كفاية الأصول - ج ٣

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-562-2
الصفحات: ٤٤٣

[فساد كلام البهبهانيّ في تقديم الجهتيّ على الصدوريّ]

وانقدح بذلك أنّ حال المرجّح الجهتيّ حال سائر المرجّحات في أنّه لا بدّ في صورة مزاحمته مع بعضها من ملاحظة أنّ أيّهما فعلا موجب للظنّ بصدق ذيه بمضمونه (١) أو الأقربيّة كذلك إلى الواقع ، فيوجب ترجيحه وطرح الآخر ؛ أو أنّه لا مزيّة لأحدهما على الآخر ، كما إذا كان الخبر الموافق للتقيّة بما له من المزيّة مساويا للخبر المخالف لها بحسب المناطين ، فلا بدّ حينئذ من التخيير بين الخبرين.

فلا وجه لتقديمه على غيره ، كما عن الوحيد البهبهاني قدس‌سره (٢) وبالغ فيه (٣) بعض أعاظم المعاصرين «أعلى الله درجته» (٤).

[ما أفاد الشيخ الأنصاريّ في تقديم غير الجهتيّ ، والإيراد عليه]

ولا لتقديم غيره عليه ، كما يظهر من شيخنا العلّامة «أعلى الله مقامه» ، قال : «أمّا لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح من حيث جهة الصدور ـ بأن كان الأرجح صدورا موافقا للعامّة ـ فالظاهر تقديمه على غيره ، وإن كان مخالفا للعامّة ـ بناء على تعليل الترجيح بمخالفة العامّة باحتمال التقيّة في الموافق ، لأنّ هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعا كما في المتواترين ، أو تعبّدا كما في الخبرين بعد عدم إمكان التعبّد بصدور الآخر ، وفيما نحن فيه يمكن ذلك بمقتضى أدلّة الترجيح من حيث الصدور.

إن قلت : إنّ الأصل في الخبرين الصدور ، فإذا تعبّدنا بصدورهما اقتضى ذلك

__________________

(١) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «موجب للظنّ بصدق مضمون ذيه».

(٢) راجع الفوائد الحائريّة «الفائدة الإحدى والعشرون» : ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(٣) أي : بالغ في تقديم المرجّح الجهتيّ على المرجّح الصدوريّ.

(٤) وهو المحقّق الرشتيّ في بدائع الأفكار : ٤٥٥ و ٤٥٧.

٣٤١

الحكم بصدور الموافق تقيّة ، كما يقتضي ذلك الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما ، فيكون هذا المرجّح نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدّما على الترجيح بحسب الصدور.

قلت : لا معنى للتعبّد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعيّن على التقيّة ، لأنّه إلغاء لأحدهما في الحقيقة» (١).

وقال ـ بعد جملة من الكلام ـ : «فمورد هذا الترجيح تساوي الخبرين من حيث الصدور ، إمّا علما كما في المتواترين ، أو تعبّدا كما في المتكافئين من الأخبار. وإمّا ما وجب فيه التعبّد بصدور أحدهما المعيّن دون الآخر ، فلا وجه لإعمال هذا المرجّح فيه ، لأنّ جهة الصدور متفرّع على أصل الصدور» (٢). انتهى موضع الحاجة من كلامه «زيد في علوّ مقامه».

وفيه : ـ مضافا إلى ما عرفت (٣) ـ أنّ حديث فرعيّة جهة الصدور على أصله إنّما يفيد إذا لم يكن المرجّح الجهتيّ من مرجّحات أصل الصدور ، بل من مرجّحاتها (٤). وأمّا إذا كان من مرجّحاته بأحد المناطين (٥) ، فأيّ فرق بينه وبين سائر المرجّحات؟ ولم يقم دليل بعد في الخبرين المتعارضين على وجوب التعبّد بصدور الراجح منهما من حيث غير الجهة مع كون الآخر راجحا بحسبها (٦) ، بل هو أوّل الكلام ، كما لا يخفى. فلا محيص من ملاحظة الراجح من المرجّحين بحسب أحد المناطين ، أو من دلالة أخبار العلاج على الترجيح بينهما مع المزاحمة ، ومع عدم الدلالة ولو لعدم التعرّض لهذه الصورة ، فالمحكّم هو إطلاق التخيير ، فلا تغفل.

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ١٣٦ ـ ١٣٧.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) من عدم الوجه لمراعاة الترتيب بين المرجّحات.

(٤) أي : بل كان من مرجّحات جهة الصدور.

(٥) أي : مناط الظنّ بالصدور أو مناط الأقربيّة إلى الواقع.

(٦) أي : بحسب الجهة.

٣٤٢

[تضعيف إيراد المحقّق الرشتيّ على الشيخ الأنصاريّ]

وقد أورد بعض أعاظم تلاميذه (١) عليه بانتقاضه بالمتكافئين من حيث الصدور ، فإنّه لو لم يعقل التعبّد بصدور المتخالفين من حيث الصدور مع حمل أحدهما على التقيّة لم يعقل التعبّد بصدورهما مع حمل أحدهما عليها ، لأنّه إلغاء لأحدهما أيضا في الحقيقة (٢).

