كفاية الأصول - ج ٣

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-562-2
الصفحات: ٤٤٣

يلتزم به القائل بالحكومة ، فافهم ، فإنّ المقام لا يخلو من دقّة.

وأمّا التوفيق : فإن كان بما ذكرنا (١) فنعم الاتّفاق ، وإن كان بتخصيص دليله بدليلها فلا وجه له ، لما عرفت (٢) من أنّه لا يكون مع الأخذ به (٣) نقض يقين بشكّ ، لا أنّه (٤) غير منهيّ عنه مع كونه من نقض اليقين بالشكّ (٥).

خاتمة

[في بيان النسبة بين الاستصحاب وسائر الاصول

وبيان حكم التعارض بين الاستصحابين]

لا بأس ببيان النسبة بين الاستصحاب وسائر الاصول العمليّة ، وبيان التعارض بين الاستصحابين.

أمّا الأوّل : فالنسبة بينه وبينها هي بعينها النسبة بين الأمارة وبينه ، فيقدّم عليها ، ولا مورد معه لها ، للزوم محذور التخصيص إلّا بوجه دائر في العكس وعدم محذور فيه أصلا ، هذا في النقليّة منها.

وأمّا العقليّة : فلا يكاد يشتبه وجه تقديمه عليها ، بداهة عدم الموضوع معه لها ، ضرورة أنّه إتمام حجّة وبيان ومؤمّن من العقوبة وبه الأمان ، ولا شبهة في أنّ الترجيح به عقلا صحيح.

__________________

(١) أي : الورود.

ولا يخفى : أنّ إطلاق التوفيق العرفيّ على الورود لا يخلو من مسامحة.

(٢) حيث قال : «والتحقيق أنّه للورود».

(٣) أي : بدليل الأمارة.

(٤) أي : الأخذ بدليل الأمارة.

(٥) والحاصل : إن اريد بالتوفيق تخصيص دليل الاستصحاب بدليل الأمارة فلا وجه للتخصيص ، لعدم انطباق ضابط التخصيص هاهنا ، لأنّ ضابط التخصيص هو إخراج فرد من أفراد العامّ حكما مع كونه باقيا في العامّ موضوعا ؛ وفي المقام يكون دليل الأمارة رافعا لموضوع الاستصحاب ـ وهو نقض اليقين بالشكّ ـ ، لا رافعا لحكمه ـ أي النهي عنه ـ مع بقاء موضوعه.

٢٨١

وأمّا الثاني : فالتعارض بين الاستصحابين إن كان لعدم إمكان العمل بهما بدون علم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ـ كاستصحاب وجوب أمرين حدث بينهما التضادّ في زمان الاستصحاب ـ فهو من باب تزاحم الواجبين (١).

وإن كان مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ، فتارة يكون المستصحب في أحدهما من الآثار الشرعيّة لمستصحب الآخر ، فيكون الشكّ فيه مسبّبا عن الشكّ فيه ، كالشكّ في نجاسة الثوب المغسول بماء مشكوك الطهارة وقد كان طاهرا ، واخرى لا يكون كذلك ؛ فإن كان أحدهما أثرا للآخر ، فلا مورد إلّا للاستصحاب في طرف السبب ، فإنّ الاستصحاب في طرف المسبّب موجب لتخصيص الخطاب (٢) وجواز نقض اليقين بالشكّ في طرف السبب بعدم ترتيب أثره الشرعيّ ، فإنّ من آثار طهارة الماء طهارة الثوب المغسول به ورفع نجاسته ، فاستصحاب نجاسة الثوب نقض لليقين بطهارته ؛ بخلاف استصحاب طهارته ، إذ لا يلزم منه نقض يقين بنجاسة الثوب بالشكّ ، بل باليقين بما هو رافع لنجاسته ، وهو غسله بالماء المحكوم شرعا بطهارته.

وبالجملة : فكلّ من السبب والمسبّب وإن كان موردا للاستصحاب ، إلّا أنّ الاستصحاب في الأوّل بلا محذور ، بخلافه في الثاني ، ففيه محذور التخصيص بلا وجه إلّا بنحو محال ؛ فاللازم الأخذ بالاستصحاب السببيّ (٣).

__________________

(١) فيتخيّر بينهما إن لم يكن أحد المستصحبين أهمّ ، وإلّا فيتعيّن الأخذ بالأهمّ. ولا مجال لتوهّم أنّه لا يكاد يكون هناك أهمّ ، لأجل أنّ إيجابهما إنّما يكون من باب واحد ، وهو استصحابهما من دون مزيّة في أحدهما أصلا كما لا يخفى. وذلك لأنّ الاستصحاب إنّما يتبع المستصحب. فكما يثبت به الوجوب والاستحباب يثبت به كلّ مرتبة منهما فتستصحب ، فلا تغفل ، منه [أعلى الله مقامه].

(٢) أي : خطاب «لا تنقض اليقين بالشكّ».

(٣) وسرّ ذلك أنّ رفع اليد عن اليقين في مورد السبب يكون فردا لخطاب «لا تنقض اليقين» ونقضا لليقين بالشكّ مطلقا بلا شكّ ، بخلاف رفع اليد عن اليقين في مورد المسبّب ، فإنّه إنّما يكون فردا له إذا لم يكن حكم حرمة النقض يعمّ النقض في مورد السبب ، وإلّا لم يكن بفرد له ، إذ حينئذ يكون من نقض اليقين باليقين ، ضرورة أنّه يكون رفع اليد عن نجاسة الثوب ـ

٢٨٢

نعم ، لو لم يجر هذا الاستصحاب بوجه (١) لكان الاستصحاب المسبّبيّ جاريا ، فإنّه لا محذور فيه حينئذ مع وجود أركانه وعموم خطابه.

و (٢) إن لم يكن المستصحب في أحدهما من الآثار للآخر فالأظهر جريانهما فيما لم يلزم منه محذور المخالفة القطعيّة للتكليف الفعليّ المعلوم إجمالا (٣) ،

__________________

ـ المغسول بماء محكوم بالطهارة شرعا باستصحاب طهارته لليقين بأنّ كلّ ثوب نجس يغسل بماء كذلك يصير طاهرا شرعا.

