كفاية الأصول - ج ٣

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-562-2
الصفحات: ٤٤٣

فيه (١) ، حيث كان أبواب الفقه مختلفة مدركا ، والمدارك متفاوتة سهولة وصعوبة ، من عقليّة ونقليّة ، مع اختلاف الأشخاص في الاطّلاع عليها وفي طول الباع وقصوره بالنسبة إليها ، فربّ شخص كثير الاطّلاع وطويل الباع في مدرك باب بمهارته في النقليّات أو العقليّات ، وليس كذلك في آخر ، لعدم مهارته فيها وابتنائه عليها. وهذا بالضرورة ربما يوجب حصول القدرة على الاستنباط في بعضها لسهولة مدركه أو لمهارة الشخص فيه مع صعوبته مع عدم القدرة على ما ليس كذلك ، بل يستحيل حصول اجتهاد مطلق عادة غير مسبوق بالتجزّي ، للزوم الطفرة. وبساطة الملكة وعدم قبولها التجزية لا يمنع من حصولها بالنسبة إلى بعض الأبواب بحيث يتمكّن بها من الإحاطة بمداركه ، كما إذا كانت هناك ملكة الاستنباط في جميعها ؛ ويقطع بعدم دخل ما في سائرها به أصلا (٢) ، أو لا يعتنى باحتماله ، لأجل الفحص بالمقدار اللازم الموجب للاطمئنان بعدم دخله ، كما في الملكة المطلقة ، بداهة أنّه لا يعتبر في استنباط مسألة معها (٣) من الاطّلاع (٤) فعلا على مدارك جميع المسائل ، كما لا يخفى.

الثاني : في حجّيّة ما يؤدّي إليه على المتّصف به (٥)

وهو (٦) أيضا محلّ الخلاف ، إلّا أنّ قضيّة أدلّة المدارك (٧) حجّيّته ، لعدم اختصاصها بالمتّصف بالاجتهاد المطلق ، ضرورة أنّ بناء العقلاء على حجّيّة

__________________

(١) أي : في إمكان التجزّي.

(٢) أي : يقطع بعدم دخل ما في سائر الأبواب في بعض الأبواب الّذي يحصل له ملكة الاستنباط بالنسبة إليه.

(٣) أي : مع الملكة المطلقة.

(٤) هكذا في النسخ. والصحيح أنّ كلمة «من» زائدة.

(٥) أي : على المتّصف بالتجزّي في الاجتهاد.

(٦) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «وهي» ، فإنّ الضمير يرجع إلى «حجّيّة».

(٧) والمراد بالمدارك هو خبر الواحد والإجماع والظواهر.

٣٦١

الظواهر مطلقا ، وكذا ما دلّ على حجّيّة خبر الواحد ، غايته تقييده (١) بما إذا تمكّن من دفع معارضاته ، كما هو المفروض.

الثالث : في جواز رجوع غير المتّصف به إليه في كلّ مسألة اجتهد فيها

وهو أيضا محلّ الإشكال ، من أنّه من رجوع الجاهل إلى العالم ، فتعمّه أدلّة جواز التقليد ؛ ومن دعوى عدم إطلاق فيها وعدم إحراز أنّ بناء العقلاء أو سيرة المتشرّعة على الرجوع إلى مثله أيضا ؛ وستعرف (٢) إن شاء الله تعالى ما هو قضيّة الأدلّة.

[الرابع : في نفوذ قضائه في المرافعات]

وأمّا جواز حكومته ونفوذ فصل خصومته ، فأشكل. نعم ، لا يبعد نفوذه فيما إذا عرف جملة معتدّا بها ، واجتهد فيها بحيث يصحّ أن يقال في حقّه عرفا : «إنّه ممّن عرف أحكامهم» ، كما مرّ في المجتهد المطلق المنسدّ عليه باب العلم والعلميّ في معظم الأحكام.

__________________

(١) أي : غاية الأمر تقييد إطلاق أدلّة حجّيّة الأمارات ...

(٢) لاحظ الصفحة : ٣٧٠ ـ ٣٧٤ من هذا الجزء.

٣٦٢

فصل

[في مبادئ الاجتهاد]

لا يخفى احتياج الاجتهاد إلى معرفة العلوم العربيّة في الجملة ، ولو بأن يقدر على معرفة ما يبتني عليه الاجتهاد في المسألة بالرجوع إلى ما دوّن فيه ، ومعرفة التفسير كذلك.

وعمدة ما يحتاج إليه هو علم الاصول ، ضرورة أنّه ما من مسألة إلّا ويحتاج في استنباط حكمها إلى قاعدة أو قواعد برهن عليها في الاصول ، أو برهن عليها مقدّمة في نفس المسألة الفرعيّة ، كما هو طريقة الأخباريّ.

وتدوين تلك القواعد المحتاج إليها على حدة لا يوجب كونها بدعة. وعدم تدوينها في زمانهم عليهم‌السلام لا يوجب ذلك ، وإلّا كان تدوين الفقه والنحو والصرف بدعة.

وبالجملة : لا محيص لأحد في استنباط الأحكام الفرعيّة من أدلّتها إلّا الرجوع إلى ما بني عليه في المسائل الاصوليّة ، وبدونه لا يكاد يتمكّن من استنباط واجتهاد ، مجتهدا كان أو أخباريّا.