وفيه : ما لا يخفى من الغفلة وحسبان أنّه قدس‌سره (٣) التزم في مورد الترجيح بحسب الجهة باعتبار تساويهما من حيث الصدور إمّا للعلم بصدورهما وإمّا للتعبّد به فعلا ، مع بداهة أنّ غرضه من التساوي من حيث الصدور تعبّدا تساويهما بحسب دليل التعبّد بالصدور قطعا ، ضرورة أنّ دليل حجّيّة الخبر لا يقتضي التعبّد فعلا بالمتعارضين ، بل ولا بأحدهما ، وقضيّة دليل العلاج ليست إلّا التعبّد بأحدهما تخييرا أو ترجيحا (٤).

__________________

(١) أي : تلاميذ الشيخ. وهو المحقّق الرشتيّ فى بدائع الأفكار : ٤٥٧.

(٢) قال المحقّق الرشتيّ : «لو لم يكن لتصديق الخبر ثمّ حمله على التقيّة معنى معقولا ، لكونه إلغاء له في المعنى وطرحا له في الحقيقة ، فيلزم من دخوله تحت أدلّة التصديق خروجه ، وما يلزم من وجوده عدمه فهو باطل ، فكيف يتعقّل الحمل على التقيّة في صورة التكافؤ وفقد المرجّح؟». بدائع الأفكار : ٤٥٧.

وحاصل الإيراد : أنّه لا وجه للتفكيك بين المتكافئين صدورا وبين المتخالفين كذلك ، بالالتزام بصدور الخبرين في الأوّل وحمل أحدهما على التقيّة ، والالتزام بصدور خصوص الراجح منهما صدورا في الثاني.

(٣) أي : المحقّق الرشتيّ.

(٤) وبتعبير أوضح : إنّ في غرض الشيخ من التعبّد بالخبرين وجهين :

أحدهما : أن يكون مراده من التعبّد بهما هو التعبّد الفعليّ والحجّيّة الفعليّة. وعليه يرد النقض المذكور على الشيخ ، إذ الحجّيّة الفعليّة مفقودة في كلّ من المتكافئين والمتخالفين ، بداهة أنّه لا يدلّ دليل الحجّيّة ـ وهو أدلّة حجّيّة خبر الواحد وأخبار العلاج ـ على حجّيّتهما أو حجّيّة أحدهما فعلا ، لأنّ مقتضى أدلّة حجّيّة خبر الواحد هو حجّيّة كلّ خبر بعينه ، وهي ينافي التعارض ؛ ومقتضى أخبار العلاج هو التعبّد بأحدهما تخييرا أو ترجيحا.

٣٤٣

[برهان المحقّق الرشتيّ على امتناع تقديم الصدوريّ على الجهتيّ]

والعجب كلّ العجب أنّه رحمه‌الله (١) لم يكتف بما أورده من النقض حتّى ادّعى استحالة تقديم الترجيح بغير هذا المرجّح (٢) على الترجيح به ، وبرهن عليه بما حاصله : «امتناع التعبّد بصدور الموافق ، لدوران أمره بين عدم صدوره من أصله وبين صدوره تقيّة ، ولا يعقل التعبّد به على التقديرين بداهة ، كما أنّه لا يعقل التعبّد بالقطعيّ الصدور الموافق ، بل الأمر في الظنّيّ الصدور أهون ، لاحتمال عدم صدوره (٣) بخلافه (٤)».

ثمّ قال : «فاحتمال تقديم المرجّحات السنديّة على مخالفة العامّة ، مع نصّ الإمام عليه‌السلام على طرح موافقهم ، من العجائب والغرائب الّتي لم يعهد صدورها من ذي مسكة (٥) فضلا عمّن هو تالي العصمة علما وعملا».

ثمّ قال : «وليت شعري أنّ هذه الغفلة الواضحة كيف صدرت منه ، مع أنّه في جودة النظر يأتي بما يقرب من شقّ القمر» (٦).

[فساد البرهان المذكور]

وأنت خبير بوضوح فساد برهانه ، ضرورة عدم دوران أمر الموافق بين

__________________

ـ ثانيهما : أن يكون مراده من التعبّد بهما هو تساويهما بحسب دليل الاعتبار وإمكان الحجّيّة ، لا الحجّيّة الفعليّة. وعليه لا يرد النقض المذكور على الشيخ ، لأنّ التساوي من جهة إمكان الحجّيّة موجود في المتكافئين دون المتخالفين المتفاضلين ، لأنّ أخبار العلاج يدلّ على حجّيّة خصوص ذي المزيّة ، فلا يتساوي الخبران المتفاضلان في دليل الاعتبار ، بل يمكن التعبّد بذي المزيّة. بخلاف المتكافئين صدورا ، حيث لا يمكن التعبّد بصدور أحدهما دون الآخر ، لإمكان شمول دليل الحجّيّة لهما ، فلا بدّ من الترجيح بالمرجّح الجهتيّ.

(١) أي : المحقّق الرشتيّ.

(٢) أي : المرجّح الجهتيّ.

(٣) أي : عدم صدور الظنّي الصدور.