وبالجملة : من الواضح لمن له أدنى تأمّل أنّ اللازم في كلّ مقام كان للعامّ فرد مطلق وفرد كان فرديّته له معلّقة على عدم شمول حكمه لذاك الفرد المطلق ـ كما في المقام ـ أو كان هناك عامّان كان لأحدهما فرد مطلق وللآخر فرد كانت فرديّته معلّقة على عدم شمول حكم ذاك العامّ لفرده المطلق ـ كما هو الحال في الطرق في مورد الاستصحاب ـ هو الالتزام بشمول حكم العامّ لفرده المطلق ، حيث لا مخصّص له ، ومعه لا يكون فرد آخر يعمّه أو لا يعمّه. ولا مجال لأن يلتزم بعدم شمول حكم العامّ للفرد المطلق ليشمل حكمه لهذا الفرد ، فإنّه يستلزم التخصيص بلا وجه أو بوجه دائر ، كما لا يخفى على ذوي البصائر. منه [أعلى الله مقامه].

(١) كابتلائه بمعارض ، كما إذا كان هناك ماءان طاهران ، ثمّ تنجّس أحدهما إجمالا ، فإذا غسل الثوب المتنجّس بأحد الماءين كان استصحاب نجاسة الثوب ـ الّذي هو استصحاب مسبّبيّ ـ جاريا ، ولا يجري استصحاب طهارة الماء ـ الّذي هو استصحاب سببيّ ـ ، لكونه معارضا بالاستصحاب في الإناء المشتبه الآخر.

(٢) وفي النسخة الأصليّة سقط متن الكتاب من هنا إلى المقصد الثامن.

(٣) توضيح ذلك : أنّه إن لم يكن الشكّ في مورد أحد الاستصحابين مسبّبا عن الشكّ في مورد الآخر ، فهو على قسمين :

أحدهما : ما يلزم من جريان الاستصحاب في الطرفين محذور المخالفة العمليّة القطعيّة ، كما إذا علمنا بطهارة إناءين ، ثمّ علمنا بطروء النجاسة على أحدهما إجمالا ، فحينئذ يكون إجراء استصحاب الطهارة في الإناءين موجبا للمخالفة العمليّة القطعيّة. وهو الترخيص في المعصية ، وهو قبيح ، ففي مثل ذلك لا يجري الاستصحاب.

ثانيهما : ما لا يلزم من جريان الاستصحاب في الطرفين محذور المخالفة العمليّة القطعيّة ، وإن تلزم المخالفة الالتزاميّة ، كما إذا علمنا بنجاسة إناءين تفصيلا ، ثمّ علمنا بطهارة أحدهما إجمالا ، فحينئذ لا تلزم من إجراء استصحاب النجاسة في كليهما والاجتناب عنهما مخالفة عمليّة.

٢٨٣

لوجود المقتضي (١) إثباتا وفقد المانع (٢) عقلا.

أمّا وجود المقتضي : فلإطلاق الخطاب (٣) وشموله للاستصحاب في أطراف المعلوم بالإجمال ، فإنّ قوله عليه‌السلام ـ في ذيل بعض أخبار الباب (٤) ـ :«ولكن تنقض اليقين باليقين» لو سلّم أنّه يمنع عن شمول قوله عليه‌السلام ـ في صدره ـ : «لا تنقض اليقين بالشكّ» لليقين والشكّ في أطرافه (٥) ، للزوم المناقضة في مدلوله ، ضرورة المناقضة بين السلب الكلّيّ والإيجاب الجزئيّ (٦) ، إلّا أنّه

__________________

ـ ذهب الشيخ الأعظم الأنصاريّ في القسم الثاني إلى عدم جريان الاستصحاب فيهما. فرائد الاصول ٣ : ٤٠٧.

وتبعه المحقّق النائينيّ والمحقّق العراقيّ. راجع فوائد الاصول ٤ : ٦٩٣ ، وأجود التقريرات ٢ : ٤٩٩ ، نهاية الأفكار ٤ (القسم الثاني) : ١١٨ ـ ١١٩.

وذهب المصنّف رحمه‌الله إلى جريانهما ، لوجود المقتضي إثباتا وفقد المانع عقلا. وتبعه السيّد الخوئيّ والمحقّق الايروانيّ. راجع الهداية في الاصول ٤ : ٢٢٠ ، نهاية النهاية ٢ : ٢٣٢.

(١) وهو دلالة الدليل الدالّ على حجّيّة الاستصحاب ، كما سيأتي تفصيله.

(٢) وهو لزوم المعصية والمخالفة العمليّة.

(٣) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «فلعموم الخطاب».

(٤) كصحيحة زرارة الاولى.

(٥) أي : في أطراف العلم الإجماليّ.

(٦) هذا ما استدلّ به الشيخ الأعظم الأنصاريّ على عدم جريان الاستصحابين. حاصله : دعوى إجمال دليل الاستصحاب بالنسبة إلى المقام. وتوضيحه : أنّ مقتضى إطلاق الشكّ في قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» ـ في صحيحة زرارة الاولى ـ هو شموله للشكّ المقرون بالعلم الإجماليّ وجريان الاستصحاب في الطرفين في المقام. ومقتضى إطلاق اليقين في قوله عليه‌السلام : «ولكن تنقضه بيقين آخر» هو شموله للعلم الإجماليّ وعدم جريان الاستصحاب في أحد الطرفين. فيكون مقتضى الإطلاق الأوّل هو الإيجاب الكلّيّ ـ أي جريان الاستصحاب في الطرفين ـ ومقتضى الإطلاق الثاني هو السلب الجزئيّ ـ أي عدم جريان أحدهما ـ ، ومن المعلوم أنّ السلب الجزئيّ مناقض للإيجاب الكلّيّ ، فلا يمكن الأخذ بكلا الطرفين ، ولا بأحدهما ، حيث لا قرينة على تعيين الأخذ بأحدهما ، فيصير الدليل مجملا ولا يمكن التمسّك به لجريان الاستصحاب في المقام. فرائد الاصول ٣ : ٤٠٧ ـ ٤١٠.

٢٨٤

لا يمنع عن عموم النهي في سائر الأخبار (١) ـ ممّا ليس فيه الذيل ـ وشموله لما في أطرافه ، فإنّ إجمال ذاك الخطاب لذلك لا يكاد يسري إلى غيره ممّا ليس فيه ذلك.

وأمّا فقد المانع : فلأجل أنّ جريان الاستصحاب في الأطراف لا يوجب إلّا المخالفة الالتزاميّة ، وهو ليس بمحذور ، لا شرعا ولا عقلا.

ومنه قد انقدح عدم جريانه في أطراف العلم بالتكليف فعلا (٢) أصلا ، ولو في بعضها ، لوجوب الموافقة القطعيّة له عقلا ، ففي جريانه لا محالة يكون محذور المخالفة القطعيّة أو الاحتماليّة ، كما لا يخفى.

تذنيب

[في بيان حكم تعارض الاستصحاب مع القواعد الفقهيّة]

لا يخفى : أنّ مثل قاعدة التجاوز في حال الاشتغال بالعمل وقاعدة الفراغ بعد الفراغ عنه وأصالة صحّة عمل الغير ، إلى غير ذلك من القواعد المقرّرة في الشبهات

__________________

(١) وأجاب عنه المصنّف رحمه‌الله بوجهين.

