كفاية الأصول - ج ٣

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-562-2
الصفحات: ٤٤٣

فصل

[في أصالة التخيير]

[دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في التوصّليّات]

إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته (١) ، لعدم نهوض حجّة على أحدهما

__________________

(١) لا يخفى : أنّه لا بدّ في توضيح محلّ النزاع من بيان امور :

الأوّل : أنّه يعتبر أن يدور أمر الفعل بين الوجوب والحرمة فقط ، فإذا احتمل اتّصافه بغيرهما من الأحكام غير الإلزاميّة يرجع إلى البراءة ، لكونه شكّا في التكليف الإلزاميّ.

الثاني : أنّه يعتبر أن لا يكون أحد الحكمين موردا للاستصحاب ، وإلّا يجب العمل بالاستصحاب.

الثالث : أنّ دوران الأمر بين المحذورين قد يكون بين التوصّليّين وقد يكون بين التعبّديّين وقد يكون بين التعبّديّ والتوصّليّ. ومحلّ النزاع وإن لم يختصّ بالوجوب والحرمة التوصّليّين ـ كما سيأتي ـ ، إلّا أنّ مفروض البحث في المقام هو الدوران بين التوصّليّين ، فإنّ مورد بعض الوجوه والأقوال ـ كالقول بالإباحة ـ هو ما إذا لم يكن أحد الحكمين تعبّديّا ، كما يشير إليه المصنّف قدس‌سره.

الرابع : أنّ دوران الأمر بين المحذورين قد يكون مع وحدة الواقعة ، كما إذا تردّد في أنّ صوم يوم الجمعة الاولى من شهر شعبان هل يكون فعله متعلّق النذر أو يكون تركه متعلّق النذر؟ وقد يكون مع تعدّد الواقعة ، كما لو علم إجمالا بصدور نذرين تعلّق أحدهما بفعل أمر والآخر بترك آخر ، واشتبه الأمر في الخارج ، فيدور الأمر في كلّ منهما بين الوجوب والحرمة.

والمصنّف قدس‌سره انّما تعرّض في الكتاب للبحث عن دوران الأمر بين المحذورين مع وحدة الواقعة. ـ

٨١

تفصيلا بعد نهوضها عليه إجمالا ، ففيه وجوه : الحكم بالبراءة عقلا ونقلا ، لعموم النقل وحكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به ؛ ووجوب الأخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا ؛ والتخيير بين الترك والفعل عقلا مع التوقّف عن الحكم به رأسا ، أو مع الحكم عليه بالإباحة شرعا (١).

__________________

ـ وعليه : فيكون محلّ النزاع ومورد الوجوه الآتية دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في التوصّليّات مع وحدة الواقعة.

(١) لا يخفى عليك : أنّ الوجوه في المسألة وإن كانت كثيرة وعدّها العلّامة المحشّي المشكينيّ عشرة ، إلّا أنّ المصنّف قدس‌سره انّما تعرّض لوجوه خمسة :

الوجه الأوّل : جريان البراءة عقلا وشرعا.

أمّا البراءة العقليّة : فلأنّ كلّا من الحرمة والوجوب مجهول ، فيصدق عدم البيان بالنسبة إليهما ، والعقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان.

أمّا البراءة النقليّة : فلعموم حديث الرفع ونحوه ممّا دلّ على رفع الحكم عند الجهل به.

وهذا مختار السيّدين العلمين : الإمام الخمينيّ والمحقّق الخوئيّ. راجع أنوار الهداية ٢ : ١٧٤ و ١٧٩ ، تهذيب الاصول ٢ : ٢٤٠ و ٢٤٢ ـ ٢٤٣ ، مصباح الاصول ٢ : ٣٢٩.

ولا يخفى : أنّ كلّ واحد من الأعلام الثلاثة نفى جريان البراءة بوجه غير ما ذكره الآخر :

أمّا المحقّق النائينيّ : فنفى البراءة العقليّة والشرعيّة من جهة أنّه لا موضوع لهما :

أمّا البراءة العقليّة : فلأنّ مدركها «قبح العقاب بلا بيان» ، وفي دوران الأمر بين المحذورين يقطع بعدم العقاب ، لأنّ وجود العلم الإجماليّ لا يقتضي التنجيز والتأثير ، فالقطع بالمؤمّن حاصل بنفسه بلا حاجة إلى حكم العقل.

وأمّا البراءة الشرعيّة : فلأنّ مدركها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع ما لا يعلمون» ، والرفع فرع إمكان الوضع. وفي موارد دوران الأمر بين المحذورين لا يمكن وضع الوجوب والحرمة كليهما ، لا على سبيل التعيين ولا على سبيل التخيير ، ومع عدم إمكان الوضع لا يعقل تعلّق الرفع ، فأدلّة البراءة لا تعمّ المقام. فوائد الاصول ٣ : ٤٤٨.

وأمّا المحقّق العراقيّ : فأفاد في وجه عدم جريان البراءة الشرعيّة والعقليّة بما حاصله : أنّ جريان أدلّة البراءة يختصّ بما إذا لم يكن هناك ما يقتضي الترخيص في الفعل والترك بمناط آخر ـ كالاضطرار ـ غير مناط عدم البيان ، فإذا فرض حصول الترخيص بحكم العقل بمناط الاضطرار لا ينتهي الأمر إلى الترخيص الظاهريّ بمناط عدم البيان. وفي المقام يحصل الترخيص بحكم العقل بمناط الاضطرار إلى أحد الأمرين من الفعل والترك ، فلا يبقى مجال ـ

٨٢

__________________

ـ لجريان البراءة العقليّة والشرعيّة ، لحصول الترخيص ـ حينئذ ـ في الرتبة السابقة على جريانها بحكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك. نهاية الأفكار ٣ : ٢٩٣.

وأمّا المحقّق الأصفهانيّ : فنفى البراءة العقليّة ، بدعوى أنّ مدركها قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، والبيان ـ وهو وصول التكليف إلى المكلّف تفصيلا أو إجمالا ـ حاصل في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، ضرورة أنّ المكلّف يعلم إجمالا بتوجّه التكليف الإلزاميّ إليه ، فلا تجري قاعدة القبح بلا بيان.

نعم ، أنّ التكليف المتوجّه إليه غير منجّز ، لأنّ فعليّة التكليف منوط بأمرين : (أحدهما) وصوله إلى المكلّف ، وهو محقّق في المقام. (ثانيهما) قدرة المكلّف على متعلّقه ، وهو مفقود في المقام. فالمانع من فعليّة التكليف في المقام هو عدم التمكّن من الامتثال المعتبر عقلا في استحقاق العقاب على تركه.

ونفى البراءة الشرعيّة بدعوى أنّ ظاهر أدلّة البراءة كونها في مقام معذّريّة الجهل وارتفاعها بالعلم ، فما كان تنجّزه وعدمه من ناحية العلم والجهل كان مشمولا للغاية والمغيّى ، وما كان من ناحية التمكّن من الامتثال وعدمه فلا ربط له بأدلّة البراءة. وما نحن فيه من قبيل الثاني ، لعدم القصور في العلم ، فإنّ تعلّق التكليف الإلزاميّ معلوم ، وإنّما القصور من جهة فقد التمكّن من امتثال التكليف الإلزاميّ. نهاية الدراية ٢ : ٥٦٥.

هذا ما أفاده الأعلام الثلاثة في الردّ على القول الأوّل.

وقد تصدّى السيّد الإمام الخمينيّ للجواب عن المحقّقين النائينيّ والعراقيّ صريحا وعن المحقّق الأصفهانيّ تلويحا.