(٤) أي : بخلاف القطعيّ الصدور.

(٥) رجل ذو مسكة ومسك أي : رجل ذو رأي وعقل. راجع لسان العرب ١٠ : ٤٨٨ ، تاج العروس ٧ : ١٧٧.

(٦) بدائع الأفكار : ٤٥٧.

٣٤٤

الصدور تقيّة وعدم الصدور رأسا ، لاحتمال صدوره لبيان حكم الله واقعا وعدم صدور المخالف المعارض له أصلا ، ولا يكاد يحتاج في التعبّد إلى أزيد من احتمال صدور الخبر لبيان ذلك بداهة ؛ وإنّما دار احتمال الموافق بين الاثنين إذا كان المخالف قطعيّا صدورا وجهة ودلالة ، ضرورة دوران معارضه حينئذ بين عدم صدوره وصدوره تقيّة ، وفي غير هذه الصورة كان دوران أمره بين الثلاثة لا محالة ، لاحتمال صدوره لبيان الحكم الواقعيّ حينئذ أيضا.

ومنه قد انقدح إمكان التعبّد بصدور الموافق القطعيّ لبيان الحكم الواقعيّ أيضا ، وإنّما لم يمكن التعبّد بصدوره لذلك إذا كان معارضه المخالف قطعيّا بحسب السند والدلالة ، لتعيّن (١) حمله على التقيّة حينئذ لا محالة.

ولعمري إنّ ما ذكرنا أوضح من أن يخفى على مثله ، إلّا أنّ الخطأ والنسيان كالطبيعة الثانية للإنسان ، عصمنا الله من زلل الأقدام والأقلام في كلّ ورطة ومقام.

ثمّ إنّ كلّه إنّما هو بملاحظة أنّ هذا المرجّح (٢) مرجّح من حيث الجهة. وأمّا بما هو موجب لأقوائيّة دلالة ذيه من معارضه ـ لاحتمال التورية في المعارض المحتمل فيه التقيّة دونه ـ فهو مقدّم على جميع مرجّحات الصدور بناء على ما هو المشهور من تقدّم التوفيق بحمل الظاهر على الأظهر على الترجيح بها.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ باب احتمال التورية وإن كان مفتوحا فيما احتمل فيه التقيّة ، إلّا أنّه حيث كان بالتأمّل والنظر لم يوجب (٣) أن يكون معارضه أظهر بحيث يكون قرينة على التصرّف عرفا في الآخر ، فتدبّر.

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «لتعيين». والأولى ما أثبتناه.

(٢) أي : مخالفة العامّة.

(٣) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «أنّها حيث كانت بالتأمّل والنظر لم توجب ...» ، فإنّ الضمير المستتر في قوليه : «كان» و «لم يوجب» يرجع إلى التورية.

٣٤٥

فصل

[المرجّحات الخارجيّة]

[القسم الأوّل : الترجيح بالظنّ غير المعتبر]

موافقة الخبر لما يوجب الظنّ بمضمونه ـ ولو نوعا ـ من المرجّحات في الجملة ، بناء على لزوم الترجيح لو قيل بالتعدّي من المرجّحات المنصوصة ، أو قيل بدخوله في القاعدة المجمع عليها ـ كما ادّعي (١) ـ ، وهي : «لزوم العمل بأقوى الدليلين».

وقد عرفت (٢) أنّ التعدّي محلّ نظر ، بل منع ؛ وأنّ الظاهر من القاعدة هو ما كان الأقوائيّة من حيث الدليليّة والكشفيّة. وكون مضمون أحدهما مظنونا ـ لأجل مساعدة أمارة ظنّيّة عليه ـ لا يوجب قوّة فيه من هذه الحيثيّة ، بل هو على ما هو عليه من القوّة لو لا مساعدتها ، كما لا يخفى.

ومطابقة أحد الخبرين لها (٣) لا يكون لازمه الظنّ بوجود خلل في الآخر إمّا من حيث الصدور أو من حيث جهته. كيف! وقد اجتمع مع القطع بوجود جميع ما اعتبر في حجّيّة المخالف لو لا معارضة الموافق. والصدق واقعا لا يكاد يعتبر في الحجّيّة ، كما لا يكاد يضرّ بها الكذب كذلك ، فافهم.

هذا حال الأمارة غير المعتبرة لعدم الدليل على اعتبارها.

__________________

(١) راجع مبادئ الوصول : ٢٣٢ ، ومفاتيح الاصول : ٦٨٦ ، وفرائد الاصول ٤ : ١٤١.

(٢) في الصفحة : ٣٢٠ ـ ٣٢٣ من هذا الجزء.

(٣) أي : لأمارة ظنّيّة.

٣٤٦

[القسم الثاني : الترجيح بالقياس]

أمّا ما ليس بمعتبر بالخصوص ـ لأجل الدليل على عدم اعتباره ـ كالقياس : فهو وإن كان كالغير المعتبر (١) ، لعدم الدليل بحسب ما يقتضي الترجيح به من الأخبار ـ بناء على التعدّي ـ والقاعدة ـ بناء على دخول مظنون المضمون في أقوى الدليلين ـ ، إلّا أنّ الأخبار الناهية عن القياس (٢) وأنّ السنّة إذا قيست محق الدين (٣) مانعة عن الترجيح به ، ضرورة أنّ استعماله في ترجيح أحد الخبرين استعمال له في المسألة الشرعيّة الاصوليّة ، وخطره ليس بأقلّ من استعماله في المسألة الفرعيّة.