أحدهما : ما أشار إليه بقوله : «لو سلّم ...». وحاصله : أنّ الظاهر كون المراد من اليقين في قوله عليه‌السلام : «ولكن تنقضه بيقين آخر» هو خصوص اليقين التفصيليّ ، فلا يشمل اليقين الإجماليّ ، وحينئذ لا مانع من التمسّك بإطلاق الشكّ في قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» وجريان الاستصحاب في الطرفين.

ثانيهما : ما أشار إليه بقوله : «إلّا أنّه لا يمنع ...». وحاصله : أنّ هذا الذيل ـ «ولكن تنقضه بيقين آخر» ـ ليس موجودا في جميع أدلّة الاستصحاب ، بل ليس في صحيحة زرارة الثانية وصحيحته الثالثة ورواية محمّد بن مسلم وغيرها ، فيكون إطلاق الشكّ فيها شاملا للشكّ المقرون بالعلم الإجماليّ ويجوز التمسّك بعموم النهي عن نقض اليقين بالشكّ وجريان الاستصحاب في المقام ، ضرورة أنّ إجمال الدليل الموجود في الصحيحة الاولى المذيّلة بقوله عليه‌السلام : «ولكن تنقضه بيقين آخر» لا يسري إلى غيرها ممّا ليس فيه ذلك الذيل.

(٢) أي : ممّا ذكرنا ـ من أنّ المانع من جريان الاستصحاب هو المخالفة العمليّة ـ يظهر عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجماليّ فيما كان المعلوم بالإجمال حكما فعليّا.

٢٨٥

الموضوعيّة ـ إلّا القرعة ـ تكون مقدّمة على استصحاباتها المقتضية لفساد ما شكّ فيه من الموضوعات (١) ، لتخصيص دليلها بأدلّتها.

وكون النسبة بينه وبين بعضها (٢) عموما من وجه لا يمنع عن تخصيصه بها (٣) بعد الإجماع على عدم التفصيل بين مواردها ؛ مع لزوم قلّة المورد لها جدّا لو قيل بتخصيصها بدليلها (٤) ، إذ قلّ مورد منها لم يكن هناك استصحاب على خلافها (٥) ، كما لا يخفى.

وأمّا القرعة : فالاستصحاب في موردها يقدّم عليها ، لأخصّيّة دليله من دليلها (٦) ، لاعتبار سبق الحالة السابقة فيه دونها. واختصاصها بغير الأحكام

__________________

(١) كما إذا شكّ في الركوع بعد الدخول في السجود ، فحينئذ كان مقتضى الاستصحاب الحكم بعدم الركوع وفساد المأتي به ، ويكون مقتضى قاعدة التجاوز الحكم بإتيان الركوع وصحّة المأتي به.

(٢) أي : بين الاستصحاب وبعض القواعد.

(٣) أي : تخصيص عموم الاستصحاب بتلك القواعد.

(٤) أي : لو قيل بتخصيص أدلّة القواعد بدليل تلك الاستصحابات المقتضية لفساد ما شكّ فيه من الموضوعات.

(٥) وقد يذكر موردان من موارد العمل بالقاعدة لم يكن الاستصحاب فيهما مخالفا لها :

الأوّل : ما إذا كان لشيء حالتان متضادّتان وشكّ في المتقدّمة والمتأخّرة منهما بعد الفراغ عن العمل ، كما إذا كان زيد محدثا ومتوضّأ قبل الصلاة ، وبعد الفراغ منها شكّ في تقدّم الحدث على الوضوء وتأخّره عنه ، فحينئذ يحكم بصحّة الصلاة لقاعدة الفراغ ، ولا مجال لجريان الاستصحاب ، لعدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين.

الثاني : ما إذا كان الاستصحاب مطابقا للقاعدة ، كما إذا شكّ بعد الفراغ من الصلاة في طروء مانع من موانع الصلاة حين الاشتغال بها ، فإنّ استصحاب عدم طروء المانع موافق لقاعدة الفراغ.

(٦) وهو الأخبار العامّة.

منها : قوله عليه‌السلام : «كلّ مجهول ففيه القرعة». وسائل الشيعة ١٨ : ١٨٩ ، الباب ١٣ من أبواب كيفيّة الحكم ، الحديث ١١.

ومنها : قوله عليه‌السلام : «القرعة سنّة». وسائل الشيعة ١٨ : ١٧٨ ، الباب ١٣ من أبواب كيفيّة الحكم ، الحديث ٢.

٢٨٦

إجماعا لا يوجب الخصوصيّة في دليلها بعد عموم لفظها لها ، هذا.

مضافا إلى وهن دليلها بكثرة تخصيصه حتّى صار العمل به في مورد محتاجا إلى الجبر بعمل المعظم ـ كما قيل (١) ـ وقوّة دليله بقلّة تخصيصه بخصوص دليل.

لا يقال : كيف يجوز تخصيص دليلها بدليله وقد كان دليلها رافعا لموضوع دليله (٢) ، لا لحكمه (٣) ، وموجبا لكون نقض اليقين باليقين بالحجّة على خلافه ، كما هو الحال بينه وبين أدلّة سائر الأمارات ، فيكون هاهنا أيضا من دوران الأمر بين التخصيص بلا وجه غير دائر (٤) والتخصّص.

فإنّه يقال : ليس الأمر كذلك ، فإنّ المشكوك ممّا كانت له حالة سابقة ، وإن كان من المشكل والمجهول والمشتبه بعنوانه الواقعيّ ، إلّا أنّه ليس منها بعنوان ما طرأ عليه من نقض اليقين بالشكّ ، والظاهر من دليل القرعة أن يكون منها بقول مطلق لا في الجملة ، فدليل الاستصحاب الدالّ على حرمة النقض الصادق عليه حقيقة رافع لموضوعه أيضا ، فافهم ، فلا بأس برفع اليد عن دليلها عند دوران الأمر بينه وبين رفع اليد عن دليله ، لوهن عمومها وقوّة عمومه (٥) ، كما أشرنا إليه آنفا.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وصلّى الله على محمّد وآله باطنا وظاهرا.

__________________

(١) راجع الفصول الغرويّة : ٣٦٢ ، وفرائد الاصول ٣ : ٣٨٦.

(٢) لأنّ الظاهر من أدلّة القرعة أنّها أمارة ، وقد ثبت أنّ الأمارة رافعة للشكّ الّذي هو موضوع الاصول.

(٣) أي : لا لحكم الاستصحاب مع بقاء موضوعه كي يبقى المجال لتعارضهما.