نعم ، يختلف الاحتياج إليها بحسب اختلاف المسائل والأزمنة والأشخاص ، ضرورة خفّة مئونة الاجتهاد في الصدر الأوّل وعدم حاجته إلى كثير ممّا يحتاج إليه في الأزمنة اللاحقة ممّا لا يكاد يحقّق ويختار عادة إلّا بالرجوع إلى ما دوّن فيه من الكتب الاصوليّة.

٣٦٣

فصل

[في التخطئة والتصويب]

اتّفقت الكلمة على التخطئة في العقليّات. واختلفت في الشرعيّات :

فقال أصحابنا بالتخطئة فيها أيضا ، وأنّ له تبارك وتعالى في كلّ مسألة حكما يؤدّي إليه الاجتهاد تارة ، وإلى غيره اخرى (١).

وقال مخالفونا بالتصويب ، وأنّ له تعالى أحكاما بعدد آراء المجتهدين ، فما يؤدّي إليه الاجتهاد هو حكمه تبارك وتعالى (٢).

ولا يخفى : أنّه لا يكاد يعقل الاجتهاد في حكم المسألة إلّا إذا كان لها حكم واقعا ، حتّى صار المجتهد بصدد استنباطه من أدلّته وتعيينه بحسبها ظاهرا.

فلو كان غرضهم من التصويب هو الالتزام بإنشاء أحكام في الواقع بعدد الآراء ـ بأن تكون الأحكام المؤدّية إليها الاجتهادات أحكاما واقعيّة ، كما هي ظاهريّة ـ فهو وإن كان خطأ من جهة تواتر الأخبار وإجماع أصحابنا الأخيار على أنّ له تبارك وتعالى في كلّ واقعة حكما يشترك فيه الكلّ ، إلّا أنّه غير محال.

__________________

(١) راجع الذريعة إلى اصول الشريعة ٢ : ٧٥٨ ، عدّة الاصول ٢ : ٧٢٥ ـ ٧٢٦ ، قوانين الاصول ١ : ٣٦٦ و ٤٤٩ ، فرائد الاصول ٢ : ٢٨٤.

(٢) نسب القول بالتصويب إلى المعتزلة وأبي الحسن الأشعريّ في كتاب إرشاد الفحول : ٢٦١. ونسب إلى الأشعريّ والقاضي أبي بكر الباقلانيّ وجمهور المتكلّمين من الأشاعرة والمعتزلة في كتاب نهاية السئول ٤ : ٥٦٠.

٣٦٤

ولو كان غرضهم منه الالتزام بإنشاء الأحكام على وفق آراء الأعلام بعد الاجتهاد ، فهو ممّا لا يكاد يعقل ، فكيف يتفحّص عمّا لا يكون له عين ولا أثر؟ أو يستظهر من الآية أو الخبر؟

إلّا أن يراد التصويب بالنسبة إلى الحكم الفعليّ ، وأنّ المجتهد وإن كان يتفحّص عمّا هو الحكم واقعا وإنشاء ، إلّا أنّ ما أدّى إليه اجتهاده يكون هو حكمه الفعليّ حقيقة ، وهو ممّا يختلف باختلاف الآراء ضرورة ، ولا يشترك فيه الجاهل والعالم بداهة. وما يشتركان فيه ليس بحكم حقيقة ، بل إنشاء ، فلا استحالة في التصويب بهذا المعنى ، بل لا محيص عنه في الجملة ، بناء على اعتبار الأخبار من باب السببيّة والموضوعيّة ، كما لا يخفى. وربما يشير إليه ما اشتهر بيننا «أنّ ظنّيّة الطريق لا تنافي قطعيّة الحكم».

نعم ، بناء على اعتبارها من باب الطريقيّة ـ كما هو كذلك ـ فمؤدّيات الطرق والأمارات المعتبرة ليست بأحكام حقيقيّة نفسيّة ، ولو قيل بكونها أحكاما طريقيّة. وقد مرّ غير مرّة (١) إمكان منع كونها أحكاما كذلك أيضا ، وأنّ قضيّة حجّيّتها ليست إلّا تنجّز مؤدّياتها عند إصابتها والعذر عند خطئها ، فلا يكون حكم أصلا إلّا الحكم الواقعيّ ، فيصير منجّزا فيما قام عليه حجّة من علم أو طريق معتبر ، ويكون غير منجّز ـ بل غير فعليّ ـ فيما لم تكن هناك حجّة مصيبة ، فتأمّل جيّدا.

__________________

(١) راجع الجزء الثاني : ٢٨١ ـ ٢٨٢.

٣٦٥

فصل

[في تبدّل رأي المجتهد]

إذا اضمحلّ الاجتهاد السابق بتبدّل الرأي الأوّل بالآخر (١) أو بزواله بدونه (٢) ، فلا شبهة في عدم العبرة به في الأعمال اللاحقة ولزوم اتّباع الاجتهاد اللاحق مطلقا (٣) أو الاحتياط فيها (٤).