وتوهّم «أنّ حال القياس هاهنا ليس في تحقّق الأقوائيّة به إلّا كحاله فيما ينقّح به موضوع آخر ذو حكم ، من دون اعتماد عليه في مسألة اصوليّة ولا فرعيّة» قياس مع الفارق ، لوضوح الفرق بين المقام والقياس في الموضوعات الخارجيّة الصرفة ، فإنّ القياس المعمول فيها ليس في الدين ، فيكون إفساده أكثر من إصلاحه ؛ وهذا بخلاف المعمول في المقام ، فإنّه نحو إعمال له في الدين ، ضرورة أنّه لولاه لما تعيّن الخبر الموافق له للحجّيّة بعد سقوطه عن الحجّيّة ـ بمقتضى أدلّة الاعتبار ـ والتخيير بينه وبين معارضه ـ بمقتضى أدلّة العلاج ـ ، فتأمّل جيّدا.

__________________

(١) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «كغير المعتبر».

(٢) منها : ما رواه أبان بن تغلب عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إنّ السنّة لا تقاس». وسائل الشيعة ٢ : ٥٨٨ ، الباب ٤١ من أبواب الحيض ، الحديث ١.

ومنها : ما روي عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام : «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول». إكمال الدين وإتمام النعمة : ٣٢٤ ، ومستدرك الوسائل ١٧ : ٢٦٢ ، وبحار الأنوار ٢ : ٣٠٣.

ومنها : ما رواه ابن حزم من مناظرة الإمام الصادق عليه‌السلام مع أبي حنيفة من قوله عليه‌السلام : «اتّق الله ، ولا تقس ، فإنّا نقف غدا بين يدي الله فنقول : قال الله وقال رسوله ، وتقول أنت وأصحابك : سمعنا ورأينا». ملخّص إبطال القياس : ٧١.

(٣) المحاسن ١ : ٢١٤ ، الكافي ١ : ٥٧ و ٧ : ٣٠٠.

٣٤٧

[القسم الثالث : الترجيح بموافقة الكتاب أو السنّة القطعيّة]

وأمّا ما إذا اعتضد بما كان دليلا مستقلّا في نفسه (١) ـ كالكتاب والسنّة القطعيّة ـ : فالمعارض المخالف لأحدهما إن كانت مخالفته بالمباينة الكلّيّة فهذه الصورة خارجة عن مورد الترجيح ، لعدم حجّيّة الخبر المخالف كذلك من أصله ، ولو مع عدم المعارض ، فإنّه المتيقّن من الأخبار الدالّة على أنّه زخرف (٢) أو باطل (٣) أو أنّه لم نقله (٤) أو غير ذلك.

وإن كانت مخالفته بالعموم والخصوص المطلق ، فقضيّة القاعدة فيها وإن كانت ملاحظة المرجّحات بينه وبين الموافق وتخصيص الكتاب به تعيينا أو تخييرا لو لم يكن الترجيح في الموافق ـ بناء على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ـ ، إلّا أنّ الأخبار الدالّة على أخذ الموافق من المتعارضين غير قاصرة عن العموم لهذه الصورة لو قيل بأنّها في مقام ترجيح أحدهما ، لا تعيين الحجّة عن اللاحجّة ، كما نزّلناها عليه.

ويؤيّده أخبار العرض على الكتاب (٥) الدالّة على عدم حجّيّة المخالف من أصله ، فإنّهما (٦) تفرغان عن لسان واحد ، فلا وجه لحمل المخالفة في إحداهما (٧) على خلاف المخالفة في الاخرى ، كما لا يخفى.

__________________

(١) والأولى أن يقول : «وأمّا إذا كان دليلا مستقلّا في نفسه ومعاضدا لأحد الخبرين».

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ٧٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٢.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ٧٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٤.

(٤) وسائل الشيعة ١٨ : ٧٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٥.

(٥) وسائل الشيعة ١٨ : ٧٨ ـ ٨٠ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الأحاديث ١٠ ، ١١ ، ١٢ ، ١٤ ، ١٥ ، ١٨.

(٦) أي : أخبار العرض على الكتاب وأخبار الأخذ بالموافق.

(٧) وفي بعض النسخ : «أحدهما». والصحيح ما أثبتناه.

٣٤٨

اللهمّ إلّا أن يقال : نعم ، إلّا أنّ دعوى «اختصاص هذه الطائفة بما إذا كانت المخالفة بالمباينة ، بقرينة القطع بصدور المخالف غير المباين عنهم عليهم‌السلام كثيرا ، وإباء مثل : ما خالف قول ربّنا لم أقله ، أو زخرف ، أو باطل ، عن التخصيص» غير بعيدة.

وإن كانت المخالفة بالعموم والخصوص من وجه ، فالظاهر أنّها كالمخالفة في الصورة الاولى ، كما لا يخفى.

