كفاية الأصول - ج ٣

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-562-2
الصفحات: ٤٤٣

لا يقال : الأمر وإن كان كما ذكر ، إلّا أنّه حيث كان التفاوت بين الإيجاب والاستحباب ـ وهكذا بين الكراهة والحرمة ـ ليس إلّا بشدّة الطلب بينهما وضعفه ، كان تبدّل أحدهما بالآخر مع عدم تخلّل العدم غير موجب لتعدّد وجود الطبيعيّ بينهما ، لمساوقة الاتّصال مع الوحدة ، فالشكّ في التبدّل حقيقة شكّ في بقاء الطلب وارتفاعه ، لا في حدوث وجود آخر.

فإنّه يقال : الأمر وإن كان كذلك ، إلّا أنّ العرف حيث يرى الإيجاب والاستحباب المتبادلين فردين متباينين ، لا واحدا (١) مختلف الوصف في زمانين ، لم يكن مجال للاستصحاب ، لما مرّت الإشارة إليه ويأتي (٢) من أنّ قضيّة إطلاق أخبار الباب أنّ العبرة فيه بما يكون رفع اليد عنه مع الشكّ بنظر العرف نقضا وإن لم يكن بنقض بحسب الدقّة ، ولذا لو انعكس الأمر ولم يكن نقض عرفا لم يكن الاستصحاب جاريا وإن كان هناك نقض عقلا (٣).

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «لا واحد». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) مرّت الإشارة إليه في ابتداء مبحث الاستصحاب ، حيث قال : «وكيف كان فقد ظهر ممّا ذكرنا في تعريفه اعتبار أمرين». ويأتي ذيل قوله : «تتمّة».

(٣) لا يخفى عليك : أنّ المحقّق الأصفهانيّ أورد على ما أفاده المصنّف قدس‌سره بأنّ التغاير بين الوجوب والاستحباب ليس بالشدّة والضعف ، فإنّهما من الامور الاعتباريّة الّتي توجد بإنشاء مفاهيمهما ، والاعتبار لا يقبل الشدّة والضعف. نهاية الدراية ٣ : ١٨٠ ـ ١٨١.

القسم الرابع من استصحاب الكلّي :

وجدير بالذكر أنّ السيّد المحقّق الخوئيّ زاد قسما رابعا ، وحكم بجريان الاستصحاب فيه ، فقال : «القسم الرابع : ما إذا علمنا بوجود فرد معيّن ، وعلمنا بارتفاع هذا الفرد ، ولكن علمنا بوجود فرد معنون بعنوان يحتمل انطباقه على الفرد الّذي علمنا ارتفاعه ويحتمل انطباقه على فرد آخر أيضا ، فلو كان العنوان المذكور منطبقا على الفرد المرتفع فقد ارتفع الكلّيّ ، وإن كان منطبقا على غيره فالكلّي باق.

مثاله : ما إذا علمنا بوجود زيد في الدار ، وعلمنا بوجود متكلّم فيها ، ثمّ علمنا بخروج زيد منها ، ولكن احتملنا بقاء الإنسان فيها لاحتمال أن يكون عنوان المتكلّم منطبقا على فرد آخر.

ومثاله في الأحكام الشرعيّة : ما إذا علمنا بالجنابة ليلة الخميس ـ مثلا ـ ، واغتسلنا ـ

٢٢١

وممّا ذكرنا في المقام يظهر أيضا حال الاستصحاب في متعلّقات الأحكام في الشبهات الحكميّة والموضوعيّة (١) ، فلا تغفل.

__________________

ـ منها ، ثمّ رأينا المني ، ولكن نحتمل أن يكون هذا المني من الجنابة الّتي اغتسلنا منها وأن يكون من غيرها». مصباح الاصول ٣ : ١٠٣ ـ ١٠٤ و ١١٨ ـ ١١٩.

ولا يخفى : أنّ الفرق بين هذا القسم والقسم الأوّل واضح.

والفرق بينه وبين القسم الثاني أنّه ليس هناك شكّ في بقاء ما حدث ، لأنّ أحد الفردين المحتملين مشكوك الحدوث من الابتداء وأحدهما الآخر مقطوع الارتفاع ؛ بخلاف هذا القسم ، حيث أنّ ما علمنا بحدوثه محتمل البقاء ، ولا علم بارتفاعه.

والفرق بينه وبين القسم الثالث أنّ هناك يعلم بزوال ما حدث قطعا ، ويشكّ في قيام فرد آخر مقامه ؛ وأمّا في هذا القسم فلا علم له بارتفاع ما حدث ، بل يحتمل بقاء ما علم بتحقّقه كما يحتمل ارتفاعه.

ذهب السيّد المحقّق الخوئيّ إلى استصحاب بقاء الطبيعيّ المحتمل انطباقه على الفردين ، فحكم بوجوب غسل الجنابة على من علم أنّ هذا المني منه وشكّ في أنّه من جنابة سابقة اغتسل منها أو جنابة اخرى لم يغتسل لها. راجع مصباح الاصول ٣ : ١٠٣ ـ ١٠٤ ، موسوعة الإمام الخوئيّ (كتاب الطهارة) ٦ : ٢٧٠ ـ ٢٧١.

وظاهر أكثر الفقهاء عدم جريان الاستصحاب في المقام ، حيث حكموا بعدم وجوب الغسل عليه. راجع جواهر الكلام ٣ : ١٨ ـ ١٩ ، العروة الوثقى ١ : ٥٠١ ، مستمسك العروة ٣ :٢٥ ، تحرير الوسيلة ١ : ٣٧.

وذهب المحقّق الهمدانيّ إلى التفصيل بين ما إذا علم بوجود فردين وشكّ في تعاقبهما وعدمه ، وبين ما إذا لم يعلم به ، بل علم بوجود عنوانين يحتمل انطباقهما على فردين أو على فرد واحد ، فيجري الاستصحاب في الأوّل دون الثاني. مصباح الفقيه ١ : ٢٢٣.

(١) توضيحه : أنّ الشكّ في بقاء متعلّقات الأحكام على نحوين :

الأوّل : أن يشكّ في بقاء متعلّق الحكم ويكون منشأ الشكّ شبهة حكميّة ، كما إذا كان زيد مسافرا ، وبعد المراجعة يشكّ في بقاء سفره عند مشاهدة الجدران ، لأجل أنّه لم يعلم أنّ الشارع حكم بانتهاء السفر بمجرّد مشاهدة الجدران أو حكم ببقائه إلى سماع الأذان ، فيشكّ في متعلّق القصر ـ وهو السفر ـ وأنّه هل يكون القصير الّذي ينتهي بمشاهدة الجدران أو هو الطويل الّذي يبقى إلى سماع الأذان ، فيكون من القسم الثالث من استصحاب الكلّيّ ، فلا يجري فيه الاستصحاب.

الثاني : أن يشكّ في بقاء متعلّق الحكم ويكون منشأ الشكّ شبهة موضوعيّة ، كما إذا علم ـ

٢٢٢

[التنبيه] الرابع : [جريان الاستصحاب في التدريجيّات]

[استصحاب الزمان والزمانيّات المتصرّمة]

انّه لا فرق في المتيقّن بين أن يكون من الامور القارّة (١) أو التدريجيّة الغير القارّة (٢) ، فإنّ الامور الغير القارّة وإن كان وجودها ينصرم ولا يتحقّق منه جزء إلّا بعد ما انصرم منه جزء وانعدم (٣) ، إلّا أنّه ما لم يتخلّل في البين العدم ـ بل وإن تخلّل بما لا يخلّ بالاتّصال عرفا ، وإن انفصل حقيقة ـ كانت (٤) باقية مطلقا (٥) أو عرفا ، ويكون رفع اليد عنها مع الشكّ في استمرارها وانقطاعها نقضا ، ولا يعتبر في الاستصحاب بحسب تعريفه وأخبار الباب وغيرها من أدلّته غير صدق النقض والبقاء كذلك (٦) قطعا. هذا.

مع أنّ الانصرام والتدرّج في الوجود في الحركة في الأين وغيره إنّما هو في الحركة القطعيّة ، وهي : «كون الشيء في كلّ آن في حدّ أو مكان» (٧) ، لا التوسّطيّة ، وهي : «كونه بين المبدأ والمنتهى» ، فإنّه (٨) بهذا المعنى يكون

__________________

ـ أنّ السفر ينتهي بمشاهدة الجدران شرعا ، ولكن يشكّ في بقائه من جهة أنّه لم يعلم أنّ ما يشهد من الجدران هل هو جدران بلده فينتهي السفر أو هو جدران بلد آخر فيبقي السفر؟ وهذا أيضا من القسم الثالث ، ولا يجري فيه الاستصحاب.