وأمّا الأعمال السابقة الواقعة على وفقه (٥) المختلّ فيها (٦) ما اعتبر في صحّتها بحسب هذا الاجتهاد : فلا بدّ من معاملة البطلان معها فيما لم ينهض دليل على صحّة العمل فيما إذا اختلّ فيه لعذر (٧) كما نهض في الصلاة وغيرها مثل

__________________

(١) أي : بالرأي الآخر اللاحق ، كما إذا عقد بالفارسيّة على امرأة وتزوّج بها ، ثمّ تبدّل رأيه إلى اعتبار العربيّة فيه.

(٢) أي : بزوال الرأي الأوّل من دون تبدّله برأي آخر.

(٣) سواء كان الاجتهادان قطعيّين أو ظنّيّين أم مختلفين ، وسواء كان مورد تبدّل الرأي هو الموضوعات أم الأحكام.

(٤) أي : الاحتياط في الأعمال اللاحقة.

(٥) أي : على وفق الاجتهاد السابق.

(٦) أي : في الأعمال السابقة. والضمير في قوله : «صحّتها» أيضا يرجع إلى الأعمال السابقة.

(٧) هكذا في النسخ. والأولى سوق العبارة هكذا : «فيما لم ينهض دليل على صحّة العمل إذا اختلّ بعض ما يعتبر فيه». والمراد بالعذر هو الاجتهاد السابق.

وحاصل الكلام : أنّ الأعمال السابقة المأتي بها على وفق الاجتهاد السابق باطلة ، إلّا إذا قام دليل من الخارج على عدم وجوب إعادتها. وقد قامت أدلّة ثلاثة على عدم وجوب الإعادة :

٣٦٦

«لا تعاد» (١) و «حديث الرفع» (٢) ، بل الإجماع على الإجزاء في العبادات على ما ادّعي (٣).

وذلك (٤) فيما كان بحسب الاجتهاد الأوّل قد حصل القطع بالحكم وقد اضمحلّ واضح (٥) ، بداهة أنّه لا حكم معه (٦) شرعا ، غايته المعذوريّة في المخالفة عقلا.

وكذلك فيما كان هناك طريق معتبر شرعا عليه بحسبه (٧) ، وقد ظهر خلافه (٨) بالظفر بالمقيّد أو المخصّص أو قرينة المجاز أو المعارض ، بناء على ما هو التحقيق من اعتبار الأمارات من باب الطريقيّة ، قيل بأنّ قضيّة اعتبارها إنشاء أحكام طريقيّة أم لا ، على ما مرّ منّا غير مرّة ، من غير فرق بين تعلّقه (٩) بالأحكام أو بمتعلّقاتها ، ضرورة أنّ كيفيّة اعتبارها (١٠) فيهما على نهج واحد.

__________________

ـ أحدها : حديث «لا تعاد» الّذي ينفي وجوب إعادة الصلاة فيما كان الخلل فيها من غير الامور الخمسة المستثناة فيه.

ثانيها : حديث الرفع ، فإنّه يدلّ على رفع حكم العقل الّذي وقع خطأ. وهذا يشمل الصلاة وغيرها.

ثالثها : الإجماع على إجزاء العبادات السابقة الواقعة بمقتضى الاجتهاد الأوّل.

(١) وإليك نصّ الحديث : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود». وسائل الشيعة ٣ : ٢٢٧ ، الباب ٩ من أبواب القبلة ، الحديث ١.

(٢) الكافي ٢ : ٤٦٣ ؛ الخصال ٢ : ٤١٧ ؛ وسائل الشيعة ١٦ : ١٧٣ ، الباب ٢٦ من كتاب الأيمان ، الحديث ٣ ـ ٦.

(٣) لم أعثر على من ادّعى الإجماع من المتقدّمين.

نعم ، حكى المحقّق النائينيّ الإجماع على الإجزاء في العبادات ، واستند إليه في القول بالإجزاء في خصوص العبادات باعتبار القدر المتيقّن في مورده. راجع أجود التقريرات ١ : ٢٠٦.

(٤) أي : ولا بدّية معاملة البطلان.

(٥) خبر قوله : «ذلك».

(٦) أي : مع القطع.

(٧) أي : على الحكم بحسب الاجتهاد السابق.

(٨) أي : خلاف الحكم.

(٩) أي : تعلّق الاجتهاد السابق.

(١٠) أي : اعتبار الطريقيّة.

٣٦٧

ولم يعلم وجه للتفصيل بينهما ـ كما في الفصول (١) ـ وأنّ (٢) المتعلّقات لا تتحمّل اجتهادين ، بخلاف الأحكام ، إلّا حسبان أنّ الأحكام قابلة للتغيّر والتبدّل بخلاف المتعلّقات والموضوعات. وأنت خبير بأنّ الواقع واحد فيهما وقد عيّن أوّلا بما ظهر خطؤه ثانيا.

