كفاية الأصول - ج ٣

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-562-2
الصفحات: ٤٤٣

الشيء وحده بلحاظ أثر نفسه لم يترتّب عليه ما كان مترتّبا عليها (١) ، لعدم إحرازها حقيقة ولا تعبّدا ، ولا يكون تنزيله بلحاظه ، بخلاف ما لو كان تنزيله بلوازمه (٢) أو بلحاظ ما يعمّ آثارها ، فإنّه يترتّب باستصحابه ما كان بوساطتها (٣).

والتحقيق : أنّ الأخبار إنّما تدلّ على التعبّد بما كان على يقين منه فشكّ ، بلحاظ (٤) ما لنفسه من آثاره وأحكامه ، ولا دلالة لها بوجه على تنزيله بلوازمه الّتي لا تكون كذلك ـ كما هي محلّ ثمرة الخلاف ـ ، ولا على تنزيله بلحاظ ما له مطلقا ولو بالواسطة ، فإنّ المتيقّن إنّما هو لحاظ آثار نفسه ، وأمّا آثار لوازمه فلا دلالة هناك على لحاظها أصلا ، وما لم يثبت لحاظها بوجه أيضا لما كان وجه لترتيبها عليه باستصحابه ، كما لا يخفى.

[حجّيّة بعض مثبتات الاصول]

نعم ، لا يبعد ترتيب خصوص ما كان منها (٥) محسوبا بنظر العرف من آثار نفسه (٦) ، لخفاء ما بوساطته ، بدعوى أنّ مفاد الأخبار عرفا ما يعمّه أيضا حقيقة ، فافهم (٧).

__________________

(١) أي : على الواسطة.

(٢) أي : تنزيل الشيء مع لوازمه.

(٣) أي : بوساطة الواسطة.

(٤) متعلّق بقوله : «التعبّد».

(٥) أي : من آثار لوازم المستصحب.

(٦) أي : نفس المستصحب.

(٧) هذا هو المورد الأوّل من الموارد المستثناة من عدم حجّيّة الأصل المثبت ، وذكره الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٣ : ٢٤٤ ـ ٢٤٦ ، وهو ما إذا كان الأثر الشرعيّ من الآثار ذي الواسطة الخفيّة بحيث يعدّه العرف أثرا لنفس المستصحب ، ومثاله : استصحاب بقاء رطوبة الثوب الملاقي للأرض المتنجّسة ، فإنّ نجاسة الثوب ليست أثرا بلا واسطة لرطوبة الثوب الملاقي للأرض ، بل هي من آثار سراية النجاسة من المتنجّس إلى ملاقيه بواسطة الرطوبة ، فالسراية واسطة عقليّة بين المستصحب ـ أي الرطوبة ـ وبين النجاسة الّتي هي أثر السراية ، فيترتّب مع ذلك نجاسته باستصحاب بقاء رطوبة الثوب الملاقي للأرض المتنجّسة ، لكون الواسطة من اللوازم الخفيّة ، بحيث يرى العرف نجاسة الثوب من آثار نفس ـ

٢٤١

كما لا يبعد ترتيب ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفا بينه وبين المستصحب تنزيلا ، كما لا تفكيك بينهما واقعا ، أو بوساطة ما لأجل وضوح لزومه له أو ملازمته معه بمثابة عدّ أثره أثرا لهما ، فإنّ عدم ترتيب مثل هذا الأثر عليه يكون نقضا ليقينه بالشكّ أيضا بحسب ما يفهم من النهي عن نقضه عرفا (١) ، فافهم (٢).

__________________

ـ المستصحب ، لا من آثار السراية.

واستدلّ المصنّف قدس‌سره على استثناء هذا المورد بأنّ المتفاهم العرفيّ من أخبار حجّيّة الاستصحاب أنّ مفادها يشمل حقيقة أثر الواسطة الخفيّة كما يشمل أثر نفس المستصحب.

(١) والحاصل : أنه يستثنى أيضا من عدم حجّيّة الاصول المثبتة موردين آخرين :

الأوّل : ما أشار إليه بقوله : «ما كان بواسطة ما لا يمكن ...». وهو ما إذا كانت الواسطة بمثابة يمتنع التفكيك بينها وبين ذيها تنزيلا ، كما يمتنع التفكيك بينهما واقعا ، كالعلّة التامّة ومعلولها ، فإنّ التعبّد بالعلّة يستلزم التعبّد بالمعلول ، أو كالمتضايفين ، فإنّ التعبّد بأبوّة زيد لعمرو ملازم عرفا للتعبّد ببنوّة عمرو لزيد.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «أو بوساطة ما لأجل ...». وهو ما إذا كانت الواسطة بمثابة يمتنع عرفا التفكيك بينها ويبن ذيها تنزيلا ، وإن لم يستحيل الانفكاك بينهما واقعا ، كما إذا كان لزوم الواسطة للمستصحب أو ملازمته معه واضحا جدّا ، بحيث يعدّ أثر الواسطة أثرا لهما. ومثاله : ضوء الشمس الّذي هو لازم بقاء قرص الشمس في قوس النهار ، فيترتّب على المستصحب ـ وهو بقاء قرص الشمس ـ الأثر الشرعيّ المترتّب على ضوء الشمس ، وهو طهارة البواري المجفّفة بضوئها.

فالفرق بين الموردين أنّ في المورد الأوّل يمتنع التفكيك عرفا وواقعا ، وفي المورد الثاني إنّما يمتنع التفكيك عرفا ، ضرورة أنّه يمكن انفكاك ضوء الشمس عن بقاء قرصها واقعا.

(٢) لعلّه إشارة إلى ما أورده المحقّق النائينيّ والمحقّق الأصفهانيّ على حجّيّة مثبتات الاصول في الموارد الثلاثة.

أمّا المحقّق النائينيّ : فأورد على استثناء المورد الأوّل بما حاصله : أنّه لا عبرة بنظر العرف والمسامحات العرفيّة في المقام ، فإنّ نظر العرف انّما يكون متّبعا في تعيين مفهوم اللفظ عند الشكّ فيه أو في ضيقه وسعته مع العلم بأصله في الجملة ، كما يكون متّبعا في تشخيص مقوّمات الموضوع بحسب ما هو المرتكز في ذهنه من مناسبة الحكم والموضوع.

ولا يجوز الرجوع إلى العرف والأخذ بمسامحتهم في التطبيق بعد تعيين المفهوم. وعليه فإن ـ

٢٤٢

[الوجه في اعتبار مثبتات الأمارات دون الاصول]

ثمّ لا يخفى وضوح الفرق بين الاستصحاب وسائر الاصول التعبّديّة وبين الطرق والأمارات ، فإنّ الطريق والأمارة حيث إنّه كما يحكي عن المؤدّى ويشير إليه كذا يحكي عن أطرافه ـ من ملزومه ولوازمه وملازماته ـ ويشير إليها ، كان مقتضى إطلاق دليل اعتبارها لزوم تصديقها في حكايتها ، وقضيّته (١) حجّيّة المثبت منها كما لا يخفى ؛ بخلاف مثل دليل الاستصحاب ، فإنّه لا بدّ من الاقتصار بما فيه من الدلالة على التعبّد بثبوته ، ولا دلالة له إلّا على التعبّد بثبوت المشكوك بلحاظ أثره حسبما عرفت ، فلا دلالة له على اعتبار المثبت منه كسائر الاصول التعبّديّة إلّا فيما عدّ أثر الواسطة أثرا له ، لخفائها أو لشدّة وضوحها وجلائها حسبما

__________________

ـ كان المراد من خفاء الواسطة أنّ العرف يستظهر من الأدلّة أنّ الحكم الشرعيّ ثابت لذي الواسطة وتكون الواسطة من علل ثبوت الحكم لذيها فهو يرجع إلى ثبوت الحكم لذي الواسطة حقيقة. وإن كان المراد منه أنّ الحكم الشرعيّ ثابت للواسطة حقيقة لكن لخفائها يرون العرف أنّه حكم ذيها من باب التسامح في التطبيق فهو ممّا لا عبرة. فوائد الاصول ٤ : ٤٩٤ ، أجود التقريرات ٢ : ٤١٩.

