كفاية الأصول - ج ٣

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-562-2
الصفحات: ٤٤٣

مردّدا (١) ، أو من جهة تعلّقه بموضوع يقطع بتحقّقه إجمالا في هذا الشهر ، كأيّام حيض المستحاضة مثلا (٢) ـ لما وجبت موافقته بل جازت مخالفته.

وأنّه (٣) لو علم فعليّته ولو كان بين أطراف تدريجيّة لكان منجّزا ووجبت موافقته ، فإنّ التدرّج لا يمنع عن الفعليّة ، ضرورة أنّه كما يصحّ التكليف بأمر حاليّ كذلك يصحّ بأمر استقباليّ ، كالحجّ في الموسم للمستطيع ، فافهم (٤).

__________________

(١) أمّا الاضطرار إلى أحد الأطراف معيّنا فكما إذا كان في أحد الإنائين المشتبهين ماء وفي الآخر ماء الرمّان ، واضطرّ إلى شرب ماء الرّمان للتداوي.

وأمّا الاضطرار إليه مردّدا فكما إذا علم بنجاسة أحد الماءين ، واضطرّ إلى شرب أحدهما لرفع العطش.

(٢) أي : كالمرأة الّتي ترى الدم من أوّل الشهر إلى آخره مستمرّا وتعلم بأنّ الدم في إحدى ثلاثة أيّام متوالية من الشهر دم حيض وفي غيرها استحاضة ، فإنّه لا يجب عليها وعلى زوجها ترتيب أحكام الحيض في أيّام الشهر ، إذ تعلّق علمها الإجماليّ بموضوع يقطع بتحقّقه إجمالا في هذا الشهر ولم تعلم أنّه فيما مضى أو في الحال أو فيما يأتي ، وهذا يمنع عن فعليّة العلم الإجماليّ.

(٣) أي : وممّا ذكرنا يظهر أنّه ...

(٤) لا يخفى : أنّ في قوله : «أطراف تدريجيّة» وجوه :

الأوّل : أن يكون المراد منه كون الأطراف ممّا ينطبق على قطعة من الزمان ، في قبال ما لا ينطبق على قطعة من الزمان ، بل يكون آنيّ الحصول. وعليه يكون معنى العبارة : «أنّ التكليف المعلوم إجمالا لو كان تامّ الفعليّة لكان منجّزا ووجبت موافقته مطلقا ، سواء كان تمام أطرافه أو بعضها من الامور الزمانيّة الّتي لا تتحقّق إلّا بعد مضيّ قطعة من الزمان أو كان تمامها أو بعضها من الامور الآنيّة الحصول».

الثاني : أن يكون المراد من الأطراف التدريجيّة هو الامور الّتي يتمكّن المكلّف من إيجادها في زمان واحد ، في قبال الامور الّتي لا يتمكّن المكلّف من إتيانها إلّا شيئا فشيئا في أزمنة متعدّدة. وعليه يكون معنى العبارة : «لو علم فعليّة التكليف لكان منجّزا ووجبت موافقته مطلقا ، سواء كانت أطراف العلم الإجماليّ من الامور الّتي يتمكّن المكلّف من إيجادها في زمان واحد كشرب الماءين المشتبهين أو النظر إلى المرأتين المشتبهين ، أو كانت من الامور الّتي لا يتمكّن من إيجادها إلّا في أزمنة متعدّدة كوطى المرأتين المشتبهين».

الثالث : أن يكون المراد من الأطراف التدريجيّة ما إذا كانت الأطراف ـ تمامها أو بعضها ـ من الامور المستقبلة الّتي لا تقدر المكلّف على ارتكابها في الحال ، في قبال ما إذا كانت ـ

١٠١

تنبيهات

[حول المقام الأوّل]

الأوّل : [مانعيّة الاضطرار إلى بعض الأطراف عن فعليّة الحكم المعلوم]

انّ الاضطرار كما يكون مانعا عن العلم بفعليّة التكليف لو كان إلى واحد معيّن ، كذلك يكون مانعا لو كان إلى غير معيّن ، ضرورة أنّه (١) مطلقا موجب لجواز ارتكاب أحد الأطراف (٢) أو تركه (٣) تعيينا أو تخييرا (٤) ، وهو ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلا.

وكذلك لا فرق (٥) بين أن يكون الاضطرار كذلك (٦) سابقا على حدوث العلم

__________________

ـ الأطراف من الامور الّتي تقدر المكلّف على ارتكابها في الحال.

والتحقيق : أنّ مراد المصنّف قدس‌سره من العبارة هو الوجه الثالث.

وتوضيحه : أنّه لو علم فعليّة التكليف لكان منجّزا ووجبت موافقته ، سواء كانت أطراف العلم الإجماليّ ممّا يتمكّن المكلّف من ارتكابها أيّها شاء في الحال ، فيتعلّق التكليف بها في الحال ، كما إذا علم بحرمة وطء إحدى المرأتين في هذا اليوم أو علم بحرمة شرب أحد الماءين في الحال ، أو كان بعضها ممّا يمكن للمكلّف إرادة ارتكابه في الحال وبعض آخر ممّا يمكن له إرادة ارتكابه في المستقبل ، كما إذا علم بتعلّق النذر بإعطاء درهم إلى الفقير في أحد اليومين من الأحد والاثنين ، وكذا علم بتعلّق العهد بترك إعطائه إلى الفقير في أحد اليومين من الأحد والاثنين ، فلا يعلم أنّ إعطاء الدرهم واجب في يوم الأحد وحرام في الاثنين أو بالعكس ، ومعلوم أنّ أحد العطاءين ـ وهو العطاء في يوم الاثنين ـ أمر استقباليّ لا يتمكّن المكلّف من إرادة فعله في الحال ـ أي في يوم الأحد ـ. والوجه في التنجّز أنّ التدرّج لا يمنع عن فعليّة التكليف المعلوم التامّ الفعليّة ، ضرورة أنّ التكليف كما يصحّ تعلّقه بأمر حاليّ كذلك يصحّ تعلّقه بأمر استقباليّ ، كالحج في الموسم للمستطيع.

وما ذكره المصنّف قدس‌سره في فوائده من المثال يؤيّد حمل كلامه على الوجه الثالث. فراجع فوائد الاصول (للمصنّف) : ٩٧.

(١) أي : الاضطرار.

(٢) في الشبهة التحريميّة.

(٣) في الشبهة الوجوبيّة.