(١) وهي الامور الّتي تتحقّق وتجتمع أجزاؤها في الوجود زمانا ، ككثير من الأشياء الخارجيّة.

(٢) وهي الامور الّتي لا تجتمع أجزاؤها في زمان واحد ، بل لا يوجد جزء منها إلّا بعد انعدام الجزء الّذي قبله ، كالليل والشهر والحركة وغيرها من الامور السيّالة.

(٣) هكذا في النسخ. ولكن الصواب أن يقول : «ولا يتحقّق منها جزء إلّا بعد ما انصرم منها جزء وانعدم ، ...» ، فإنّ الضمير يرجع إلى الامور.

(٤) جواب قوله : «ما لم يتخلّل».

(٥) أي : حقيقة وعرفا.

(٦) أي : عرفا.

(٧) قال المحقّق الأصفهانيّ : «إنّ التعريف المذكور في المتن للحركة القطعيّة ـ وهو كون الشيء في كلّ آن في حدّ ومكان ـ هو تعريف مطلق الحركة عند المشهور ، ففي القطعيّة بلحاظ أجزائها ، وفي التوسّطيّة بلحاظ أفرادها». نهاية الدراية ٣ : ١٨٣.

(٨) أي : الوجود في الحركة بمعنى كون الشيء بين المبدأ والمنتهى.

٢٢٣

قارّا مستمرّا (١).

فانقدح بذلك أنّه لا مجال للإشكال في استصحاب مثل الليل أو النهار وترتيب ما لهما من الآثار (٢).

__________________

(١) والحاصل : أنّه يستشكل في جريان الاستصحاب في الامور التدريجيّة بعدم تصوّر البقاء في مثل الزمان والزمانيّات المتصرّمة الّتي توجد وتنصرم شيئا فشيئا ، لأنّ بقاء الشيء عبارة عن استمرار وجوده في الآن اللاحق بعين وجوده في الآن السابق ، وهو غير متصوّر في الامور التدريجيّة الّتي لا يتحقّق منها جزء إلّا بعد ما انعدم منها جزء آخر. وأجاب عنه المصنّف قدس‌سره بوجهين :

أحدهما : ما أشار إليه بقوله : «إلّا أنّه ما لم يتخلّل ... كذلك قطعا». وحاصله : أنّ الآنات والأزمنة المتعاقبة وإن كانت في الحقيقة وجودات متعدّدة متصرّمة ، إلّا أنّها لمّا كانت على نهج الاتّصال ولم يتخلّل بينها سكون كان الجميع بنظر العرف موجودا واحدا باقيا ، ويعدّ الموجود اللاحق منها بقاء لما حدث أوّلا ، فيصدق عليه الشكّ في بقاء ما حدث ، فتتّحد القضيّة المتيقّنة مع القضيّة المشكوكة عرفا ، وإن لم تكونا بحسب الحقيقة والدقّة العقليّة كذلك ، فتجري الاستصحاب ، لأنّ مدار الوحدة في متعلّق الوصفين هو نظر العرف وصدق النقض والبقاء كذلك.

ثانيهما : ما أشار إليه بقوله : «مع أنّ الانصرام ...». وتوضيحه : أنّ الانصرام والتجدّد المانع عن الاستصحاب انّما هو في الحركة القطعيّة المنتزعة من الأكوان المتعاقبة على نهج الاتّصال الّتي تتوافى للحدود الواقعة بين المبدأ والمنتهى ، فهي باعتبار منشأ انتزاعها ـ وهو الأكوان المتعاقبة المتفرّقة في الخارج ـ تدريجيّة. وأمّا الحركة التوسّطيّة ـ وهي كون الشيء بين المبدأ والمنتهى ـ فهي من الامور القارّة ويصدق عليها البقاء حقيقة ، فلا قصور في جريان الاستصحاب فيها.

ولا يخفى : أنّ المحقّق العراقيّ أورد على الوجه الثاني بمنع صدق القارّ المستمرّ على الحركة التوسطيّة ، كي يتصوّر فيها البقاء الحقيقيّ ، لأنّ البقاء الحقيقيّ للشيء عبارة عن استمرار وجوده في ثاني زمان حدوثه بماله من المراتب والحدود المشخّصة له في آن حدوثه ، ومثله غير متصوّر في الحركة التوسّطيّة ، بداهة أنّها ليست بحقيقتها إلّا عين التجدّد والانقضاء والخروج من القوّة إلى الفعل ، فهي بهذا الاعتبار عين الوجودات المتعاقبة والحصولات المتدرّجة الموافية للحدود المعيّنة ، لأنّ كلّ واحد منها كون واقع بين المبدأ والمنتهى وفرد للحركة التوسطيّة ومرتبة من مراتب وجودها خارجا. نهاية الأفكار ٤ : ١٤٦ ـ ١٤٧.

(٢) فإذا نذر التصدّق بدرهم إذا كان النهار باقيا وشكّ في بقاء النهار ، جرى استصحاب النهار ـ

٢٢٤

وكذا كلّما إذا كان الشكّ في الأمر التدريجيّ من جهة الشكّ في انتهاء حركته ووصوله إلى المنتهى أو أنّه بعد في البين (١).

وأمّا إذا كان من جهة الشكّ في كميّته ومقداره ـ كما في نبع الماء وجريانه وخروج الدم وسيلانه فيما كان سبب الشكّ في الجريان والسيلان الشكّ في أنّه بقي في المنبع والرحم فعلا شيء من الماء والدم غير ما سال وجرى منهما (٢) ـ فربما يشكل في استصحابهما حينئذ ، فإنّ الشكّ ليس في بقاء جريان شخص ما كان جاريا ، بل في حدوث جريان جزء آخر شكّ في جريانه من جهة الشكّ في

__________________

ـ وترتّب عليه وجوب الوفاء بالنذر.

(١) كما إذا علمنا أنّ العين الكذائيّة تستعدّ أن يجري ماؤها إلى ثلاثين أيّام ، ولكن نشكّ بعد مضيّ خمسة أيّام في انقطاع جريانه لمانع ، فنستصحب جريانه.

(٢) لا يخفى : أنّ الشكّ في بقاء الماء في المنبع أو الدم في الرحم تارة يكون مستندا إلى الشكّ في أصل ما يقتضيه الماء والدم الموجودان فيهما من أوّل الأمر ، فيشكّ في أنّه بقي من الموجود فيهما شيء غير ما سال منهما إلى الآن أو لم يبق؟ واخرى يكون مستندا إلى احتمال حدوث مقدار آخر زائد على المقدار المعلوم أوّلا الّذي نعلم بانتفائه ، بأن نحتمل تكوّن مقدار زائد من الماء في المنبع بسبب المطر ، أو نحتمل عرض أمر في باطن الحكم يقتضي سيلان الدم بعد القطع بارتفاع ما كان في الرحم أوّلا ، فيجري الاستصحاب في كلتا الصورتين.

ولكن المحقّق النائينيّ منع عن جريان الاستصحاب في الصورة الأخيرة ، بدعوى أنّها ترجع إلى الوجه الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، لأنّ الوحدة في الامور التدريجيّة انّما تكون بوحدة الداعي ، فيتعدّد الأمر التدريجيّ ـ كسيلان الماء وجريانه ـ بتعدّد الداعي ، وحيث أنّ الداعي الأوّل ـ في المقام ـ انتفى يقينا وتكون الحركة الحادثة بداع آخر ـ على تقدير وجوده ـ فتصير الحركة متعدّدة ولا يصحّ جريان الاستصحاب حينئذ ، لاختلاف القضيّة المتيقّنة والمشكوكة. فوائد الاصول ٤ : ٤٤١.

وأورد عليه المحقّق العراقيّ بأنّه لو سلّم ما أفاد في مثل المتكلّم فلا مجال لتسليمه في مثل جريان الماء والدم إلّا بتغيّر خصوصيّتهما المتقوّمة عرفا ، وإلّا فمثل اختلاف المبدأ في هذه الامور كمثل اختلاف عمود الخيمة بالنسبة إلى بقاء هيئة الخيمة بحالها ، كما لو شكّ في بقاء هيئة الخيمة من جهة احتمال تكوّن عمود آخر مقام العمود السابق المنتفي قطعا ، فإنّه لا قصور في استصحاب بقاء هيئة الخيمة بحالها. راجع هامش فوائد الاصول ٤ : ٤٤١ ـ ٤٤٢.