وأمّا المحقّق الاصفهانيّ : فأورد على الموردين الأخيرين اللذين زادهما المصنّف قدس‌سره. وحاصله : أنّ دعوى حجّيّة الأصل المثبت في الموردين صحيحة من حيث الكبرى ، فإنّه لو ثبتت الملازمة في التعبّد في مورد فلا إشكال في الأخذ بها ، إلّا أنّ الإشكال في صغرى ما أفاده ، لعدم ثبوت هذه الملازمة في مورد من الموارد. أمّا مورد العلّة والمعلول ومورد المتضائفين فهما خارجان عن محلّ الكلام ، لأنّ اليقين بحدوث العلّة التامّة يستلزم اليقين بالمعلول ، فيكون كلّ من العلّة والمعلول مجرى الاستصحاب مستقلّا ؛ وهكذا المتضائفان ، لأنّهما متكافئان ، فاليقين بالابوّة يستلزم اليقين بالبنوّة ، فيكون كلاهما مجرى الاستصحاب. نهاية الدراية ٣ : ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

وتبعهما السيّد المحقّق الخوئيّ ، فأورد على استثناء الموارد الثلاثة بما أورد المحقّقان النائينيّ والأصفهانيّ. فراجع موسوعة الإمام الخوئيّ (مصباح الاصول) ٤٨ : ١٩٠ ـ ١٩٣.

(١) أي : مقتضى لزوم تصديق الأمارات في حكايتها عن أطرافه من الملزوم واللازم والملازم.

٢٤٣

حقّقناه (١).

__________________

(١) لا يخفى : أنّ ما أفاد المصنّف قدس‌سره في المقام وقع مورد النقض والإبرام بين الأعلام.

فأورد عليه المحقّق النائينيّ بما حاصله : أنّ عدم دلالة دليل الاستصحاب على التعبّد بالآثار الشرعيّة المترتّبة على لوازم المستصحب وإن كان مسلّما إلّا أنّ دعوى دلالة أدلّة حجّيّة الأمارة على أنّها تحكي عن لوازم مؤدّاها ممنوعة ، لأنّ الحكاية من العناوين القصديّة ، فيختصّ موردها بما إذا كان الحاكي ملتفتا إلى لوازم الملزومات ، كما في موارد اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ أو اللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ مع كون المخبر ملتفتا إلى الملازمة ، فحينئذ يكون الإخبار عن الشيء إخبارا عن لازمه. وأمّا في غير هذه الموارد فلا يكون الإخبار عن الشيء إخبارا عن لازمه ، فلا يصحّ أن يقال : إنّ الإخبار عن الملزوم في باب الأمارات يكون إخبارا عن لازمه. فوائد الاصول ٤ : ٤٩٢.

وأجاب عنه المحقّقان العراقيّ والأصفهانيّ :

أمّا المحقّق العراقيّ : فأجاب عن الإيراد بوجهين :

أحدهما : أنّه لا يعتبر القصد في الحكاية التصديقيّة عن لازم الشيء وملازمه ، بل انّما يعتبر القصد في الحكاية عن المؤدّى ، كما يشهد له بناء العرف والعقلاء في محاوراتهم.

ثانيهما : أنّ المعتبر في الحكاية القصديّة عن لوازم المؤدّى هو القصد الإجماليّ لا التفصيليّ ، وهو حاصل في باب الإخبار ، فإنّ من يخبر عن شيء يلتفت إلى لوازمه ويحكي عنه بنحو الإجمال ، ولو لم يلتفت إلى خصوصيّاتها تفصيلا ، فيتحقّق القصد الإجماليّ ، وهو كاف في صدق الحكاية عنه ، كما يشهد لذلك موارد الإقرار بشيء ، حيث يعدّ إقرارا بلوازمه وإن لم يلتفت المقرّ إلى خصوصيّات اللوازم تفصيلا. نهاية الأفكار ٤ : ١٨٤.

وأمّا المحقّق الأصفهانيّ : فأجاب عن الإيراد بقوله : «إنّ الأمارة تارة على الموضوعات ، كالبيّنة على شيء ، فاللازم حينئذ كون ما يخبر به الشاهدان ـ من عمد وقصد ـ ملتفتا إليه نوعا ؛ واخرى كالخبر عن الإمام عليه‌السلام ، فإنّ شأن المخبر بما هو مخبر حكاية الكلام الصادر عن الإمام عليه‌السلام بماله من المعنى الملتفت إليه بجميع خصوصيّاته للإمام عليه‌السلام ، لا للمخبر ، إذ ربّ حامل فقه وليس بفقيه ، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، فمجرّد عدم التفات المخبر بلوازم الكلام المخبر عنه لا يوجب عدم حجّيّة المداليل الالتزاميّة للكلام الصادر عن الإمام عليه‌السلام ، فإنّ كلّها ملتفت إليها للمتكلّم بها». نهاية الدراية ٣ : ٢٣٠.

ثمّ إنّ المحقّق النائينيّ ذكر وجها آخر لاعتبار مثبتات الأمارات دون الاصول. وتعرّض له تلميذه السيّد المحقّق الخوئيّ ثمّ أورد عليه بوجهين ، فراجع ما أفاداه في فوائد الاصول ٤ : ٤٩٢ ، ومصباح الاصول ٣ : ١٥٤ ـ ١٥٥.

٢٤٤

[التنبيه] الثامن : [دفع توهّم مثبتيّة الأصل في موارد ثلاثة]

[المورد الأوّل : ترتّب الأثر على المستصحب بواسطة محموله المتّحد معه وجودا]

انّه لا تفاوت في الأثر المترتّب على المستصحب بين أن يكون مترتّبا عليه بلا وساطة شيء أو بوساطة عنوان كلّيّ ينطبق ويحمل عليه بالحمل الشائع ويتّحد معه وجودا ، كان منتزعا عن مرتبة ذاته أو بملاحظة بعض عوارضه ممّا هو خارج المحمول لا بالضميمة (١) ، فإنّ الأثر في الصورتين إنّما

__________________

(١) توضيح كلامه : أنّ الأثر المترتّب على الشيء على أقسام :

الأوّل : أن يكون مترتّبا على نفس المستصحب بلا واسطة شيء ، كما إذا علمنا بعدالة زيد ثمّ شككنا في بقاء عدالته ، فنستصحب عدالته ، ويثبت جواز الائتمام به الّذي هو من آثار العدالة المستصحبة. وقد مرّ أنّ مثل هذا الأثر يترتّب على المستصحب بلا إشكال.

الثاني : أن يكون مترتّبا على لازم المستصحب أو ملزومه أو ملازمه أوّلا وبالذات ، وعلى المستصحب بواسطة لازمه أو ملزومه أو ملازمه. وقد مرّ عدم جواز ترتيب مثل هذا الأثر على المستصحب.

الثالث : أن لا يكون مترتّبا على المستصحب ، ولا عليه بواسطة لازمه ، بل يكون مترتّبا عليه بواسطة محموله المتّحد معه وجودا. وهذا هو محلّ البحث في المقام ، فهل يترتّب على المستصحب ما يكون أثرا لمحموله أم لا؟

ذهب المصنّف قدس‌سره إلى التفصيل ، لأنّ للمحمول المتّحد معه وجودا صور ثلاث :

الاولى : أن يكون منتزعا عن مرتبة ذات المستصحب ، كما إذا كان المحمول نوعه أو جنسه أو فصله. مثلا : إذا كان في الخارج خمر ، وشككنا في بقائه من جهة الشكّ في صيرورته خلّا ، فنستصحب بقاء هذا الفرد من الخمر ، فهل يترتّب عليه أثر الخمريّة الكلّيّة الّتي هي جنس لذلك الفرد ، فيحكم بحرمته أو نجاسته الّتي من أحكام طبيعة الخمر ، أو لا يترتّب عليه؟ أو إذا كان المستصحب فرد من أفراد الإنسان وشكّ في بقائه ، فهل يترتّب عليه آثار الإنسانيّة الكلّيّة باستصحاب بقائه أم لا؟

الثانية : أن يكون منتزعا عن عارضه الّذي هو من قبيل خارج المحمول ، كما إذا كان محموله الملكيّة أو الزوجيّة ، مثلا : إذا كان محمّد زوج فاطمة ، ثمّ شكّ في حياة محمّد ، واستصحبنا حياته ، فهل يترتّب عليه آثار الزوجيّة ـ كعدم جواز نكاح زوجته مع غيره ـ أو لا يترتّب عليه آثارها؟ ـ

٢٤٥

يكون له (١) حقيقة حيث لا يكون بحذاء ذاك الكلّيّ (٢) في الخارج سواه ، لا لغيره ممّا كان مباينا معه أو من أعراضه ممّا كان محمولا عليه بالضميمة كسواده مثلا أو بياضه ؛ وذلك لأنّ الطبيعيّ إنّما يوجد بعين وجود فرده ، كما أنّ العرضيّ كالملكيّة والغصبيّة ونحوهما لا وجود له إلّا بمعنى وجود منشأ انتزاعه ، فالفرد أو منشأ الانتزاع في الخارج هو عين ما رتّب عليه الأثر ، لا شيء آخر ، فاستصحابه لترتيبه لا يكون بمثبت ، كما توهّم (٣).