ولزوم العسر والحرج والهرج والمرج المخلّ بالنظام والموجب للمخاصمة بين الأنام ـ لو قيل بعدم صحّة العقود والإيقاعات والعبادات الواقعة على طبق الاجتهاد الأوّل الفاسدة بحسب الاجتهاد الثاني ووجوب العمل على طبق الثاني من عدم ترتيب الأثر على المعاملة وإعادة العبادة ـ لا يكون (٣) إلّا أحيانا ، وأدلّة نفي العسر لا تنفي إلّا خصوص ما لزم منه العسر فعلا ؛ مع عدم اختصاص ذلك (٤) بالمتعلّقات ، ولزوم (٥) العسر في الأحكام كذلك أيضا لو قيل بلزوم ترتيب الأثر على طبق الاجتهاد الثاني في الأعمال السابقة ؛ وباب الهرج والمرج (٦) ينسدّ بالحكومة وفصل الخصومة.

وبالجملة : لا يكون التفاوت بين الأحكام ومتعلّقاتها بتحمّل الاجتهادين وعدم التحمّل بيّنا ولا مبيّنا بما يرجع إلى محصّل في كلامه «زيد في علوّ مقامه» ، فراجع وتأمّل.

وأمّا بناء على اعتبارها (٧) من باب السببيّة والموضوعيّة : فلا محيص عن القول بصحّة العمل على طبق الاجتهاد الأوّل ، عبادة كان أو معاملة ، وكون مؤدّاه ـ ما لم يضمحلّ ـ حكما حقيقة.

__________________

(١) راجع الفصول الغرويّة : ٤٠٩.

(٢) بيان للتفصيل.

(٣) خبر قوله : «ولزوم ...».

(٤) أي : لزوم العسر والحرج.

(٥) أي : ومع لزوم العسر في الأحكام.

(٦) لا يخفى : أنّه ليس الهرج والمرج في كلام صاحب الفصول.

(٧) أي : اعتبار الأمارات.

٣٦٨

وكذلك الحال إذا كان بحسب الاجتهاد الأوّل مجرى الاستصحاب أو البراءة النقليّة ، وقد ظفر في الاجتهاد الثاني بدليل على الخلاف ، فإنّه عمل بما هو وظيفته في تلك الحال(١).

وقد مرّ في مبحث الإجزاء (٢) تحقيق المقال ، فراجع هناك.

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «على تلك الحال».

(٢) راجع الجزء الأوّل : ١٦٥ ـ ١٦٩.

٣٦٩

فصل

في [جواز] التقليد

[تعريف التقليد]

وهو أخذ قول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيّات ، أو للالتزام به في الاعتقاديّات تعبّدا ، بلا مطالبة دليل على رأيه (١).

ولا يخفى : أنّه لا وجه لتفسيره بنفس العمل (٢) ، ضرورة سبقه عليه (٣) ، وإلّا كان بلا تقليد ، فافهم.

[أدلّة جواز التقليد على العاميّ]

ثمّ إنّه لا يذهب عليك أنّ جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم في الجملة يكون بديهيّا جبلّيّا فطريّا لا يحتاج إلى دليل ، وإلّا لزم سدّ باب العلم به على العاميّ مطلقا غالبا ، لعجزه عن معرفة ما دلّ عليه كتابا وسنّة ؛ ولا يجوز التقليد

__________________

(١) هكذا عرّفه جمع من العلماء ، منهم السيّد المرتضى والشيخ الطوسيّ والمحقّق الحلّي والمحقّق الثاني والفاضل التونيّ وصاحبا الهداية والفصول. راجع رسائل الشريف ٢ : ٢٦٥ ، كتاب الاقتصاد (للشيخ الطوسيّ) : ١٠ ، معارج الاصول : ٢٠٠ ، جامع المقاصد ٢ : ٦٩ ، الوافية : ٢٩٩ ، هداية المسترشدين : ٦ و ٤٧٠ ـ ٤٧١ ، الفصول الغرويّة : ٤١١.

(٢) هكذا فسّره صاحب المعالم في معالم الدين : ٢٤٢ ، والآمديّ في الإحكام ٤ : ٤٤٥.

(٣) أي : سبق التقليد على العمل.

٣٧٠

فيه (١) أيضا ، وإلّا لدار أو تسلسل ؛ بل هذه (٢) هي العمدة في أدلّته.

وأغلب ما عداه (٣) قابل للمناقشة :

لبعد تحصيل الإجماع (٤) في مثل هذه المسألة ممّا يمكن أن يكون القول فيه لأجل كونه من الامور الفطريّة الارتكازيّة. والمنقول منه غير حجّة في مثلها ، ولو قيل بحجّيّتها في غيرها ، لوهنه بذلك.

ومنه قد انقدح إمكان القدح في دعوى كونه من ضروريّات الدّين (٥) ، لاحتمال أن يكون من ضروريّات العقل وفطريّاته ، لا من ضروريّاته.

وكذا القدح في دعوى سيرة المتديّنين (٦).

وأمّا الآيات : فلعدم دلالة آية النفر (٧) والسؤال (٨) على جوازه ، لقوّة احتمال أن يكون الإرجاع لتحصيل العلم ، لا للأخذ تعبّدا ؛ مع أنّ المسئول في آية السؤال هم أهل الكتاب كما هو ظاهرها ، أو أهل بيت العصمة الأطهار كما فسّر به في الأخبار (٩).

نعم لا بأس بدلالة الأخبار عليه بالمطابقة أو الملازمة ، حيث دلّ بعضها على وجوب اتّباع قول العلماء (١٠) ، وبعضها على أنّ للعوام تقليد

__________________

(١) أي : في التقليد.