[القسم الرابع : الترجيح بالاصول العلميّة]

وأمّا الترجيح بمثل الاستصحاب (١) ـ كما وقع في كلام غير واحد من الأصحاب (٢) ـ : فالظاهر أنّه لأجل اعتباره من باب الظنّ والطريقيّة عندهم. وأمّا بناء على اعتباره تعبّدا من باب الأخبار وظيفة للشاكّ ـ كما هو المختار ـ كسائر الاصول العمليّة الّتي تكون كذلك عقلا أو نقلا ، فلا وجه للترجيح به أصلا ، لعدم تقوية مضمون الخبر بموافقته ولو بملاحظة دليل اعتباره ، كما لا يخفى.

هذا آخر ما أردنا إيراده ، والحمد لله أوّلا وآخرا وباطنا وظاهرا.

__________________

(١) أي : البراءة والاحتياط. كما صرّح بذلك الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٤ : ١٥١.

(٢) لا يخفى : أنّ ما وقع في كلام غير واحد من الترجيح بالأصل هو ظاهر في الاصول اللفظيّة.

نعم ، تعرّض للترجيح بمثل الاستصحاب في بحر الفوائد : ٦٦ ، والفصول الغرويّة : ٤٤٥.

٣٤٩
٣٥٠

أمّا الخاتمة (١)

فهي فيما يتعلّق بالاجتهاد والتقليد

[وفيها فصول]

__________________

(١) لا يخفى : أنّ مباحث باب الاجتهاد والتقليد ليست من المباحث الاصوليّة ، فإن المبحوث عنه فيها أحكام شرعيّة مستنبطة ، كجواز تقليد العاميّ للمجتهد ، وحرمة رجوعه إلى مجتهد آخر ، وولاية المجتهد على القصّر ، ونفوذ قضائه في المرافعات ، وغيرها ؛ ومن المعلوم أنّ البحث عن هذه الامور بحث عن الأحكام الفقهيّة المستنبطة ، لا عمّا يقع في طريق الاستنباط ، ولا عمّا ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل ؛ فلا يشملها تعريف علم الاصول. ولذا جعل المصنّف رحمه‌الله البحث عمّا يتعلّق بهما خارجا عن علم الاصول ؛ وإنّما تعرّض لأحكامها في خاتمة مباحث الاصول لما بين الاجتهاد والمسائل الاصوليّة من المناسبة ، ضرورة أنّ الاجتهاد ثمرة البحث عن القواعد الاصوليّة.

ولأجل هذا تركنا ذكر ما أفاد الأعلام حول مباحثهما من النقض والإبرام ، بل اكتفينا بتصحيح المتن وتحقيق مطالبه وإيضاح بعض عباراته على نحو الاختصار.

٣٥١
٣٥٢

فصل

[في تعريف الاجتهاد] (١)

الاجتهاد لغة تحمّل المشقّة (٢).

واصطلاحا ـ كما عن الحاجبيّ (٣) والعلّامة (٤) ـ «استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعيّ».

وعن غيرهما (٥) «ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعيّ الفرعيّ من الأصل فعلا أو قوّة قريبة».

ولا يخفى : أنّ اختلاف عباراتهم في بيان معناه اصطلاحا ليس من جهة الاختلاف في حقيقته وماهيّته ، لوضوح أنّهم ليسوا في مقام بيان حدّه أو رسمه ، بل إنّما كانوا في مقام شرح اسمه والإشارة إليه بلفظ آخر وإن لم يكن مساويا له

__________________

(١) لا يخفى : أنّ عنوان الاجتهاد لم يؤخذ موضوعا للآثار الشرعيّة في الأدلّة ، بل الموضوع فيها هو «العالم» و «الفقيه» و «العارف بالأحكام» و «من نظر في الحلال والحرام» وغيرها. وإنّما عدلوا منها إلى عنوان الاجتهاد لعدم إمكان تحصيل العلم والمعرفة بالأحكام في زمان الغيبة إلّا بإعمال القوّة النظريّة الّتي يتمكّن بها من استخراج الأحكام الشرعيّة.

(٢) راجع كتاب العين ٣ : ٣٨٦ ، الصحاح ٢ : ٤٦٠ ، النهاية (لابن الأثير) ١ : ٣٠٨ ، لسان العرب ٣ : ١٣٣ ـ ١٣٥ ، القاموس المحيط ١ : ٢٨٦.

(٣) راجع شرح مختصر الاصول : ٤٦٠.

(٤) مبادئ الوصول إلى علم الاصول : ٢٤٠.

(٥) كالشيخ البهائيّ في زبدة الاصول : ١١٥.

٣٥٣

بحسب مفهومه ، كاللغويّ في بيان معاني الألفاظ بتبديل لفظ بلفظ آخر ولو كان أخصّ منه مفهوما أو أعمّ.

ومن هنا انقدح أنّه لا وقع للإيراد على تعريفاته بعدم الانعكاس أو الاطّراد ، كما هو الحال في تعريف جلّ الأشياء لو لا الكلّ ، ضرورة عدم الإحاطة بها بكنهها أو بخواصّها الموجبة (١) لامتيازها عمّا عداها لغير علّام الغيوب ، فافهم.