فأفاد جوابا عن كلام المحقّق النائينيّ ـ من نفي البراءة العقليّة ـ بأنّ كون العلم الإجماليّ كعدمه لا يوجب القطع بالمؤمّن ، ولو لا قبح العقاب بلا بيان فلا مانع للمولى من العقاب على التكليف الواقعيّ ، وجوبا كان أو حرمة. بيان ذلك : أنّ أصل التكليف الإلزاميّ المردّد بين الوجوب والحرمة وإن كان معلوما إجمالا ، فلا يكون موردا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بل لا يجوز العقاب عليه لعدم قدرة المكلّف على الموافقة القطعيّة ، إلّا أنّ نوع التكليف ـ من الوجوب والحرمة ـ غير معاقب ، لعدم كونه معلوما ، لا لعدم القدرة عليه ، كيف! ولو تعلّق التكليف الإلزاميّ بأمرين ـ كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال وحرمة شرب التتن ـ يكون منجّزا. فعليه يكون عدم العقاب بالنسبة إلى نوع التكليف لقاعدة قبح العقاب بلا بيان. أنوار الهداية ٢ : ١٧٤.

ومن هنا يظهر جوابه عمّا أفاد المحقّق الأصفهانيّ في نفي البراءة العقليّة ، وحاصله : ـ

٨٣

__________________

ـ أنّ البيان حاصل بالنسبة إلى أصل التكليف الإلزاميّ ، فلا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان بالنسبة إليه ؛ وأمّا نوع التكليف فهو غير معلوم ، لا إجمالا ولا تفصيلا ، فلا بيان بالنسبة إليه ، وحينئذ يرجع إلى البراءة العقليّة بالنسبة إلى نوع التكليف ويحكم بالبراءة وعدم العقاب.

وأجاب عن المحقّق العراقيّ بما لفظه : «إنّ حكم العقل بالتخيير في الرتبة المتأخّرة عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان في طرفي الفعل والترك ، وإلّا فلو فرض عدم قبحه بالنسبة إلى خصوص أحد الطرفين لم يحكم بالتخيير بالضرورة ، فالاضطرار لا يكون إلّا لواحد منهما ، وأمّا بخصوص كلّ منهما فلا يكون مضطرّا ، فلو فرض كونه واجبا بحسب الواقع وترك المكلّف مع قدرته على فعله بالضرورة لم يكن عدم العقاب للاضطرار وعدم القدرة ، بل لقبح العقاب بلا بيان». راجع هامش أنوار الهداية ٢ : ١٧٤ ـ ١٧٥.

وأفاد في الجواب عن كلام آخر للمحقّق النائينيّ من نفي البراءة الشرعيّة بما حاصله : أنّ مورد دوران الأمر بين المحذورين يكوّن مصداقين لحديث الرفع : (أحدهما) الوجوب ، و (ثانيهما) الحرمة ، فإنّهما غير معلومين ، فيكونا مرفوعين. وأمّا المجموع من حيث المجموع ـ أي أصل التكليف الإلزاميّ ـ فلا يكون مفاد دليل الرفع ، ضرورة أنّ المجموع من حيث المجموع غير قابل للوضع ، وما لا يمكن وضعه لا يمكن رفعه. بخلاف الوجوب والحرمة ، فإنّهما قابلان للوضع ، وما يمكن وضعه يمكن رفعه. أنوار الهداية ٢ : ١٧٠ ـ ١٧٩.

ومن هنا يظهر جوابه عمّا أفاد المحقّق الأصفهانيّ في مقام نفي البراءة الشرعيّة. وحاصل الجواب : أنّ ما كان عدم تنجّزه من ناحية عدم التمكّن من الامتثال هو أصل التكليف الإلزاميّ ، فإنّه أمر انتزاعيّ ، وليس بمجعول شرعيّ ، فلا يكون موضوعا كي يرفع بدليل الرفع. وأمّا نوع التكليف ـ أي نفس الوجوب والحرمة ـ فهو قابل للوضع ، ولا مانع من جريان دليل البراءة بالنسبة إليه.

ولا يخفى : أنّ ما ذكروه من الأدلّة والردود حول هذا الوجه قابل للنقض والإبرام ، ولكنّه خارج عن المقصود ، وفيما ذكرناه الكفاية.

الوجه الثاني : وجوب الأخذ بأحد الاحتمالين تعيينا ، لترجيح جانب الحرمة والبناء عليه في مرحلة الظاهر. واستدلّ عليه بوجوه ، تعرّض المصنّف قدس‌سره لبعضها في مسألة اجتماع الأمر والنهي في الجزء الثاني : ٦٣ ـ ٦٨ ، كما سيأتي التعرّض لأحدها والإجابة عنه في آخر هذا الفصل.

الوجه الثالث : وجوب الأخذ بأحدهما تخييرا ، ويعبّر عنه بالتخيير الشرعيّ. واستدلّ عليه بقياس المقام بتعارض الخبرين الدالّ أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب ، وسيأتي بطلانه. ـ

٨٤

أوجهها الأخير ، لعدم الترجيح بين الفعل والترك ، وشمول مثل «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام» (١) له (٢) ، ولا مانع عنه عقلا ولا نقلا (٣).

__________________

ـ الوجه الرابع : التخيير بين الفعل والترك عقلا الثابت للعبد تكوينا من دون الحكم بشيء من التخيير أو الإباحة أو البراءة ، لا ظاهرا ولا واقعا.

وهذا الوجه نسبه المحقّق الأصفهانيّ إلى الشيخ الأعظم الأنصاريّ ، بل هو صريح عبارته في بعض نسخ فرائد الاصول. راجع نهاية الدراية ٢ : ٥٦٩ ، وفرائد الاصول ٢ : ١٨٣.

واختاره المحقّقان العلمان : النائينيّ والعراقيّ أيضا على ما في فوائد الاصول ٣ : ٤٤٤ و ٤٤٨ ، ونهاية الأفكار ٣ : ٢٩٢ ـ ٢٩٣.

واستدلّا عليه بوجهين :

أحدهما : أنّه لا فائدة في جعل حكم ظاهريّ في المقام ، لعدم خلوّ المكلّف من الفعل أو الترك ، فلا يترتّب على جعله أثر شرعيّ ، بل يكون جعله لغوا.

وثانيهما : سقوط العلم الإجماليّ عن التأثير في التنجيز ، لعدم قدرة المكلّف على مراعات العلم الإجماليّ بالاحتياط.

وقد مرّ بعض الكلام حول ما أفاداه والمناقشة فيه.

الوجه الخامس : الحكم بالتخيير بين الترك والفعل عقلا مع الحكم عليه بالإباحة الشرعيّة. وهذا ما ذهب إليه المصنّف قدس‌سره وسيأتي الاستدلال عليه.

(١) هذا مضمون ما ورد لإثبات قاعدة الحلّ ، وقد ذكرنا نصّه في أدلّة البراءة. راجع الصفحة : ٣١ من هذا الجزء.

(٢) حيث كان مختار المصنّف قدس‌سره مركّبا من دعويين : التخيير عقلا ، والإباحة الظاهريّة شرعا :

فاستدلّ على الاولى بقوله : «لعدم الترجيح». وتوضيحه : أنّ في اختيار كلّ من الفعل والترك احتمال الموافقة والمخالفة ، وحيث لا مرجّح لأحدهما على الآخر فترجيح أحدهما على الآخر ترجيح بلا مرجّح ، وهو قبيح.