(٢) أي : الجبلّة.

(٣) أي : ما عدا دليل الجبلّة.

(٤) وهو الّذي ادّعاه كثير من الفقهاء ، منهم السيّد المرتضى والشيخ الطوسيّ والمحقّق الحلّيّ والشيخ الأنصاريّ. راجع الذريعة إلى اصول الشريعة ٢ : ٧٩٧ ، العدّة ٢ : ٧٣٠ ، معارج الاصول : ١٩٧ ، رسالة الاجتهاد والتقليد : ٤٨.

(٥) لم أعثر على من ادّعاه.

(٦) كما استدلّ بها صاحب الفصول. راجع الفصول الغرويّة : ٤١١.

(٧) التوبة / ١٢٢.

(٨) النحل / ٤٣ ، والنساء / ٧٠.

(٩) راجع تفسير القمّيّ ٢ : ٦٨ ، والتفسير الأصفى ١ : ٦٤٩ ، والكافي ١ : ٢١١ و ٢٥٩ ، عيون أخبار الرضا ١ : ٢٣٩.

(١٠) وهذه الروايات على طائفتين :

الطائفة الاولى : ما يدلّ على وجوب متابعة العلماء بلسان العموم : ـ

٣٧١

العلماء (١) ، وبعضها على جواز الإفتاء مفهوما ـ مثل ما دلّ على المنع عن الفتوى بغير علم (٢) ـ ، أو منطوقا ، مثل ما دلّ على إظهاره عليه‌السلام المحبّة لأن يرى في

__________________

ـ منها : التوقيع المبارك الصادر من الناحية المقدّسة إلى إسحاق بن يعقوب ، وهو قوله عليه‌السلام : «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله». وسائل الشيعة ١٨ : ١٠١ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩.

ومنها : خبر أحمد بن حاتم بن ماهويه ، قال : كتبت إليه ـ أي أبا الحسن الثالث عليه‌السلام ـ ، أسأله عمّن آخذ معالم ديني؟ ـ وكتب أخوه أيضا بذلك ـ. فكتب إليهما : «فهمت ما ذكرتما ، فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا وكلّ كثير القدم في أمرنا ، فإنّهما كافوكما إن شاء الله تعالى». وسائل الشيعة ١٨ : ١١٠ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٥.

الطائفة الثانية : ما يدلّ على إرجاع الشيعة إلى أشخاص معيّنين من فقهاء الرواة.

منها : صحيح أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : سألته ، فقلت : من أعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال : «العمري ثقتي ، فما أدّى إليك فعنّي يؤدّي ، وما قال لك فعنّى يقول ، فاسمع له وأطلع ، فإنّه الثقة المأمون». وسائل الشيعة ١٨ : ٩٩ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤.

ومنها : صحيح شعيب العقرقوفي ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء ، فممّن نسأل؟ قال عليه‌السلام : «وعليك بالأسديّ ـ يعني أبا بصير ـ». وسائل الشيعة ١٨ : ١٠٣ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٥.

ومنها : خبر عبد العزيز بن المهتدى ، سألت الرضا عليه‌السلام ، فقلت : إنّي لا ألقاك في كلّ وقت ، فممّن آخذ معالم ديني؟ فقال : «خذ عن يونس بن عبد الرحمن». وسائل الشيعة ١٨ : ١٠٧ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٤.

ومنها : خبر عليّ بن المسيّب ، قال : قلت للرضا عليه‌السلام : شقّتي بعيدة ، ولست أصل إليك في كلّ وقت ، فممّن آخذ معالم ديني؟ فقال عليه‌السلام : «من زكريّا بن آدم المأمون على الدين والدنيا ...». وسائل الشيعة ١٨ : ١٠٦ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

(١) راجع وسائل الشيعة ١٨ : ٩٤ ـ ٩٥ ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠.

(٢) منها : خبر أبي عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر عليه‌السلام : «من أفتى بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة والعذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه». وسائل الشيعة ١٨ : ٩ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

ومنها : خبر مفضّل ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال ، أنهاك أن تدين الله بالباطل وتفتي الناس بغير علم». وسائل الشيعة ١٨ : ٩ ، الباب ٤ من أبواب ـ

٣٧٢

أصحابه من يفتي الناس بالحلال والحرام (١).

لا يقال : إنّ مجرّد إظهار الفتوى للغير لا يدلّ على جواز أخذه واتّباعه.

فإنّه يقال : إنّ الملازمة العرفيّة بين جواز الإفتاء وجواز اتّباعه واضحة ، وهذا غير وجوب إظهار الحقّ والواقع ، حيث لا ملازمة بينه وبين وجوب أخذه تعبّدا ، فافهم وتأمّل.

وهذه الأخبار على اختلاف مضامينها وتعدّد أسانيدها لا يبعد دعوى القطع بصدور بعضها ، فيكون دليلا قاطعا على جواز التقليد ، وإن لم يكن كلّ واحد منها بحجّة ؛ فيكون مخصّصا لما دلّ على عدم جواز اتّباع غير العلم والذمّ على التقليد من الآيات والروايات ، قال الله تبارك وتعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (٢) ، وقوله تعالى : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ

__________________

ـ صفات القاضي ، الحديث ٢.