٢٢٥

حدوثه. ولكنّه ينحلّ (١) بأنّه لا يختلّ به ما هو الملاك في الاستصحاب (٢) بحسب تعريفه ودليله حسبما عرفت.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّ استصحاب بقاء الأمر التدريجيّ إمّا يكون من قبيل استصحاب الشخص أو من قبيل استصحاب الكلّيّ بأقسامه ؛ فإذا شكّ في أنّ السورة المعلومة الّتي شرع فيها تمّت أو بقي شيء منها صحّ فيه (٣) استصحاب الشخص والكلّيّ ؛ وإذا شكّ فيه (٤) من جهة تردّدها بين القصيرة والطويلة كان من القسم الثاني ؛ وإذا شكّ في أنّه شرع في اخرى مع القطع بأنّه قد تمّت الاولى كان من القسم الثالث كما لا يخفى.

هذا في الزمان ونحوه من سائر التدريجيّات.

[استصحاب الفعل المقيّد بالزمان]

وأمّا الفعل المقيّد بالزمان : فتارة يكون الشكّ في حكمه من جهة الشكّ في بقاء قيده (٥) ؛ وطورا مع القطع بانقطاعه وانتفائه من جهة اخرى (٦) ، كما إذا احتمل أن يكون التقييد به (٧) إنّما هو بلحاظ تمام المطلوب لا أصله (٨).

فإن كان من جهة الشكّ في بقاء القيد ، فلا بأس باستصحاب قيده من الزمان ،

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «يتخيّل». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) وهو صدق البقاء والنقض عرفا.

(٣) أي : في هذا الشكّ المتعلّق ببقاء السورة.

(٤) أي : في أنّ السورة تمّت أو بقي شيء منها.

(٥) وهو الزمان الخاص.

(٦) غير جهة الشكّ في بقاء القيد ، وهو الزمان.

(٧) وفي بعض النسخ : «التعبّد به». والصحيح ما أثبتناه.

(٨) وبتعبير آخر : وتارة اخرى يكون الشكّ في حكمه من جهة الشكّ في كيفيّة التقييد بالزمان ، فيشكّ في أنّه هل يكون تقييد الحكم بالزمان الخاصّ بنحو وحدة المطلوب كي ينتفي الحكم رأسا بانتفاء ذاك الزمان ، أو يكون بنحو تعدّد المطلوب كي ينتفى المطلوب الأقصى التامّ بانتفاء الزمان لا أصل المطلوب؟

٢٢٦

كالنهار الّذي قيّد به الصوم ـ مثلا ـ ، فيترتّب عليه وجوب الإمساك وعدم جواز الإفطار ما لم يقطع بزواله ، كما لا بأس باستصحاب نفس المقيّد ، فيقال : إنّ الإمساك كان قبل هذا الآن في النهار ، والآن كما كان ، فيجب ، فتأمّل (١).

__________________

(١) لا يخفى : أنّه قد يستشكل في استصحاب الفعل المقيّد بالزمان إذا كان الشكّ في حكمه من جهة الشكّ في بقاء زمانه ، كما إذا شكّ في وجوب الإمساك المقيّد بوقوعه في النهار من جهة الشكّ في بقاء النهار. ومنشأ الإشكال أنّ استصحاب النهار لا يتكفّل أكثر من إثبات وجود النهار ، ولا يثبت به وقوع الإمساك في النهار إلّا على القول بالأصل المثبت ، لأنّ وقوع الإمساك في النهار لازم عقليّ لبقاء النهار.

وقد تصدّى الأعلام لدفع الإشكال بوجوه :

الوجه الأوّل : ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاريّ من جريان الاستصحاب في الحكم ، بأن نقول : إنّ وجوب الإمساك الواقع في النهار كان ثابتا قبل هذا ، فالآن كما كان ، فيثبت به كون الإمساك في النهار ، فيجب الإمساك. فرائد الاصول ٣ : ٢٠٥.

وأورد عليه المحقّق النائينيّ في دورة من دورات بحثه ـ فوائد الاصول ٤ : ٤٣٨ ـ بأنّ استصحاب الحكم لا يجدي في إحراز كون الإمساك في النهار.

ولكن في دورة اخرى منها ـ أجود التقريرات ٣ : ٤٠١ ـ وجّه ما أفاد الشيخ الأعظم بما حاصله : أنّ استصحاب الزمان لا يتكفّل إثبات وقوع الإمساك في النهار إلّا على الأصل المثبت ، فإنّ وقوع الإمساك في النهار من آثار بقاء الزمان عقلا ، لا شرعا. بخلاف استصحاب الحكم ـ أي وجوب الإمساك الواقع في النهار ـ ، فإنّ معنى استصحاب الحكم هو التعبّد ببقاء الوجوب فعلا ، وهو يرجع إلى التعبّد به بجميع خصوصيّاته الّتي كان عليها ، والمفروض أنّ الوجوب السابق كان متعلّقا بما إذا أتى به كان واقعا في النهار ، فيستصحب ذلك الوجوب على النحو الّذي كان سابقا ، وبه يثبت وجوب الإمساك الواقع في النهار.

الوجه الثاني : ما أفاده المصنّف قدس‌سره في المقام من استصحاب نفس فعل المكلّف المقيّد بالزمان ، بأن يقال ـ بعد الشكّ في بقاء النهار ـ : إنّ الإمساك قبل هذا الشكّ كان واقعا في النهار ، والآن كما كان ، فيجب.

ولا يخفى : أنّ هذا الوجه وإن كان جاريا في مثل الإمساك ، إلّا أنّه غير جار في بعض موارد آخر ، كالشكّ في وجوب صلاة الظهرين من جهة الشكّ في بقاء النهار ، ضرورة أنّ الصلاة لم تكن موجودة قبل الشكّ كي يقال : «إنّها قبل الشكّ كانت واقعة في النهار ، والآن كما كانت». ولعلّه قال المصنّف قدس‌سره «فتأمّل».

الوجه الثالث : ما أفاده المحقّق العراقيّ ، وهو يرجع إلى وجهين : ـ

٢٢٧

وإن كان من الجهة الاخرى (١) ، فلا مجال إلّا لاستصحاب الحكم في خصوص ما لم يؤخذ الزمان فيه إلّا ظرفا لثبوته ، لا قيدا مقوّما لموضوعه ، وإلّا فلا مجال إلّا لاستصحاب عدمه فيما بعد ذاك الزمان ، فإنّه غير ما علم ثبوته له ، فيكون الشكّ في ثبوته له أيضا شكّا في أصل ثبوته بعد القطع بعدمه لا في بقائه (٢).

__________________

ـ أحدهما : أنّ الزمان لم يؤخذ في المتعلّق قيدا للفعل ، بل اخذ فيه بنحو المعيّة في الوجود ، وحينئذ فيمكن إثبات أحد الجزءين المتقارنين ـ وهو الزمان الخاصّ ـ بالاستصحاب ، وإثبات الجزء الآخر ـ وهو الفعل ـ بالوجدان.

ثانيهما : لو سلّم أنّ الزمان اخذ في المتعلّق قيدا للفعل فيمكن تصحيح الاستصحاب باستصحاب نهاريّة الموجود ، فإنّ وصف النهاريّة من الأوصاف التدريجيّة ، كذات الموصوف ، فيكون حادثا بحدوث الآنات وباقيا ببقائها ، فإذا اتّصف بعض هذه الآنات بالنهاريّة وشكّ في اتّصاف الزمان الحاضر بها يجري استصحاب بقاء النهاريّة الثابتة للزمان السابق ، لفرض وحدة الموصوف عرفا ، فيترتّب عليه الامتثال والخروج عن العهدة. نهاية الأفكار ٤ : ١٤٩ ـ ١٥٠.

وتبعه السيّدان العلمان ـ الإمام الخمينيّ والمحقّق الخوئيّ ـ ، فدفعه الإمام الخمينيّ بالوجه الثاني والسيّد الخوئيّ بالوجه الأوّل. راجع الرسائل ١ : ١٥٣ ـ ١٥٤ ، موسوعة الإمام الخوئيّ (مصباح الاصول) ٤٨ : ١٤٩ ـ ١٥٠.