(٤) أمّا تعيينا : ففي الاضطرار إلى المعيّن. وأمّا تخييرا : ففي الاضطرار إلى غير المعيّن.

(٥) في عدم تنجيز العلم الإجماليّ.

(٦) أي : تعيينا أو تخييرا.

١٠٢

أو لاحقا ، وذلك لأنّ التكليف المعلوم بينها من أوّل الأمر كان محدودا بعدم عروض الاضطرار (١) إلى متعلّقة (٢) ، فلو عرض على بعض أطرافه لما كان التكليف به معلوما ، لاحتمال أن يكون هو (٣) المضطرّ إليه فيما كان الاضطرار إلى المعيّن أو يكون هو المختار فيما كان إلى بعض الأطراف بلا تعيين (٤).

__________________

(١) هكذا في جميع النسخ. ولكن لا تساعد عليه اللغة. والصحيح أن يقول : «عدم عرض الاضطرار».

(٢) لا يخفى : أنّ ذلك إنّما يتمّ فيما كان الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه ، وأمّا لو كان إلى أحدهما المعيّن فلا يكون بمانع عن تأثير العلم للتنجّز ، لعدم منعه عن العلم بفعليّة التكليف المعلوم إجمالا المردّد بين أن يكون التكليف المحدود في ذلك الطرف أو المطلق [أي : المستمرّ] في الطرف الآخر ، ضرورة عدم ما يوجب عدم فعليّة مثل هذا المعلوم أصلا ، وعروض الاضطرار إنّما يمنع عن فعليّة التكليف لو كان في طرف معروضه بعد عروضه ، لا عن فعليّة المعلوم بالإجمال المردّد بين التكليف المحدود في طرف المعروض والمطلق في الآخر بعد العروض. وهذا بخلاف ما إذا عرض الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه ، فإنّه يمنع عن فعليّة التكليف في البين مطلقا ، فافهم وتأمّل. منه [أعلى الله مقامه].

(٣) أي : المكلّف به.

(٤) توضيح ما أفاده : أنّه لو اضطرّ المكلّف إلى بعض أطراف العلم الإجماليّ فتارة يكون الاضطرار إلى طرف معيّن ، واخرى يكون الاضطرار إلى غير معيّن. وعلى كلا التقديرين تارة يحصل الاضطرار قبل العلم الإجماليّ ، واخرى يحصل بعد العلم الإجماليّ ، وثالثة يحصل مقارنا للعلم الإجماليّ. وعلى جميع التقادير تارة يكون الاضطرار بعد تعلّق التكليف ، واخرى يكون قبله ، فللمسألة صور :

الاولى : أن يحصل الاضطرار إلى طرف معيّن قبل التكليف وقبل العلم الإجماليّ به ، كما لو اضطرّ إلى شرب أحد الماءين مثلا ، ثمّ علم بوقوع النجاسة في أحدهما بعد الاضطرار.

الثانية : أن يحدث الاضطرار إلى طرف معيّن بعد تعلّق التكليف بأحدها وقبل العلم الإجماليّ به ، كما إذا كان أحد الماءين نجسا في الواقع ، ولكنّه لم يكن عالما به ، فاضطرّ إلى شرب أحدهما ثمّ علم بأنّ أحدهما كان نجسا قبل الاضطرار.

الثالثة : أن يحدث الاضطرار إلى طرف معيّن بعد التكليف وبعد العلم به ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد المائعين ، فاضطرّ إلى شرب أحدهما لرفع العطش.

الرابعة : أن يحصل الاضطرار إلى واحد معيّن مقارنا للعلم الإجماليّ ، كما لو أصاب النجس أحد الإنائين في الساعة الاولى ، وحصل له العلم بذلك في الساعة الثانية مقارنا ـ

١٠٣

لا يقال : الاضطرار إلى بعض الأطراف ليس إلّا كفقد بعضها ؛ فكما لا إشكال

__________________

ـ للاضطرار إلى شرب أحدهما المعيّن.

الخامسة والسادسة والسابعة : أن يحدث الاضطرار إلى غير المعيّن قبل العلم الإجماليّ أو بعده أو مقارنا له. وأمثلتها واضحة.

هذه رءوس الصور المتصوّرة في المقام. ويتّضح حكم غيرها بعد بيان حكم هذه الصور.

ذهب المصنّف قدس‌سره إلى أنّ الاضطرار مانع عن تنجيز العلم الإجمالي في جميع الصور ، فلا يجب في الصور كلّها الاجتناب عن الأطراف الأخر.

نعم ، كلماته في حكم الصورة الثالثة مضطربة ، فذهب في متن الكتاب وفوائد الاصول : ٩٥ إلى عدم تنجيز العلم الإجماليّ في هذه الصورة أيضا. وعدل عنه في هامش الكتاب ـ كما مرّ ـ والتزم ببقاء التنجيز في الطرف غير المضطرّ إليه.

واستدلّ على مدّعاه في متن الكتاب بأنّ تنجّز التكليف يدور مدار المنجّز حدوثا وبقاء ، والمفروض أنّ المنجّز هو العلم الإجماليّ بالتكليف الفعليّ ، وهو ينتفي بطروء الاضطرار ، لأنّ الاضطرار من حدود التكليف المعلوم بين الأطراف ، بمعنى أنّه مشروط من أوّل الأمر بعدم طروء الاضطرار إلى متعلّقه ، فلو عرض الاضطرار إلى بعض أطرافه ينتفي العلم بالتكليف الفعليّ المنجّز ، وإذا انتفى العلم به ينتفي التكليف المنجّز ، ولا مقتضي لوجوب الاجتناب عن سائر الأطراف.

وأمّا في الهامش فقرّب التنجيز في الطرف غير المضطرّ إليه بأنّ العلم الإجماليّ تعلّق بالتكليف المردّد بين المحدود والمطلق ، لأنّ التكليف في أحد الطرفين ـ وهو المضطرّ إليه ـ محدود بطروء الاضطرار ، وهو في الطرف الآخر ـ على تقدير ثبوته ـ مطلق ومستمرّ ، فيكون المقام من قبيل تعلّق العلم الإجماليّ بالتكليف المردّد بين القصير والطويل ، نظير ما إذا علم بوجوب الجلوس في هذا المسجد ساعة أو في ذلك المسجد ساعتين. وحينئذ يكون الاضطرار إلى طرف معيّن موجبا لانتهاء التكليف في ذلك الطرف بانتهاء أمده لأجل الاضطرار ، وهذا لا يوجب انتهائه في الطرف الآخر.