ومنها : خبر إسماعيل بن أبي زياد عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض». وسائل الشيعة ١٨ : ١٦ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٢.

والوجه في دلالتها على جواز الإفتاء مفهوما أنّ هذه الروايات تتضمّن معنى الشرط ، فإنّها تدلّ بالمنطوق على عدم جواز الإفتاء والعمل به إذا كان المفتي غير عالم ، فتدلّ بمفهومها على انتفاء عدم الجواز بانتفاء شرطه ـ وهو كون المفتى غير عالم ـ ، فيستفاد منها جواز الإفتاء والعمل به إذا كان المفتي عالما.

(١) منها : ما في رجال النجاشي في ترجمة أبان بن تغلب من قوله : وقال أبو جعفر عليه‌السلام : «اجلس في مسجد المدينة وافت الناس ، فإنّي احبّ أن يرى في شيعتي مثلك». رجال النجاشي : ١٠.

ومنها : ما رواه عبد السلام بن صالح الهرويّ ، قال : سمعت الرضا عليه‌السلام يقول : «رحم الله عبدا أحيا أمرنا». فقلت : وكيف يحيى أمركم؟ قال عليه‌السلام : «يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس». وسائل الشيعة ١٨ : ١٠٢ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١١.

ودلالة هذه الطائفة على جواز الإفتاء واضحة ، فإنّ إظهار المحبّة للإفتاء ودعاءه لمن أحيا أمرهم دليل على مطلوبيّة التعليم ممّن كان عالما بالأحكام ، وهذا يدلّ على لزوم قبول قول العالم ، وإلّا يلزم لغويّة مطلوبيّة التعلّم.

(٢) الإسراء / ٣٦.

٣٧٣

مُقْتَدُونَ) (١) ؛ مع احتمال أنّ الذمّ إنّما كان على تقليدهم للجاهل أو في الاصول الاعتقاديّة الّتي لا بدّ فيها من اليقين.

وأمّا قياس المسائل الفرعيّة على الاصول الاعتباريّة في أنّه كما لا يجوز التقليد فيها (٢) مع الغموض فيها (٣) كذلك لا يجوز فيها بالطريق الأولى ، لسهولتها ، فباطل ؛ مع أنّه مع الفارق ، ضرورة أنّ الاصول الاعتقاديّة مسائل معدودة ، بخلافها ، فإنّها ممّا لا تعدّ ولا تحصى ولا يكاد يتيسّر من الاجتهاد فيها فعلا طول العمر إلّا للأوحديّ في كلّيّاتها ، كما لا يخفى.

__________________

(١) الزخرف / ٢٣.

(٢ ـ ٣) أي : الاصول الاعتقاديّة.

٣٧٤

فصل

[في لزوم تقليد الأعلم]

[القول المختار في المقام ، والدليل عليه]

إذا علم المقلّد اختلاف الأحياء في الفتوى مع اختلافهم في العلم والفقاهة فلا بدّ من الرجوع إلى الأفضل إذا احتمل تعيّنه ، للقطع بحجّيّته والشكّ في حجّيّة غيره. ولا وجه لرجوعه إلى الغير في تقليده (١) إلّا على نحو دائر.

نعم ، لا بأس برجوعه إليه إذا استقلّ عقله بالتساوي وجواز الرجوع إليه أيضا ، أو جوّز له الأفضل بعد رجوعه إليه.

هذا حال العاجز عن الاجتهاد في تعيين ما هو قضيّة الأدلّة في هذه المسألة.

وأمّا غيره : فقد اختلفوا في جواز تقليد (٢) المفضول وعدم جوازه (٣). ذهب بعضهم(٤) إلى الجواز. والمعروف بين الأصحاب ـ على ما قيل (٥) ـ

__________________

(١) أي : لا وجه لرجوع المقلّد إلى غير الأفضل في تقليد غير الأفضل.

(٢) وفي بعض النسخ : «تقديم».

(٣) إذ جواز تقليد المفضول متوقّف على حجّيّة فتواه ، وهي متوقّفة على حكم العقل بالتخيير بين فتوى الفاضل وفتوى المفضول ، والتخيير متوقّفة على حجّيّة فتوى المفضول ، وهذا دور.

(٤) كصاحب الفصول. راجع الفصول الغرويّة : ٤٢٤.

(٥) والقائل الشيخ الأعظم الأنصاريّ. راجع مطارح الأنظار : ٢٧٢ ، رسالة في الاجتهاد والتقليد : ٨٣.

٣٧٥

عدمه (١). وهو الأقوى ، للأصل (٢) وعدم دليل على خلافه.

[الجواب عن أدلّة المخالفين]

ولا إطلاق في أدلّة التقليد بعد الغضّ عن نهوضها على مشروعيّة أصله ، لوضوح أنّها إنّما تكون بصدد بيان أصل جواز الأخذ بقول العالم ، لا في كلّ حال ، من غير تعرّض أصلا لصورة معارضته بقول الفاضل (٣) ، كما هو شأن سائر الطرق والأمارات ، على ما لا يخفى.