(٤) أي : بين التخصيص بلا وجه إلّا على وجه دائر ، فإنّ مخصّصيّة دليل الاستصحاب ـ والمفروض أنّه من الاصول ـ لدليل القرعة ـ الّتي هي الأمارة ـ موقوفة على اعتباره ، وهو موقوف على مخصّصيّته ، وهذا دور.

(٥) أي : لوهن عموم أدلّة القرعة وقوّة عموم دليل الاستصحاب.

٢٨٧
٢٨٨

المقصد الثامن (١)

في تعارض الأدلّة والأمارات (٢)

[وفيه فصول :]

__________________

(١) لا يخفى : أنّ المصنّف رحمه‌الله جعل مباحث التعارض من مقاصد علم الاصول ، لا خاتمة مباحثه. والوجه في ذلك أنّ مباحث التعارض من أهمّ المسائل الاصوليّة. كيف والبحث عنها في الواقع بحث عن فقد المانع عن حجّيّة الأخبار بعد وجود المقتضي لحجّيّتها ، فلا وجه لجعل مباحث التعارض خاتمة لعلم الاصول ، كما صنعه بعض المتقدّمين بل بعض المتأخّرين ، فراجع الفصول الغرويّة : ٤٣٥ ، ومعالم الدين : ٢٥٠ ، وفرائد الاصول ٤ : ٧ ، ومفاتيح الاصول :٦٧٩ ، وفوائد الاصول ٤ : ٦٩٩ ، ومنتهى الاصول ٢ : ٥٥ ، ونهاية الأفكار ٤ «القسم الثاني» : ١٢٤.

(٢) ولا يخفى : أنّهم ذكروا في عنوان المسألة عبارات مختلفة ، فقد يقال : «التعادل والترجيح» ، كما في معالم الدين : ٢٦٦ ، وإرشاد الفحول : ٢٧٣. وقد يقال : «التعادل والتراجيح» ، كما في فرائد الاصول ٤ : ٧ ، وبحر الفوائد ٤ : ٢ ، ونهاية السئول ٤ : ٤٣٢. وقد يقال : «الترجيح في الأخبار» كما في مبادئ الوصول : ٢٢٩. وقد يقال : «التراجيح بين الأخبار» كما في معارج الاصول : ١٥٤.

وعدل المصنّف رحمه‌الله عن هذه العناوين بقوله : «في تعارض الأدلّة والأمارات». والظاهر أنّ هذا العنوان أولى من تلك العناوين ، قال المحقّق النائيني : «والأولى تبديل العنوان بالتعارض ، فإنّ التعادل والترجيح من الأوصاف والحالات اللاحقة للدليلين المتعارضين ، فكان الأنسب جعل العنوان للمتعمّم والجامع بينهما». فوائد الاصول ٤ : ٦٩٩.

٢٨٩
٢٩٠

فصل

[بيان ضابط التعارض]

[المختار في تعريف التعارض]

التعارض هو : «تنافي الدليلين أو الأدلّة بحسب الدلالة ومقام الإثبات على وجه التناقض أو التضادّ حقيقة أو عرضا بأن علم بكذب أحدهما إجمالا مع عدم امتناع اجتماعهما أصلا» (١).

__________________

(١) لا يخفى : أنّ التحقيق حول ما أفاد المصنّف رحمه‌الله فى بيان ضابط التعارض متوقّف على بيان امور :

الأمر الأوّل : في كلمات الأصحاب في بيان ضابط التعارض ، وهي مختلفة :

منها : أنّ التعارض عبارة عن تنافي المدلولين. وهذا ما ذهب إليه المشهور على ما يظهر من فرائد الاصول ٤ : ١١ ، بل هو صريح نهاية الأفكار ٤ : ١٢٤.

واختاره أيضا كثير من المعاصرين ، وأضاف إليه بعضهم قيد «على وجه التناقض» ، وبعض آخر منهم قيد «على وجه لا يمكن اجتماعهما». راجع فوائد الاصول ٤ : ٧٠٠ ، درر الفوائد (للمحقّق الحائريّ) ٢ : ٢٦٢ ، مصباح الاصول ٣ : ٣٤٦ ، المحاضرات ٣ : ٢٢٣ ، الرسائل (للإمام الخمينيّ) ٢ : ٥.

ومنها : أنّ التعارض هو تنافي الدليلين باعتبار تنافي مدلوليهما. فالتنافي أوّلا وبالذات بين المدلولين ، وينسب إلى الدليلين ثانيا وبالعرض. وهذا ما يظهر من الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٤ : ١١.

وفيهما : أنّ التعارض عبارة عن تنافي الدليلين أو الأدلّة بلحاظ مقام الإثبات والدلالة ، لا بلحاظ مدلولها. وهذا ما ذهب إليه المصنّف رحمه‌الله وسيأتي توضيحه.

الأمر الثاني : في توضيح ما أفاده المصنّف رحمه‌الله في تعريف التعارض. وهو متفرّع على ـ

٢٩١

__________________

ـ بيان مفرداته.

أحدها : قوله : «تنافي» ، وهو بمعنى الطرد والدفع.

ثانيها : قوله : «دليلين أو الأدلّة» ، ومعناه : كون كلّ واحد من الدليلين أو الأدلّة طاردا للدليل الآخر ومكذّبا له.

ثالثها : قوله : «بحسب الدلالة ومقام الإثبات». ومراده من الدلالة والإثبات هو الحجّيّة ، فيكون التعارض عبارة عن أن يكون كلّ واحد من الدليلين أو الأدلّة طاردا لحجّيّة الدليل الآخر ، بمعنى أنّ كلّا منهما يبطل الآخر ويكذّبه.

رابعها : قوله : «على وجه التناقض أو التضاد». وفي كلامه هذا وجهان :

الأوّل : أن يكون مراده أنّ التنافي في الدلالة قد يكون على وجه التناقض ، كما قد يكون على وجه التضادّ. ولكنّه غير متصوّر ، لأنّ الدلالة من الامور الوجوديّة ، فلا يتصوّر التنافي بين الدلالتين إلّا على وجه التضادّ.

الثاني : أن يكون مراده أنّ التنافي في دلالة الدليلين أو الأدلّة قد يكون ناشئا من تنافي مدلوليهما بنحو التناقض ، كما في دلالة أحدهما على وجوب شيء والآخر على عدم وجوبه ، وقد يكون ناشئا من تنافي مدلوليهما بنحو التضادّ ، كما إذا دلّ أحدهما على وجوب شيء والآخر على استحبابه ـ بناء على تضادّ الوجوب والاستحباب ـ.