واستدلّ على الثاني بقوله : «وشمول مثل ...». وتوضيحه : أنّ مدلول مثل حديث الحلّ هو حلّيّة المشكوك حرمته ظاهرا ، سواء دار أمر الشيء بين حرمته وإباحته ، أو بين حرمته ووجوبه ، أو بين حرمته واستحبابه ، فإنّ الشيء يكون مشكوك الحرمة في جميع هذه الموارد ، فإذا دار الأمر بين حرمة الشيء ووجوبه يصدق عليه أنّه مشكوك الحرمة ، فيشمله مثل حديث الحلّ ويحكم بإباحته ظاهرا.

(٣) أمّا المانع عقلا : فمثل ما يمنع عن جريان قاعدة الحلّ في الشبهة المحصورة ، فإنّ العقل يمنع عن جريانها في أطرافها ، بل يحكم بالاجتناب عن جميعها. ـ

٨٥

وقد عرفت (١) أنّه لا تجب موافقة الأحكام التزاما ، ولو وجب لكان الالتزام إجمالا بما هو الواقع معه ممكنا (٢).

__________________

ـ وأمّا المانع شرعا : فمثل ما يمنع عن جريانها في الشبهة البدويّة ، فإنّ الشرع يمنع عن جريانها فيها بناء على تقديم أخبار الاحتياط.

وغرض المصنّف قدس‌سره أنّه لا مانع من شمول قاعدة الحلّ للمقام ، لا عقلا ولا شرعا.

ولكن أورد عليه المحقّق النائينيّ بوجوه :

الأوّل : أنّ أدلّة الإباحة الشرعيّة مختصّة بالشبهات الموضوعيّة ، فلا تجري فيما إذا دار الأمر بين المحذورين في الشبهات الحكميّة.

الثاني : عدم شمول دليلها لصورة دوران الأمر بين المحذورين ، فإنّه يختصّ بما إذا كان طرف الحرمة الإباحة والحلّ ، لا الوجوب ، كما هو الظاهر من قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال».

الثالث : أنّه لا يمكن جعل الإباحة الظاهريّة مع العلم بجنس الإلزام ، فإنّ أصالة الإباحة بمدلولها المطابقيّ تنافي المعلوم بالإجمال ، لأنّ مفادها الرخصة في الفعل والترك ، وهو ينافي العلم بالإلزام. فوائد الاصول ٣ : ٤٤٥.

والسيّد المحقّق الخوئيّ وإن اختار جريان البراءة في المقام ، إلّا أنّه لمّا اعتقد بوجود الفرق بين أصالة الحلّ وأصالة الإباحة ، فلا يكون الإيراد على أحدهما عنده إيرادا على الآخر ، فتبع استاذه وأورد على دلالة حديث الحلّ بالوجهين الأوّلين. فراجع مصباح الاصول ٢ : ٢٧٦.

وذهب السيّد الإمام الخمينيّ إلى نفي الفرق بين أصالة الإباحة وأصالة البراءة ، فكان الإيراد على أصالة الإباحة إيرادا على أصالة البراءة عنده ، ولذا أجاب عن تلك الوجوه الثلاثة :

أمّا الوجه الأوّل : فلعدم اختصاص مفاد حديث الحلّ بالشبهات الموضوعيّة.

وأمّا الوجه الثاني : فلانّه مناف لما أفاده ثالثا من كون مفاد أصالة الحلّ الرخصة في الفعل والترك ، فإنّ جعل الرخصة في الفعل والترك انّما هو فيما إذا كانت الشبهة في الوجوب والحرمة جميعا ، ضرورة أنّه لو كان طرف الحرمة عدم الوجوب بأن يشكّ في الحرمة والحلّيّة فلا معنى للرخصة في الترك.

وأمّا الوجه الثالث : فلأنّ التنافي بين الإباحة الظاهريّة والإلزام الواقعيّ ليس إلّا كتنافي الأحكام الواقعيّة والظاهريّة ، والجمع بينهما هو الجمع بينهما. أنوار الهداية ٢ : ١٧٦ ـ ١٧٧.

(١) في الجزء الثاني : ٢٥٧ ، حيث قال : «هل تنجّز التكليف بالقطع ...».

(٢) هذا إشارة إلى وهم ودفع :

توضيح الوهم : أنّه تجب موافقة الأحكام التزاما ـ أي اعتقادا ـ بعقد القلب عليها كما ـ

٨٦

والالتزام التفصيليّ بأحدهما لو لم يكن تشريعا محرّما لما نهض على وجوبه دليل قطعا(١).

[الفرق بين المقام وبين الخبرين المتعارضين]

وقياسه بتعارض الخبرين الدالّ أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب باطل ، فإنّ التخيير بينهما على تقدير كون الأخبار حجّة من باب السببيّة يكون على القاعدة ومن جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين (٢) ، وعلى تقدير أنّها (٣)

__________________

ـ تجب موافقتها عملا ، والحكم بإباحة كلّ من الترك والفعل ظاهرا ينافي الالتزام القلبىّ بما هو معلوم عند المكلّف من الحكم الواقعيّ الدائر بين الوجوب والحرمة ، فلا تجري أصالة الحلّ في المقام.

وتوضيح الدفع : أنّه قد عرفت في الأمر الخامس من مباحث القطع عدم وجوب الموافقة الالتزاميّة ، ضرورة عدم دليل عقليّ ولا نقليّ على لزوم الإطاعة الاعتقاديّة. مضافا إلى أنّه لا منافاة بين وجوب الموافقة الالتزاميّة وبين جريان أصالة الحلّ ، لإمكان الالتزام القلبيّ الإجماليّ بالحكم الواقعيّ على ما هو عليه وإن لم يعلم بشخصه فعلا.

(١) هذا جواب عن إشكال مقدّر :

توضيح الإشكال : أنّ متعلّق وجوب الموافقة الالتزاميّة نفس متعلّق وجوب الموافقة العمليّة ، ومعلوم أنّ متعلّق وجوب الموافقة العمليّة ليس إلّا الحكم بعنوانه الخاصّ من الإيجاب أو التحريم ، فمتعلّق وجوب الموافقة الالتزاميّة ليس إلّا ذلك ، لا الحكم الواقعيّ على ما هو عليه. غاية الأمر أنّه تصل النوبة إلى الموافقة الاحتماليّة بعد تعذّر الموافقة الالتزاميّة القطعيّة ، كما هو كذلك مع تعذّر الموافقة العمليّة القطعيّة ، والموافقة الالتزاميّة الاحتماليّة انّما تحصل بالالتزام التفصيليّ بخصوص الوجوب أو الحرمة ، لا الالتزام الإجماليّ بالواقع على ما هو عليه.

وتوضيح الجواب : أنّ الالتزام التفصيليّ بأحدهما المعيّن مع فرض عدم العلم به تشريع محرّم. مضافا إلى أنّه لو سلّم عدم كونه تشريعا لم يقم دليل على وجوب هذا الالتزام التفصيليّ.

(٢) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «من جهة التخيير بين الطلبين المتزاحمين» ، أو يقول : «من قبيل التخيير بين الواجبين المتزاحمين».

(٣) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «وعلى تقدير كونها حجّة ...» ، أو يقول : «على تقدير أنّه ...» كي يرجع الضمير إلى كون الأخبار حجّة.

٨٧

من باب الطريقيّة ، فإنّه (١) وإن كان على خلاف القاعدة (٢) إلّا أنّ أحدهما تعيينا أو تخييرا ـ حيث كان واجدا لما هو المناط للطريقيّة من احتمال الإصابة مع اجتماع سائر الشرائط ـ جعل (٣) حجّة في هذه الصورة بأدلّة الترجيح تعيينا أو التخيير تخييرا (٤) ؛ وأين ذلك ممّا إذا لم يكن المطلوب إلّا الأخذ بخصوص ما صدر واقعا ، وهو (٥) حاصل ، والأخذ بخصوص أحدهما ربما لا يكون إليه بموصل.