ودعوى السيرة (٤) على الأخذ بفتوى أحد المخالفين في الفتوى من دون فحص عن أعلميّته مع العلم بأعلميّة أحدهما ، ممنوعة.

ولا عسر في تقليد الأعلم (٥) ، لا عليه (٦) لأخذ فتاويه من رسائله وكتبه ، ولا لمقلّديه لذلك أيضا ؛ وليس تشخيص الأعلميّة بأشكل من تشخيص أصل الاجتهاد ؛ مع أنّ قضيّة نفي العسر الاقتصار على موضع العسر ، فيجب (٧) فيما لا يلزم منه عسر ، فتأمّل جيّدا.

__________________

(١) راجع الذريعة إلى اصول الشريعة ٢ : ٨١٠ ، معارج الاصول : ٢٠١ ، معالم الدين : ٢٤٧.

(٢) أي : أصالة عدم حجّيّة قول المفضول ، حيث يشمله عموم الأدلّة الناهية عن متابعة ما وراء العلم فيما إذا عارض قوله بقول الأفضل.

(٣) هكذا أفاد الشيخ الأعظم في رسالة في الاجتهاد والتقليد : ٧٨.

(٤) هذه السيرة تعرّض لها الشيخ الأعظم الأنصاريّ ، وأجاب عنه بقوله : «وممّا ذكرنا يعلم الجواب عن السيرة المدّعاة ، فإنّها محمولة على صورة عدم العلم بالاختلاف ، بل اعتقاد الاتّفاق ؛ ولذا لو منعت الناس عن الرجوع إلى غير الأعلم ـ بل عن الرجوع إلى غير المجتهد ـ اعتذروا بأنّ الشرع واحد ، وحكم الله لا يختلف ، ولذا يرجع العوامّ إلى غير المجتهدين معتذرين بأنّ حكم الله واحد». رسالة في الاجتهاد والتقليد : ٧٩.

(٥) هذا ما ذكره صاحب الفصول دليلا على جواز تقليد غير الأعلم ، فراجع الفصول الغرويّة : ٤٢٤.

(٦) أي : لا على نفس الأعلم.

(٧) أي : فيجب تقليد الأعلم.

٣٧٦

[ضعف ما قد يستدلّ على وجوب تقليد الأعلم]

وقد استدلّ أيضا للمنع بوجوه (١) :

أحدها : نقل الإجماع على تعيّن تقليد الأفضل (٢).

ثانيها : الأخبار الدالّة على ترجيحه مع المعارضة ، كما في المقبولة (٣) وغيرها (٤) ، أو على اختياره للحكم بين الناس ، كما دلّ عليه المنقول عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «اختر للحكم بين النّاس أفضل رعيّتك» (٥).

ثالثها : أنّ قول الأفضل أقرب من غيره جزما ، فيجب الأخذ به عند المعارضة عقلا.

ولا يخفى ضعفها :

أمّا الأوّل : فلقوّة احتمال أن يكون وجه القول بالتعيين للكلّ أو الجلّ هو الأصل ، فلا مجال لتحصيل الإجماع مع الظفر بالاتّفاق ، فيكون نقله موهونا ؛ مع عدم حجّيّة نقله ولو مع عدم وهنه.

وأمّا الثاني : فلأنّ الترجيح مع المعارضة في مقام الحكومة لأجل رفع الخصومة الّتي لا تكاد ترتفع إلّا به لا يستلزم الترجيح في مقام الفتوى ، كما لا يخفى.

__________________

(١) استدلّ بها الشيخ الأعظم الأنصاريّ في رسالة في الاجتهاد والتقليد : ٧١ ، ومطارح الأنظار : ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

(٢) قال الشيخ الأعظم الأنصاريّ : «وقد اعترف الشهيد الثاني في منية المريد بأنّه لا يعلم في ذلك خلافا ، ونحوه غيره. بل صرّح المحقّق الثاني في مسألة تقليد الميّت بالإجماع على تعيّن تقليد الأعلم». رسالة في الاجتهاد والتقليد : ٧١.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ٧٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

(٤) كرواية داود بن الحصين ، ورواية موسى بن أكيل. راجع وسائل الشيعة ١٨ : ٨٠ و ٨٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠ و ٤٥.

(٥) نهج البلاغة ، الكتاب ٥٣ فيما كتبه للأشتر النخعيّ.

٣٧٧

وأمّا الثالث : فممنوع ، صغرى وكبرى :

أمّا الصغرى : فلأجل أنّ فتوى غير الأفضل ربما يكون أقرب من فتواه ، لموافقته لفتوى من هو أفضل منه ممّن مات.

ولا يصغى إلى أنّ فتوى الأفضل أقرب في نفسه ، فإنّه لو سلّم أنّه كذلك إلّا أنّه ليس بصغرى لما ادّعي عقلا من الكبرى ، بداهة أنّ العقل لا يرى تفاوتا بين أن تكون الأقربيّة في الأمارة لنفسها أو لأجل موافقتها لأمارة اخرى ، كما لا يخفى.