وكيف كان ، فالأولى تبديل «الظنّ بالحكم» ب «الحجّة عليه» ، فإنّ المناط فيه (٢) هو تحصيلها (٣) قوّة أو فعلا ، لا الظنّ ، حتّى عند العامّة القائلين بحجّيّته مطلقا (٤) ، أو بعض الخاصّة القائل بها عند انسداد باب العلم بالأحكام (٥) ، فإنّه مطلقا عندهم أو عند الانسداد عنده (٦) من أفراد الحجّة ؛ ولذا لا شبهة في كون استفراغ الوسع في تحصيل غيره من أفرادها (٧) ـ من العلم بالحكم أو غيره ممّا اعتبر من الطرق التعبّديّة غير المفيدة للظنّ ولو نوعا ـ اجتهادا أيضا.

ومنه قد انقدح أنّه لا وجه لتأبّي الأخباريّ عن الاجتهاد بهذا المعنى (٨) ، فإنّه لا محيص عنه ، كما لا يخفى. غاية الأمر له أن ينازع في حجّيّة بعض ما يقول

__________________

(١) وصف لقوله : «الإحاطة».

(٢) أي : في الاجتهاد.

(٣) أي : تحصيل الحجّة.

(٤) أي : عند العامّة القائلين بحجّيّة الظنّ مطلقا ، سواء كان من الظنون الخاصّة الّتي ثبتت حجّيّتها بالأدلّة أو لم يكن منها ، فإنّهم أوجبوا العمل بالظنون الحاصلة من الاستحسانات والقياسات والمصالح المرسلة وغيرها. راجع اللمع في اصول الفقه : ١٣١ ، إرشاد الفحول : ٢٤٠ ، سلّم الوصول : ٣٠٩ ، نهاية السئول ٤ : ٩٧ ـ ١٠٥ ، الموافقات ٤ : ١٩٩ ، مصادر التشريع الإسلاميّ : ٧٣.

(٥) وهو المحقّق القمّيّ في غنائم الأيّام ٥ : ١٦٤ ـ ١٦٥ ، وقوانين الاصول ١ : ٢٨٢.

(٦) أي : عند بعض الخاصّة ، وهو المحقّق القمّي ، كما مرّ.

(٧) أي : غير الظنّ من أفراد الحجّة.

(٨) أي : بمعنى كون الاجتهاد استفراغ الوسع في تحصيل الحجّة على الحكم الشرعيّ.

٣٥٤

الاصوليّ باعتباره ، ويمنع عنها. وهو غير ضائر بالاتّفاق على صحّة الاجتهاد بذاك المعنى ، ضرورة أنّه ربما يقع بين الأخباريّين (١) ، كما وقع بينهم وبين الاصوليّين (٢).

__________________

(١) كما ذهب بعض الأخباريّين إلى جريان الاستصحاب في الشبهة الحكميّة ، وأنكره الأمين الأسترآباديّ إلّا في عدم النسخ.

(٢) كما ذهب الاصوليّون إلى حجّيّة أصالة البراءة في الشبهات الحكميّة التحريميّة الناشئة من فقدان النصّ ، بخلاف الأخباريّين ، فإنّهم ذهبوا إلى عدم حجّيّتها فيها ، بل اختاروا الاحتياط.

٣٥٥

فصل

[الاجتهاد المطلق والتجزّي]

[الاجتهاد المطلق والتجزّي]

ينقسم الاجتهاد إلى مطلق وتجزّي :

فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الأحكام الفعليّة من أمارة معتبرة ، أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في الموارد (١) الّتي لم يظفر فيها بها (٢).

والتجزّي هو ما يقتدر به على استنباط بعض الأحكام.

[المجتهد المطلق وأحكامه]

[١ ـ إمكان الاجتهاد المطلق وقوعا]

ثمّ إنّه لا إشكال في إمكان المطلق وحصوله للأعلام. وعدم التمكّن من الترجيح في المسألة وتعيين حكمها والتردّد منهم في بعض المسائل إنّما هو بالنسبة إلى حكمها الواقعيّ ، لأجل عدم دليل مساعد في كلّ مسألة عليه ، أو عدم الظفر به بعد الفحص عنه بالمقدار اللازم ، لا لقلّة الاطّلاع أو قصور الباع. وأمّا بالنسبة إلى حكمها الفعليّ فلا تردّد لهم [فيه](٣) أصلا.

__________________

(١) متعلّق بقوله : «أصل معتبر».

(٢) أي : لم يظفر في تلك الموارد بالأمارة المعتبرة.

(٣) ما بين المعقوفتين ليس في النسخ.

٣٥٦

[٢ ـ جواز عمل المجتهد المطلق بآراء نفسه]

كما لا إشكال في جواز العمل بهذا الاجتهاد لمن اتّصف به.

[٣ ـ جواز التقليد عن المجتهد المطلق الانفتاحي]

وأمّا لغيره فكذا لا إشكال فيه ، إذا كان المجتهد ممّن كان باب العلم أو العلميّ بالأحكام مفتوحا له ، على ما يأتي من الأدلّة على جواز التقليد.