نعم ، لو كان التخيير بين الخبرين لأجل إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة وإحداثهما الترديد بينهما ، لكان القياس في محلّه ، لدلالة الدليل على التخيير بينهما على التخيير هاهنا ، فتأمّل جيّدا (٦).

__________________

(١) أي : فإنّ التخيير. والأولى أن يقول : «فهو ...».

(٢) لأنّ القاعدة الأوّليّة في تعارض الطرق هو التساقط.

(٣) وفي بعض النسخ : «صار».

(٤) أي : صار أحدهما حجّة تعيينا في صورة وجود المرجّح له ، كموافقته للكتاب وغيرها ، وصار أحدهما حجّة تخييرا في صورة عدم وجود المرجّح لأحدهما.

(٥) أي : الأخذ بخصوص ما صدر واقعا.

(٦) غرض المصنّف قدس‌سره ردّ الاستدلال على القول الثالث ، وهو الحكم بالتخيير الشرعيّ في دوران الأمر بين المحذورين.

حاصل الاستدلال : أنّ ما يوجب الحكم بالتخيير في الخبرين المتعارضين الدالّ أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة يوجب الحكم بالتخيير في دوران الأمر بالمحذورين.

وتوضيح الردّ عليه : أنّ في تقريب هذه المقايسة احتمالين :

الأوّل : أن يقال : إنّ المناط في الحكم بالتخيير بين الخبرين المتعارضين هو كون كلّ واحد منهما جامعا لشرائط الحجّيّة ، فيحتمل كون مؤدّى كلّ منهما مطابقا للواقع ، وبما كان المكلّف متعذّرا من مراعاة الواقع بالقطع فحكم الشارع بلزوم الأخذ بأحدهما تخييرا. وهذا المناط بعينه موجود في المقام بطريق أولى ، إذ المفروض هو العلم بوجود الإلزام الواقعيّ ، غاية الأمر يدور أمره بين الوجوب والحرمة ، ولمّا لم يتمكّن المكلّف من موافقة الواقع تفصيلا فحكم الشارع بالموافقة الاحتماليّة ولزوم الأخذ بأحدهما تخييرا ، لا بالإباحة الظاهريّة.

الثاني : أن يقال : إنّ الملاك في الحكم بالتخيير بين الخبرين المتعارضين هو إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة وإحداثهما الترديد بينهما ، ولمّا كان المكلّف متعذّرا من رعاية ـ

٨٨

[عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان]

ولا مجال هاهنا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فإنّه لا قصور فيه هاهنا ، وإنّما يكون عدم تنجّز التكليف لعدم التمكّن من الموافقة القطعيّة كمخالفتها (١) ، والموافقة الاحتماليّة حاصلة لا محالة ، كما لا يخفى (٢).

__________________

ـ كلا الاحتمالين حكم الشارع بالتخيير بينهما. وهذا الملاك بعينه موجود في المقام ، فيحكم بالتخيير بينهما والأخذ بأحدهما.

إذا عرفت هذا ، فاعلم : أنّ مقايسة المقام بالخبرين المتعارضين بالتقريب الأوّل باطل. وذلك لأنّ منشأ الحكم بالتخيير بين الخبرين المتعارضين هو حجّيّتهما أو حجّيّة أحدهما تعيينا أو تخييرا ، فإنّ الأخبار إمّا أن تكون حجّة من باب السببيّة أو تكون حجّة من باب الطريقيّة ، فعلى الأوّل يحدث في مؤدّى الخبر الدالّ على الوجوب مصلحة ملزمة وفي مؤدّى الآخر مفسدة ملزمة ، ولمّا كان المفروض كون كلّ منهما جامعا لشرائط الحجّيّة وكان العمل بكلّ منهما غير مقدور فيقع التزاحم بين الطلبين : طلب الفعل وطلب الترك. وحينئذ يحكم العقل بالتخيير. فيكون الحكم بالتخيير على القاعدة. وعلى الثاني فيكون الخبران واجدين لمناط الطريقيّة ـ وهو كون كلّ منهما كاشفا عن الواقع واحتمال إصابة مؤدّى كلّ منهما للواقع مع اجتماع سائر الشرائط ـ ، ولمّا لم يمكن الجمع بينهما في الحجّيّة الفعليّة فجعل الشارع أحدهما حجّة تخييرا مع التكافؤ ، وأحدهما تعيينا مع المزيّة.

وبالجملة : فالمناط في الحكم بالتخيير في الخبرين المتعارضين كونهما حجّتين فعليّتين ـ على السببيّة ـ أو كونهما مقتضيا للحجّيّة ـ على الطريقيّة ـ. وهذا المناط لم يوجد في الاحتمالين المتعارضين ، ضرورة أنّه لم يدلّ دليل على مطلوبيّة كلا الاحتمالين ، ولا على اقتضائهما للمطلوبيّة ، بل يكون المطلوب هنا هو الأخذ بخصوص ما صدر واقعا ، والأخذ بالواقع بالمقدار الممكن ـ من الموافقة الاحتماليّة ـ حاصل إذا حكمنا بالإباحة الظاهريّة.

هذا كلّه بناء على الاحتمال الأوّل في تقريب المقايسة. وأمّا بناء على الاحتمال الثاني فكان القياس في محلّه ، لوجود مناط الحكم بالتخيير في المقام أيضا ، وهو واضح.

(١) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «كالمخالفة القطعيّة» أو يقول : «ولا المخالفة القطعيّة» ، أو يقول : «لعدم التمكّن من الموافقة والمخالفة القطعيّتين».

(٢) وقد مرّ بعض الكلام حول ما أفاده الأعلام في جريان القاعدة المذكورة. فراجع التعليقة (١) من الصفحة : ٨٢.

٨٩

[تعميم محلّ النزاع]

ثمّ إنّ مورد هذه الوجوه وإن كان ما إذا لم يكن واحد من الوجوب والحرمة على التعيين تعبّديّا ، إذ لو كانا تعبّديّين أو كان أحدهما المعيّن كذلك لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الاباحة ، لأنّها (١) مخالفة عمليّة قطعيّة ـ على ما أفاد شيخنا الأستاذ «قدس‌سره» (٢) ـ ، إلّا أنّ الحكم أيضا فيهما إذا كانا كذلك هو التخيير عقلا بين إتيانه على وجه قربيّ ـ بأن يؤتى به بداعي احتمال طلبه ـ وتركه كذلك ، لعدم الترجيح ، وقبحه بلا مرجّح.

فانقدح أنّه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصّليّين بالنسبة إلى ما هو المهمّ في المقام ، وإن اختصّ بعض الوجوه (٣) ، كما لا يخفى.

[تقديم محتمل الأهميّة]

ولا يذهب عليك أنّ استقلال العقل بالتخيير إنّما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين. ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعيّنه (٤) ، كما هو الحال في دوران الأمر بين التخيير والتعيين في غير المقام (٥). ولكنّ الترجيح إنّما

__________________

(١) تعليل لقوله : «لم يكن إشكال». والضمير يرجع إلى الإباحة.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ١٧٩.

(٣) وهو القول بالإباحة الظاهريّة.

(٤) أي : استقلال العقل بتعيّن محتمل الترجيح.

(٥) والحاصل : أنّ التخيير العقليّ في المقام مقيّد بما إذا لم يحتمل مزيّة أحدهما على الآخر ، فضلا عن العلم بها ، وإلّا فلا يبعد دعوى استقلال العقل بتعيّن محتمل الأهمّيّة ، فضلا عن معلومها.