والظاهر أنّ الوجه الثاني هو مراد المصنّف رحمه‌الله في المقام.

ويشهد له كلامه في فوائد الاصول : ١٠١ ، حيث قال : «التعارض وإن كان هو تنافي الدليلين بحسب المدلول ، للتناقض أو التضادّ بين المدلولين ، أو العلم بثبوت أحدهما إجمالا».

ويشهد له أيضا كلامه في درر الفوائد : ٤٢٦ ، حيث قال : «ولا ينافي ذلك ـ أي كون التعارض وصفا قائما بنفس الدليلين ـ كون المنشأ تنافي المدلولين ، لسراية التنافي إليهما بما هما دليلان أيضا ، فلا تغفل».

وعليه فلا موجب لتوجيه أخذ التناقض في التعريف بما ذكره المحقّق الاصفهانيّ من أنّه إذا دلّ الخبرين على وجوب شيء والآخر على عدمه فيكونان متناقضين بلحاظ استحقاق العقوبة على الترك وعدم استحقاقه. نهاية الدراية ٣ : ٣١٦ ـ ٣١٧.

خامسها : قوله : «حقيقة أو عرضا ...». ومعناه : أنّ التنافي على وجه التضادّ إمّا حقيقيّ وإمّا عرضيّ. قال المصنّف في درر الفوائد : ٤٢٦ : «حقيقة بأن يمتنع واقعا اجتماعهما ولو بحسب الشرع ، أو علما بأن علم إجمالا كذب أحدهما ، كتعارض دليلي الظهر والجمعة يومها ، والقصر والإتمام في بعض الموارد ، وكذا لو علم إجمالا بكذب أحد الخبرين ولو كان أحدهما ـ

٢٩٢

__________________

ـ في أبواب الطهارات والآخر في الديات».

الأمر الثالث : في بيان الفرق بين التعاريف وبيان وجه عدول المصنّف رحمه‌الله إلى ما في المتن.

فنقول : إنّ الظاهر من كلمات المصنّف في «درر الفوائد» و «فوائد الاصول» أنّه لا فرق بين تعريفه وتعريف الشيخ الأعظم ، فإنّ المستفاد من كلماتهما أنّ التعارض وصف لنفس الدليلين وقائم بهما حقيقة بلا رعاية عناية ، غاية الأمر أنّ منشأ تنافيهما في الحجّيّة هو تمانع مدلوليهما.

وإنّما الكلام في الفارق بين تعريفيهما وتعريف المشهور. وحاصله : أن ظاهر تعريفيهما كون التنافي وصفا لنفس الدليلين من باب وصف الشيء بحال نفسه لا بلحاظ متعلّقه ، غاية الأمر كان منشأ تنافيهما تمانع مدلوليهما ؛ بخلاف تعريف المشهور ، فإنّ ظاهره كون التنافي من صفات نفس المدلولين من باب وصف الشيء بحال نفسه وكونه من صفات الدليلين من باب وصف الشيء بحال متعلّقه.

والفرق بينهما بما ذكر ينتج خروج موارد الحكومات والتوفيقات العرفيّة عن تعريف التعارض بناء على تعريف المصنّف والشيخ ، لعدم تحقّق التنافي بين الدليلين أو الأدلّة في مرحلة الحجّيّة في هذه الموارد ، بداهة أنّ الدليل الحاكم في موارد الحكومات ليس إلّا شارحا للدليل المحكوم ، فلا مانع من شمول دليل حجّيّة خبر الثقة لكلا الدليلين ؛ كما أنّ في موارد التوفيقات العرفيّة يكون الجمع العرفيّ مانعا عن حجّيّة الظاهر في قبال الأظهر وعن حجّيّة الأظهر في قبال النصّ ، وهكذا ، فلا تنافي بينهما في مقام الإثبات والدلالة. وينتج دخول هذه الموارد في تعريف التعارض بناء على تعريف المشهور ، لتحقّق التنافي بين المدلولين أو المداليل في هذه الموارد حينئذ.

وهذا هو العمدة في وجه عدول المصنّف رحمه‌الله عن تعريف المشهور إلى ما في المتن ، فإنّ تعريف المشهور يشمل كلّ دليلين متنافيين مدلولا ، سواء كان بينهما منافاة دلالة وإثباتا أو لم يكن كما في موارد الحكومات والتوفيقات العرفيّة ، وعليه فلا بدّ من إجراء أحكام التعارض ـ من التخيير أو الترجيح ـ في تلك الموارد ، مع أنّ عدم جريانها في هذه الموارد معلوم.

الأمر الرابع : في بعض ما أوردوه على تعريف المصنّف رحمه‌الله ، وهو وجوه :

الأوّل : أنّ غرض المصنّف رحمه‌الله من العدول عن تعريف المشهور هو إخراج موارد الحكومة والجمع العرفيّ عن تعريف التعارض. وهو حاصل بلا حاجة إلى العدول ، لعدم التنافي بين المدلولين في تلك الموارد ، فتكون هذه الموارد خارجة عن التعارض بناء على تعريف المشهور أيضا. فوائد الاصول ٤ : ٧١٠ ـ ٧١٥ ، مصباح الاصول ٣ : ٣٤٧.

الثاني : أنّ تعريف المصنّف رحمه‌الله وإن أخرج موارد الجمع العرفيّ عن موضوع التعارض ، ـ

٢٩٣

[خروج الحكومات والتوفيقات العرفيّة عن التعريف]

وعليه فلا تعارض بينهما بمجرّد تنافي مدلولهما إذا كان بينهما حكومة رافعة للتعارض والخصومة ، بأن يكون أحدهما قد سيق ناظرا إلى بيان كميّة ما اريد من الآخر ، مقدّما كان أو مؤخّرا (١).

أو كانا على نحو إذا عرضا على العرف وفّق بينهما بالتصرّف في خصوص أحدهما ، كما هو مطّرد في مثل الأدلّة المتكفّلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الأوّليّة (٢) مع مثل الأدلّة النافية للعسر (٣) والحرج (٤)

__________________

ـ إلّا أنّه لا وجه لإخراجها عن مقاصد الباب لمحض عدم إعمال المرجّحات السنديّة أو التخيير في مواردها ، ليكون التكلّم في أحكام الجمع وما يتعلّق به في هذا المبحث استطرادا. نهاية الأفكار ٤ (القسم الثاني) : ١٢٥.