[٤ ـ عدم جواز التقليد عن المجتهد الانسداديّ]

بخلاف ما إذا انسدّ عليه بابهما ، فجواز تقليد الغير عنه في غاية الإشكال ، فإنّ رجوعه إليه ليس من رجوع الجاهل إلى العالم بل إلى الجاهل ، وأدلّة جواز التقليد إنّما دلّت على جواز رجوع غير العالم إلى العالم ، كما لا يخفى ؛ وقضيّة مقدّمات الانسداد ليست إلّا حجّيّة الظنّ عليه لا على غيره. فلا بدّ فى حجّيّة اجتهاد مثله على غيره من التماس دليل آخر غير دليل التقليد وغير دليل الانسداد الجاري في حقّ المجتهد من إجماع أو جريان مقدّمات دليل الانسداد في حقّه بحيث تكون منتجة لحجّيّة الظنّ الثابت حجّيّته بمقدّماته له(١) أيضا.

ولا مجال لدعوى الإجماع. ومقدّماته كذلك غير جارية في حقّه ، لعدم انحصار المجتهد به ، أو عدم لزوم محذور عقليّ من عمله بالاحتياط ، وإن لزم منه العسر إذا لم يكن له سبيل إلى إثبات عدم وجوبه مع عسره (٢).

نعم ، لو جرت المقدّمات كذلك بأن انحصر المجتهد ولزم من الاحتياط المحذور ، أو لزم منه العسر مع التمكّن من إبطال وجوبه حينئذ (٣) كانت منتجة

__________________

(١) أي : للغير.

(٢) هذا الضمير وضميرا «منه» و «وجوبه» راجعة إلى الاحتياط.

(٣) أي : حين لزوم العسر.

٣٥٧

لحجّيّته في حقّه أيضا (١) ، لكن دونه خرط القتاد (٢).

هذا على تقدير الحكومة (٣).

وأمّا على تقدير الكشف (٤) وصحّته : فجواز الرجوع إليه في غاية الإشكال ، لعدم مساعدة أدلّة التقليد على جواز الرجوع إلى من اختصّ حجّيّة ظنّه به (٥) ، وقضيّة مقدّمات الانسداد اختصاص حجّيّة الظنّ بمن جرت في حقّه دون غيره ؛ ولو سلّم أنّ قضيّتها كون الظنّ المطلق معتبرا شرعا ، كالظنون الخاصّة الّتي دلّ الدليل على اعتبارها بالخصوص ، فتأمّل.

إن قلت : حجّيّة الشيء شرعا ، مطلقا (٦) ، لا توجب القطع بما أدّى إليه من الحكم ولو ظاهرا ، كما مرّ تحقيقه (٧) ، وأنّه ليس أثره (٨) إلّا تنجّز الواقع مع الإصابة والعذر مع عدمها ، فيكون رجوعه إليه مع انفتاح باب العلميّ عليه أيضا رجوعا إلى الجاهل ، فضلا عمّا إذا انسدّ عليه (٩).

__________________

(١) أي : كانت المقدّمات منتجة لحجّيّة الظنّ في حقّ الغير ، كما كان حجّة في حقّ المجتهد.

(٢) لعدم انحصار المجتهد بالانسداديّ في عصر من الأعصار.

(٣) أي : على تقدير حجّيّة الظنّ من باب حكم العقل بلزوم العمل بالظنّ في مقام إطاعة التكاليف المعلومة إجمالا.

(٤) أي : على تقدير حجّيّة الظنّ من باب كون الظنّ طريقا إلى الأحكام الواقعيّة ومثبتا لها.

(٥) أي : بنفسه. والضمير يرجع إلى «من» ، وهو المجتهد.

(٦) أي : سواء كان في حال الانفتاح أو في حال الانسداد.

(٧) راجع الجزء الثاني (مبحث إمكان التعبّد بالأمارات غير العلميّة) : ٢٨١ ـ ٢٨٢.

(٨) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «ليس أثرها» ، فإنّ الضمير يرجع إلى حجّيّة الشيء.

(٩) حاصل الإشكال : أنّ مقتضى حجّيّة الظنون الخاصّة في حقّ المجتهد الانفتاحيّ ليس العلم بالواقع كي يصدق عليه العارف بالأحكام ويحكم بجواز تقليد الغير عنه من باب رجوع الجاهل إلى العالم ، بل ليس أثر حجّيّة الظنون إلّا تنجّز الواقع عند الإصابة والعذر عند الخطأ ، فلا يكون المجتهد عالما بالحكم ولو ظاهرا. وعليه فلا فرق بين المجتهد الانسداديّ والمجتهد الانفتاحيّ ، بل كلاهما غير عالم بالأحكام ، ويكون الرجوع إليهما من رجوع الجاهل إلى الجاهل ، فلا وجه للتفصيل بين الانفتاحيّ والانسداديّ.

٣٥٨

قلت : نعم ، إلّا أنّه عالم بموارد قيام الحجّة الشرعيّة على الأحكام ، فيكون من رجوع الجاهل إلى العالم (١).