وأمّا الكبرى : فلأنّ ملاك حجّيّة قول الغير تعبّدا ـ ولو على نحو الطريقيّة ـ لم يعلم أنّه القرب من الواقع ، فلعلّه يكون ما هو في الأفضل وغيره سيّان ، ولم يكن لزيادة القرب في أحدهما دخل أصلا. نعم ، لو كان تمام الملاك هو القرب ، كما إذا كان حجّة بنظر العقل ، لتعيّن الأقرب قطعا ، فافهم.

٣٧٨

فصل

[في تقليد الميّت]

[المختار : عدم جواز تقليد الميّت]

اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي. والمعروف بين الأصحاب الاشتراط (١) ،

__________________

(١) المعروف بين الأصحاب اشتراط الحياة في المفتي مطلقا ، من دون فرق بين التقليد البدويّ والاستمراريّ.

قال الشيخ الأعظم الأنصاريّ : «ومن جملة الشرائط حياة المجتهد ، فلا يجوز تقليد الميّت على المعروف بين أصحابنا ، بل في كلام جماعة دعوى الاتّفاق أو الإجماع عليه. ففي القواعد المليّة في شرح الجعفريّة حكاية الإجماع عن المحقّق الثاني وغيره على ذلك بعد أن استظهر بنفسه الاتّفاق على ذلك أيضا. وعن المسالك دعوى تصريح الأصحاب باشتراط الحياة في العمل بقول المجتهد. وعن الرسالة الّتي صنّفها في هذه المسألة دعوى قطع الأصحاب على أنّه لا يجوز النقل عن الميّت ، وأنّ قوله يبطل بموته. وعن الوحيد البهبهانيّ في بعض كلامه : أنّه أجمع الفقهاء على أنّ المجتهد إذا مات لا حجّيّة في قوله. وفي المعالم : العمل بفتاوى الموتى مخالف لما يظهر من اتّفاق أصحابنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميّت مع وجود الحيّ. وفي رسالة ابن أبي جمهور الأحسائيّ ما يظهر منه دعوى إجماع الإماميّة على أن لا قول للميّت ...». رسالة في الاجتهاد والتقليد : ٥٨ ـ ٥٩. وراجع رسائل الكركيّ ٢ : ٢٥٣ ، والرسائل الفقهيّة (للوحيد البهبهانيّ) : ٥ ـ ٤٥ ، ومسالك الأفهام ١ : ١٢٧ ، ومعالم الدين : ٢٤٨ ، والأقطاب الفقهيّة (لابن أبي جمهور) : ١٦٣.

٣٧٩

وبين العامّة عدمه (١) ، وهو (٢) خيرة الأخباريّين (٣) وبعض المجتهدين من أصحابنا (٤). وربما نقل تفاصيل (٥) ، منها : التفصيل بين البدويّ فيشترط ، والاستمراري فلا يشرط.

والمختار ما هو المعروف بين الأصحاب ، للشكّ في جواز تقليد الميّت ، والأصل عدم جوازه (٦).

[أدلّة القائلين بجواز تقليده مطلقا]

ولا مخرج عن هذا الأصل إلّا ما استدلّ به المجوّز على الجواز من وجوه ضعيفة :

__________________

(١) واستدلّوا عليه بأنّ المذاهب لا تموت بموت أصحابها. راجع شرح البدخشيّ ٣ : ٢٨٧ ، البرهان في اصول الفقه ٢ : ٨٨٤ ـ ٨٨٥ ، الإبهاج ٣ : ٢٦٨ ، المجموع ١ : ٥٥ ، إعانة الطالبين ٤ : ٢٤٩.

(٢) أي : عدم الاشتراط.

(٣) راجع الفوائد المدنيّة : ١٤٩ ، والاصول الأصليّة : ١٥٠.

(٤) وهو المحقّق القمّي في جامع الشتات : ٤٩٦.

(٥) وهي ثلاثة :

أحدها : التفصيل بين ما إذا علم أنّ المجتهد ممّن لا يفتي إلّا بمنطوقات الأدلّة ومدلولاتها الصريحة ـ كابني بابويه ـ فيجوز تقليده ، حيّا كان أو ميّتا ، وبين من لا يعلم أنّه كذلك ، فلا يجوز تقليده كذلك. وهذا ما ذهب إليه الفاضل التوني في الوافية : ٣٠٧.

ثانيها : التفصيل بين ما إذا فقد المجتهد الحيّ فيجوز تقليد الميّت ، وبين ما إذا وجد الحيّ فلا يجوز تقليد الميّت. وهذا ما ذهب إليه المحقّق الأردبيليّ في مجمع الفائدة والبرهان ٧ : ٥٤٧. وهو المحكيّ أيضا عن العلّامة ، فراجع الوافية : ٣٠٠.

ثالثها : ما في المتن من التفصيل بين التقليد البدويّ فلا يجوز ، وبين الاستمراريّ فيجوز. وهذا مختار صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ٤٢٢.

(٦) والمراد من الأصل هو أصل عدم حجّيّة قول المجتهد الميّت عند معارضته لقول المجتهد الحيّ ، لصيرورة قول الميّت ـ حينئذ ـ مشكوك الحجّيّة ، فيشمله عموم الأدلّة الناهية عن متابعة ما وراء العلم.

٣٨٠