واختار الشيخ الأعظم الأنصاريّ تنجيز العلم الإجماليّ في هذه الصورة والصور الخامسة والسادسة والسابعة. وتبعه المحقّقون : النائينيّ والعراقيّ والحائريّ والخمينيّ والخوئيّ. فراجع فرائد الاصول ٢ : ٤٢٥ ، فوائد الاصول ٤ : ٩٤ ـ ١٠٢ ، مقالات الاصول ٢ : ٢٤٤ ـ ٢٤٥ ، أنوار الهداية ٢ : ٢٠٩ ـ ٢١٠ ، الهداية في الاصول ٣ : ٣٩٧ و ٤٠١ ، درر الفوائد ٢ : ١١٩.

واتّفقوا أيضا على عدم التنجيز في الصورة الرابعة. ولعلّه لم يذكره المصنّف قدس‌سره في المقام. فراجع فوائد الاصول ٤ : ٩٥ ، نهاية الأفكار ٣ : ٣٥٠ ، أجود التقريرات ٢ : ٢٦٦ ، أنوار الهداية ٢ : ٢٠٩ ، مصباح الاصول ٢ : ٣٦٣ ، وغيرها من المطوّلات.

١٠٤

في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان ، كذلك لا ينبغي الإشكال في لزوم رعايته مع الاضطرار ، فيجب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه خروجا عن عهدة ما تنجّز عليه قبل عروضه.

فإنّه يقال : حيث إنّ فقد المكلّف به ليس من حدود التكليف به وقيوده ، كان التكليف المتعلّق به مطلقا ، فإذا اشتغلت الذمّة به كان قضيّة (١) الاشتغال به يقينا الفراغ عنه كذلك ، وهذا بخلاف الاضطرار إلى تركه (٢) ، فإنّه من حدود التكليف به وقيوده ، ولا يكون الاشتغال به من الأوّل إلّا مقيّدا بعدم عروضه (٣) ، فلا يقين باشتغال الذمّة بالتكليف به إلّا إلى هذا الحدّ ، فلا يجب رعايته فيما بعده ، ولا يكون إلّا من باب الاحتياط في الشبهة البدويّة ، فافهم وتأمّل ، فإنّه دقيق جدّا (٤).

الثاني : [شرطيّة الابتلاء بتمام الأطراف في تنجيز العلم الإجماليّ] (٥)

أنّه لمّا كان النهي عن الشيء (٦) إنّما هو لأجل أن يصير داعيا للمكلّف نحو

__________________

(١) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «كانت قضيّة ...».

(٢) أو إلى ارتكابه.

(٣) أي : عدم طروء الاضطرار.

(٤) وأورد السيّد الإمام الخمينيّ على ما أفاده في كلّ من المتن والهامش. فراجع أنوار الهداية ٢ : ٢١٢ ـ ٢١٣.

(٥) لا يخفى : أنّه لا ريب في اعتبار القدرة العقليّة على جميع أطراف العلم الإجماليّ في منجّزيّته واستحقاق العقوبة على مخالفته. وانّما الكلام في أنّه هل يعتبر في توجّه الخطاب إلى المكلّف وتنجّزه إمكان الابتلاء عادة بجميع الأطراف أم لا يعتبر؟

ذهب بعضهم إلى اعتباره في خصوص النهي والشبهات التحريميّة دون الأمر والشبهات الوجوبيّة ، كالشيخ الأعظم والمحقّق النائينيّ. فراجع فرائد الاصول ٢ : ٢٣٣ ، فوائد الاصول ٤ : ٥١.

وذهب بعض آخر ـ كالمصنّف قدس‌سره في المقام والمحقّق العراقيّ ـ إلى اعتباره في النهي والأمر. راجع ما يأتي في حاشية الكتاب ، ونهاية الأفكار ٣ : ٣٣٨.

وذهب بعض آخر ـ كالمحقّق الاصفهانيّ والسيّدين العلمين : الخوئيّ والخمينيّ ـ إلى عدم اعتباره أصلا. راجع نهاية الدراية ٢ : ٦٠١ ، مصباح الاصول ٢ : ٣٩٥ ، أنوار الهداية ٢ : ٢١٤ ـ ٢١٩.

(٦) كما أنّه إذا كان فعل الشيء الّذي كان متعلّقا لغرض المولى ممّا لا يكاد عادة أن يتركه ـ

١٠٥

تركه لو لم يكن له داع آخر ، ولا يكاد يكون ذلك إلّا فيما يمكن عادة ابتلاؤه به ، وأمّا ما لا ابتلاء به بحسبها ، فليس للنهي عنه موقع أصلا (١) ، ضرورة أنّه (٢) بلا فائدة ولا طائل ، بل يكون من قبيل طلب الحاصل ، كان (٣) الابتلاء بجميع الأطراف ممّا لا بدّ منه في تأثير العلم ، فإنّه بدونه لا علم بتكليف فعليّ ، لاحتمال تعلّق الخطاب بما لا ابتلاء به (٤).

__________________

ـ العبد وأن لا يكون له داع إليه لم يكن للأمر به والبعث إليه موقع أصلا ، كما لا يخفى. منه [أعلى الله مقامه].

(١) ولا يخفى : أنّ الظاهر من هذه العبارة اختصاص اعتبار هذا الشرط بخصوص النهي والشبهات التحريميّة ، كما هو ظاهر عبارة الشيخ الأعظم في فرائد الاصول ٢ : ٢٢٣. وتبعهما المحقّق النائينيّ ، فصرّح بعدم اعتباره في الأمر والشبهات الوجوبيّة ، فقال : «وانّما زيد هذا القيد في خصوص النواهي ، ولم يعتبر في الأوامر التمكّن العاديّ من الفعل مضافا إلى التمكّن العقليّ ، لأنّ الأمر بالفعل انّما يكون لأجل اشتمال الفعل على مصلحة لازمة الاستيفاء في عالم التشريع ، ولا يقبح من المولى التكليف بإيجاد ما اشتمل على المصلحة بأيّ وجه أمكن ولو بتحصيل الأسباب البعيدة الخارجة عن القدرة العادية مع التمكن العقليّ من تحصيلها». فوائد الاصول ٤ : ٥١ ـ ٥٢.

ولكنّ المصنّف قدس‌سره أشار في حاشية الكتاب إلى عدم اعتباره في الأوامر والشبهات الوجوبيّة أيضا ، كما مرّت حاشيته ذيل التعليقة (٦) من الصفحة السابقة.