وخالفه الأعلام الثلاثة ، بل السيّدان العلمان : الخمينيّ والخوئيّ.

فاختار الأعلام الثلاثة الحكم بالتخيير في المقام ، واختار السيّد الخوئيّ الحكم بالبراءة مطلقا ، واختار السيّد الإمام الخمينيّ جريان البراءة عن التعيينيّة إلّا فيما إذا كان أقوائيّة المحتمل بحيث يكون لازم الاحتياط عقلا أو شرعا ، كما لو دار الأمر بين كون المرأة زوجته الّتي حلف على وطئها وبين كونها أمّه ، فحينئذ يجب الاحتياط. راجع فوائد الاصول ٣ : ٤٥ ، ـ

٩٠

يكون لشدّة الطلب في أحدهما وزيادته على الطلب في الآخر بما لا يجوز الإخلال بها في صورة المزاحمة ، ووجب الترجيح بها. وكذا وجب ترجيح احتمال ذي المزيّة في صورة الدوران.

[بطلان ترجيح احتمال الحرمة]

ولا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقا (١) ، لأجل (٢) أنّ دفع المفسدة أولى من ترك المصلحة ، ضرورة أنّه ربّ واجب يكون مقدّما على الحرام في صورة المزاحمة بلا كلام ، فكيف يقدّم على احتماله في صورة الدوران بين مثليهما؟! فافهم (٣).

__________________

ـ نهاية الأفكار ٣ : ٢٩٥ ، نهاية الدراية ٢ : ٥٧١ ، مصباح الاصول ٢ : ٣٣٢ ـ ٣٣٣ ، أنوار الهداية ٢ : ١٨٠ ـ ١٨١.

(١) إشارة إلى القول الثاني من الأقوال في مسألة دوران الأمر بين المحذورين ، وهو وجوب الأخذ بأحدهما تعيينا بترجيح جانب الحرمة. فناقش فيه المصنّف قدس‌سره بأنّ غاية ما يمكن أن يقال في الاستدلال على ترجيح احتمال الحرمة هو أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

وهو مردود ، لأنّ ربّ واجب ـ كالصلاة ـ يكون مقدّما على الحرام في صورة المزاحمة.

(٢) تعليل لقوله : «لترجيح ...».

(٣) تتمّة :

قد مرّت الإشارة إلى أنّ ما أفاده المصنّف قدس‌سره في الكتاب يختصّ بما إذا دار الأمر بين المحذورين مع وحدة الواقعة ، سواء كان الدوران بينهما في التوصّليّات أو في التعبّديّات. وأمّا إذا دار الأمر بينهما مع تعدّد الواقعة فلم يتعرّض له المصنّف قدس‌سره في المقام. فينبغي التعرّض له تتميما للبحث ، فنقول :

إذا تعدّدت الواقعة في دوران الأمر بين المحذورين كما إذا علم إجمالا بتعلّق التكليف الإلزاميّ بصلاة الجمعة في كلّ جمعة ، ودار أمره بين الفعل والترك ، فهل يكون التخيير بدويّا ، فلا يجوز للمكلّف أن يختار في الواقعة الثانية غير ما اختاره في الواقعة الاولى ، أو يكون استمراريّا ، فيجوز له أن يختار في الواقعة الثانية غير ما اختاره في الواقعة الاولى؟ مثلا : في مثل صلاة الجمعة الّتي دار أمرها بين الوجوب والحرمة هل يجوز للمكلّف أن يختار في الجمعة الاولى إتيان صلاة الجمعة ويختار في الجمعة الثانية تركها ، فيكون التخيير ـ

٩١

__________________

ـ استمراريّا ، أو لا يجوز له ذلك ، بل يجب عليه الإتيان بها في الثانية والثالثة وهكذا ، كما يجب عليه تركها في الجمعات الآتية فيما إذا اختار تركها في الجمعة الاولى ، فيكون التخيير بدويّا؟

الظاهر من كلام المصنّف في حاشية الرسائل هو كونه استمراريّا. وذهب إليه أيضا المحقّقون : العراقيّ والنائينيّ والإمام الخمينيّ. راجع درر الفوائد : ٢٣٥ ، نهاية الأفكار ٣ : ٢٩٦ ، فوائد الاصول ٣ : ٤٥٣ ـ ٤٥٥ ، أنوار الهداية ٢ : ١٨١.

وذهب السيّد الخوئيّ إلى أنّ التخيير هاهنا بدويّ ، لتنجّز العلم الإجماليّ من حيث المخالفة القطعيّة. مصباح الاصول ٢ : ٣٤٣ ـ ٣٤٤.

٩٢

فصل

[في أصالة الاشتغال]

لو شكّ في المكلّف به مع العلم بالتكليف من الإيجاب أو التحريم (١) فتارة

__________________

(١) لا يخفى : أنّ العلم بالتكليف والإلزام قد يكون علما تفصيليّا وقد يكون علما إجماليّا. وعلى الثاني قد يكون علما بنوع التكليف والإلزام وقد يكون علما بجنسه. وعلى الثاني قد يكون متعلّقا بفعل واحد وقد يكون متعلّقا بفعلين متعدّدين.

وأمّا العلم التفصيليّ بالتكليف فواضح.

وأمّا العلم الإجماليّ بنوع التكليف : فكما إذا علم بالوجوب وتردّد بين أن يكون متعلّقه الصلاة تماما أو الصلاة قصرا ، أو علم بالحرمة وتردّد بين أن يكون متعلّقها هذا المائع أو ذاك المائع ، أو علم بالوجوب وتردّد بين أن يكون متعلّقه الصلاة مع السورة أو الصلاة من دون السورة.

وأمّا العلم الإجماليّ بجنس التكليف المتعلّق بفعل واحد : فكما إذا احرز صدور خطاب إلزاميّ من المولى ودار بين كونه وجوب الدعاء عند رؤية الهلال وبين كونه حرمة الدعاء حينئذ.

وأمّا العلم الإجماليّ بجنس التكليف المتعلّق بفعلين : فكما إذا علم بصدور خطاب إلزاميّ من المولى ودار أمره بين وجوب الدعاء عند رؤية الهلال وحرمة شرب التتن.

فالأقسام أربعة :

١ ـ العلم التفصيليّ.

٢ ـ العلم الإجماليّ بنوع التكليف.

٣ ـ العلم الإجماليّ بجنس التكليف المتعلّق بأمر واحد.

٤ ـ العلم الإجماليّ بجنس التكليف المتعلّق بأمرين أو امور.

ولا شكّ في خروج القسم الأوّل والثالث من محلّ البحث.

أمّا القسم الأوّل ، فواضح. وأمّا القسم الثالث فلأنّه من الشكّ في التكليف ويرجع فيه إلى البراءة.

٩٣

لتردّده بين المتباينين (١) ، واخرى بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين (٢) ، فيقع الكلام في مقامين:

__________________

ـ ولا شكّ أيضا في دخول القسم الثاني في محلّ النزاع.

وإنّما الكلام في القسم الرابع. فهل يعدّ من الشكّ في التكليف كي يخرج من محلّ النزاع ، أو يعدّ من الشكّ في المكلّف به كي يدخل في محلّ النزاع؟

ذهب الشيخ الأعظم الأنصاريّ إلى أنّ العلم بالجنس من الشكّ في التكليف ، لا المكلّف به ، فإنّه قال : «الموضع الثاني في الشكّ في المكلّف به مع العلم بنوع التكليف ، بأن يعلم الحرمة أو الوجوب ويشتبه الحرام أو الواجب». فرائد الاصول ٢ : ١٩٥.