الوجه الرابع : ما أفاده المحقّق الأكبر الشيخ الأصفهانيّ. وحاصله : أنّه إذا كان متعلّق الحكم هو الإمساك في النهار لا الإمساك النهاريّ كان جريان الاستصحاب في النهار مجديا ، ولو لم يحرز أنّ هذا الآن نهار ، لأنّ ثبوت القيد تعبّديّ ، والتقيّد وجدانيّ ، فيثبت أنّ هذا إمساك وجدانيّ في النهار التعبّديّ. نهاية الدراية ٣ : ١٨٦.

(١) أي : كان الشكّ من غير جهة الشكّ في بقاء القيد. مرّ توضيحه في التعليقة (٨) من الصفحة : ٢٢٦.

(٢) والحاصل : أنّ الزمان إذا اخذ ظرفا لثبوت الحكم كان الاستصحاب جاريا ، وإن كان قيدا مقوّما لمتعلّقه فلا يجري الاستصحاب ، بل يجري استصحاب عدم الحكم. وهذا ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاريّ ووافقه المصنّف قدس‌سره في المقام ، فراجع فرائد الاصول ٣ : ٢١٠ ـ ٢١١.

والمحقّق النائينيّ ـ بعد ما تعرّض لما أفاد الشيخ وناقش فيه ـ ذهب إلى عدم جريان كلا الاستصحابين ، استصحاب وجود الحكم واستصحاب عدمه ، فلا بدّ من الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال. راجع فوائد الاصول ٣ : ٤٤١ ـ ٤٤٨.

ولكن المحقّق العراقيّ والسيّد الخوئي أوردا على ما أفاده بما لا يهمّ التعرّض له ، فراجع هامش فوائد الاصول ٤ : ٤٤٨ ، موسوعة الإمام الخوئيّ (مصباح الاصول) ٤٨ : ١٥٩ ـ ١٦٠.

٢٢٨

لا يقال : إنّ الزمان لا محالة يكون من قيود الموضوع وإن اخذ ظرفا لثبوت الحكم في دليله ، ضرورة دخل مثل الزمان فيما هو المناط لثبوته ، فلا مجال إلّا لاستصحاب عدمه.

فإنّه يقال : نعم ، لو كانت العبرة في تعيين الموضوع بالدقّة ونظر العقل ؛ وأمّا إذا كانت العبرة بنظر العرف فلا شبهة في أنّ الفعل بهذا النظر موضوع واحد في الزمانين ، قطع بثبوت الحكم له في الزمان الأوّل ، وشكّ في بقاء هذا الحكم له وارتفاعه في الزمان الثاني ، فلا يكون مجال إلّا لاستصحاب ثبوته.

لا يقال : فاستصحاب كلّ واحد من الثبوت والعدم يجري ، لثبوت كلا النظرين (١) ، ويقع التعارض بين الاستصحابين ، كما قيل (٢).

فإنّه يقال : إنّما يكون ذلك لو كان في الدليل (٣) ما بمفهومه يعمّ النظرين ، وإلّا فلا يكاد يصحّ (٤) إلّا إذا سيق بأحدهما ، لعدم إمكان الجمع بينهما ، لكمال المنافاة بينهما (٥) ، ولا يكون في أخبار الباب ما بمفهومه يعمّهما ، فلا يكون هناك إلّا استصحاب واحد ، وهو استصحاب الثبوت فيما إذا اخذ الزمان ظرفا ، واستصحاب العدم فيما إذا اخذ قيدا ، لما عرفت من أنّ العبرة في هذا الباب بالنظر العرفيّ.

ولا شبهة في أنّ الفعل فيما بعد ذاك الوقت معه قبله (٦) متّحد في الأوّل (٧) ومتعدّد في الثاني (٨) بحسبه (٩) ، ضرورة أنّ الفعل المقيّد بزمان خاصّ غير الفعل

__________________

(١) أي : نظر العرف ونظر العقل.

(٢) والقائل هو المحقّق النراقيّ في مناهج الأحكام والاصول : ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

(٣) أي : دليل الاستصحاب.

(٤) أي : فلا يكاد يصحّ جريان الاستصحاب.

(٥) فإنّه بناء على القيديّة لا يكون رفع اليد عن الحكم بعد ذلك الزمان نقضا للحكم السابق ، وبناء على الظرفيّة يكون رفع اليد عنه بعد ذلك الزمان نقضا له ، فلا يمكن الجمع بينهما.

(٦) وفي بعض النسخ : «مع قبله». والضمير في قوله : «قبله» يرجع إلى ما بعد ذلك الوقت.

والأولى أن يقول : «معه في ذلك الوقت».

(٧) أي : فيما إذا اخذ الزمان ظرفا.

(٨) أي : فيما إذا اخذ الزمان قيدا.

(٩) أي : بحسب العرف.

٢٢٩

في زمان آخر ولو بالنظر المسامحيّ العرفيّ.

نعم ، لا يبعد أن يكون بحسبه أيضا متّحدا فيما إذا كان الشكّ في بقاء حكمه من جهة الشكّ في أنّه بنحو التعدّد المطلوبيّ وأنّ حكمه بتلك المرتبة الّتي كان (١) مع ذاك الوقت وإن لم يكن باقيا بعدها (٢) قطعا إلّا أنّه يحتمل بقاؤه بما دون تلك المرتبة من مراتبه ، فيستصحب (٣) ، فتأمّل جيّدا.

إزاحة وهم

لا يخفى : أنّ الطهارة الحدثيّة والخبثيّة وما يقابلها (٤) تكون ممّا إذا وجدت بأسبابها لا يكاد يشكّ في بقائها إلّا من قبل الشكّ في الرافع لها ، لا من قبل الشكّ في مقدار تأثير أسبابها ، ضرورة أنّها إذا وجدت بها كانت تبقى ما لم يحدث رافع

__________________

(١) هكذا في النسخ. والصواب أن يقول : «كانت».

(٢) وفي بعض النسخ : «بعده». والأولى ما أثبتناه. ومعنى العبارة : «إنّ حكم الفعل في تلك المرتبة الّتي كانت ثابتة له مع ذاك الوقت وإن لم يكن ذاك الحكم باقيا بعد تلك المرتبة قطعا ...».

وبناء على ما في بعض النسخ يرجع الضمير إلى ذاك الوقت ، ويكون معنى العبارة : «وإن لم يكن ذاك الحكم باقيا للفعل بتلك المرتبة بعد ذاك الوقت قطعا ...».

(٣) والحاصل : أنّه إذا كان الشكّ في ثبوت الحكم للفعل المقيّد بالزمان من جهة اخرى غير جهة الشكّ في بقاء الزمان فلا يخلو : إمّا أن يكون تقيّده بالزمان بحيث يحكم العقل والعرف بأنّ الفعل الواقع في ذاك الزمان الخاصّ غير ذلك الفعل إذا وقع في زمان آخر ، كما إذا اخذ الزمان قيدا للفعل بنحو وحدة المطلوب ، فحينئذ لا مجال للاستصحاب ، لأنّه يرجع إلى مغايرة المتيقّن والمشكوك. وإمّا أن يكون تقيّده بالزمان بحيث يحكم العقل والعرف أو خصوص العرف بأنّ الفعل الواقع في ذاك الزمان الخاصّ متّحد معه إذا وقع فيما بعد ذاك الوقت ، كما إذا اخذ الزمان بنحو الظرفيّة ، بحيث يكون للزمان دخل في ثبوت الحكم للفعل ، أو اخذ قيدا له بنحو تعدّد المطلوب ، بأن يكون الفعل مطلوبا وتقيّده بذلك الزمان الخاصّ مطلوبا آخر ، بحيث لا تنثلم وحدة الفعل بانقضاء ذلك الوقت ، فإنّ المكلّف حينئذ وإن علم بعدم بقاء الحكم للفعل بالمرتبة الّتي ثبتت له مع ذاك الوقت إلّا أنّه يحتمل بقاؤه له بمرتبة دون تلك المرتبة ، فيرجع شكّه إلى بقاء مطلوبيّته الّتي ثبتت له في ذلك الوقت ، فيستصحب.

(٤) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «وما يقابلهما».