ووسّعه المحقّق العراقيّ أيضا واستدلّ على اعتباره كذلك بأنّ توجيه النهي أو الأمر بما خارج عن الابتلاء مستهجن ، لأنّ البعد عن العمل بمثابة يرى العرف مثل هذا الشخص أجنبيّا عنه ، بحيث لا يحسنون توجيه الخطاب نحوه. راجع نهاية الأفكار ٣ : ٣٣٨ ، وهامش فوائد الاصول ٤ : ٥٢.

(٢) أي : النهي عمّا لا ابتلاء به بحسب العادة.

(٣) قوله : «كان» جواب لقوله : «لمّا».

(٤) حاصل ما أفاده في الاستدلال على اعتبار الابتلاء بجميع الأطراف أمران :

الأوّل : ما أشار إليه بقوله : «ضرورة أنّه بلا فائدة ولا طائل». وحاصله : أنّ توجيه الخطاب إلى غير مورد الابتلاء لغو ، إذ غرض الشارع من النهي إيجاد الداعي إلى الترك ، كما أنّ غرضه من الأمر إيجاد الداعي إلى الفعل ، وهو لا يتحقّق فيما إذا كان الفعل خارجا عن محلّ الابتلاء ، فتوجيه الخطاب إليه لغو. ولغويّة الخطاب وإن كان أمرا ممكنا ذاتا إلّا أنّه مستحيل على الحكيم عقلا ، لمنافاته للحكمة.

١٠٦

ومنه قد انقدح : أنّ الملاك في الابتلاء المصحّح لفعليّة الزجر وانقداح طلب تركه في نفس المولى فعلا ، هو ما إذا صحّ انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد مع اطّلاعه على ما هو عليه من الحال.

__________________

ـ الثاني : ما أشار إليه بقوله : «بل يكون من قبيل طلب الحاصل». وحاصله : أنّ الغرض من النهي ليس إلّا ترك المنهي عنه ، وهو في غير مورد الابتلاء حاصل بنفس عدم الابتلاء ، فطلب تركه بالنهي عنه طلب الحاصل ، وهو ممتنع ذاتا.

وقد مرّ أنّ المحقّق العراقيّ قد استدلّ على اعتبار الابتلاء بوجه آخر. فراجع التعليقة (١) من الصفحة السابقة.

ثمّ إنّه قد استدلّ على عدم اعتبار الابتلاء بامور :

الأوّل : ما استدلّ به المحقّق الاصفهانيّ ، وحاصله : أنّ حقيقة التكليف جعل ما يمكن أن يكون داعيا ويصلح لأن يكون باعثا ، بحيث لو انقاد العبد للمولى لانقدح الداعي في نفسه بدعوة البعث أو الزجر ، فيفعل أو يتحرّك بسبب جعل الداعي. وهذه الصفة محفوظة ، سواء كان للمكلّف داع إلى الفعل كما في التوصّلي الّذي يأتي به بداعي هواه ، أو كان له داع إلى تركه كما في العاصي ، أو لم يكن له داع إلى الفعل من قبل نفسه كما في ما نحن فيه. وعليه فمجرّد كونه خارجا عن مورد الابتلاء لا يرجع إلى محصّل. نهاية الدراية ٢ : ٦٠٢ ـ ٦٠٣.

الثاني : ما استدلّ به السيّد المحقّق الخوئيّ ، وحاصله : أنّ الغرض من الأوامر والنواهي الشرعيّة غير الغرض من الأوامر والنواهي العرفيّة ، فإنّ الغرض من العرفيّة ليس إلّا تحقّق الفعل أو تركه خارجا ، وحينئذ كان الأمر بشيء حاصل بنفسه لغوا وطلبا للحاصل. بخلاف الأوامر والنواهي الشرعيّة ، فإنّ الغرض منها ليس مجرّد تحقّق الفعل خارجا ، بل الغرض صدور الفعل استنادا إلى أمر المولى وكون الترك مستندا إلى نهيه ليحصل لهم بذلك الكمال النفسانيّ. وحينئذ لا قبح في الأمر بشيء حاصل بنفسه عادة ، ولا في النهي عن شيء متروك بنفسه ، فلا يعتبر في تنجيز العلم الإجماليّ عدم كون بعض الأطراف خارجا من محلّ الابتلاء. مصباح الاصول ٢ : ٣٩٥ ـ ٣٩٦.

الثالث : ما أفاده السيّد الإمام الخمينيّ ، ومحصّله : أنّ قبح التكليف بالخارج عن الابتلاء انّما هو في الخطاب الشخصيّ إلى آحاد المكلّفين. وأمّا الخطابات الكلّيّة المتوجّهة إلى عامّة المكلّفين فلا يقدح فيها عجز بعضهم عن الامتثال ، بل انّما يقدح فيما إذا كان العموم غير متمكّن عادة ، فالخطاب فعليّ ولو كان بعضهم عاجزين من جهة كون بعض الموارد خارجا عن محلّ الابتلاء ، غاية الأمر يكون العاجز معذورا في تركه مع الاضطرار الفعليّ. أنوار الهداية ٢ : ٢١٤ ـ ٢١٩.

١٠٧

ولو شكّ في ذلك (١) كان المرجع هو البراءه ، لعدم القطع بالاشتغال ، لا إطلاق الخطاب ، ضرورة أنّه لا مجال للتشبّث به إلّا فيما إذا شكّ في التقييد

__________________

(١) أي : في الابتلاء.

وهذا شروع في بيان حكم الشكّ في الابتلاء. وتوضيح محلّ البحث : أنّه لا شكّ في فعليّة التكليف مع العلم بكون مورد في معرض الابتلاء ، كما لا شكّ في عدم فعليّته مع العلم بكونه خارجا عن محلّ الابتلاء. وانّما الكلام فيما إذا شكّ في مورد هل يكون داخلا في محلّ الابتلاء أو يكون خارجا عنه؟ فهل يرجع إلى إطلاقات أدلّة التكليف ويحكم بشموله للمشكوك أو يرجع إلى أصل البراءة أو يرجع إلى أصل الاحتياط؟

ذهب الشيخ الأعظم الأنصاريّ إلى الأوّل. وتبعه المحقّق النائينيّ بدعوى أنّ إطلاق ما دلّ على حرمة شرب الخمر ـ مثلا ـ يشمل كلتا صورتي الابتلاء به وعدمه ، والقدر الثابت من التقييد والخارج عن الإطلاق عقلا هو ما إذا كان الخمر خارجا عن مورد الابتلاء ، بحيث يلزم استهجان النهي عنه بنظر العرف ، فإذا شكّ في استهجان النهي وعدمه في مورد الشكّ في إمكان الابتلاء به وعدمه فالمرجع هو إطلاق الدليل. راجع فرائد الاصول ٢ : ٢٣٨ ، فرائد الاصول ٤ : ٥٥ ـ ٥٨.