الثالث : أنّه لا حاجة إلى ذكر كلمة «التضادّ» في التعريف ، لأنّ التضاد يرجع إلى التناقض باعتبار الدلالة الالتزاميّة ، فإنّ الدليل على الوجوب ينفي الحرمة بالالتزام كما أنّ الدليل على الحرمة ينفي الوجوب بالالتزام ، فيكون أحدهما دالّا على الوجوب بالمطابقة والآخر على عدمه بالالتزام ، وكذا بالنسبة إلى دليل الحرمة. راجع حواشي العلّامة المشكينيّ على الكفاية ٥ : ١١٦ ، ومصباح الاصول ٣ : ٣٤٦.

وفيما ذكروه مناقشات ، يطول شرحها ، ولا يهمّ التعرّض لها الآن ، بل ينافي ما كنا بصدده من الاكتفاء بإيضاح كلمات المصنّف رحمه‌الله والإشارة إلى بعض ما أفاده تلاميذه.

(١) فلا تعارض بين ما يدلّ على أنّ وظيفة الشاكّ في عدد الركعات هو البناء على الأكثر وبين ما دلّ على أنه لا شكّ لكثير الشكّ ، فإنّ الدليل الثاني حاكم على الدليل الأوّل ، لدلالته على أنّ كثير الشكّ ليس بنظر الشارع من أفراد الشكّ.

(٢) كقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) النور / ٥٦ ، وقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) البقرة / ١٨٣ ، وقوله تعالى : (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) آل عمران / ٩٦ ، وقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) الأنعام / ١٢١ ، وغيرها من الآيات الدالّة على ثبوت الأحكام الوجوبيّة أو التحريميّة للموضوعات بعناوينها الأوّليّة.

(٣) كقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) البقرة / ١٨٥.

(٤) كقوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحجّ / ٧٨.

٢٩٤

والضرر (١) والإكراه والاضطرار (٢) ممّا يتكفّل لأحكامها بعناوينها الثانويّة ، حيث يقدّم في مثلهما الأدلّة النافية ، ولا تلاحظ النسبة بينهما أصلا (٣) ، ويتّفق في غيرهما (٤) كما لا يخفى.

أو بالتصرّف فيهما (٥) ، فيكون مجموعهما قرينة على التصرّف فيهما (٦) ، أو في أحدهما المعيّن ولو كان من الآخر أظهر (٧).

__________________

(١) كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار ...» ، الكافي ٥ : ٢٨٠ و ٢٩٤ ، معاني الأخبار : ٢٨١.

(٢) كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن امّتي تسعة : ... وما أكرهوا عليه ... وما اضطرّوا إليه» الخصال : ٤١٧ ، التوحيد : ٣٥٣.

(٣) أي : يقدّم دليل حكم العنوان الثانويّ على دليل حكم العنوان الأوّليّ ، وإن كانت النسبة بينهما عموما من وجه.

(٤) أي : غير أدلّة أحكام العناوين الأوّلية وأدلّة أحكام العناوين الثانويّة.

(٥) معطوف على قوله : «بالتصرّف في خصوص أحدهما».

(٦) مثاله : ما إذا ورد : «ثمن العذرة سحت» [وسائل الشيعة ١٢ : ١٢٦ ، الباب ٤٠ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١] ، وورد أيضا : «لا بأس ببيع العذرة» [نفس المصدر ، الحديث ٢ و ٣] ، فإنّ العرف يوفّق بينهما بحمل العذرة في الأوّل على عذرة الإنسان بمناسبة الحكم والموضوع ، وفي الثاني على عذرة مأكول اللحم عن البهائم ، فيكون مجموعهما قرينة على التصرّف فيهما.

(٧) هكذا في النسخة المذيّلة بحواشي العلّامة الرشتيّ. ولكن في أكثر النسخ هكذا : «ولو كان الآخر أظهر». والصواب ما أثبتناه. والأولى أن يقول : «ولو كان أظهر».

والحاصل : أنّ العرف قد يوفّق بين الدليلين بالتصرّف في أحدهما ، ولو كان أظهر من الآخر ، كما إذا ورد عامّان ، وكان التصرّف في أحدهما ـ الّذي كان أظهر من الآخر ـ بتخصيصه بالآخر مستلزما للتخصيص المستهجن ، إذ لا يبقى لهذا العامّ بعد التصرّف إلّا موارد قليلة لا يحسن أن يراد بالعموم ، مثلا : إذا قال المولى : «أكرم الأمير» ، وقال : «لا تكرم الفسّاق» فيكون الثاني أظهر دلالة من الأوّل ، لأنّه يدلّ على إكرام كلّ فاسق بالوضع ، والأوّل يدلّ على إكرام كلّ أمير بالإطلاق ، لكن الدليل الأوّل يقدّم على الثاني في مورد الاجتماع ـ أي الأمير الفاسق ـ ويحكم بوجوب إكرامه ، إذ التصرّف في غير الأظهر ـ وهو قوله : «أكرم الأمير» ـ بالحكم بعدم وجوب إكرام الأمير يوجب قلّة أفراده واختصاص وجوب الإكرام بالأمير العادل ، وهو قليل المورد ، فلا محيص من التصرّف في الأظهر ـ أي قوله : «لا تكرم الفسّاق» ـ بإخراج الأمير الفاسق عن دائرته.

٢٩٥

ولذلك (١) تقدّم الأمارات المعتبرة على الاصول الشرعيّة ، فإنّه لا يكاد يتحيّر أهل العرف في تقديمها عليها بعد ملاحظتهما ، حيث لا يلزم منه محذور تخصيص أصلا ؛ بخلاف العكس فإنّه يلزم منه محذور التخصيص بلا وجه أو بوجه دائر ، كما أشرنا إليه في أواخر الاستصحاب (٢).

وليس وجه تقديمها حكومتها على أدلّتها (٣) ، لعدم كونها ناظرة إلى أدلّتها بوجه.

وتعرّضها لبيان حكم موردها (٤) لا يوجب كونها ناظرة إلى أدلّتها وشارحة

__________________

(١) لا يخفى : أنّ في المشار إليه بقوله : «لذلك» وجهين :

الأوّل : أن يكون المشار إليه الجمع العرفيّ ، فيكون المعنى : ولأجل كون الدليلين على نحو إذا عرض على العرف وفّق بينهما تقدّم الأمارات المعتبرة على الاصول الشرعيّة.

وعليه ينافي هذا الكلام بظاهره ما تقدّم منه في مبحث الاستصحاب من قوله : «المقام الثاني : أنّه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة في صورة ... والتحقيق أنّه للورود».

الثاني : أن يكون المشار إليه هو نفي التعارض بمجرّد تنافي مدلولي الدليلين ، فيكون معنى العبارة : ولأجل عدم التعارض بين الدليلين بمجرّد تنافي مدلوليهما تقدّم الأمارات على الاصول الشرعيّة.