[المورد الثاني : الأثر المترتّب الّذي مجعول بمنشإ انتزاعه]

وكذا لا تفاوت في الأثر المستصحب أو المترتّب عليه بين أن يكون مجعولا

__________________

ـ الثالثة : أن يكون منتزعا عن عارضه الّذي هو من قبيل المحمول بالضميمة ـ أي ما يحاذيه شيء في الخارج ـ ، كما إذا كان محموله الأبيض أو الأسود وغيرهما من الأعراض الّتي لها وجود في الخارج سوى وجود معروضاتها ، وإن كانت قائمة بها. فإذا كان محمّد أبيضا وشكّ في وجوده واستصحبنا وجوده فهل يترتّب عليه ما يكون أثرا لبياضه أم لا يترتّب عليه؟

ظاهر إطلاق كلام الشيخ الأعظم أنّه لا يترتّب على المستصحب أثر محموله مطلقا.

والمصنّف قدس‌سره فصلّ بين هذه الأقسام ، فذهب إلى عدم كون الصورتين الأوليين من الأصل المثبت وكون الصورة الأخيرة من الأصل المثبت.

واستدلّ عليه بأنّ مورد الأصل المثبت هو ما إذا كانت الواسطة مغايرة وجودا للمستصحب ، كما في الصورة الأخيرة ؛ وأمّا إذا اتّحدا وجودا لم يكن ترتيب أثر الواسطة على المستصحب من الأصل المثبت ، ضرورة أنّ الكلّيّ المحمول على المستصحب موجود بعين وجود المستصحب ، فيكون الأثر المترتّب عليه أثر المستصحب حقيقة. ولا فرق في ذلك بين المحمولات المنتزعة عن مقام الذات والمحمولات المنتزعة عن عوارضها الّتي تكون من قبيل خارج المحمول.

وألحق السيّد الإمام الخمينيّ ما يكون من قبيل خارج المحمول بالمحمول بالضميمة.

راجع الرسائل ١ : ١٨٧ ـ ١٨٨.

(١) أي : للمستصحب.

(٢) أي : ذلك الكلّيّ المحمول على المستصحب ، كالخمريّة والإنسانيّة في الصورة الأولى ، والزوجيّة في الصورة الثانية.

(٣) والظاهر أنّ المتوهّم هو الشيخ الأعظم في فرائد الاصول ٣ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

٢٤٦

شرعا بنفسه ـ كالتكليف وبعض أنحاء الوضع (١) ـ أو بمنشإ انتزاعه ـ كبعض [آخر من] (٢) أنحائه كالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة ـ ، فإنّه أيضا ممّا تناله يد الجعل شرعا ، ويكون أمره بيده الشارع وضعا ورفعا ولو بوضع منشأ انتزاعه ورفعه. ولا وجه لاعتبار أن يكون المترتّب أو المستصحب مجعولا مستقلّا ، كما لا يخفى. فليس استصحاب الشرط أو المانع لترتيب الشرطيّة أو المانعيّة بمثبت ـ كما ربّما توهّم (٣) ـ بتخيّل أنّ الشرطيّة أو المانعيّة ليست من الآثار الشرعيّة بل من الامور الانتزاعيّة ، فافهم (٤).

[المورد الثالث : استصحاب عدم التكليف وترتيب آثاره]

وكذا لا تفاوت في المستصحب أو المترتّب بين أن يكون ثبوت الأثر ووجوده أو نفيه وعدمه ، ضرورة أنّ أمر نفيه بيد الشارع كثبوته.

وعدم إطلاق الحكم على عدمه (٥) غير ضائر ، إذ ليس هناك ما دلّ على اعتباره (٦) بعد صدق نقض اليقين بالشكّ برفع اليد عنه كصدقه برفعها من طرف ثبوته ، كما هو واضح.

__________________

(١) أمّا التكليف فمثل الوجوب والحرمة. والوضع مثل الحجّيّة والقضاوة والولاية وغيرها.

(٢) ما بين المعقوفتين ليس في النسخ.

(٣) والمتوهّم هو الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٣ : ١٢٧.

(٤) ولا يخفى : أنّ السيّد المحقّق الخوئيّ ـ بعد ما أنكر كون الشرطيّة من آثار وجود الشرط كي تترتّب على استصحاب الشرط ، وذهب إلى أنّها منتزعة في مرحلة الجعل عن أمر المولى بشيء مقيّدا بشيء آخر ، بحيث يكون التقيّد داخلا والقيد خارجا ـ وجّه جريان الاستصحاب في الشرط بأنّه لا ملزم لاعتبار كون المستصحب بنفسه مجعولا شرعيّا أو موضوعا لمجعول شرعيّ ، كي يقال : «إنّ الشرطيّة ليست مجعولة شرعيّة» ، بل المعتبر في جريان الاستصحاب كون المستصحب قابلا للتعبّد ، والحكم بوجود الشرط كذلك ، فإنّ معنى جريان الاستصحاب في الشرط هو الاكتفاء بوجوده الاحتماليّ في مقام الامتثال بالتعبّد الشرعيّ ، فلا محذور في استصحابه. موسوعة الإمام الخوئيّ (مصباح الاصول) ٤٨ : ٢٠٦ ـ ٢٠٩.

(٥) أي : عدم الأثر.

(٦) أي : اعتبار إطلاق الحكم على المستصحب.

٢٤٧

فلا وجه للإشكال في الاستدلال على البراءة باستصحاب البراءة من التكليف وعدم المنع عن الفعل بما في الرسالة من : «أنّ عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة الشرعيّة» (١) ، فإنّ عدم استحقاق العقوبة وإن كان غير مجعول ، إلّا أنّه لا حاجة إلى ترتيب أثر مجعول في استصحاب عدم المنع ، وترتّب عدم الاستحقاق مع كونه عقليّا على استصحابه إنّما هو لكونه لازم مطلق عدم المنع ولو في الظاهر ، فتأمّل (٢).

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) لا يخفى عليك : إنّ الإشكال المذكور انّما يرد على الشيخ الأعظم إذا كان منعه عن الاستدلال بالاستصحاب للبراءة مبنيّا على عدم جريان الاستصحاب في العدميّ ، فيشكل عليه بأنّ عدم التكليف أيضا مجعول ، فإنّه مما تناله يد التشريع.

ولكن الظاهر أنّه ليس مبنيّا عليه ، كيف وقد ذكر القول بالتفصيل بين الوجوديّ والعدميّ ، ثمّ ردّه بعدم الفرق بينهما من حيث شمول أدلّة الاستصحاب ، راجع فرائد الاصول ٣ : ٢٧ ـ ٣١ ؛ ويظهر من كلامه في كتاب أحكام الخلل في الصلاة : ٣٣ أنّه التزم بجريان الاستصحاب في عدم التكليف ، بل هو صريح كلامه في فرائد الاصول ٣ : ٤٠ و ٢١٦ ؛ بل يكون منعه عن استصحاب البراءة مبنيّا على أنّ بعد جريان الاستصحاب إمّا أن يحتمل العقاب فلا بدّ في الحكم بالبراءة من الرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلتكن هي المرجع من أوّل الأمر ، والرجوع إلى الاستصحاب لغو ؛ وإمّا أن لا يحتمل العقاب مستندا بأنّ الاستصحاب يوجب القطع بعدم استحقاقه ، وهذا غير صحيح ، لأنّ عدم استحقاق العقاب ليس من الأحكام المجعولة الشرعيّة كي يصحّ ترتّبه على الاستصحاب ، بل هو من الأحكام العقليّة ، فلا يترتّب على الاستصحاب المزبور.