٢٣٠

لها ، كانت من الامور الخارجيّة أو الامور الاعتباريّة الّتي كانت لها آثار شرعيّة ، فلا أصل لأصالة عدم جعل الوضوء سببا للطهارة بعد المذي ، أو أصالة عدم جعل الملاقاة سببا للنجاسة بعد الغسل مرّة ـ كما حكي عن بعض الأفاضل (١) ـ ، ولا يكون هاهنا أصل إلّا أصالة الطهارة أو النجاسة.

[التنبيه] الخامس : [الاستصحاب التعليقيّ] (٢)

انّه كما لا إشكال فيما إذا كان المتيقّن حكما فعليّا

__________________

(١) وهو الفاضل النراقيّ في مناهج الاصول والأحكام : ٢٣٩.

(٢) لا يخفى : أنّ توضيح ما أفاد المصنّف قدس‌سره في المقام يتوقّف على بيان محلّ النزاع ، فنقول : إنّ الشكّ في بقاء الحكم الشرعيّ يتصوّر على وجوه :

الأوّل : أن يكون المشكوك حكما جزئيّا ، ويكون الشكّ في بقائه ناشئا من احتمال عرض تغيّر في حالات موضوعه الخارجيّ ، كما إذا علمنا بطهارة ثوب وشككنا في بقاء طهارته من جهة احتمال ملاقاته البول مثلا. وهذا الوجه ممّا لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه.

الثاني : أن يكون المشكوك حكما كلّيّا ، ويكون الشكّ في بقائه ناشئا من احتمال النسخ ، كما إذا شككنا في بقاء حرمة الخمر لاحتمال النسخ. وهذا الوجه أيضا لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه.

الثالث : أن يكون المشكوك حكما كلّيّا متعلّقا بموضوع على تقدير وجود شرط أو فقد مانع ، ويكون الشكّ في بقائه من جهة عرض تغيّر في بعض حالات الموضوع ، كما إذا ورد : «إنّ الصلاة واجبة على المرأة الخالية من الحيض بشرط دخول الوقت» ، ثمّ شكّ في بقاء وجوب الصلاة عليها من جهة أنّها رأت دما مشتبها بين الحيض والاستحاضة ، أو كما إذا ورد : «إنّ العصير العنبيّ يحرم إذا غلا» ، فيشكّ في بقاء حرمته من جهة صيرورة العنب زبيبا. وهذا الوجه هو محلّ الخلاف بين الأعلام ، ويطلق على استصحابه «الاستصحاب التعليقيّ» و «الاستصحاب التقديريّ» و «الاستصحاب المشروط».

فذهب العلّامة الطباطبائيّ (بحر العلوم) ـ على ما حكي عنه في بحر الفوائد ٣ : ١٢٠ ـ إلى جريانه مطلقا. وتبعه كثير من المحقّقين ، منهم : الشيخ الأعظم الأنصاريّ والمحقّق الآشتيانيّ والمصنّف قدس‌سره والمحقّق العراقيّ والسيّد الإمام الخمينيّ. راجع فرائد الاصول ٣ : ٢٢٢ ـ ٢٢٣ ، بحر الفوائد ٣ : ١٢٠ ، نهاية الأفكار ٤ : ١٦٢ ، الرسائل ١ : ١٦٦.

وذهب صاحب الرياض وولده السيّد المجاهد والمحقّق النائينيّ والسيّد الخوئيّ إلى عدم ـ

٢٣١

مطلقا (١) ، لا ينبغي الإشكال فيما إذا كان مشروطا معلّقا. فلو شكّ في مورد ـ لأجل طروء بعض الحالات عليه (٢) ـ في بقاء أحكامه ، ففيما صحّ استصحاب أحكامه المطلقة صحّ استصحاب أحكامه المعلّقة ، لعدم الاختلال بذلك فيما اعتبر في قوام الاستصحاب من اليقين ثبوتا والشكّ في بقاء.

وتوهّم «أنّه لا وجود للمعلّق قبل وجود ما علّق عليه ، فاختلّ أحد ركنيه» (٣) ، فاسد جدا ، فإنّ المعلّق قبله إنّما لا يكون موجودا فعلا ، لا أنّه لا يكون موجودا

__________________

ـ جريانه مطلقا. راجع المناهل : ٢٥٢ ، فوائد الاصول ٤ : ٤٦٦ ، مصباح الاصول ٣ : ١٣٧ ـ ١٣٨.

ولا يخفى : أنّ المحقّق النائينيّ ذهب إلى عدم جريانه بعد ما فسّر الاستصحاب التعليقيّ بوجه آخر. وحاصله : أنّ محلّ النزاع في الاستصحاب التعليقيّ ما إذا تعلّق الحكم الكلّيّ بموضوع مركّب من جزءين عند فرض وجود أحد جزئيه ، وشكّ في بقائه من جهة تبدّل بعض حالاته قبل فرض وجود الجزء الآخر.

ثمّ استدلّ على عدم جريان الاستصحاب بأنّ فعليّة الحكم المترتّب على الموضوع المركّب متوقّفة على وجود موضوعه بتمام أجزائه ، لأنّ نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة المعلول إلى علّته ، ولا يعقل تحقّق المعلول ـ وهو الحكم ـ إلّا بعد تحقّق علّته بمالها من الأجزاء ، فوجود أحد جزأي الموضوع بمنزلة العدم ، لعدم ترتّب الحكم عليه ، فلم يتحقّق حكم حتّى نشكّ في بقائه ، فلا مجال لجريان الاستصحاب. فوائد الاصول ٤ : ٤٦٣ ـ ٤٦٧.

ولكنّ التحقيق : أنّ مورد النزاع ليس ما إذا كان الحكم متعلّقا بموضوع مركّب ـ كما زعمه وزعم تلميذه المحقّق الخوئيّ في مصباح الاصول ٣ : ١٣٧ ـ ، بل الظاهر من كلماتهم أنّ محلّ النزاع هو الاستصحاب التعليقيّ بالمعنى الّذي ذكرناه. راجع فرائد الاصول ٣ : ٢٢٢ ـ ٢٢٣ ، أوثق الوسائل : ٤٧٢ و ٥٠١ ، بحر الفوائد : ١١٩ ـ ١٢٠ ، درر الفوائد (للمصنّف) : ٣٤٦.

(١) أي : كما لا إشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا كان المتيقّن الحدوث والمشكوك البقاء حكما فعليّا غير مشروط بشرط غير حاصل.

(٢) مثل طروء حالة الزبيبيّة على العنب ، وطروء حالة رؤية الدم على المرأة.

(٣) هذا ما توهّمه صاحب الرياض على ما نسبه إليه ولده العلّامة في المناهل. قال في المناهل : «إنّه يشترط في حجّيّته ثبوت أمر أو حكم وضعيّ أو تكليفيّ في زمان من الأزمنة قطعا ، ثمّ يحصل الشكّ في ارتفاعه بسبب من الأسباب ، ولا يكفي مجرّد قابليّة الثبوت باعتبار من الاعتبارات ، فالاستصحاب التقديريّ باطل. وقد صرّح بذلك الوالد العلّامة في أثناء الدرس.

فلا وجه للتمسّك باستصحاب التحريم في المسألة». المناهل : ٦٥٢.

٢٣٢

أصلا ولو بنحو التعليق ، كيف! والمفروض أنّه مورد فعلا للخطاب بالتحريم (١) ـ مثلا ـ أو الإيجاب (٢) ، فكان على يقين منه قبل طروء الحالة فيشكّ فيه بعده. ولا يعتبر في الاستصحاب إلّا الشكّ في بقاء شيء كان على يقين من ثبوته. واختلاف نحو ثبوته لا يكاد يوجب تفاوتا في ذلك.

وبالجملة : يكون الاستصحاب متمّما لدلالة الدليل على الحكم فيما اهمل أو اجمل ، كان الحكم مطلقا أو معلّقا ، فببركته يعمّ الحكم للحالة الطارئة اللاحقة كالحالة السابقة ، فيحكم مثلا بأنّ العصير الزبيبيّ يكون على ما كان عليه سابقا في حال عنبيّته من أحكامه المطلقة (٣) والمعلّقة (٤) لو شكّ فيها ، فكما يحكم ببقاء ملكيّته يحكم بحرمته على تقدير غليانه.

إن قلت : نعم ، ولكنّه لا مجال لاستصحاب المعلّق ، لمعارضته باستصحاب ضدّه المطلق ، فيعارض استصحاب الحرمة المعلّقة للعصير باستصحاب حلّيّته المطلقة (٥).

