاية الأمر كما يحرز وجود الواجب بالأصل كذلك يحرز ترك الحرام به.

والفرد المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه ، إلّا أنّ قضيّة لزوم إحراز الترك اللازم وجوب التحرّز عنه ، ولا يكاد يحرز إلّا بترك المشتبه أيضا ، فتفطّن (١).

__________________

(١) لا يخفى : أنّ تعلّق النهي بالشيء ليس منحصرا فيما ذكره المصنّف قدس‌سره من القسمين ، بل النهي المتعلّق بالشيء يتصوّر على أقسام :

القسم الأوّل : أن يكون متعلّقا بالشيء على نحو الطبيعة السارية ، بأن يكون الحكم متعدّدا بتعدّد أفراده ، بحيث يتعلّق بكلّ فرد من الأفراد نهي مستقلّ. وحينئذ فالشكّ في كون فرد مصداقا للموضوع يرجع إلى الشكّ في ثبوت التكليف ، فتجري أصالة البراءة ، فإنّ العلم بالكبرى ـ وهو الحكم بنحو الكلّيّ ، مثل ، «لا تشرب الخمر» ـ لا يصير حجّة على الصغرى ، ولا يمكن كشف حال الفرد منها. وهذا ممّا اتّفق عليه الشيخ الأعظم والمحقّق الخراسانيّ ، بل تبعهما المتأخّرون منهما ، وإن اختلفوا في بيان الوجه في عدم حجّيّة الكبرى على الصغرى.

فذكر المحقّق النائينيّ أنّ مجرّد العلم بالكبريات المجعولة لا يوجب تنجّزها وصحّة العقوبة على مخالفتها ما لم يعلم بتحقّق صغرياتها خارجا ، فإنّ التكليف لا يتنجّز إلّا بعد فعليّة الخطاب ، وهو لا يمكن أن يصير فعليّا إلّا بعد وجود موضوعه ، لأنّ التكاليف انّما تكون على نهج القضايا الحقيقيّة المنحلّة إلى قضيّة شرطيّة ، مقدّمها وجود الموضوع وتاليها عنوان المحمول ، فلا بدّ من فرض وجود الموضوع في ترتّب المحمول ، فالعلم بعدم وجوده يستلزم العلم بعدم فعليّة التكليف ، والشكّ فيه يستلزم الشكّ فيها ، لأنّ وجود الصغرى ممّا له دخل في فعليّة الكبرى. فوائد الاصول ٣ : ٣٩٠ ـ ٣٩٤.

وسلك المحقّق العراقيّ مسلكا آخر ، حاصله : أنّ القضايا في باب التكاليف ليست من القضايا الحقيقيّة ـ كما ذهب إليه المحقّق النائينيّ ـ ، بل هي من القضايا الطبيعيّة ، بمعنى أنّ وجود المتعلّق من حدود المكلّف به لا من شرائط التكليف ، فإنّ الشكّ في فرديّة شيء لا يكون كسائر موارد الشكّ في شرط التكليف كي يوجب الشكّ في أصل توجّه التكليف ، بل يكون من باب الشكّ في مصداق الخطاب المتوجّه إلينا جزعا ، غاية الأمر لمّا كان الخطاب الكلّيّ انحلاليّا حسب تعدّد مصاديقه لا يكون بالنسبة إلى هذا المشكوك حجّة من جهة الشكّ في انطباق العنوان عليه ، لا من جهة الشكّ في توجّه التكليف إليه. راجع هامش فوائد الاصول ٣ : ٣٩١ ـ ٣٩٣. ـ

٧٧

__________________

ـ وأفاد المحقّق الاصفهانيّ مسلكا آخر ، حاصله : أنّه ليس المراد من البيان في «قاعدة قبح العقاب بلا بيان» ما هو وظيفة الشارع من بيان الكبرى حكما وموضوعا ، كي يقال : «إنّ البيان حاصل وتشخيص المصاديق ليس من وظيفة الشارع» ، بل المراد من البيان هو المصحّح للعقوبة والمؤاخذة عقلا وشرعا ، وهو مفقود في المقام ، لأنّ مخالفة التكليف الواقعيّ بما هي ليست مصحّحة للعقوبة عقلا ، بل انّما تكون مصحّحة لها بما هي ظلم على المولى وخروج عن زيّ الرقّيّة ورسم العبوديّة ، وكما أنّ مخالفة التكليف الّذي لا حجّة على أصله ولا على متعلّقه ليست ظلما ، إذ ليست خروجا من زيّ الرقّيّة ، كذلك مخالفة التكليف المعلوم الّذي صادف الفرد المشكوك في الواقع ليست ظلما ، فإنّ فعل هذا المشكوك أو تركه ليس خروجا من زيّ الرقيّة ، وعليه تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان ويرجع إلى البراءة. نهاية الدراية ٢ : ٥٥٥ ـ ٥٥٦.

وأفاد السيّد الإمام الخمينيّ أنّ الأحكام قد تصدر من المولى على نعت القانونيّة وضرب القاعدة ، وأحال مخصّصاتها وحدودها إلى أوقات أخر ، ثمّ بعد ذكر المخصّصات والحدود تصير فعليّة. وعليه فلا تكون الكبرى الكلّيّة فعليّة قابلة للإجراء إلّا بعد تتميم حدودها وشرائطها ، فلا تكون حجّة على الموضوع المشكوك فيه ، فتجري أصالة البراءة. أنوار الهداية ٢ : ١٤٧.

فهذه مسالك مشتركة في إثبات عدم حجّيّة الخطاب الكلّي بالنسبة إلى الفرد المشكوك فيه ، ومختلفة في بيان وجه عدم الحجّيّة.