وبالجملة : إنّ المستفاد من كلام الشيخ في فرائد الاصول أنّه منع عن استصحاب البراءة مستدلّا بعدم جريان الاستصحاب في الحكم العقليّ ، لا مستدلّا بعدم جريانه في الحكم العدميّ. والإشكال الّذي ذكره المصنّف قدس‌سره انّما يرد عليه إذا كان منعه عن ذلك مستندا إلى عدم جريانه في الحكم العدميّ ، وهو كما ترى.

ويؤيّده ما ذكر في موضع آخر من قوله : «وممّا ذكرنا من عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقليّ يظهر ما في تمسّك بعضهم لإجزاء ما فعله الناسي لجزء من العبادة أو شرطها باستصحاب عدم التكليف الثابت حال النسيان». فرائد الاصول ٣ : ٢١٨.

نعم ، صرّح الشيخ في بعض رسائله الفقهيّة بأنّ حكم الشارع بالعدم ليس من قبيل الحكم ـ

٢٤٨

[التنبيه] التاسع : [ترتّب بعض الآثار العقليّة والعاديّة على الأصل]

أنّه لا يذهب عليك أنّ عدم ترتّب الأثر غير الشرعيّ ولا الشرعيّ بوساطة غيره من العاديّ أو العقليّ بالاستصحاب إنّما هو بالنسبة إلى ما للمستصحب واقعا ، فلا يكاد يثبت به من آثاره إلّا أثره الشرعيّ الّذي كان له بلا واسطة أو بوساطة أثر شرعيّ آخر ـ حسبما عرفت فيما مرّ (١) ـ ، لا بالنسبة إلى ما كان للأثر الشرعيّ مطلقا ، كان بخطاب الاستصحاب أو بغيره من أنحاء الخطاب ، فإنّ آثاره ـ شرعيّة كانت أو غيرها ـ تترتّب عليه إذا ثبت ، ولو بأن يستصحب أو كان من آثار المستصحب ، وذلك لتحقّق موضوعها حينئذ حقيقة. فما للوجوب عقلا يترتّب على الوجوب الثابت شرعا باستصحابه أو استصحاب موضوعه من وجوب الموافقة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة إلى غير ذلك ، كما يترتّب على الثابت بغير الاستصحاب بلا شبهة ولا ارتياب ، فلا تغفل (٢).

[التنبيه] العاشر : [اعتبار كون المستصحب حكما شرعيّا أو ذا حكم شرعيّ بقاء لا حدوثا]

انّه قد ظهر ممّا مرّ لزوم أن يكون المستصحب حكما شرعيّا أو ذا حكم كذلك (٣).

__________________

ـ المجعول ، بل هو إخبار بعدم حكمه ، إذ لا يحتاج العدم إلى الحكم به. رسائل فقهيّة : ١١٩.

ولكنّه لا ينافي ما يستفاد من كلامه في المقام ، غاية الأمر أنّه ينافي ما يظهر من كلماته في الرسائل من عدم اختصاص جريان الاستصحاب بالوجوديّ.

(١) في التنبيه السابع.

(٢) وأفاد السيّد الإمام الخمينيّ أنّ وجوب الموافقة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة كلّها من آثار الحكم الواقعيّ عقلا.

وأمّا الأحكام الظاهريّة فليس في موافقتها ولا في مخالفتها من حيث هي شيء ، لأنّها أحكام طريقيّة للتحفّظ على الواقع. راجع الرسائل ١ : ١٩١.

(٣) أي : شرعا.

٢٤٩

لكنّه لا يخفى أنّه لا بدّ أن يكون كذلك بقاء ، ولو لم يكن كذلك ثبوتا (١). فلو لم يكن المستصحب في زمان ثبوته حكما ولا له أثر شرعا وكان في زمان استصحابه كذلك ـ أي حكما أو ذا حكم ـ يصحّ استصحابه. كما في استصحاب عدم التكليف ، فإنّه وإن لم يكن بحكم مجعول في الأزل ولا ذا حكم ، إلّا أنّه حكم مجعول فيما لا يزال ، لما عرفت (٢) من أنّ نفيه كثبوته في الحال مجعول شرعا. وكذا استصحاب موضوع لم يكن له حكم ثبوتا ، أو كان ولم يكن حكمه فعليّا ، وله حكم كذلك بقاء (٣). وذلك لصدق نقض اليقين بالشكّ على رفع اليد عنه والعمل كما إذا قطع بارتفاعه يقينا ، ووضوح عدم دخل أثر الحالة السابقة ثبوتا فيه وفي تنزيلها بقاء.

فتوهّم «اعتبار الأثر سابقا ، كما ربما يتوهّمه الغافل من اعتبار كون المستصحب حكما أو ذا حكم» ، فاسد قطعا ، فتدبّر جيّدا.

[التنبيه] الحادي عشر : [أصالة تأخّر الحادث]

لا إشكال في الاستصحاب فيما كان الشكّ في أصل تحقّق حكم أو موضوع (٤).

وأمّا إذا كان الشكّ في تقدّمه وتأخّره بعد القطع بتحقّقه وحدوثه في زمان :

فإن لوحظ بالإضافة إلى أجزاء الزمان (٥) فكذا لا إشكال في استصحاب عدم

__________________

(١) أي : حدوثا.

(٢) في التنبيه الثامن.

(٣) كما إذا علمنا بموت الوالد وشككنا في حياة ولده ، فيجوز استصحاب حياة الولد ، وإن لم يكن أثر لحياته حال حياة الوالد ، بل يترتّب الأثر على حياته بعد موت الوالد ـ وهو حال استصحاب حياة الولد ـ ، فينتقل أموال الوالد إليه بالإرث.

(٤) كما لا إشكال في جريانه فيما إذا كان الشكّ في ارتفاع حكم أو موضوع بعد العلم بتحقّقه.

(٥) مثاله : ما إذا علم يوم الجمعة بأنّ زوجته خرجت عن النشوز ، ولكن لم يعلم أنّ خروجها عن النشور حدث في يوم الخميس أو حدث في يوم الجمعة ، فهل يجري استصحاب عدم خروجها عن النشوز إلى يوم الجمعة فلا تشتغل ذمّته بنفقة يوم الخميس ، أو لا يجري؟

٢٥٠

تحقّقه في الزمان الأوّل وترتيب آثاره (١). لا آثار تأخّره عنه ، لكونه بالنسبة إليها مثبتا (٢) ، إلّا بدعوى خفاء الواسطة أو عدم التفكيك في التنزيل بين عدم تحقّقه إلى زمان وتأخّره عنه عرفا كما لا تفكيك بينهما واقعا. ولا آثار حدوثه في الزمان الثاني ، فإنّه نحو وجود خاصّ(٣). نعم ، لا بأس بترتيبها بذاك الاستصحاب بناء على أنّه عبارة عن أمر مركّب من الوجود في الزمان اللاحق وعدم الوجود في السابق.

وإن لوحظ بالإضافة إلى حادث آخر علم بحدوثه أيضا ، وشكّ في تقدّم ذاك عليه وتأخّره عنه ، كما إذا علم بعروض حكمين (٤) أو موت متوارثين (٥) وشكّ في المتقدّم والمتأخّر منهما (٦) :

__________________

(١) فيستصحب في المثال السابق عدم خروجه عن النشوز في يوم الخميس ، ويترتّب عليه عدم اشتغال ذمّته بنفقة يوم الخميس.