وذهب المصنّف قدس‌سره إلى الثاني. وتبعه السيّد الإمام الخمينيّ في أنوار الهداية ٢ : ٢٢١.

واستدلّ المصنّف قدس‌سره عليه بأنّ فعليّة التكليف منوطة بالابتلاء بالمتعلّق ، فإذا شكّ في الابتلاء به يشكّ في التكليف الفعليّ ، وهو مجرى أصالة البراءة.

ثمّ أشار بقوله : «لا إطلاق الخطاب» إلى عدم صحّة ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاريّ من الرجوع إلى الإطلاقات والحكم بالاجتناب عن المشكوك خروجه عن محلّ الابتلاء. وحاصل ما أفاده : أنّ التمسّك بالإطلاق يتفرّع على صحّة الإطلاق في نفسه ثبوتا ، ومع الشكّ في إمكان الإطلاق ثبوتا لا أثر للإطلاق إثباتا. وهو في المقام مشكوك فيه ، فإذا شكّ في دخول مورد في محلّ الابتلاء يرجع إلى الشكّ في إمكان الإطلاق بالنسبة إليه ، ومع الشكّ في إمكانه ثبوتا لا ينفع الرجوع إلى الإطلاق في مقام الإثبات.

وذهب المحقّق العراقيّ إلى الثالث ، بدعوى رجوع الشكّ المزبور إلى الشكّ في القدرة المحكوم عقلا بوجوب الاحتياط ، فإنّه بعد تماميّة مقتضيات التكليف من طرف المولى وعدم دخل قدرة المكلّف بكلا قسميها ـ من الفعليّة والعاديّة ـ في ملاكات الأحكام يستقلّ العقل بلزوم رعاية الملاك بالاحتياط. نهاية الأفكار ٣ : ٣٤٢.

ثمّ فصّل السيّد المحقّق الخوئيّ بين الشبهة المفهوميّة وبين الشبهة المصداقيّة ، فوافق الشيخ في الاولى والمصنّف في الثانية. مصباح الاصول ٢ : ٣٩٧ ـ ٤٠٠.

١٠٨

بشيء (١) بعد الفراغ عن صحّة الإطلاق بدونه (٢) ، لا فيما شكّ في اعتباره في صحّته (٣) ، تأمّل لعلّك تعرف إن شاء الله تعالى.

الثالث : [تنجيز العلم الإجماليّ في الشبهة غير المحصورة]

أنّه قد عرفت أنّه مع فعليّة التكليف المعلوم لا تفاوت بين أن تكون أطرافه محصورة وأن تكون غير محصورة (٤).

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «في التقييد به».

(٢) أي : بدون ذلك الشيء المشكوك.

(٣) نعم ، لو كان الإطلاق في مقام يقتضي بيان التقييد بالابتلاء لو لم يكن هناك ابتلاء مصحّح للتكليف كان الإطلاق وعدم بيان التقييد دالّا على فعليّته ووجود الابتلاء المصحّح لهما ، كما لا يخفى ، فافهم. منه [أعلى الله مقامه].

ولا يخفى : أنّ العبارة غامضة ، والأولى أن يقول : «لا فيما إذا شكّ في وجود ما اعتبر في صحّة الإطلاق».

(٤) فتجب الموافقة القطعيّة برعاية الاحتياط كما تحرم المخالفة القطعيّة. بخلاف ما عن الشيخ الأعظم الأنصاريّ من التفصيل بين الموافقة القطعيّة فلا تجب وبين المخالفة القطعيّة فتحرم. راجع فرائد الاصول ٢ : ٢٥٧ و ٢٦٥ ، فوائد الاصول ٤ : ١١٩.

وفي المقام أقوال أخر لا بأس بالإشارة إليها :

منها : عدم وجوب الاحتياط مطلقا ، فلا تجب الموافقة القطعيّة ، بل تجوز المخالفة القطعيّة. ذهب إليه السيّد الإمام الخمينيّ في تهذيب الاصول ٢ : ٣٩٥ ، انوار الهداية ٢ : ٢٢٨.

ومنها : التفصيل بين الشبهات التحريميّة والشبهات الوجوبيّة ، بأنّ الحكم في الشبهة التحريميّة غير المحصورة هو جواز المخالفة القطعيّة وعدم وجوب الموافقة القطعيّة ، وهو في الشبهة الوجوبيّة لزوم الاحتياط في الجملة ووجوب الموافقة الاحتماليّة. وهذا مختار المحقّق النائينيّ في فوائد الاصول ٤ : ١١٨ ـ ١١٩.

ومنها : عدم وجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة. وهذا يظهر من المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ٣ : ٣٣١.

ومنها : التفصيل بين ما إذا تمكّن المكلّف من المخالفة القطعيّة دون الموافقة القطعيّة وبين ما إذا تمكّن من الموافقة القطعيّة دون المخالفة القطعيّة. فعلى الأوّل تحرم المخالفة القطعيّة وتجوز الموافقة القطعيّة. وعلى الثاني تجب الموافقة القطعيّة وإن لم تكن المخالفة القطعيّة حراما ، لعجز المكلّف عنها. وهذا مختار السيّد المحقّق الخوئيّ في مصباح الاصول ٢ : ٣٧٥ ـ ٣٧٦.

١٠٩

نعم ، ربما تكون كثرة الأطراف في مورد موجبة لعسر موافقته القطعيّة باجتناب كلّها (١) أو ارتكابه (٢) أو ضرر فيها أو غيرهما (٣) ممّا لا يكون معه التكليف فعليّا بعثا أو زجرا فعلا (٤) ، وليس بموجبة (٥) لذلك في غيره. كما أنّ نفسها ربما تكون موجبة لذلك ولو كانت قليلة في مورد آخر. فلا بدّ من ملاحظة ذاك الموجب لرفع فعليّة التكليف المعلوم بالإجمال أنّه يكون ، أو لا يكون في هذا المورد ، أو يكون مع كثرة أطرافه (٦)؟ وملاحظة أنّه مع أيّة مرتبة من كثرتها؟ كما لا يخفى.