__________________

(١) كما يقال : «ماء العنب إذا غلى يحرم» مع أنّ ماء العنب المغلي لا يكون موجودا فعلا ، بل يكون موجودا بنحو التعليق.

(٢) كما يقال : «الصلاة واجبة على المرأة الخالية عن الحيض إذا دخل الوقت».

(٣) كملكيّته.

(٤) كحرمته.

(٥) حاصل الإشكال : أنّه لو سلّم تماميّة المقتضي لجريان الاستصحاب التعليقيّ فيشكل جريانه من جهة أنّه محفوف بالمانع دائما ، وهو استصحاب ضدّه. بيان ذلك : أنّ كلّ ما كان محكوما بالحرمة التعليقيّة ـ مثلا ـ محكوم بالحلّيّة التنجزيّة قبل حصول المعلّق عليه الحرمة ، فبعد حصوله والشكّ في حكمه يمكن استصحاب حكمه التنجيزيّ ـ وهو الحلّيّة ـ كما يمكن استصحاب حكمه التعليقيّ ـ وهو الحرمة ـ ، فيتحقّق التعارض بين الاستصحابين دائما. ففي مثال العصير الزبيبيّ كما يمكن الحكم بحرمته على تقدير الغليان بواسطة استصحاب حكمه التعليقيّ كذلك يمكن الحكم بحلّيّته المنجّزة الفعليّة المتيقّنة قبل الغليان بواسطة الاستصحاب ، فيتعارض الاستصحابان ويتساقطان ويرجع إلى قاعدة الحلّ.

٢٣٣

قلت (١) : لا يكاد يضرّ استصحابه (٢) على نحو كان قبل عروض الحالة الّتي شكّ في بقاء الحكم المعلّق (٣) بعده ، ضرورة أنّه (٤) كان مغيّا بعدم ما علّق عليه المعلّق ، وما كان كذلك لا يكاد يضرّ ثبوته بعده بالقطع فضلا عن الاستصحاب ، لعدم المضادّة بينهما ، فيكونان بعد عروضها بالاستصحاب كما كانا معا بالقطع قبل بلا منافاة أصلا (٥) ، وقضيّة ذلك (٦) انتفاء الحكم المطلق (٧) بمجرّد ثبوت ما علّق عليه المعلّق (٨) ؛ فالغليان في المثال كما كان شرطا للحرمة كان غاية للحلّيّة ، فإذا شكّ في حرمته المعلّقة بعد عروض حالة عليه شكّ في حلّيّته المغيّاة لا محالة أيضا ، فيكون الشكّ في حلّيّته أو حرمته فعلا بعد عروضها متّحدا خارجا مع الشكّ في بقائه على ما كان عليه من الحلّيّة والحرمة بنحو كانتا عليه ، فقضيّة استصحاب حرمته المعلّقة ـ بعد عروضها (٩) الملازم لاستصحاب حلّيّته المغيّاة ـ حرمته

__________________

(١) وحاصل الجواب : أنّ الحلّيّة الثابتة لماء العنب ليست حلّيّة مطلقة ، بل تكون مغيّاة بالغليان ، فإنّ الغليان ذو جهتين : (إحداهما) كونه شرطا لحرمة ماء العنب. و (ثانيتهما) كونه غاية للحلّيّة الثابتة له. فإذا تبدّلت حالة العنب وطرأت عليه حالة الزبيبيّة يستصحب الحلّيّة المغيّاة به ، كما يستصحب الحرمة المعلّقة عليه ، ولا تعارض بين الاستصحابين ، لعدم التنافي بين الحكمين ، فإنّ مقتضى استصحاب الحلّيّة المغيّاة بالغليان هو انتفاء الحلّيّة بعد حصول الغليان ، كما أنّ مقتضى استصحاب الحرمة المعلّقة عليه هو ثبوت الحرمة بعد حصوله.

(٢) أي : استصحاب ضدّه المطلق ، وهو الحلّيّة في مثال العنب.

(٣) وفي بعض النسخ : «حكم المعلّق». والصحيح ما أثبتناه. والمراد من الحكم المعلّق هو الحرمة في مثال العنب.

(٤) أي : ضدّه المطلق ، وهو الحلّيّة في المثال المذكور.

(٥) أي : فتكون الحلّيّة المغيّاة بالغليان والحرمة المشروطة به ـ بعد طروء حالة الزبيبيّة ـ مجتمعين بالاستصحاب ، كما كانا مجتمعين بالقطع للعنب قبل طروء حالة الزبيبيّة.

(٦) أي : قضيّة كون الحلّيّة مغيّاة بالغليان وكون الحرمة مشروطة به.

(٧) وهو الحلّيّة.

(٨) أي : بمجرّد ثبوت الغليان.

(٩) الضمير في «عروضها» يرجع إلى الحالة. وقد مرّ أنّ كلمة «عروض» من الأغلاط المشهورة ويكون الصحيح : «عرض».

٢٣٤

فعلا بعد غليانه وانتفاء حلّيّته ، فإنّه قضيّة نحو ثبوتهما ، كان بدليلهما أو بدليل الاستصحاب ، كما لا يخفى بأدنى التفات على ذوي الألباب ، فالتفت ولا تغفل (١).

[التنبيه] السادس : [استصحاب الشرائع السابقة]

لا فرق أيضا بين أن يكون المتيقّن من أحكام هذه الشريعة أو الشريعة السابقة إذا شكّ في بقائه وارتفاعه بنسخه في هذه الشريعة (٢) ، لعموم أدلّة الاستصحاب ،

__________________

(١) كيلا تقول في مقام التفصّي عن إشكال المعارضة : «إنّ الشكّ في الحلّيّة فعلا بعد الغليان يكون مسبّبا عن الشكّ في الحرمة المعلّقة» * فيشكل بأنّه لا ترتّب بينهما عقلا ولا شرعا ، بل بينهما ملازمة عقلا ، لما عرفت من أنّ الشكّ في الحلّيّة أو الحرمة الفعليّتين بعده متّحد مع الشكّ في بقاء حرمته وحلّيّته المعلّقة وأنّ قضيّة الاستصحاب حرمته فعلا وانتفاء حلّيّته بعد غليانه ، فإنّ حرمته كذلك وإن كان لازما عقلا لحرمته المعلّقة المستصحبة إلّا أنّه لازم لها ، كان ثبوتها بخصوص خطاب أو عموم دليل الاستصحاب ، فافهم ، منه [أعلى الله مقامه].

(*) هذا ما قال به الشيخ الأعظم الأنصاريّ في مقام التفصيّ عن إشكال المعارضة. راجع فرائد الاصول ٣ : ٢٢٣.

ولا يخفى : أنّ الأعلام اختلفوا في المقام ، فتفصّى عنه بعضهم بدعوى حكومة الاستصحاب التعليقيّ على الاستصحاب التنجيزيّ ، كالمحقّق النائينيّ والمحقّق العراقيّ والسيّد الإمام الخمينيّ ، فإنّ كلّ واحد منهم أفاد وجها في بيان الحكومة. وذهب بعض آخر إلى نفي الحكومة والتفصيّ بوجه آخر ، كالمحقّق الاصفهانيّ والسيّد الخوئيّ. راجع فوائد الاصول ٤ : ٤٧٣ ـ ٤٧٤ ، نهاية الأفكار ٤ : ١٧٠ ـ ١٧١ ، الرسائل ١ : ١٧٣ ـ ١٧٥ ، نهاية الدراية ٣ : ٢٠٩ ، موسوعة الإمام الخوئيّ (مصباح الاصول) ٤٨ : ١٧٠.

(٢) هذا مذهب كثير من المحقّقين ، منهم : الشيخ الأنصاريّ والمحقّق العراقيّ والوحيد البهبهانيّ ، بل عدّه المحدّث الاسترآباديّ من الضروريّات. راجع فرائد الاصول ٣ : ٢٢٥ ، الفوائد الحائريّة : ٤١٣ ، نهاية الأفكار ٤ : ١٧٤ ـ ١٧٥ ، الفوائد المدنيّة : ١٤٣.