(٢) فإذا علم بأنّ زيدا ـ وهو أحد الورثة ـ أسلم ، ولكن شكّ في أنّه أسلم يوم الخميس ـ وهو قبل زمان القسمة ـ أو أنّه أسلم يوم الجمعة ـ أي بعد زمان القسمة ـ ، فيستصحب عدم إسلامه في يوم الخميس ويترتّب عليه آثاره ، كالحكم بنجاسته يوم الخميس والحكم ببطلان عقده مع المسلمة في ذلك اليوم. ولا يترتّب على استصحاب عدم إسلامه يوم الخميس آثار تأخّره عن يوم الخميس ، لأنّه أثر تأخّر إسلامه عن القسمة ، وهذا التأخّر لازم عقليّ لعدم حدوث إسلامه يوم الخميس ، فلا يترتّب عليه إلّا على القول بالأصل المثبت.

(٣) فإذا قال رجل : «بعتك هذا الكتاب إن خرجت زوجتي عن النشوز يوم الجمعة» ، وشكّ في أنّها خرجت عن النشوز يوم الخميس أو خرجت عنه يوم الجمعة ، فيستصحب عدم خروجها عن النشوز يوم الخميس ويترتّب عليه آثاره.

ولا يثبت بذلك خروجها عن النشوز يوم الجمعة كي يثبت بذلك تحقّق الشرط ، لأنّ خروجها عنه يوم الجمعة حدوث وجود في الزمان الثاني ، والاستصحاب لا يفيد إلّا عدم الوجود في الزمان الأوّل.

(٤) كما إذا علم بصدور حكمين لموضوع ، يكون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا ، ولم يعلم تأريخهما.

(٥) كموت أب وابن.

(٦) إذا شكّ في تقدّم حادث أو تأخّره بالنسبة إلى حادث آخر فالصور الرئيسة المتصوّرة فيه ثمان : فإنّ الحادثين إمّا أن يكونا مجهولي التأريخ أو يكون أحدهما معلوم التأريخ. وعلى ـ

٢٥١

فإن كانا مجهولي التأريخ ، فتارة كان الأثر الشرعيّ لوجود أحدهما بنحو خاصّ من التقدّم أو التأخّر أو التقارن ، لا للآخر (١) ولا له بنحو آخر (٢) ، فاستصحاب عدمه جار بلا معارض (٣) ؛ بخلاف ما إذا كان الأثر لوجود كلّ منهما

__________________

ـ كلا التقديرين إمّا أن يكون الأثر مترتّبا على الوجود الخاصّ من السبق واللحوق والتقارن ، أو على العدم. وعلى التقادير الأربعة إمّا أن يكون الأثر مترتّبا على الوجود والعدم بمفاد كان وليس التامّتين ، أو على الوجود والعدم بمفاد كان وليس الناقصتين.

(١) أي : وليس للحادث الآخر أثر شرعيّ أصلا ، لا متقدّما ولا متأخّرا ولا متقارنا.

(٢) أي : وليس لذلك الحادث بنحو آخر أثر شرعيّ.

مثلا : كان الأثر الشرعي لوجود أحد الحادثين متقدّما فقط ، وليس لوجوده متأخّرا أثر آخر.

(٣) هذه هي الصورة الاولى ، وهي على أقسام :

الأوّل : أن يكون الأثر الشرعيّ مترتّبا على وجود أحدهما متقدّما.

مثاله : ما إذا فرض أنّ الإرث مترتّب على تقدّم موت المورّث على موت الوارث ، فيستصحب عدم تقدّمه ويحكم بعدم الإرث.

مثال آخر : أنّه إذا ماتت الزوجة متقدّما على الزوج فعليه كفنها ، وأمّا إذا ماتت بعد الزوج أو ماتا متقارنا فليس كفنها عليه ، فإذا شكّ في أنها ماتت متقدّما أو متأخّرا أو متقارنا يستصحب عدم كون موتها متقدّما ويحكم بعدم وجوب كفنه على الزوج.

الثاني : أن يكون الأثر الشرعيّ مترتّبا على وجود أحدهما متأخّرا.

مثاله : ملاقاة الثوب المتنجّس للماء ، فيترتّب عليها طهارة الثوب إذا كانت متأخّرة عن كرّيّة الماء ، وإلّا فلا تؤثّر في الطهارة ، سواء كانت الملاقاة قبل الكرّيّة أو متقارنا معها ، فيستصحب عدم وجودها متأخّرا ويحكم بنجاسة الثوب.

الثالث : أن يكون الأثر الشرعيّ مترتّبا على وجود أحدهما متقارنا.

مثاله : تقارن التكبيرة للنيّة ـ بناء على كون النيّة شرطا لتأثير التكبيرة في الدخول في الصلاة ـ ، فيترتّب على وجود التكبيرة متقارنا مع النيّة حرمة قطع العمل ، ولا يترتّب عليه إذا كانت متقدّمة عليها أو متأخّرة عنها. فحينئذ يستصحب عدم وجودها متقارنا مع النيّة ويحكم بعدم حرمة قطع العمل.

مثال آخر : تقارن انغماس جميع البدن للنيّة في الغسل الارتماسيّ ، فيترتّب على وجود الغسل متقارنا معها رفع الحدث الأكبر وحصول الطهارة ، ولا يترتّب هذا الأثر على وجوده متقدّما عليها ، ولا متأخّرا منها ، فإذا شكّ في وجودها متقارنا فيستصحب عدمه ويحكم بعدم حصول الطهارة.

٢٥٢

كذلك (١) أو لكلّ من أنحاء وجوده (٢) ، فإنّه حينئذ يعارض ، فلا مجال لاستصحاب العدم في واحد ، للمعارضة باستصحاب العدم في آخر ، لتحقّق أركانه في كلّ منهما (٣).

هذا إذا كان الأثر المهمّ مترتّبا على وجوده الخاصّ الّذي كان مفاد كان التامّة.

وأمّا إن كان مترتّبا على ما إذا كان متّصفا بالتقدّم أو بأحد ضدّيه الّذي كان

__________________

(١) أي : يترتّب الأثر الشرعيّ على وجود كلّ منهما متقدّما ، فيترتّب على وجود أحدهما متقدّما أثر وعلى وجود الآخر كذلك أثر آخر ؛ أو يترتّب الأثر الشرعي على وجود كلّ منهما متأخّرا ، فيترتّب على تأخّر أحدهما أثر وعلى تأخّر الآخر أثر آخر ؛ أو يترتّب على تقارن كلّ منهما مع الآخر أثر شرعيّ ، لا على مقارنة أحدهما للآخر.

أمّا الأوّل : فمثاله محاذاة الرجل والمرأة في الصلاة مع اختلاف زمان شروعهما في الصلاة ، فإنّ أثر شروع المرأة مقدّما على الرجل صحّة صلاتها وبطلان صلاته ، وأثر شروع الرجل مقدّما على المرأة صحّة صلاته وبطلان صلاتها. فحينئذ يعارض استصحاب عدم شروع المرأة مقدّما على الرجل مع استصحاب عدم شروعه مقدّما على شروعها.

وأمّا الثاني : فمثاله نفس المثال السابق باعتبار أنّ أثر شروع المرأة مؤخّرا عن شروع الرجل بطلان صلاتها وصحّة صلاته ، وأثر شروع الرجل مؤخّرا عن شروع المرأة بطلان صلاته وصحّة صلاتها.

وأمّا الثالث : فمثاله محاذاة الرجل والمرأة في الصلاة مع وحدة زمان شروعهما ، فإن أثر تقارن شروع كلّ منهما مع الآخر بطلان صلاتهما.

ذهب المصنّف رحمه‌الله إلى عدم جريان استصحاب العدم في كلّ منهما ، لمعارضته مع استصحاب العدم في الآخر.

(٢) أي : يترتّب الأثر الشرعيّ على وجود كلّ منهما لا بنحو خاصّ ، بل سواء تقدّم أو تأخّر أو تقارن.

(٣) وخالفه السيّد المحقّق الخوئيّ ، فأفاد ما حاصله : أنّه إذا كان الأثر الشرعيّ لسبق كلّ منهما على الآخر فيتمسّك بأصالة عدم السبق في كلّ منهما ؛ وكذا إذا كان الأثر لسبق أحدهما على الآخر ، وكان لتأخّره عن الآخر أيضا أثر ، فلا مانع من جريان الاستصحاب في عدم السبق والتأخّر.