وظاهر قول المصنّف قدس‌سره في المقام : «من الإيجاب أو التحريم» أيضا أنّ العلم بالجنس من الشكّ في التكليف ، فإنّ كلامه هذا بيان عن قوله : «مع العلم بالتكليف». ولكن سيصرّح بعد أسطر بدخول العلم بجنس التكليف في الشكّ في المكلّف به إذا كان متعلّقا بأمرين ، كما صرّح بذلك أيضا في درر الفوائد : ٢٣١.

(١) لا يخفى عليك : أنّ في التعبير عن هذا القسم ب «المتباينين» مسامحة ظاهرة ، لعدم اختصاص هذا القسم بما إذا كان الترديد ذا طرفين فقط ، بل يعمّ ما إذا كان الترديد ذا أطراف ، كما إذا علم بوجوب صلاة عليه ، وتردّد بين كونها صلاة الآيات أو صلاة الميّت أو صلاة القضاء. وعليه فكان الأولى أن يعبّر عن هذا القسم هكذا : «فتارة لتردّد المكلّف به بين المتباينين أو أكثر» أو : «فتارة لتردّد المكلّف به بين امور متبايية».

(٢) سواء كان الترديد ذا طرفين ، كما إذا علم بوجوب صلاة الظهر وتردّد بين كون الصلاة المكلّف بها هي الصلاة مع السورة أو هي من دون السورة ، أو كان الترديد ذا أطراف ، كما إذا علم بوجوب صلاة الظهر وشكّ في أنّها هل هي الصلاة مع السورة والقنوت أو الصلاة مع السورة دون القنوت أو الصلاة مع القنوت دون السورة أو الصلاة من دونهما. هذا في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

وأمّا الأقلّ والأكثر الاستقلاليّان ـ سواء كان ذا طرفين أو ذا أطراف ـ : فهو يرجع إلى الشكّ في التكليف بالنسبة إلى الأكثر ، إذ يعلم من أوّل الأمر بتعلّق التكليف بالأقلّ ويشكّ في تعلّقه بالزائد عليه ، فتجري البراءة.

ولا يخفى : أنّ الضابط في تشخيص كون أطراف الترديد هو التباين أو الأقلّ والأكثر الارتباطيّان أو الأقلّ والأكثر الاستقلاليّان ما يلي :

فإن كان في أطراف الترديد ما يكون الإتيان به موجبا للعلم بحصول الامتثال وسقوط التكليف بالنسبة إلى الأطراف الأخر فيكون من الأقلّ والأكثر. وحينئذ لا يخلو : إمّا أن يكون الإتيان بسائر الأطراف أيضا موجبا للعلم بحصول الامتثال وسقوط التكليف بالنسبة إلى

٩٤

المقام الأوّل

في دوران الأمر بين المتباينين (١)

[منجّزيّة العلم الإجماليّ]

لا يخفى : أنّ التكليف المعلوم بينهما مطلقا ـ ولو كانا فعل أمر وترك

__________________

ـ خصوص تلك الأطراف ، كما كان الإتيان بالأكثر موجبا للعلم بسقوط التكليف بالنسبة إلى جميع الأطراف ، وهذا هو الأقلّ والأكثر الاستقلاليّان ، ومثاله : ما إذا علم بأنّه مديون ، وتردّد بين كون ما عليه عشرة أو تسعة ، فإنّ إعطاء العشرة يوجب العلم بسقوط الدين بالنسبة إلى عشرة وتسعة ، وإعطاء التسعة أيضا يوجب العلم بسقوط الدين بالنسبة إلى خصوص التسعة.

وإمّا أن لا يكون الإتيان بسائر الأطراف غير الطرف الخاصّ ـ وهو الأكثر ـ موجبا للعلم بسقوط التكليف بالنسبة إلى خصوص تلك الأطراف ، لاحتمال مطلوبيّتها منضمّا إلى غيرها ، فحينئذ يكون الترديد بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، كما إذا علم بوجوب صلاة الظهر وتردّد بين أن يكون المكلّف به هو الصلاة مع السورة والقنوت أو هو الصلاة من دونهما أو هو الصلاة مع أحدهما ، فإنّ الإتيان بالأكثر ـ أي الصلاة مع السورة والقنوت ـ يوجب العلم بفراغ الذمّة بالنسبة إلى الصلاة من دونهما.

وأمّا الإتيان بسائر الأطراف ـ أي الصلاة مع السورة فقط أو مع القنوت فقط أو من دونهما ـ فلا يوجب حصول العلم بالفراغ أصلا ، لا بالنسبة إلى خصوص تلك الأطراف ولا بالنسبة إلى الطرف الخاصّ ـ أي الأكثر ـ.

وإن لم يكن في أطراف الترديد ما يكون الإتيان به موجبا للعلم بحصول الامتثال وسقوط التكليف بالنسبة إلى الأطراف الأخر ، فيكون من دوران الأمر بين امور متبايية ، سواء كان التباين ذاتيّا كدوران المكلّف به بين موضوعات مستقلّة كالصوم والصدقة والصلاة ، أو كان عرضيّا كما إذا كان المكلّف به موضوعا واحدا ذا أطراف متبايية ، بأن تكون النسبة بين تلك الأطراف نسبة بشرط شيء وبشرط لا ، كما إذا علم إجمالا بوجوب الصلاة وتردّد بين كونها قصرا أو تماما.

والحاصل : أنّه إذا دار الأمر بين الماهيّتين أو الماهيّات أو بين الماهيّة بشرط شيء وبين تلك الماهيّة لا بشرط فيكون من دوران الأمر بين المتباينين. وإذا دار الأمر بين الماهيّة بشرط شيء وبين تلك الماهيّة لا بشرط فيكون من دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر.

(١) يظهر ممّا ذكرنا في التعليقة السابقة أنّه كان الاولى ـ بل الصحيح ـ أن يقول : «دوران المكلّف به بين امور متباينة».

٩٥

آخر (١) ـ إن كان فعليّا من جميع الجهات ـ بأن يكون واجدا لما هو العلّة التامّة للبعث أو الزجر الفعليّ مع ما هو [عليه] (٢) من الإجمال والتردّد والاحتمال ـ فلا محيص عن تنجّزه وصحّة العقوبة على مخالفته ؛ وحينئذ لا محالة (٣) يكون ما دلّ بعمومه على الرفع (٤) أو الوضع (٥) أو السعة (٦) أو الإباحة (٧) ممّا يعمّ أطراف العلم (٨) مخصّصا عقلا ، لأجل مناقضتها معه (٩). وإن لم يكن فعليّا كذلك ـ ولو كان بحيث لو علم تفصيلا لوجب امتثاله وصحّ العقاب على مخالفته ـ لم يكن هناك مانع عقلا ولا شرعا عن شمول أدلّة البراءة الشرعيّة للأطراف.

ومن هنا انقدح : أنّه لا فرق بين العلم التفصيليّ والإجماليّ ، إلّا أنّه لا مجال للحكم الظاهريّ مع التفصيليّ ، فإذا كان الحكم الواقعيّ فعليّا من سائر الجهات لا محالة يصير فعليّا معه (١٠) من جميع الجهات ، وله (١١) مجال مع الإجماليّ ،

__________________

(١) أي : ولو كان المتباينان ـ وهما طرفا الترديد ـ فعل أمر وترك أمر آخر ، فعلمنا إجمالا بتكليف إلزاميّ تعلّق إمّا بفعل هذا الأمر وإمّا بترك ذاك الأمر.

ولعلّ غرضه تعميم محلّ البحث للعلم بجنس التكليف ، وهو الإلزام الجامع بين الإيجاب والتحريم.