وذهب بعض آخر إلى عدم جريان الاستصحاب في المقام ، منهم : صاحب الفصول والمحقّق القمّي والمحقّق النائينيّ والسيّدان العلمان الخمينيّ والخوئيّ. راجع الفصول الغرويّة : ٣١٥ ، قوانين الاصول ١ : ٤٩٥ ، فوائد الاصول ٤ : ٤٨٠ ، الرسائل ١ : ١٧٦ ، دراسات في علم الاصول ٤ : ١٤٧ ـ ١٥١.

٢٣٥

وفساد (١) توهّم اختلال أركانه فيما كان المتيقّن من أحكام الشريعة السابقة لا محالة. إمّا لعدم اليقين بثبوتها في حقّهم (٢) وإن علم بثبوتها سابقا في حقّ آخرين ، فلا شكّ في بقائها أيضا بل في ثبوت مثلها ، كما لا يخفى. وإمّا لليقين بارتفاعها بنسخ الشريعة السابقة بهذه الشريعة ، فلا شكّ في بقائها حينئذ ولو سلّم اليقين بثبوتها في حقّهم (٣).

وذلك (٤) لأنّ الحكم الثابت في الشريعة السابقة حيث كان ثابتا لأفراد المكلّف ، كانت محقّقة وجودا أو مقدّرة ـ كما هو قضيّة القضايا المتعارفة المتداولة ، وهي قضايا حقيقيّة ـ ، لا خصوص الأفراد الخارجيّة ـ كما هو قضيّة القضايا الخارجيّة ـ ، وإلّا لما صحّ الاستصحاب في الأحكام الثابتة في هذه الشريعة ، ولا النسخ بالنسبة إلى غير الموجود في زمان ثبوتها ، كان (٥) الحكم في الشريعة السابقة ثابتا لعامّة أفراد المكلّف ممّن وجد أو يوجد ، وكان الشكّ فيه كالشكّ في بقاء الحكم الثابت في هذه الشريعة (٦) لغير من وجد في زمان ثبوته.

والشريعة السابقة (٧) وإن كانت منسوخة بهذه الشريعة يقينا ، إلّا أنّه لا يوجب

__________________

(١) معطوف على قوله : «لعموم ...».

(٢) أي : إمّا لعدم اليقين بثبوت أحكام الشريعة السابقة في حقّ الحاضرين.

(٣) انتهى ما توهّمه صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ٣١٥.

(٤) أي : فساد التوهّم. ومن هنا إلى قوله : «من وجد في زمان ثبوته» جواب عن الشقّ الأوّل من الإشكال.

(٥) جواب قوله : «حيث كان».

(٦) في كفاية اليقين بثبوته بحيث لو كان باقيا ولم ينسخ لعمّه ، ضرورة صدق أنّه على يقين منه فشكّ فيه بذلك ، ولزوم اليقين بثبوته في حقّه سابقا بلا ملزم.

وبالجملة : قضيّة دليل الاستصحاب جريانه لإثبات حكم السابق للّاحق وإسرائه إليه فيما كان يعمّه ويشمله لو لا طروء حالة معها يحتمل نسخه ورفعه ، وكان دليله قاصرا عن شمولها من دون لزوم كونه ثابتا له قبل طروئها أصلا ، كما لا يخفى. منه [أعلى الله مقامه].

لا يخفى : إنّ هذه التعليقة ليست في بعض النسخ.

(٧) وهذا جواب عن الشقّ الثاني من الإشكال. وهو ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري في فرائد ـ

٢٣٦

اليقين بارتفاع أحكامها بتمامها ، ضرورة أنّ قضيّة نسخ الشريعة ليست ارتفاعها كذلك ، بل عدم بقائها بتمامها.

والعلم إجمالا بارتفاع بعضها (١) إنّما يمنع عن استصحاب ما شكّ في بقائه منها (٢) فيما إذا كان (٣) من أطراف ما علم ارتفاعه إجمالا ، لا فيما إذا لم يكن من

__________________

ـ الاصول ٣ : ٢٢٧. وحاصله : أنّ انهدام الركن الثاني ـ وهو الشكّ في البقاء ـ انّما يلزم فيما إذا كانت هذه الشريعة ناسخة لجميع الأحكام الثابتة في الشرائع السابقة ، إذ يقطع حينئذ بارتفاعها ولا يبقى شكّ في بقائها حتّى يستصحب. ولكنّه ممنوع ، إذ ليس مقتضى النسخ ارتفاع أحكام الشرائع السابقة بتمامها ، بل مقتضاه عدم بقاء أحكام الشرائع السابقة بتمامها ، فيصدق النسخ ولو لم ينسخ بعض أحكامها ، وحينئذ إذا شكّ في نسخ حكم من أحكامها يجري الاستصحاب.

وأورد عليه المحقّق الاصفهانيّ بما حاصله : أنّ حقيقة الحكم المجعول عبارة عمّا يوحى به بلسان جبرئيل عليه‌السلام على قلب النبيّ الموحى إليه ، بحيث يكون ذلك الإنشاء القائم الوارد على قلب النبيّ عين جعله من الله تعالى ، من دون سبق الجعل ، فإذا بقي هذا الحكم في شريعة اخرى كان النبيّ اللاحق تابعا لذلك النبيّ السابق في ذلك الحكم. وحيث أنّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل الأنبياء ولا يكون تابعا لنبيّ من الأنبياء في حكم من الأحكام فلا محالة يكون المجعول في شريعته مماثلا لما في شريعة موسى عليه‌السلام ، فأمّته مأمورون بذلك الحكم من حيث أنّه أوحى به إلى نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا من حيث أنّه أوحى به إلى موسى عليه‌السلام ، فيكون جميع أحكام هذه الشريعة أحكام حادثه ، بعضها مماثل لما في الشرائع السابقة وبعضها مضادّ أو مناقض له ، وحينئذ يصحّ دعوى أنّ هذه الشريعة ناسخة لجميع الأحكام الثابتة في الشرائع السابقة ، وأنّ الشكّ يؤول إلى حدوث حكم مماثل أو غير مماثل ، لا إلى بقاء ما في الشريعة السابقة وعدمه ، فلا شكّ في البقاء ، ولا مجال للاستصحاب. نهاية الدراية ٣ : ٢١٤ ـ ٢١٥ و ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

(١) هذا إشارة إلى توهّم آخر لمن أنكر حجّيّة استصحاب عدم نسخ حكم من أحكام الشرائع السابقة. وحاصله : أنّه لو سلّم عدم اختلال أركان الاستصحاب فيما كان المتيقّن من أحكام الشريعة السابقة لا يجري الاستصحاب أيضا ، لأنّ المفروض أنّ نسخ الشريعة عبارة عن رفع جملة من أحكامها ، لا رفع تمامها ، وحيث أنّ تلك الجملة غير معلومة لنا تفصيلا فنعلم إجمالا بثبوت بعض أحكامها لنا ، والاستصحاب لا يجري في أطراف العلم الإجماليّ.

(٢) أي : من أحكام الشرائع السابقة.

(٣) الضمير المستتر في قوله : «كان» وقوله الآتي : «لم يكن» يرجع إلى ما شكّ في بقائه من تلك الأحكام.

٢٣٧

أطرافه ، كما إذا علم بمقداره تفصيلا (١) أو في موارد (٢) ليس المشكوك منها ، وقد علم بارتفاع ما في موارد الأحكام الثابتة في هذه الشريعة (٣).

ثمّ لا يخفى أنّه يمكن إرجاع ما أفاده شيخنا العلّامة ـ أعلى الله في الجنان مقامه ـ في الذبّ عن إشكال (٤) تغاير الموضوع في هذا الاستصحاب من الوجه الثاني إلى ما ذكرنا ، لا ما يوهمه ظاهر كلامه (٥) من : «أنّ الحكم ثابت للكلّيّ ، كما أنّ الملكيّة له في مثل باب الزكاة والوقف العامّ ، حيث لا مدخل للأشخاص فيها» ، ضرورة أنّ التكليف والبعث أو الزجر لا يكاد يتعلّق به كذلك (٦) ، بل لا بدّ من تعلّقه

__________________

(١) بأن يعلم عدد الأحكام المنسوخة وموضوعاتها.

(٢) لا يخفى : أنّ في قوله : «أو في موارد ...» وجهين :

الأوّل : أن يكون معطوفا على قوله : «بمقداره» ، فيكون معنى العبارة : أو إذا علم إجمالا بأنّ الأحكام المرتفعة ـ غير المعلومة مقدارا ـ تختصّ بباب أو فصل ليس مشكوك البقاء منه ، كما إذا علم بأنّ دائرة الأحكام المنسوخة خصوص العبادات وكان المشكوك البقاء منها من المعاملات.