القسم الثاني : أن يكون النهي متعلّقا بالشيء على نحو صرف الوجود ، بأن يكون التكليف واحدا متعلّقا بترك الطبيعة رأسا ، بحيث لو وجد فرد منها لما امتثل اصلا. وفي هذا الفرض اختلفت أنظار الأعلام فيما لو شكّ في كون شيء مصداقا للموضوع :

فالظاهر من إطلاق كلام الشيخ الأعظم أنّ المرجع فيه أصالة البراءة ، كما مرّ.

وذهب المصنّف قدس‌سره إلى أنّ المرجع فيه قاعدة الاشتغال ، لأنّ تعلّق التكليف بترك الطبيعة معلوم ، ولا يحرز امتثاله إلّا بترك كلّ ما يحتمل انطباق الطبيعة عليه.

ووافقه بعض تلامذته ـ كالمحقّق الحائريّ في درر الفوائد ٢ : ١١١ ـ ، وخالفه المحقّقان الأصفهانيّ والعراقيّ والسيّدان العلمان الخمينيّ والخوئيّ.

أمّا المحقّق الأصفهانيّ : فهو ـ بعد ما بيّن المراد من صرف الوجود وأنّه الوجود الجامع بين وجودات طبيعة خاصّة بنهج الوحدة في الكثرة ـ حمل كلام المصنّف قدس‌سره في المقام على ما إذا انبعث طلب الترك عن مصلحة واحدة في طبيعيّ الترك بحدّه أو مجموع التروك. ثمّ قرّب جريان البراءة فيما إذا تعلّق النهي بالشيء على نحو صرف الوجود. راجع نصّ كلامه في نهاية الدراية ٢ : ٥٤٨ ـ ٥٥٣ ، فإنّ كلامه دقيق جدّا. ـ

٧٨

[التنبيه] الرابع : [حسن الاحتياط فيما لم يخلّ بالنظام]

أنّه قد عرفت (١) حسن الاحتياط عقلا ونقلا. ولا يخفى أنّه مطلقا كذلك حتّى فيما كان هناك حجّة على عدم الوجوب أو الحرمة ، أو أمارة معتبرة على أنّه ليس فردا للواجب أو الحرام ، ما لم يخلّ بالنظام فعلا ؛ فالاحتياط قبل ذلك مطلقا يقع حسنا ، كان في الامور المهمّة كالدماء والفروج أو غيرهما ، وكان احتمال التكليف قويّا أو ضعيفا ، كانت الحجّة (٢) على خلافه أو لا. كما أنّ الاحتياط

__________________

ـ وأمّا المحقّق العراقيّ : فذهب إلى جريان البراءة في هذه الصورة ، وأفاد ما حاصله : أنّ دائرة عدم الطبيعيّ تختلف سعة وضيقا بازدياد الأفراد وقلّتها ، لأنّ عدم الطبيعيّ عين عدم أفراده ، لا أنّه أمر حاصل منها. وعليه يرجع الشكّ في انطباق الطبيعيّ على المشكوك إلى الشكّ في مقدار دائرة المأمور به ، فيندرج في صغريات الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، فتجري أصالة البراءة. مقالات الاصول ٢ : ٢١٦ ، نهاية الأفكار ٣ : ٢٦٨.

وأمّا السيّد المحقّق الخوئيّ : فاختار جريان البراءة في هذه الصورة مستدلّا بأنّ الشكّ في المصداق في هذه الصورة شكّ في تعلّق التكليف الضمنيّ به ، فيرجع إلى البراءة. مصباح الاصول ٢ : ٣٢٥.

وأمّا السيّد الإمام الخمينيّ : فاستدلّ على جريان البراءة بأنّ النهي إذا تعلّق بصرف الوجود يكون أفراد الترك من قبيل المحصّلات من غير تعلّق نهي بها ، إذ النهي ليس طلب الترك كي يقال : «إنّ الطلب تعلّق بالترك قطعا ، والاشتغال اليقينيّ يقتضي الفراغ اليقينيّ» ، بل يكون مفاد النهى هو الزجر عن الطبيعة. ومع الشكّ في كون فرد محصّل الطبيعة أو مصداقها لا يكون النهي حجّة عليه بالنسبة إلى المشكوك فيه. أنوار الهداية ٢ : ١٤٩ ـ ١٥٠.

القسم الثالث : أن يكون النهي متعلّقا بالمجموع ، بحيث لو ترك فردا واحدا من الطبيعة فقد أطاع ، ولو ارتكب بقيّة الأفراد بأجمعها.

وهذا القسم لم يتعرّض له المصنّف قدس‌سره. ومعلوم أنّ في هذا القسم يجوز ارتكاب بعض الأفراد المتيقّنة مع ترك واحد منها ، فضلا عن الفرد المشكوك فيه.

وتشييد ما أفادوه يحتاج إلى بحث أوسع ، لسنا بصدده الآن ، فراجع عنه المطوّلات.

(١) راجع الصفحة : ٦٣ من هذا الجزء.

(٢) وفي بعض النسخ : «كان الحجّة ...». والصحيح ما أثبتناه.

٧٩

الموجب لذلك لا يكون حسنا كذلك (١) وإن كان الراجح لمن التفت إلى ذلك من أوّل الأمر ترجيح بعض الاحتياطات احتمالا أو محتملا ، فافهم.

__________________

(١) أي : كما أنّ الاحتياط الموجب لاختلال النظام لا يكون حسنا مطلقا ، سواء كان احتمال التكليف قويّا أو ضعيفا ، وسواء كان في الامور المهمّة أم لا ، وسواء كانت الحجّة على خلافه أم لا.

٨٠