وعليه يكون مراده من تقدّمها عليها هو التقدّم من باب الورود. ولا ينافي ما تقدّم منه في مبحث الاستصحاب. نعم ، ينافي ما ذهب إليه في «درر الفوائد : ١٨٤» من تقدّمها عليها من باب الحكومة.

والأولى حمل كلامه على الوجه الثاني. ويشهد له استدلاله على التقدّم بقوله : «حيث لا يلزم منه ... كما أشرنا إليه في أواخر الاستصحاب». ويشهد له أيضا قوله الآتي : «لا يكاد ترتفع غائلة المطاردة ... إلّا بما أشرنا سابقا وآنفا».

(٢) راجع الصفحة : ٢٧٧ ـ ٢٨٠ من هذا الجزء.

(٣) تعريض بالشيخ الأعظم الأنصاريّ ، حيث قال : «وإن كان مؤدّاه ـ أي مؤدّى الأصل ـ من المجهولات الشرعيّة ، كالاستصحاب ونحوه ، كان ذلك الدليل حاكما على الأصل ، بمعنى أنّه يحكم عليه بخروج مورده عن مجرى الأصل». فرائد الاصول ٤ : ١٣.

(٤) هذا إشارة إلى وهم ، حاصله : أنّ الأمارة ناظرة إلى أدلّة الاصول ، لأنّها متعرّضة لحكم موردها ، فإذا أخبر العادل بحرمة شرب التتن ـ مثلا ـ فمدلوله المطابقي هو حرمة شربه ، ومدلوله الالتزامي هو نفي ما عدا الحرمة ، وهو الحلّيّة الظاهريّة الّتي هي مفاد أصالة الحلّيّة ، ـ

٢٩٦

لها ، وإلّا كانت أدلّتها (١) أيضا دالّة ـ ولو بالالتزام (٢) ـ على أنّ حكم مورد الاجتماع فعلا هو مقتضى الأصل لا الأمارة ، وهو (٣) مستلزم عقلا نفي ما هو قضيّة الأمارة ، بل ليس مقتضى حجّيّتها (٤) إلّا نفي ما قضيّته عقلا من دون دلالة عليه لفظا ، ضرورة أنّ نفس الأمارة لا دلالة لها إلّا على الحكم الواقعيّ ، وقضيّة حجّيّتها ليست إلّا لزوم العمل على وفقها شرعا المنافي عقلا للزوم العمل على خلافه (٥) وهو قضيّة الأصل ، هذا ؛ مع احتمال أن يقال : إنّه ليس قضيّة الحجّيّة شرعا إلّا لزوم العمل على وفق الحجّة عقلا وتنجّز الواقع مع المصادفة وعدم تنجّزه في صورة المخالفة.

وكيف كان ليس مفاد دليل الاعتبار هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف تعبّدا كي يختلف الحال ويكون مفاده في الأمارة نفي حكم الأصل حيث إنّه حكم الاحتمال ؛ بخلاف مفاده فيه (٦) ، لأجل أنّ الحكم الواقعيّ ليس حكم احتمال خلافه ، كيف! وهو حكم الشكّ فيه واحتماله. فافهم وتأمّل جيّدا.

فانقدح بذلك أنّه لا يكاد ترتفع غائلة المطاردة والمعارضة بين الأصل

__________________

ـ فكلّ أمارة بمدلولها الالتزاميّ يدلّ على مورد الأصل.

وأجاب عنه المصنّف رحمه‌الله بأنّ المراد من كون الأمارات ناظرة إلى أدلّة الاصول هو خصوص نظرها إليها بالشرح والتفسير بألفاظها ، وهو مفقود في المقام ، لا مطلق النظر والقرينيّة ، وإلّا لزم أن يكون دليل الأصل أيضا حاكما على الأمارة ، بداهة أنّه إذا كان مقتضى الأصل هو الحلّيّة فبما أنّها تنافي الحرمة تدلّ بالالتزام العقليّ على نفيها ، كما أنّ الأمارة تدلّ بالالتزام العقليّ على نفي الحلّيّة.

(١) أي : أدلّة الاصول.

(٢) هكذا في النسخ. ولكن الصواب أن يحذف كلمة : «ولو» ، لأنّ المفروض انحصار الدلالة في الالتزاميّة ، فإنّ قوله : «كلّ شيء حلال ...» إنّما يدلّ بالمطابقة على حلّيّة المشكوك فيه ؛ وأمّا دلالته على نفي حرمته ليست إلّا بالدلالة الالتزاميّة الناشئة من تنافي الحلّ والحرمة.

(٣) أي : وكون حكم مورد الاجتماع فعلا مقتضى الأصل يستلزم عقلا نفي مقتضى الأمارة وهو الحرمة في المثال.

(٤) أي : حجّيّة الأمارة.

(٥) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «على خلافها» ، فإنّ الضمير يرجع إلى الأمارة.

(٦) أي : بخلاف مفاد دليل الاعتبار في الأصل.

٢٩٧

والأمارة إلّا بما أشرنا سابقا وآنفا ، فلا تغفل. هذا.

ولا تعارض أيضا إذا كان أحدهما قرينة على التصرّف في الآخر ، كما في الظاهر مع النصّ أو الأظهر ، مثل العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد أو مثلهما ممّا كان أحدهما نصّا أو أظهر ، حيث إنّ بناء العرف على كون النصّ أو الأظهر قرينة على التصرّف في الآخر.

وبالجملة : الأدلّة في هذه الصور وإن كانت متنافية بحسب مدلولاتها ، إلّا أنّها غير متعارضة ، لعدم تنافيها في الدلالة وفي مقام الإثبات بحيث يبقى أبناء المحاورة متحيّرة ، بل بملاحظة المجموع أو خصوص بعضها يتصرّف في الجميع أو في البعض عرفا بما ترتفع به المنافاة الّتي تكون في البين.

ولا فرق فيها (١) بين أن يكون السند فيها قطعيّا أو ظنّيّا أو مختلفا ، فيقدّم النصّ أو الأظهر ـ وإن كان بحسب السند ظنّيّا ـ على الظاهر ولو كان بحسبه قطعيّا.

وإنّما يكون التعارض في غير هذه الصور ممّا كان التنافي فيه بين الأدلّة بحسب الدلالة ومرحلة الإثبات.

وإنّما يكون التعارض بحسب السند فيما إذا كان كلّ واحد منها قطعيّا دلالة وجهة ، أو ظنّيّا فيما إذا لم يمكن (٢) التوفيق بينها بالتصرّف في البعض أو الكلّ ، فإنّه حينئذ لا معنى للتعبّد بالسند في الكلّ ، إمّا للعلم بكذب أحدها (٣) ، أو لأجل أنّه لا معنى للتعبّد بصدورها مع إجمالها ، فيقع التعارض بين أدلّة السند حينئذ ، كما لا يخفى.