إن قلت : رجوعه إليه (٢) في موارد فقد الأمارة المعتبرة عنده (٣) ـ الّتي يكون المرجع فيها الاصول العقليّة ـ ليس إلّا الرجوع إلى الجاهل.

قلت : رجوعه إليه فيها إنّما هو لأجل اطّلاعه على عدم الأمارة الشرعيّة فيها ، وهو (٤) عاجز عن الاطّلاع على ذلك. وأمّا تعيين ما هو حكم العقل وأنّه مع عدمها (٥) هو البراءة أو الاحتياط فهو إنّما يرجع إليه (٦) ؛ فالمتّبع ما استقلّ به عقله ولو على خلاف ما ذهب إليه مجتهده ، فافهم.

[٥ ـ نفوذ قضاء المجتهد المطلق الانفتاحيّ]

وكذلك لا خلاف ولا إشكال في نفوذ حكم المجتهد المطلق إذا كان باب العلم أو العلميّ له مفتوحا.

وأمّا إذا انسدّ عليه بابهما : ففيه إشكال على الصحيح من تقرير المقدّمات على نحو الحكومة ، فإنّ مثله ـ كما أشرت آنفا ـ ليس ممّن يعرف الأحكام ، مع أنّ معرفتها معتبرة في الحاكم ، كما في المقبولة (٧).

__________________

(١) وحاصل الجواب : أنّ مقتضى الحجّيّة وإن كان التنجيز والتعذير ، لا جعل المماثل ، فليس الانفتاحيّ أيضا عالما بالأحكام الفرعيّة ، إلّا أنّ الانفتاحيّ عالم بموارد قيام الحجّة الشرعيّة على الأحكام ، ويصدق العارف بالأحكام على العالم بموارد قيام الحجّة على الأحكام ، كما يصدق على العارف بنفس الأحكام ، ويكون رجوع الجاهل إليه من رجوعه إلى العالم. وهذا بخلاف المجتهد الانسداديّ الّذي يختصّ حجّيّة الظنّ المطلق بالحكم الشرعيّ بنفسه ، إذ المفروض أنّ مقدّمات الانسداد تمّت في حقّه ، لا في حقّ غيره.

(٢) أي : رجوع الغير إلى المجتهد الانفتاحيّ.

(٣) أي : عند المجتهد الانفتاحيّ.

(٤) أي : الغير.

(٥) أي : مع عدم الأمارة الشرعيّة.

(٦) أي : فالجاهل إنّما يرجع إلى ما حكم به عقله.

(٧) حيث ورد فيها : «وعرف أحكامنا». راجع وسائل الشيعة ١٨ : ٩٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

٣٥٩

إلّا أن يدّعى عدم القول بالفصل (١) ؛ وهو إن كان غير بعيد ، إلّا أنّه ليس بمثابة يكون حجّة على عدم الفصل.

إلّا أنّ يقال بكفاية انفتاح باب العلم في موارد الإجماعات والضروريّات من الدين أو المذهب والمتواترات إذا كانت جملة يعتدّ بها ، وإن انسدّ باب العلم بمعظم الفقه ، فإنّه يصدق عليه حينئذ أنّه ممّن روى حديثهم عليهم‌السلام ونظر في حلالهم عليهم‌السلام وحرامهم عليهم‌السلام وعرف أحكامهم عليهم‌السلام عرفا حقيقة.

وأمّا قوله عليه‌السلام في المقبولة : «فإذا حكم بحكمنا» : فالمراد أنّ مثله (٢) إذا حكم كان بحكمهم حكم ، حيث كان منصوبا منهم ، كيف! وحكمه غالبا يكون في الموضوعات الخارجيّة ، وليس مثل ملكيّة دار لزيد أو زوجيّة امرأة له من أحكامهم عليهم‌السلام ، فصحّة إسناد حكمه إليهم عليهم‌السلام إنّما هو لأجل كونه من المنصوب من قبلهم.

[المجتهد المتجزّي وأحكامه]

وأمّا التجزّي في الاجتهاد ففيه مواضع من الكلام :

الأوّل : في إمكانه

وهو وإن كان محلّ الخلاف بين الأعلام (٣) ، إلّا أنّه لا ينبغي الارتياب

__________________

(١) أي : عدم القول بالفصل بين المجتهد الانفتاحيّ والانسداديّ ، فيدّعى أنّ من يقول من الفقهاء بنفوذ حكم المجتهد لم يفصّل بينهما ، كما أنّ من يقول بعدم نفوذه لم يفصّل أيضا بينهما.

(٢) أي : مثل هذا المجتهد الانسداديّ الّذي يصدق عليه أنّه عارف بأحكامهم.

(٣) قال صاحب المعالم : «قد اختلف الناس في قبوله للتجزئة ، بمعنى جريانه في بعض المسائل دون بعض ، وذلك بأن يحصل للعالم ما هو مناط الاجتهاد في بعض المسائل فقط ، فله حينئذ أن يجتهد فيها أو لا؟ ذهب العلّامة في التهذيب والشهيد في الذكرى والدروس ووالدي في جملة من كتبه وجمع من العامّة إلى الأوّل ، وصار قوم إلى الثاني». معالم الدين : ٢٣٨.

٣٦٠