ولا معارضة بين الأصلين في كلتا الصورتين ، لاحتمال التقارن.

نعم ، لو كان لنا علم إجماليّ بسبق أحدهما على الآخر لا تجري أصالة عدم السبق ، للمعارضة بعدم سبق الآخر في الصورة الاولى ، ومعارضتها بأصالة التأخّر في الصورة الثانية. موسوعة الإمام الخوئيّ (مصباح الاصول) ٤٨ : ٢١٥.

٢٥٣

مفاد كان الناقصة (١) ، فلا مورد هاهنا للاستصحاب ، لعدم اليقين السابق فيه بلا ارتياب(٢).

واخرى ، كان الأثر لعدم أحدهما في زمان الآخر (٣) ، فالتحقيق أنّه أيضا ليس بمورد للاستصحاب فيما كان الأثر المهمّ مترتّبا على ثبوته المتّصف بالعدم في

__________________

(١) هذه هي الصورة الثانية من الصور الرئيسة الأربعة لمجهولي التأريخ. ومحصّلها : أن يكون الأثر الشرعيّ مترتّبا على وجود أحدهما متّصفا بوصف التقدّم أو التأخّر أو التقارن ، بحيث يكون لاتّصاف الشيء بأحد الأنحاء دخل في الحكم. مثلا : إنّ الإرث مترتّب على كون موت المورّث متّصفا بالتقدّم على موت الوارث.

(٢) ضرورة أنّه لا علم لنا بكون موت المورّث ـ مثلا ـ متّصفا بالتقدّم على موت الوارث ، ولا بعدم كون موته متّصفا بالتقدّم ، فلا مجال للاستصحاب.

لا يخفى : أنّ الظاهر أنّ حكمه بعدم جريان الاستصحاب في هذه الصورة ينافي ما تقدّم منه في الجزء الثاني : ١٥٩ (في مبحث العامّ والخاصّ) من أنّه إذا ورد أنّ النساء تحيض إلى خمسين عاما إلّا القرشيّة ، وشككنا في امرأة أنّها قرشيّة أم لا ، فلا يصحّ التمسّك بالعموم المذكور ، لكون الشبهة مصداقيّة ، ولكن لا مانع من إدخالها في العموم للاستصحاب ، فنقول : الأصل عدم انتسابها بالقريش ، لأنّها لم تتّصف بهذه الصفة حين لم تكن موجودة ، وشكّ في اتّصافها بها الآن ، والأصل عدم اتّصافها بها.

ثمّ إنّ السيّد المحقّق الخوئي خالف المصنّف قدس‌سره في المقام ، وذهب إلى جريان الاستصحاب بدعوى أنّه لا يعتبر في استصحاب عدم الاتّصاف بالسبق وجوده في زمان لم يتّصف به ، بل يكفي عدم اتّصافه به حين لم يكن موجودا ، فيجري الاستصحاب في المقام أيضا إلّا مع العلم الإجماليّ كما مرّ. موسوعة الإمام الخوئيّ (مصباح الاصول) ٤٨ : ٢١٦.

وخالفه السيّد الإمام الخمينيّ أيضا واختار جريان الاستصحاب. راجع الرسائل ١ : ١٩٢.

(٣) هذه هي الصورة الثالثة من الصور الأربعة الرئيسة لمجهولي التأريخ.

وحاصلها : أن يكون الأثر مترتّبا على أحدهما متّصفا بالعدم في زمان حدوث الآخر بمفاد ليس الناقصة.

مثالها : ملاقاة الثوب المتنجّس للماء ، حيث لا يعلم أنّه لاقى الماء قبل كرّيّته فبقى على نجاسته ، أو لاقاه بعد كرّيّته فصار طاهرا. فتكون طهارة الثوب المتنجّس الملاقي للماء مترتّبة على كون الملاقاة متّصفة بعدمها آن حدوث كرّيّة الماء ، لعدم ترتّب طهارته على مطلق الملاقاة ولو قبل كرّيّته.

٢٥٤

زمان حدوث الآخر (١) ، لعدم اليقين بحدوثه كذلك في زمان (٢) ، [بل قضيّة الاستصحاب عدم حدوثه كذلك ، كما لا يخفى] (٣).

وكذا فيما كان مترتّبا على نفس عدمه في زمان الآخر واقعا ، وإن كان على يقين منه في آن قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما (٤) ، لعدم إحراز اتّصال زمان شكّه ـ وهو زمان حدوث الآخر ـ بزمان يقينه ، لاحتمال انفصاله عنه باتّصال حدوثه به.

وبالجملة (٥) : كان بعد ذاك الآن ـ الّذي قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما ـ

__________________

(١) كما إذا كانت الطهارة ـ في المثال المذكور ـ مترتّبة على الملاقاة المتّصفة بالعدم في زمان حدوث كرّيّة الماء.

وفي بعض النسخ هكذا : «مترتّبا على ثبوته للحادث ، بأن يكون الأثر للحادث المتّصف ...». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) ضرورة أنّه لا يقين بثبوت الملاقاة متّصفة بهذه الصفة السلبيّة ، بل مقتضى الاستصحاب عدم حدوث الملاقاة كذلك من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وذهب السيّد الخوئيّ إلى جريان الاستصحاب في هذه الصورة أيضا ، بدعوى جريان الاستصحاب في عدم الاتّصاف وإن لم يجر في عدم الوصف. فراجع كلامه في موسوعة الإمام الخوئيّ (مصباح الاصول) ٤٨ : ٢١٧.

وذهب السيّد الإمام الخميني إلى أنّ هذه الصورة مورد جريان الاستصحاب في نفسها ، وعدم جريانه انّما هو بمعارضته عدم الآخر في زمانه. الرسائل ١ : ١٩٢.

(٣) ما بين المعقوفتين ليس في بعض النسخ.

(٤) هذه هي الصورة الرابعة من الصور الأربعة الرئيسة. وهي : ما إذا كان الأثر مترتّبا على عدم أحدهما في زمان الآخر على نحو مفاد ليس التامّة.

مثاله : ما إذا علمنا بموت الوالد وإسلام الولد ، ولم نعلم تقدّم أحدهما على الآخر ، والمفروض إناطة إرث الولد بالإسلام قبل موت الوالد ، فيكون الحكم بالإرث مترتّبا على عدم موت الوالد في زمان حدوث إسلام الولد.

(٥) وإن شئت قلت : إنّ عدمه الأزليّ المعلوم قبل الساعتين وإن كان في الساعة الاولى منهما مشكوكا ، إلّا أنّه حسب الفرض ليس موضوعا للحكم والأثر ، وإنّما الموضوع هو عدمه الخاصّ ، وهو عدمه في زمان حدوث الآخر المحتمل كونه في الساعة الاولى المتّصلة بزمان يقينه أو الثانية المنفصلة عنه ، فلم يحرز اتّصال زمان شكّه بزمان يقينه ، ولا بدّ منه في صدق لا تنقض ـ

٢٥٥

__________________

ـ اليقين بالشكّ. فاستصحاب عدمه إلى الساعة الثانية لا يثبت عدمه في زمان حدوث الآخر إلّا على الأصل المثبت فيما دار الأمر بين التقدّم والتأخّر فتدبّر. منه [أعلى الله مقامه].

وتوضيح كلامه ـ متنا وهامشا ـ : أنّه لا بدّ من فرض أزمنة ثلاثة :

الأوّل : زمان اليقين بعدم حدوث كلّ من الحادثين. مثلا : نفرض أنّ الوالد كان حيّا في يوم الخميس ، وابنه كان كافرا فيه ، فعدم موت الوالد المورّث وعدم إسلام الولد الوارث كلاهما متيقّن يوم الخميس.

الثاني : زمان حدوث أحدهما. مثلا : نفرض أنّ يوم الجمعة إمّا مات المورّث ، وإمّا أسلم الوارث.