__________________

(١) أي : في تلك الموارد الّتي قلنا بخروجها عن باب التعارض.

(٢) وفي بعض النسخ : «لم يكن». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) وفي بعض النسخ : «أحدهما». والصحيح ما أثبتناه.

٢٩٨

فصل

[الأصل الأوّليّ في المتعارضين] (١)

[الأصل الأوّلي بناء على الطريقيّة]

التعارض وإن كان لا يوجب إلّا سقوط أحد المتعارضين عن الحجّيّة رأسا (٢) حيث لا يوجب إلّا العلم بكذب أحدهما ، فلا يكون هناك مانع عن حجّيّة الآخر (٣) ، ـ إلّا أنّه حيث كان بلا تعيين ولا عنوان واقعا ، فإنّه لم يعلم كذبه إلّا كذلك (٤) ، واحتمال كون كلّ منهما كاذبا (٥) ،

__________________

(١) قال السيّد المحقّق الخوئيّ : «ولا يخفى : أنّه لا ثمرة لتأسيس الأصل بالنسبة إلى الأخبار [الآحاد] ، إذ الأخبار العلاجيّة متكفّلة لبيان حكم تعارض الأخبار الآحاد ، ولا ثمرة للأصل مع وجود الدليل. نعم ، الأصل يثمر في تعارض غير الأخبار ، كما إذا وقع التعارض بين آيتين من حيث الدلالة أو بين الخبرين المتواترين كذلك ، بل يثمر في تعارض الأمارات في الشبهات الموضوعيّة ، كما إذا وقع التعارض بين بيّنتين ، أو بين فردين من قاعدة اليد ، كما في مال كان تحت استيلاء كلا المدّعيين». مصباح الاصول ٣ : ٣٦٥.

(٢) في كلّ من الدلالة المطابقيّة والالتزاميّة.

(٣) هكذا في النسخ. ولكن الصحيح أن يقول : «فلا يكون هناك مانع عن المقتضي لحجّيّة الخبرين» ، ضرورة أنّ المقتضي للحجّيّة احتمال الإصابة ، وهو موجود في كلا الخبرين ، كما أنّ المانع عن الحجّيّة هو العلم الإجماليّ بكذب أحدهما ، وهو أيضا متساوي النسبة إلى كليهما ، فالعلم الإجماليّ مانع عن حجّيّة الآخر ، كما صرّح المصنّف رحمه‌الله بذلك بعد أسطر.

(٤) أي : فإنّ المعلوم كذبه لا تعيين ولا عنوان له إلّا عنوان «أحدهما» ، ومثل هذا العنوان في حكم عدم العنوان.

(٥) هذه الجملة إمّا معطوفة على قوله : «كذلك» ، فيكون معناها : لم يعلم كذبه إلّا باحتمال ـ

٢٩٩

لم يكن (١) واحد منهما بحجّة في خصوص مؤدّاه (٢) ، لعدم التعيّن في الحجّة أصلا (٣) ، كما لا يخفى.

نعم ، يكون نفي الثالث بأحدهما ، لبقائه على الحجّيّة وصلاحيّته ـ على ما هو عليه من عدم التعيّن ـ لذلك (٤) ، لا بهما (٥).

__________________

ـ كون كلّ منهما كاذبا ؛ وإمّا معطوفة على قوله : «بلا تعيين ولا عنوان واقعا» ، فيكون معناها : وحيث كان باحتمال كون كلّ منهما كاذبا.

(١) جواب قوله : «حيث كان».

(٢) فيكون الأصل في كلّ منهما هو التساقط بالنسبة إلى خصوص مؤدّاه.

وتبعه في ذلك أكثر المتأخّرين ، منهم : الأعلام الثلاثة والسيّدان العلمان ، فراجع فوائد الاصول ٤ : ٧٥٥ ، نهاية الأفكار ٤ : ١٧٤ ـ ١٧٥ ، نهاية الدراية ٣ : ٣٣٣ ، الرسائل (للإمام الخمينيّ) ٢ : ٣٩ ، مصباح الاصول ٣ : ٣٦٥ ـ ٣٦٧.

(٣) وفي بعض النسخ : «لعدم التعيين في الحجّيّة أصلا» ، وفي بعض آخر : «لعدم التعيّن في الحجّيّة أصلا». والأولى أن يقول : «لعدم تعيين الحجّة أصلا».

(٤) قوله : «لذلك» متعلّق بقوله : «صلاحيّته». والمشار إليه هو النفي الثالث.

(٥) توضيحه : أنّه وقع الكلام في نفي الثالث بالدليلين المتعارضين بمقتضى مدلولهما الالتزاميّ بعد سقوطهما عن الحجّيّة بالنسبة إلى خصوص مؤدّاهما المطابقيّين ، فإذا دلّ دليل على وجوب شيء والآخر على حرمته فهل يصحّ نفي الثالث ـ وهو الإباحة مثلا ـ بأحدهما لا بعينه ، أو يصحّ نفيه بهما معا بما هما حجّتان ، أو يصحّ نفيه بذات الخبرين لا بما هما حجّتان ، أو لا يصحّ نفيه بهما مطلقا؟ فيه أقوال :

الأوّل : أنّه يصحّ نفي الثالث بأحدهما غير المعيّن ، لأن العلم الإجماليّ بكذب أحدهما مانع عن شمول دليل التعبّد لكلّ من المتعارضين ، ولازمه خروج أحدهما عن تحت دليل التعبّد مطلقا بما له من المدلول المطابقيّ والالتزاميّ ، وبقاء الآخر في تحته إجمالا بلا تعيين وعنوان ، فيصحّ نفي الثالث بالآخر الباقي تحت دليل التعبّد إجمالا ، لا بهما. وهذا ما ذهب إليه المصنّف رحمه‌الله في المقام ، وتبعه السيّد الإمام الخمينيّ في الرسائل ٢ : ٤١.

الثاني : أنّه يصحّ نفي الثالث بهما بما هما حجّتان. واستدلّ عليه بوجهين :

أحدهما : ما ذكره المحقّق العراقيّ. وحاصله : أنّ مجرّد العلم الإجماليّ بكذب أحد المتعارضين لا يمنع عن شمول دليل الحجّيّة والتعبّد لكلّ واحد من المتعارضين ، إلّا على القول بسراية العلم إلى الخارج ، وهو ممنوع ، لأنّ متعلّق العلم هو الصورة الإجماليّة ، وهذا لا يسري إلى صورة اخرى ولا إلى الخارج ، فلا مانع حينئذ من الأخذ بمدلولها الالتزاميّ ـ

٣٠٠