ولو شكّ في عروض الموجب (٧) ، فالمتّبع هو إطلاق دليل التكليف لو كان ، وإلّا فالبراءة لأجل الشكّ في التكليف الفعليّ.

هذا هو حقّ القول في المقام. وما قيل في ضبط المحصور وغيره لا يخلو من الجزاف(٨).

__________________

(١) في الشبهة التحريميّة.

(٢) في الشبهة الوجوبيّة.

(٣) أي : غير العسر والضرر.

(٤) هكذا في النسخ. والصحيح أن يحذف قوله : «فعلا» ، فإنّه مستدرك. والأولى منه أن يقول :

«ممّا لا يكون معه التكليف ـ بعثا أو زجرا ـ فعليّا».

(٥) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «وليست بموجبة» أي : وليست كثرة الأطراف بموجبة لعسر الموافقة أو ضرر فيها أو غيرهما في غير ذلك المورد.

(٦) هكذا في النسخ. والأولى سوق العبارة هكذا. «فلا بدّ من ملاحظة أنّه هل يكون في هذا المورد ما يوجب رفع فعليّة التكليف المعلوم بالإجمال أو لا يكون أو يكون مع كثرة أطرافه؟».

(٧) هكذا في النسخ. ولكن اللغة لا تساعد عليه. فالصحيح أن يقول : «في عرض الموجب».

وغرض المصنّف قدس‌سره بيان حكم الشكّ في التكليف الفعليّ من جهة الشكّ في طروء ما يوجب ارتفاع فعليّة التكليف. فهل هو إطلاق الدليل الدالّ على ثبوت التكليف فيحكم بلزوم الإتيان في الشبهات الوجوبيّة ولزوم الاجتناب في الشبهات التحريميّة ، أو هو إجراء أصالة البراءة؟ ذهب المصنّف قدس‌سره إلى لزوم اتّباع إطلاق الدليل لو كان ، وإلّا فيكون المرجع هو البراءة.

(٨) لا بأس بالإشارة إلى بعض ما قيل في تعريف غير المحصور ، وهو ما يلي :

الأوّل : أنّ غير المحصور هو ما يعسر عدّها. مدارك الأحكام ٣ : ٣٥٣.

الثاني : أنّ غير المحصور ما كانت كثرة الاحتمال بحدّ يكون احتمال التكليف في كلّ ـ

١١٠

الرابع (١) : [حكم ملاقي بعض أطراف المعلوم بالإجمال]

أنّه إنّما يجب عقلا رعاية الاحتياط في خصوص الأطراف ممّا يتوقّف على اجتنابه أو ارتكابه حصول العلم بإتيان الواجب أو ترك الحرام المعلومين (٢) في البين دون غيرها (٣) ، وإن كان حاله حال بعضها في كونه محكوما بحكمه (٤) واقعا.

ومنه ينقدح الحال في مسألة ملاقاة شيء مع أحد أطراف النجس المعلوم بالإجمال :

وأنّه تارة يجب الاجتناب عن الملاقى دون ملاقيه فيما كانت الملاقاة بعد العلم إجمالا بالنجس بينها ، فإنّه إذا اجتنب عنه وطرفه اجتنب عن النجس في

__________________

ـ واحد من الأطراف موهوما لا يعتني به العقلاء ، بل يرون الاعتناء به نوعا من الوسوسة. فرائد الاصول ٢ : ٤٣٣ و ٤٣٨.

الثالث : أنّ غير المحصور ما تعسر موافقتها القطعيّة. حاشية كفاية الاصول (للبروجرديّ) ٢ : ٢٨٧ ـ ٢٨٩.

الرابع : أنّ غير المحصور ما كانت كثرة الأطراف بحدّ يستلزم عدم تمكّن المكلّف عادة من المخالفة القطعيّة بارتكاب جميع الأطراف وإن كان كلّ طرف في نفسه مقدورا عادة.

أجود التقريرات ٣ : ٤٧١ و ٤٧٢ ، فوائد الاصول ٤ : ١١٧.

الخامس : أنّ الميزان هو الصدق العرفيّ. روض الجنان : ٢٢٤.

السادس : أنّ الميزان أن تكون الكثرة بمثابة لا يعتني العقلاء باحتمال كون الواقع في بعض الأطراف في مقابل البقيّة ، لضعف الاحتمال الحاصل لأجل الكثرة. أنوار الهداية ٢ : ٢٣١.

وذكر المحقّق الخوئيّ أكثر هذه الوجوه ثمّ ناقش فيها جميعا وقال : «لم يظهر لنا معنى محصّل مضبوط للشبهة غير المحصورة». مصباح الاصول ٢ : ٣٧٥.

(١) هذا هو الصحيح. بخلاف ما في بعض النسخ من قوله : «الثالث».

(٢) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «المعلوم» ، إلّا أن تكون كلمة «أو» في قوله : «أو ترك الحرام» بمعنى الواو.

(٣) أي : غير الأطراف الّتي يتوقّف حصول العلم بإتيان الواجب أو ترك الحرام على ارتكابها أو اجتنابها.

(٤) وفي بعض النسخ : «محكوما بحكم». والصحيح ما أثبتناه.

١١١

البين قطعا ولو لم يجتنب عمّا يلاقيه ، فإنّه على تقدير نجاسته لنجاسته كان فردا آخر من النجس قد شكّ في وجوده ، كشيء آخر شكّ في نجاسته بسبب آخر (١).

ومنه ظهر : أنّه لا مجال لتوهّم أنّ قضيّة تنجّز الاجتناب عن المعلوم هي الاجتناب عنه أيضا ، ضرورة أنّ العلم به إنّما يوجب تنجّز الاجتناب عنه ، لا تنجّز الاجتناب عن فرد آخر لم يعلم حدوثه ، وإن احتمل (٢).

واخرى يجب الاجتناب عمّا لاقاه دونه (٣) فيما لو علم إجمالا بنجاسته (٤) أو

__________________

(١) والحاصل : أنّه إذا علم إجمالا بنجاسة أحد المائعين المفروض أحدهما في ظرف أبيض والآخر في ظرف أحمر ، ثمّ علم بملاقاة ثوب لما في الأبيض ـ مثلا ـ. فحينئذ وجب الاجتناب عن الملاقى (ما في الأبيض) دون الملاقي (الثوب) ، لأنّ الملاقي (الثوب) على تقدير نجاسته بسبب نجاسة الملاقى (المائع) يكون فردا آخر من أفراد النجس قد شكّ في نجاسته ، كما يشكّ في نجاسة فرد آخر بسبب آخر غير الملاقاة ، فكما لا يجب الاجتناب عن الفرد المشكوك النجاسة بسبب آخر كذلك لا يجب الاجتناب عن الملاقي (الثوب). وأمّا وجوب الاجتناب عن الملاقى فلأنّ المفروض فعليّة التكليف المعلوم بالإجمال بالنسبة إليه.