والأولى سوق العبارة هكذا : «إنّ التكليف المعلوم بين أطراف متباينة مطلقا ـ سواء كانت الأطراف فعل أحد الامور أو ترك أحد الامور أو فعل أمر وترك آخر ...».

(٢) ما بين المعقوفتين ليس في النسخ.

(٣) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «فلا محالة».

(٤) كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع عن امّتي تسعة : الخطأ و ...». الخصال ٢ : ٤١٧ ، التوحيد : ٣٥٣.

(٥) كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وضع عن امّتي ما اكرهوا عليه و ...». المحاسن (للبرقي) ٢ : ٣٣٩.

(٦) كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الناس في سعة ما لم يعلموا». عوالي اللئالي ١ : ٤٢٤.

(٧) كقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا ...». وسائل الشيعة ٢ : ٥٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

(٨) أي : أطراف العلم الإجماليّ.

(٩) أي : لأجل مناقضة الرفع والوضع والسعة والإباحة مع التكليف الفعليّ.

(١٠) أي : مع العلم التفصيليّ.

(١١) أي : للحكم الظاهريّ.

٩٦

فيمكن أن لا يصير فعليّا معه (١) ، لإمكان جعل الظاهريّ في أطرافه وإن كان فعليّا من غير هذه الجهة ، فافهم (٢).

__________________

(١) أي : فيمكن أن لا يعير الحكم الواقعيّ فعليّا مع العلم الإجماليّ.

(٢) توضيح ما أفاده ـ على ما قرّبه تلميذه المحقّق الاصفهانيّ على نحو الإجمال في نهاية الدراية ٢ : ٥٧٥ ـ ٥٧٦ ـ : أنّ التكليف المعلوم بالإجمال على قسمين :

القسم الأوّل : أن يكون تامّ الفعليّة من جميع الجهات ، بأن يكون واجدا لما هو العلّة التامّة للبعث أو الزجر الفعليّ ، ولو كان التكليف مردّدا بين أطراف ، وهو فيما إذا كان استيفاء الغرض الداعي إلى الحكم متعلّقا لإرادة المولى على كلّ تقدير ، بحيث لا يرضى بفواته أصلا ، سواء علم به المكلّف تفصيلا ـ لوصول الخطاب إليه ولو تصادفا ـ أو علم إجمالا. فحينئذ لا يمنع عن فعليّة التكليف إلّا الجهل به ، وهو يرتفع بمجرّد العلم به ، فإنّ العلم يكشف عن الواقع ويرتفع العذر الجهليّ ، فيستحقّ العقوبة على مخالفته. ولا فرق حينئذ بين العلم الإجماليّ والتفصيليّ ، لعدم الفرق في انكشاف الواقع وارتفاع العذر الجهليّ بهما ، غاية الأمر أنّ حكم العقل بإتيان جميع الأطراف احتياط فيما إذا علم به إجمالا ، وحكم بإتيان المأمور به فيما إذا علم به تفصيلا.

وحينئذ لو فرض أنّ ما دلّ بعمومه على الترخيص ونفي التكليف ـ كحديث الرفع ـ يشمل أطراف العلم الإجماليّ فلا بدّ من تخصيصها بما نحن فيه ، لحكم العقل بمناقضته مع كون الحكم فعليّا من جميع الجهات ، ضرورة أنّه يقتضي لزوم موافقته على كلّ تقدير ، والترخيص يقتضي عدم لزومها ، وهذا هو التناقض المستحيل.

القسم الثاني : أن لا يكون تامّ الفعليّة من جميع الجهات ، بأن لا يكون الغرض الداعي إلى الحكم بمثابة تتعلّق إرادة المولى باستيفائه على كلّ حال ، بل يكون متعلّقا لإرادة المولى إذا وصل الخطاب إليه تفصيلا ولو من باب الاتّفاق. وحينئذ يعتبر في تنجّزه العلم التفصيليّ بالحكم. وأمّا الحكم المعلوم بالعلم الإجماليّ وإن كان بمرتبة من الفعليّة إلّا أنّ المعلوم به ليس متعلّقا لإرادة المولى ، فلا يكون متنجّزا ولا يستحقّ العقوبة على مخالفته.

ومن هنا يظهر امور :

الأوّل : أنّه لو احرز كون الحكم المعلوم بالإجمال من القسم الأوّل فيجب موافقته برعاية الاحتياط ، ولا يمكن جعل الحكم الظاهريّ ـ أي البراءة ـ في بعض الأطراف أو جميعها ، لكونه تامّ الفعليّة. ولو احرز كونه من القسم الثاني فلا يجب موافقته ، بل يمكن جعل الحكم الظاهريّ ـ أي الترخيص ـ في بعض الأطراف أو في جميعها.

الثاني : أنّ العلم الإجماليّ بمثابة العلم التفصيليّ في إمكان انكشاف الواقع به ، غاية ـ

٩٧

[وجوب موافقة المعلوم التامّ الفعليّة مطلقا]

ثمّ إنّ الظاهر أنّه لو فرض أنّ المعلوم بالإجمال كان فعليّا من جميع الجهات

__________________

ـ الأمر أنّ الحكم الواقعيّ المعلوم بالعلم التفصيليّ تامّ الفعليّة إذا كان فعليّا من سائر الجهات. بخلاف المعلوم بالعلم الإجماليّ ، فإنّه يصير تامّ الفعليّة إذا كان فعليّا من سائر الجهات واحرز كونه من القسم الأوّل من الأحكام الفعليّة.

وتعبير آخر : إنّ كلّا من العلم التفصيليّ والإجماليّ يقتضي التنجّز والفعليّة التامّة ، غاية الأمر أنّ العلم التفصيليّ يوجب التنجّز والفعليّة التامّة بمجرّد كون الحكم فعليّا من سائر الجهات ، والعلم الإجماليّ لا يوجبه كذلك ، بل انّما يوجبه بعد كون الحكم فعليّا من سائر الجهات وإحراز كونه من قبيل القسم الأوّل.

الثالث : أنّ المعلوم بالتفصيل والمعلوم بالإجمال في القسم الأوّل واجدان لما يتمّ به العلّة للبعث أو الزجر الفعليّ إذا كانا فعليّين من سائر الجهات ، بخلاف العلم الإجماليّ في القسم الثاني ، فإنّه لم يكن واجدا لما يتمّ به العلّة للبعث أو الزجر الفعليّ ، كما مرّ.

ومن هنا ينقدح دفع ما توهّمه العلّامة المحشّي المشكينيّ وبعض آخر ، من أنّ كلام المصنّف قدس‌سره هاهنا : «بأن يكون واجدا لما هو العلّة التامّة للبعث» ظاهر في أنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة للتنجيز كالعلم التفصيليّ. وهذا ينافي ما تقدّم منه في مباحث القطع من أنّ العلم الإجماليّ مقتض للتنجيز ، لا أنّه علّة تامّة للتنجيز. راجع حواشي المشكينيّ على الكفاية ٤ : ١٦٩ ، وعناية الاصول ٤ : ١٤٧ ـ ١٤٨.

والوجه في في دفعه ما مرّ من أنّ مراد المصنّف قدس‌سره من كلامه هاهنا أنّ المعلوم بالإجمال إذا احرز كونه من القسم الأوّل وكان فعليّا من سائر الجهات يصير واجدا لما يتمّ به العلّة للبعث أو الزجر الفعليّ ، فيصير العلم الإجماليّ علّة للتنجّز بعد إحراز أمرين : (أحدهما) أن يكون الحكم المعلوم به فعليّا من سائر الجهات. (ثانيهما) أن يحرز كونه من القسم الأوّل. وهذا لا ينافي كون العلم الإجماليّ في نفسه مقتضيا للتنجّز.