الثالث : زمان حدوث الآخر. مثلا : نفرض أنّ يوم السبت زمان حدوث ما لم يحدث في يوم الجمعة ، وهو إمّا موت المورّث فيما إذا كان إسلام الوارث في يوم الجمعة ، وإمّا إسلام الوارث فيما إذا كان موت المورّث في يوم الجمعة.

فكلّ منهما يحتمل حدوثه في الآن الثاني والآن الثالث. وزمان الشكّ في أحدهما هو زمان وجود الآخر ، وهو مردّد بين الآن الثاني والآن الثالث. فإن كان الآن الثاني كان زمان الشكّ متّصلا بزمان اليقين ، وإن كان الآن الثالث كان زمان الشكّ منفصلا عن زمان اليقين ، مثلا : إن كان زمان حدوث موت الوالد المورّث هو يوم الجمعة فزمان الشكّ متّصل بزمان اليقين ، وإن كان يوم السبت فزمان الشكّ غير متّصل بزمان اليقين ، لأنّ زمان اليقين بعدم موته يوم الخميس وزمان الشكّ يوم السبت ، فيوم الجمعة فاصل بين زمان اليقين وزمان الشكّ ؛ وهكذا الكلام بالنسبة إلى إسلام الولد الوارث. فلم يحرز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، ومعه لا مجال للتمسّك بعموم دليل حجّيّة الاستصحاب ، فإنّ بمجرّد احتمال الانفصال تصير الشبهة مصداقيّة ، حيث لم يحرز مع احتمال الانفصال كون رفع اليد عن اليقين بعدم حدوثه بهذا الشكّ من أفراد نقض اليقين بالشكّ.

ولا يخفى : أنّ كلام المصنّف قدس‌سره في المقام لا يخلو من إغلاق. ولأجل ذلك فسّره كلّ واحد من الأعلام الثلاثة بتفسير غير ما فسّره به الآخر ، ثمّ أوردوا عليه بمقتضى ما فسّروه به.

أمّا المحقّق النائينيّ : ففسّر عبارة الكتاب بعين ما ذكرناه. ثمّ أورد عليه بما حاصله : أنّه لا مجال للتردّد في حصول الاتّصال وعدمه ، لأنّ الشكّ واليقين من الصفات الوجدانيّة الّتي لا تقبل التردّد ، فلا بدّ إمّا من إحراز اتّصالهما أو إحراز انفصالهما ، فلا معنى لحصول الشبهة المصداقيّة بالنسبة إلى الشكّ واليقين. نعم ، لو كان مفاد «لا تنقض» هو المنع عن انتقاض المتيقّن بالمشكوك ـ لا اليقين بالشكّ ـ فللتردّد في حصول الاتّصال وعدمه مجال ، لكونهما ـ

٢٥٦

__________________

ـ من الصفات الواقعيّة الّتي تقبل الشكّ. أجود التقريرات ٢ : ٤٢٨ ـ ٤٢٩.

نعم ، أفاد في الدورة الاخرى أنّ الاستصحاب لا يجرى في هذه الصورة ، لعدم اليقين بعدم الوجود المقيّد في الزمان السابق. فوائد الاصول ٤ : ٥١٩ ـ ٥٢١.

وتبعه تلميذه السيّد المحقّق الخوئيّ ، ففسّر كلام المصنّف رحمه‌الله بما فسّر ، ثمّ أورد عليه بأنّه لا يعتبر في الاستصحاب سبق اليقين على الشكّ ، لصحّة جريان الاستصحاب مع حدوثهما معا ، وإنّما المعتبر تقدّم زمان المتيقّن على زمان المشكوك فيه ، بأن يكون المتيقّن هو الحدوث والمشكوك فيه هو البقاء. مصباح الاصول ٣ : ١٨٢.

وأمّا المحقّق الأصفهاني : ففسّر عبارة الكتاب ـ على ما يظهر من إيراده عليه ـ بأنّ المراد من اليقين والشكّ في كلام المصنّف رحمه‌الله هو المتيقّن والمشكوك ، فمراده اعتبار اتّصال المشكوك بالمتيقّن زمانا ، إذ بدون الاتّصال لا يصدق النقص المنهي عنه ، فإنّ النقض إنّما يصدق فيما إذا كان متعلّق الشكّ واليقين قطع النظر عن اختلافهما زمانا أمرا واحدا ، ومع انفصال زمان المشكوك عن زمان المتيقّن لا يكونان كذلك ، فإذا شكّ في الاتّصال شكّ في صدق النقص ، فتكون الشبهة مصداقيّة ويمتنع التمسّك بعموم «لا تنقض» فيها.

ثمّ أورد عليه بأنّ المعتبر هنا إنّما هو اتّصال زمان المشكوك بما هو مشكوك بزمان المتيقّن بما هو متيقّن ، لا اتّصال زمان ذات المشكوك بزمان ذات المتيقّن ، لأنّ تحقّق ركني الاستصحاب لا يتوقّف على ثبوت المتيقّن والمشكوك واقعا ، بل إنّما يتوقّف على كون المتيقّن حاصلا في افق اليقين وكون المشكوك حاصلا في افق الشكّ. وعليه فيكون المعتبر هو اتّصال زمان المشكوك بما هو مشكوك بالمتيقّن بما هو متيقّن ، وهو محرز في المقام ، لأنّ المشكوك هو عدم موت المورّث في زمان إسلام الوارث ، وهو حاصل في الزمان الثاني ـ أي يوم الجمعة ـ ، فالآن الثاني زمان الشكّ أيضا ، فلا ينفصل زمان الشكّ عن زمان اليقين. نهاية الدراية ٣ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

وأمّا المحقّق العراقيّ : فأفاد في تفسير كلام المصنّف رحمه‌الله بما حاصله : أنّ في فرض العلم بحدوث الحادثين ـ أحدهما موت المورّث ، والآخر إسلام الوارث ـ والشكّ في المتقدّم والمتأخّر لا بدّ من فرض أزمنة ثلاثة : (أحدها) يوم الخميس ، وهو يوم اليقين بعدمهما. (ثانيها) يوم الجمعة ، وهو يوم العلم بحدوث أحدهما فيه إجمالا. (ثالثها) يوم السبت ، وهو زمان اليقين بتحقّق الحادثين مع العلم الإجماليّ بكونه ظرفا لحدوث أحدهما ، إمّا موت المورّث وإمّا إسلام الوارث. فكان هناك علمان إجماليّان :

أحدهما : العلم الإجماليّ بحصول موت المورّث في الزمان الثاني ـ أي يوم الجمعة ـ

٢٥٧

زمانان ، أحدهما زمان حدوثه ، والآخر زمان حدوث الآخر وثبوته الّذي يكون ظرفا للشكّ في أنّه فيه أو قبله ، وحيث شكّ في أنّ أيّهما مقدّم وأيّهما مؤخّر لم يحرز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، ومعه لا مجال للاستصحاب حيث لم يحرز معه كون رفع اليد عن اليقين بعدم حدوثه بهذا الشكّ من نقض اليقين بالشكّ.

__________________

ـ أو الثالث ـ أي يوم السبت ـ على البدل.

ثانيهما : العلم الإجماليّ بحصول إسلام الوارث في أحد الزمانين على البدل.

وعليه فلا مجال لاستصحاب عدم إسلام الوارث المعلوم يوم الخميس إلى زمان موت مورّثه ، لاحتمال أن يكون زمان موته يوم السبت ويكون زمان إسلام الولد يوم الجمعة ، فينتقض يقينه السابق بعدم إسلامه باليقين اللاحق بإسلامه ، فلا يحرز اتّصال زمان اليقين بعدم إسلامه ـ وهو يوم الخميس ـ بزمان الشكّ فيه ، وهو يوم السبت. وهكذا لا مجال لاستصحاب عدم موت المورّث إلى زمان إسلام الوارث ، لاحتمال كون زمان إسلامه يوم السبت وكون زمان موته يوم الجمعة ، فيحتمل انتقاض اليقين السابق بعدم الموت في يوم الخميس باليقين اللاحق بالموت يوم الجمعة. وحينئذ لا يحرز اتّصال زمان اليقين بعدم الموت بزمان الشكّ في الموت ، بل يحتمل انفصالهما باليقين الإجماليّ الناقض.