(٢) والحاصل : أنّ هاهنا وهم ودفع :

محصّل الوهم : أنّه كما يجب الاجتناب عن الملاقى يجب الاجتناب عن الملاقي (الثوب). والوجه في ذلك أنّ الملاقي من شئون الملاقى ، فيكون الاجتناب عن الملاقي من شئون الاجتناب عن الملاقى ، وحينئذ يكون تنجّز الاجتناب عن الملاقى مقتضيا لتنجّز الاجتناب عن الملاقي.

ومحصّل الدفع : أنّ الموجب لتنجّز الاجتناب هو العلم التفصيليّ أو الإجماليّ بنجاسة الشيء. ولا شكّ في أنّ العلم الإجماليّ انّما يتعلّق بنجاسة أحد ما في الأبيض أو الأحمر. والملاقي لأحدهما فرد من النجس إذا كان الملاقى نجسا واقعا ، وليس بفرد له إذا كان الملاقى طاهرا واقعا. وبما أنّ الملاقاة بعد العلم الإجماليّ بأنّ النجس بينهما فلا يشمل العلم الإجماليّ هذا الفرد الّذي حدوثه غير معلوم ، بل لا يكون في البين إلّا مجرّد الاحتمال. وحينئذ فالعلم إجمالا بنجاسة أحد المائعين واقعا انّما يوجب تنجّز الاجتناب عن المعلوم ـ وهو المائعان ـ ، لا تنجّز الاجتناب عن فرد آخر لم يعلم حدوثه ـ وهو الملاقى ـ.

(٣) أي : يجب الاجتناب عن الملاقي (الثوب) دون الملاقى (المائع المردّد).

(٤) أي : نجاسة ما لاقاه (الملاقي).

١١٢

نجاسة شيء آخر ، ثمّ حدث العلم بالملاقاة (١) والعلم بنجاسة الملاقى أو ذاك الشيء أيضا (٢) ، فإنّ حال الملاقى (٣) في هذه الصورة بعينها حال ما لاقاه في الصورة السابقة في عدم كونه طرفا للعلم الإجماليّ (٤) وأنّه فرد آخر على تقدير نجاسته واقعا غير معلوم النجاسة أصلا ، لا إجمالا ولا تفصيلا.

وكذا لو علم بالملاقاة ثمّ حدث العلم الإجماليّ ، ولكن كان الملاقى خارجا عن محلّ الابتلاء في حال حدوثه (٥) وصار مبتلى به بعده (٦).

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «ثمّ حدث الملاقاة». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) مثاله : ما إذا علمنا يوم السبت إجمالا بنجاسة الثوب أو المائع الموجود في الإناء الأبيض ، ثمّ علمنا يوم الأحد بأمرين : (أحدهما) علمنا تفصيلا بملاقاة الثوب للإناء الأحمر في يوم الجمعة.

(ثانيهما) علمنا إجمالا بنجاسة ما في الإناء الأبيض أو ما في الإناء الأحمر في يوم الجمعة.

والمصنّف قدس‌سره حكم بوجوب الاجتناب عن الملاقي (الثوب) دون الملاقى (ما في الإناء الأحمر). وذلك لأنّ العلم الإجماليّ الأوّل ـ أي العلم الإجماليّ الحادث يوم السبت ـ يوجب تنجّز التكليف ـ وهو النجاسة ـ في طرفيه ـ أي الثوب والإناء الأبيض ـ ، فيجب الاجتناب عن الثوب (الملاقي) والإناء الأبيض. وأمّا الملاقى ـ وهو الإناء الأحمر ـ فهو متعلّق العلم الإجماليّ الثاني ـ أي العلم الإجماليّ الحادث يوم الأحد ـ ، وهو غير منجّز بعد تنجيز العلم الإجماليّ الأوّل الحادث يوم السبت ، فيصير الملاقى مشكوك النجاسة بالشكّ البدويّ ولا مانع من إجراء أصالة الطهارة أو غيرها فيه.

(٣) وإن لم يكن احتمال نجاسة ما لاقاه إلّا من قبل ملاقاته. منه [أعلى الله مقامه].

(٤) أي : عدم كونه طرفا للعلم الإجماليّ المنجّز ، وهو العلم الإجماليّ الأوّل.

(٥) أي : حال حدوث العلم.

(٦) هذا مورد آخر ممّا يجب فيه الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى. مثاله : ما إذا علمنا بغسل ثوب متنجّس بالماء الموجود في الإناء الأبيض ، ثمّ علمنا إجمالا بنجاسة الملاقى ـ أي الماء الموجود في الإناء الأبيض ـ أو نجاسة الماء الموجود في الإناء الأحمر ، لكن كان الملاقى ـ ما في الأبيض ـ حين حدوث العلم الإجماليّ خارجا عن محلّ الابتلاء ، ثمّ صار الإناء الأبيض مبتلى به. فحينئذ يجب الاجتناب عن الملاقي (الثوب) والإناء الأحمر دون الملاقى (الإناء الأبيض) ، لتنجّز نجاستهما بالعلم الإجماليّ الّذي حصل بعد العلم بالملاقاة ، ولوقوع المعارضة بين جريان أصالة الطهارة في الملاقي وجريانها في الماء الموجود في الإناء الأحمر ، فيتساقطان ، ويجب الاجتناب عن كلّ منهما مقدّمة لامتثال الخطاب الفعليّ المعلوم إجمالا. ـ

١١٣

وثالثة يجب الاجتناب عنهما (١) فيما لو حصل العلم الإجماليّ بعد العلم بالملاقاة ، ضرورة أنّه حينئذ نعلم إجمالا إمّا بنجاسة الملاقي والملاقى أو بنجاسة الآخر كما لا يخفى ، فيتنجّز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين وهو الواحد أو الاثنين (٢).