هذا ما أردناه من توضيح كلام المصنّف قدس‌سره حول منجّزيّة العلم الإجماليّ. وقد ذكرنا آراء الأعلام الثلاثة وبعض من تأخّر عنهم حول منجّزيّته في مباحث القطع ، فراجع الجزء الثاني : ٢٦٧ التعليقة (٤).

وأمّا تفصيل البحث عن هذا المطلب فيحتاج إلى ذكر أبحاث كثيرة أخر وبيان آراء الأعلام والنقض والإبرام ، وتركناها خوفا من التطويل المملّ ، فنحيل المحقّقين من الطلاب إلى نهاية الأفكار ٣ : ٢٩٧ ـ ٣٦٦ ، نهاية الدراية ٢ : ٩٢ ـ ١٠٦ و ٥٧٥ ـ ٥٧٦ ، فوائد الاصول ٣ : ٦٥ ـ ٧٤ وغيرها من المطوّلات.

٩٨

لوجب عقلا موافقته مطلقا ، ولو كانت أطرافه غير محصورة.

وإنّما التفاوت بين المحصورة وغيرها هو أنّ عدم الحصر ربما يلازم ما يمنع عن فعليّة المعلوم (١) مع كونه فعليّا لولاه (٢) من سائر الجهات.

وبالجملة : لا يكاد يرى العقل تفاوتا بين المحصورة وغيرها في التنجّز وعدمه فيما كان المعلوم إجمالا فعليّا يبعث المولى نحوه فعلا أو يزجر عنه كذلك مع ما هو عليه من كثرة أطرافه.

والحاصل : أنّ اختلاف الأطراف في الحصر وعدمه لا يوجب تفاوتا في ناحية العلم. ولو أوجب تفاوتا فإنّما هو في ناحية المعلوم في فعليّة البعث أو الزجر مع الحصر وعدمها مع عدمه (٣) ؛ فلا يكاد يختلف العلم الإجماليّ باختلاف الأطراف قلّة وكثرة في التنجيز وعدمه ما لم يختلف المعلوم في الفعليّة وعدمها بذلك ؛ وقد عرفت آنفا أنّه لا تفاوت بين التفصيليّ والإجماليّ في ذلك (٤) ما لم يكن تفاوت في طرف المعلوم أيضا (٥) ، فتأمّل تعرف (٦).

وقد انقدح : أنّه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعيّة مع حرمة مخالفتها (٧) ، ضرورة أنّ التكليف المعلوم إجمالا لو كان فعليّا لوجبت موافقته

__________________

(١) كما أنّ عدم الحصر قد يلازم الخروج عن الابتلاء أو الاضطرار إلى ارتكابه ، وهما مانعان عن صيرورة الحكم المعلوم بالإجمال تامّ الفعليّة.

(٢) أي : لو لا ما يلزمه عدم الحصر من المانع عن فعليّة المعلوم ، كالخروج عن محلّ الابتلاء ونحوه.

(٣) وفي بعض النسخ : «وعدمهما مع عدمه». والصحيح ما أثبتناه.

(٤) أي : في التنجيز.

(٥) هكذا في النسخ. والظاهر زيادة كلمة «أيضا».

(٦) لا يخفى عليك : أنّ ما أفاده في المقام تعريض بالشيخ الأعظم الأنصاريّ ، حيث فصّل بين الشبهة المحصورة وغير المحصورة ، فذهب إلى تنجيز العلم الإجماليّ ولزوم رعاية الاحتياط في الاولى وعدم تنجيزه في الثانية ، بل نقل الإجماع عليه. راجع فرائد الاصول ٢ : ٢٥٧.

(٧) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «مع حرمة المخالفة القطعيّة».

٩٩

قطعا (١) ، وإلّا لم تحرم مخالفته كذلك أيضا (٢).

ومنه (٣) ظهر : أنّه لو لم يعلم فعليّة التكليف مع العلم به إجمالا ـ إمّا من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه (٤) ، أو من جهة الاضطرار إلى بعضها معيّنا أو

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «لوجب موافقته قطعا». والأولى ما أثبتناه.

(٢) ولعلّ هذا الكلام أيضا تعريض بالشيخ الأعظم ، حيث اختار جواز ترك الموافقة الفعليّة بدعوى أنّ للشارع أن يقنع بالموافقة الاحتماليّة وأن يرخّص في بعض أطراف الشبهة بعد جعل البدل ـ كما في فرائد الاصول ٢ : ٢٠٤ ـ أو بدون جعل البدل ـ كما نقله المحقّق الآشتيانيّ في بحر الفوائد ٢ : ٨٨ ـ ٨٩ ـ.

وتوضيح المقام يتوقّف على بيان ما أفاده الشيخ الأعظم أوّلا ، وإيراد المصنّف قدس‌سره عليه ثانيا.

أمّا الشيخ الأعظم : فحاصل ما أفاده أنّ للشارع أن يكتفي في مقام الامتثال بترك أحد الطرفين ، بأن يجعل الطرف الآخر بدلا عن الحرام الواقعيّ إذا كان ما ارتكبه نفس المحرّم الواقعيّ المعلوم بالإجمال ، فله أن يقول للعبد : «إنّني أقنع منك بترك بعض الأطراف وأبيح لك الأطراف الأخر». وعليه فيجوز ترك الموافقة القطعيّة والاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة في بعض موارد العلم الإجماليّ. هذا ما يظهر من كلامه في فرائد الاصول ٢ : ٢٠٤.

ونقل المحقّق الآشتيانيّ عن الشيخ أنّه اختار في مجلس درسه جواز ترخيص الشارع في بعض الأطراف من دون جعل بدل. راجع بحر الفوائد ٢ : ٨٨ ـ ٨٩.

وأمّا المصنّف قدس‌سره : فأورد عليه بأنّه لا تنفكّ حرمة المخالفة القطعيّة عن وجوب الموافقة القطعيّة ، ضرورة أنّه إذا كان الحكم الواقعيّ المعلوم بالإجمال فعليّا من جميع الجهات ـ بحيث تتعلّق إرادة المولى به على كلّ تقدير ـ يمتنع جعل الحكم الظاهريّ على خلافه في تمام الأطراف أو في بعضها ، فتجب موافقته كما تحرم مخالفته. وإذا لم يكن فعليّا من جميع الجهات فلا مانع من جعل الحكم الظاهريّ على خلافه في بعض الأطراف أو في جميعها ، فجازت مخالفته القطعيّة ولم تجب موافقته كذلك.

وأورد على جعل البدل كثير من المتأخّرين ، منهم المحقّق العراقيّ والمحقّق الاصفهانيّ والسيّد الإمام الخمينيّ. فراجع نهاية الأفكار ٣ : ٣١٣ ـ ٣١٤ ، مقالات الاصول ٢ : ٢٣٨ ـ ٢٣٩ ، نهاية الدراية ٢ : ٥٨٦ ـ ٥٨٧ ، أنوار الهداية ٢ : ٣٠٦.

(٣) أي : ممّا ذكرنا من أنّ المناط في وجوب الموافقة القطعيّة بالاحتياط في أطراف العلم الإجماليّ هو كون المعلوم بالإجمال تامّ الفعليّة ، سواء كانت أطرافه محصورة أو غير محصورة.

(٤) كما إذا علم بحرمة إحدى الامرأتين ، إحداهما في بلده وثانيتهما في أقصى بلاد الدنيا مع عدم ابتلائه بها عادة.

١٠٠