وبالجملة : فيحتمل أن يكون المورد من موارد ذيل الرواية : «ولكن انقضه باليقين الآخر» ، فلا يصحّ الرجوع إلى عموم «لا تنقض» لكون الشبهة مصداقيّة.

ثمّ أورد عليه بأنّ العلم الإجماليّ بارتفاع المستصحب في أحد الزمانين ـ الثاني والثالث ـ لا يصلح للفصل بين اليقين بالمستصحب والشكّ في بقائه في زمان يحتمل وجود الحادث الآخر ، لاستحالة انطباق المعلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال على الزمان الثاني الّذي هو أحد طرفي العلم ، ضرورة أنّ العلم الإجماليّ ـ كجميع الصفات الوجدانيّة ـ إنّما يتعلّق بالصورة الذهنيّة للشيء ، ولا يسري إلى الصورة الخارجيّة ، بل الصورة الخارجيّة في نفسها مشكوكة ، فلا يعقل احتمال الفصل باليقين الإجماليّ بين زمان اليقين بعدم المستصحب والزمان الّذي يراد جرّ المستصحب إليه. نهاية الأفكار ٤ : ٢١٠ ـ ٢١١.

نعم ، أنّه وافق المصنّف رحمه‌الله في عدم جريان الاستصحاب في هذه الصورة ، ولكن استدلّ عليه بوجه آخر ، فراجع نهاية الأفكار ٤ : ٢٠٧ ـ ٢٠٩.

وتبعه السيّد الإمام الخمينيّ ، فاستظهر تفسير كلام المصنّف رحمه‌الله بما فسّره المحقّق العراقيّ ، ثمّ أورد عليه المصنّف رحمه‌الله بأنّ احتمال انفصال العلم بالحدوث بينهما مقطوع البطلان ، لأنّه مساوق لاحتمال كون المشكوك فيه متيقّنا وكون الشكّ يقينا وكون المعلوم بالإجمال معلوما تفصيليّا ، وكلّ ذلك ضروريّ البطلان. الرسائل ١ : ١٩٥ ـ ١٩٧.

٢٥٨

لا يقال : لا شبهة في اتّصال مجموع الزمانين (١) بذاك الآن (٢) ، وهو بتمامه زمان الشكّ في حدوثه ، لاحتمال تأخّره عن الآخر. مثلا : إذا كان على يقين من عدم حدوث واحد منهما في ساعة ، وصار على يقين من حدوث أحدهما بلا تعيين في ساعة اخرى بعدها ، وحدوث الآخر في ساعة ثالثة ، كان زمان الشكّ في حدوث كلّ منهما تمام الساعتين ، لا خصوص إحداهما (٣) ، كما لا يخفى.

فإنّه يقال : نعم ، ولكنّه إذا كان بلحاظ إضافته إلى أجزاء الزمان ، والمفروض أنّه بلحاظ إضافته إلى الآخر وأنّه حدث في زمان حدوثه وثبوته أو قبله ، ولا شبهة أنّ زمان شكّه بهذا اللحاظ إنّما هو خصوص ساعة ثبوت الآخر وحدوثه ، لا [مجموع] (٤) الساعتين.

فانقدح أنّه لا مورد هاهنا للاستصحاب ، لاختلال أركانه (٥) ، لا أنّه مورده ، وعدم جريانه إنّما هو بالمعارضة (٦) ، كي يختصّ بما كان الأثر لعدم كلّ في زمان الآخر ، وإلّا كان الاستصحاب فيما له الأثر جاريا.

وأمّا لو علم بتأريخ أحدهما ، فلا يخلو أيضا (٧) : إمّا يكون الأثر المهمّ مترتّبا

__________________

(١) أي : مجموع الزمان الثاني والزمان الثالث.

(٢) أي : بالزمان الأوّل.

(٣) وفي بعض النسخ : «أحدهما». والصحيح ما أثبتناه.

(٤) ما بين المعقوفتين ليس في النسخ. ولكن لا بدّ من إثباته.

(٥) لأنّ المعتبر في الاستصحاب هو اليقين السابق المتّصل زمانا بالشكّ اللاحق ، والشكّ اللاحق المتّصل باليقين السابق ، وإذا اختلّ الاتّصال فيختلّ ما هو المعتبر في الاستصحاب من اليقين والشكّ المتّصلين زمانا ، وعليه فينهدم أركان الاستصحاب.

ومن هنا يظهر أنّه لا وجه لما في بعض الحواشي من أنّ الأولى إفراد الكلام بأن يقال : «لاختلال ركنه».

(٦) تعريض بالشيخ الأعظم الأنصاريّ ، حيث أجري الاستصحاب في الحادثين ، وأسقطهما بالمانع ، وهو التعارض. فرائد الاصول ٣ : ٢٤٩.

(٧) أي : كمجهولي التأريخ : بيان ذلك : أنّه إذا كان أحد الحادثين معلوم التأريخ والآخر مجهول ـ

٢٥٩

على الوجود الخاصّ من المقدّم أو المؤخّر أو المقارن ، فلا إشكال في استصحاب عدمه ، لو لا المعارضة باستصحاب العدم في طرف الآخر (١) أو طرفه (٢) ، كما تقدّم.

__________________

ـ التأريخ ـ كما إذا علمنا في يوم الخميس بعدم موت المورّث وعدم إسلام الوارث ، وعلمنا أيضا بأنّ المورّث مات يوم السبت ، ولكن لم نعلم بأنّ الوارث أسلم يوم الجمعة كي يكون إسلامه قبل موت المورّث ، أو أسلم في يوم الأحد كي يكون إسلامه بعده ـ فيتصوّر في المقام صور أربع :

إحداها : أن يكون الأثر الشرعيّ مترتّبا على الوجود الخاصّ المحموليّ الّذي هو مفاد كان التامّة ، بأن يترتّب الأثر على وجود أحدهما إذا كان مقدّما على الآخر ، أو إذا كان متأخّرا عنه ، أو إذا كان مقارنا معه.

أشار المصنّف رحمه‌الله إلى هذه الصورة بقوله : «إمّا يكون الأثر المهمّ ...». وحكم بجريان استصحاب عدمه الخاصّ فيما إذا لم يسقط.

ثانيتهما : أن يكون الأثر الشرعيّ مترتّبا على وجود أحد الحادثين متّصفا بتقدّمه على الآخر أو متّصفا بتأخّره عن الآخر أو متّصفا بتقارنه معه. ويعبّر عنها بترتّب الأثر على الوجود النعتيّ الّذي هو مفاد كان الناقصة.

ثالثتها : أن يكون الأثر الشرعيّ مترتّبا على عدم أحد الحادثين متّصفا بتقدّمه على الآخر أو متّصفا بتأخّره عنه أو متّصفا بتقارنه معه. ويعبّر عنها بترتّب الأثر على العدم النعتيّ الّذي هو مفاد كان الناقصة.

وأشار المصنّف رحمه‌الله إلى هاتين الصورتين بقوله : «وإمّا يكون مترتّبا على ما إذا كان متّصفا بكذا». وحكم بعدم جريان الاستصحاب ، بدعوى أنّ اتّصاف الوجود أو العدم بكذا ليست له حالة سابقة كي يجري الاستصحاب فيه.

رابعتها : أن يكون الأثر الشرعي مترتّبا على عدم أحد الحادثين في زمان الآخر واقعا.

ويعبّر عنها بترتّب الأثر على العدم المحموليّ الّذي هو مفاد ليس التامّة.

وأشار المصنّف رحمه‌الله إليها بقوله : «وإمّا يكون مترتّبا على عدمه الّذي ...». وحكم بجريان الاستصحاب في مجهول التأريخ وعدم جريانه في معلوم التأريخ ، لاتّصال زمان الشكّ باليقين في الأوّل دون الثاني.

(١) أي : في طرف الحادث الآخر ، كأن يقال : إنّ استصحاب عدم الإسلام قبل الموت معارض باستصحاب عدم الموت قبل الإسلام.

(٢) أي : في طرف آخر لنفس ذلك الحادث ، بأن يقال : إنّ استصحاب عدم الإسلام قبل الموت معارض لاستصحاب عدم الإسلام بعد الموت.

٢٦٠