الثاني : أن يكون معطوفا على قوله : «تفصيلا». وعليه يكون معنى العبارة : أو إذا علم بمقداره لا تفصيلا ، فلا يعلم موضوعات الأحكام ، بل يعلم بعددها وأنّ هذا العدد المعيّن في موارد خاصّة ليس المشكوك منها ، كما إذا علم بأنّها خمسون حكما في خصوص العبادات وكان المشكوك البقاء من المعاملات.

(٣) والحاصل : أنّ العلم الإجماليّ بالنسخ انّما يكون قبل المراجعة إلى أحكام شريعتنا المقدّسة ، وإلّا فإذا راجعنا شريعتنا وميّزنا الناسخ منها لأحكام الشريعة السابقة فإمّا أنّ يحصل لنا العلم التفصيليّ بتلك الأحكام المنسوخة عددا وموضوعا ، وإمّا أن يحصل لنا العلم التفصيليّ بأنّها في موارد خاصّة ليس المشكوك منها ، وحينئذ لا يبقى علم إجماليّ بالنسخ في غير ما علم تفصيلا بأحد النحوين المتقدّمين ، بل يكون الشكّ في نسخ حكم بدويّا ، فلا مانع من جريان الاستصحاب.

(٤) هكذا في النسخ. والصواب أن يقول : «في ذبّ إشكال ...».

(٥) إليك نصّ كلامه : «وثانيا : إنّ اختلاف الأشخاص لا يمنع عن الاستصحاب ، وإلّا لم يجر استصحاب عدم النسخ. وحلّه : أنّ المستصحب هو الحكم الكلّيّ الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فيه». فرائد الاصول ٣ : ٢٢٦.

(٦) أي : بالكلّي ، بحيث لا يكون للأشخاص دخل في التكليف.

٢٣٨

بالأشخاص ، وكذلك الثواب أو العقاب المترتّب على الطاعة أو المعصية ، وكأنّ غرضه من عدم دخل الأشخاص عدم أشخاص خاصّة. فافهم (١).

وأمّا ما أفاده من الوجه الأوّل (٢) ، فهو وإن كان وجيها بالنسبة إلى جريان الاستصحاب في حقّ خصوص المدرك للشريعتين ، إلّا أنّه غير مجد في حقّ غيره من المعدومين. ولا يكاد يتمّ الحكم فيهم بضرورة اشتراك أهل الشريعة الواحدة أيضا ، ضرورة أنّ قضيّة الاشتراك ليست (٣) إلّا أنّ الاستصحاب حكم كلّ من كان على يقين فشكّ ، لا أنّه حكم الكلّ ولو من لم يكن كذلك بلا شكّ ، وهذا واضح.

[التنبيه] السابع : [الأصل المثبت](٤)

[قضيّة أخبار الباب]

لا شبهة في أنّ قضيّة أخبار الباب هو إنشاء حكم مماثل للمستصحب في

__________________

(١) لعلّه إشارة إلى ما أورد المحقّق الاصفهانيّ على قوله : «وكذلك الثواب أو العقاب المترتّب على الطاعة أو المعصية». وحاصل الإيراد : أنّ الثواب والعقاب نظير الملكيّة ، فإنّها من شئون الشخص ، لا الكلّيّ ؛ مع أنّ ثبوتها للكلّيّ جائز ، فكما أنّ انطباق المالك الكلّيّ على الشخص يوجب انتفاع الشخص كذلك يمكن أن يكون التكليف الكلّيّ وانطباقه على الشخص موجبا لترتّب الثواب على موافقته والعقاب على مخالفته.

(٢) وإليك نصّ كلامه : «أوّلا : أنّا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين ، فإذا حرم في حقّه شيء سابقا وشكّ في بقاء الحرمة في الشريعة اللاحقة فلا مانع عن الاستصحاب أصلا ، فإنّ الشريعة اللاحقة لا تحدث عند انقراض أهل الشريعة الاولى». فرائد الاصول ٣ : ٢٢٥.

(٣) وفي بعض النسخ : «ليس». والصحيح ما أثبتناه.

(٤) الغرض من هذا التنبيه هو البحث عن أنّ الاستصحاب هل يجري لإثبات الآثار الشرعيّة الّتي لا تترتّب على نفس المستصحب شرعا ، بل انّما تترتّب على ما يلازمه عقلا أو لا يجري؟ وبتعبير آخر : إذا كان للمستصحب لازم عقليّ أو عاديّ وكان لذلك اللازم أثر شرعيّ فهل يترتّب ذلك الأثر الشرعيّ على مجرّد استصحاب ملزومه أم لا؟

أمّا اللازم العقليّ : فمثاله ما إذا لاقى الثوب المتنجّس للماء الّذي شكّ في بقائه على الكرّيّة ، فيستصحب بقاء كرّيّته إلى زمان الملاقاة ، ويلزمه عقلا ملاقاة الثوب للماء في ـ

٢٣٩

استصحاب الأحكام ، ولأحكامه في استصحاب الموضوعات ، كما لا شبهة في ترتيب ما للحكم المنشأ بالاستصحاب من الآثار الشرعيّة والعقليّة.

[عدم حجّيّة مثبتات الاصول]

وإنّما الإشكال في ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على المستصحب بواسطة غير شرعيّة ، عاديّة كانت أو عقليّة. ومنشؤه أنّ مفاد الأخبار (١) هل هو تنزيل المستصحب والتعبّد به وحده بلحاظ خصوص ما له من الأثر بلا واسطة ، أو تنزيله بلوازمه العقليّة أو العاديّة كما هو الحال في تنزيل مؤدّيات الطرق والأمارات ، أو بلحاظ مطلق ما له من الأثر ولو بالواسطة بناء على صحّة التنزيل بلحاظ أثر الواسطة أيضا (٢) ، لأجل أنّ أثر الأثر أثر؟ وذلك (٣) لأنّ مفادها لو كان هو تنزيل

__________________

ـ حال الكرّيّة ، ويترتّب على هذا اللازم العقليّ للمستصحب أثر شرعيّ هو طهارة الثوب ، فحينئذ يبحث عن جواز ترتيب الأثر الشرعيّ ـ أي طهارة الثوب ـ المترتّب على اللازم العقليّ ـ أي ملاقاة الثوب للماء في حال الكرّيّة ـ بمجرّد استصحاب ملزوم ذلك اللازم العقليّ ـ أي بقاء كرّيّة الماء إلى زمان الملاقاة ـ وعدمه.

وأمّا اللازم العاديّ : فمثاله ولادة الطفل الّذي هو لازم لحياة الامّ ، فإذا جرى استصحاب حياتها يلزمه عادة ولادة الطفل ويترتّب على هذا اللازم العاديّ للمستصحب أثر شرعيّ هو وجوب إرسال نفقته ، فحينئذ يبحث عن جواز ترتيب الأثر الشرعيّ ـ أي وجوب إرسال نفقة الطفل على الأب ـ المترتّب على اللازم العاديّ ـ ولادة الطفل ـ بمجرّد استصحاب ملزومه ـ أي بقاء حياتها ـ وعدمه.

(١) أي : الأخبار الدالّة على حجّيّة الاستصحاب.

(٢) ولكنّ الوجه عدم صحّة التنزيل بهذا اللحاظ ، ضرورة أنّه ما يكون شرعا لشيء من الأثر لا دخل له بما يستلزمه عقلا أو عادة. وحديث أثر الأثر أثر وإن كان صادقا ، إلّا أنّه إذا لم يكن الترتّب بين الشيء وأثره وبينه وبين مؤثّره مختلفا ، وذلك ضرورة أنه لا يكاد يعدّ الأثر الشرعيّ لشيء أثرا شرعيّا لما يستلزمه عقلا أو عادة أصلا ، لا بالنظر الدقيق العقليّ ، ولا النظر المسامحيّ العرفيّ ، إلّا فيما عدّ أثر الواسطة أثرا لذيها لخفائها أو لشدّة وضوح الملازمة بينهما بحيث عدّا شيئا واحدا ذا وجهين وأثر أحدهما أثر الاثنين ، كما تأتي الإشارة إليه ، فافهم. منه [أعلى الله مقامه].

(٣) أي : كون ما ذكرناه منشئا للإشكال.

٢٤٠