__________________

ـ وأمّا الملاقى : فلا يكون طرفا للعلم الإجماليّ المنجّز ، ولا تجري فيه أصالة الطهارة ، لأنّ المفروض أنّه خارج عن محلّ الابتلاء ، وإذا كان خارجا عن محلّ الابتلاء لا يترتّب على جريان الأصل فيه أثر فعليّ عمليّ ، ويعتبر في جريان الأصل ترتّب الأثر العمليّ عليه. وعليه فلا يكون الملاقى عدلا للملاقي والطرف الآخر كي يقال : «إنّ أصالة الطهارة تجري فيه أيضا ، وتقع المعارضة بين جريانها فيه وبين جريانها في الملاقي والطرف الآخر ، وإذا تعارضت الاصول الثلاثة يجب الاجتناب عن الملاقي والطرف الآخر والملاقى مقدّمة لحصول امتثال التكليف المعلوم بالإجمال». نعم ، إذا رجع الملاقى إلى محلّ الابتلاء فتجري أصالة الطهارة فيه بلا معارض ، لسقوط الأصل في الطرف الآخر قبل رجوعه إلى محلّ الابتلاء.

وبالجملة : فلا يجب الاجتناب عن الملاقى.

وأورد عليه السيّدان العلمان : الخمينيّ والخوئيّ تبعا للمحقّق العراقيّ بما حاصله : أنّ خروج الشيء عن محلّ الابتلاء لا يكون مانعا عن جريان الأصل فيه إذا كان له أثر فعليّ ، وما نحن فيه كذلك ، فإنّ الملاقى وإن كان خارجا من محلّ الابتلاء ، إلّا أنّه يترتّب على جريان أصالة الطهارة فيه الحكم بطهارة ملاقيه. وإذا جرت أصالة الطهارة فيه فيعارض جريانها في الطرف الآخر ـ أي ما في الإناء الأحمر في المثال السابق ـ ، وبعد سقوطهما يجب الاجتناب عن الملاقى والطرف الآخر ، وتصل النوبة إلى أصالة الطهارة الجارية في الملاقي (الإناء الأبيض) ، فتجري فيه لسقوط معارضها ـ وهو أصالة الطهارة الجارية في الطرف الآخر (الإناء الأحمر) ـ ، فلا يجب الاجتناب عن الملاقي. راجع نهاية الأفكار ٣ : ٣٦٣ ـ ٣٦٤ ، أنوار الهداية ٢ : ٢٥١ ، مصباح الاصول ٢ : ٤٢٣.

(١) أي : عن الملاقي والملاقى.

(٢) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «أو الاثنان».

ولا يخفى : أنّ المحقّق النائينيّ ـ تبعا للشيخ الأعظم الأنصاريّ ـ ذهب إلى عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي في هذه الصورة ـ بل في جميع الصور ـ ، بدعوى أنّ الأصل الجاري في الملاقي متأخّر رتبة عن الأصل الجاري في الملاقى ، إذ الشكّ في نجاسة الملاقي ناش عن الشكّ في نجاسة ما لاقاه ولا تصل النوبة إلى جريان الأصل في الملاقي الّا بعد سقوط الأصل فيما لاقاه ، وبعد سقوطه يجري الأصل في الملاقي بلا معارض. فرائد الاصول ٢ : ٢٤٠ ـ ٢٤٥ ، فوائد الاصول ٤ : ٨٢ ـ ٨٨ ، أجود التقريرات ٣ : ٤٤٦ و ٤٥٠ ـ ٤٥٣. ـ

١١٤

المقام الثاني

في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين (١)

[المختار : جريان الاحتياط عقلا الدليل الاول]

والحقّ أنّ العلم الإجماليّ بثبوت التكليف بينهما أيضا (٢) يوجب الاحتياط

__________________

ـ وظاهر إفادات الشيخ المحقّق الاصفهانيّ موافقته للمصنّف قدس‌سره في حكم جميع الصور. نهاية الدراية ٢ : ٦١٤ ـ ٦٢٢.

ووافقه أيضا السيّدان المحقّقان الخوئيّ والخمينيّ إلّا في المورد الثاني من الصورة الثانية كما مرّ. فراجع مصباح الاصول ٢ : ٤١٠ ـ ٤٢٥ ، هامش أنوار الهداية ٢ : ٢٤٢.

(١) قد مرّ الفرق بين دوران الأمر بين الامور المتبانية وبين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين والأقل والأكثر الاستقلاليّين. فراجع التعليقة (٢) من الصفحة : ٩٤ من هذا الجزء.

ولا يخفى : أنّ منشأ النزاع في المقام أنّ الشكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين هل يلحق بالشكّ في التكليف ليكون وجوب الأكثر موردا للبراءة أو أنّه ملحق بالشكّ في المكلّف به ليكون موردا لقاعدة الاشتغال؟ فيه أقوال:

الأوّل : عدم جريان البراءة عقلا ونقلا ، بل يحكم بوجوب الإتيان بالأكثر احتياطا.

هذا ما يظهر من المحقّق السبزواريّ في ذخيرة المعاد : ٢٧٣ ، والشيخ محمّد تقي الاصفهانيّ في هداية المسترشدين : ٤٤٩ ، والسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٢٨٥. واختاره المصنّف قدس‌سره في حاشية الكتاب كما يأتي ، وتبعه تلميذه المحشّي العلّامة المشكينيّ في حواشي الكفاية ٤ : ٢٣٠.

الثاني : جريان البراءة عقلا ونقلا. وهذا مذهب كثير من الاصوليّين ، منهم صاحب الفصول والشيخ الأعظم الأنصاريّ والعلّامة الآشتيانيّ والمحقّق العراقيّ والمحقّق الاصفهانيّ والسيّدان العلمان الخمينيّ والخوئيّ والشهيد الصدر. راجع الفصول الغرويّة : ٣٥٧ ، فرائد الاصول ٢ : ٣١٧ ، بحر الفوائد ٢ : ١٤٩ ، نهاية الأفكار ٣ : ٢٦٨ ، نهاية الدراية ٢ :٦٢٧ ـ ٦٤٤ وحاشية الاصفهانيّ على المكاسب ٢ : ٣٩٢ ، أنوار الهداية ٢ : ٢٨٢ ، مصباح الاصول ٢ : ٤٣٧ ـ ٤٣٩ ، مباحث في الاصول ٤ : ١٦٤.

الثالث : جريان البراءة نقلا وعدم جريانه عقلا. وهذا مختار المصنّف في متن الكتاب ـ وإن عدل عنه في الحاشية كما يأتي ـ. وتبعه المحقّق النائينيّ في فوائد الاصول ٤ : ١٥١.

(٢) كما أنّ العلم الإجماليّ بثبوت التكليف بين الامور المتبانية يوجب الاحتياط.

١١٥

عقلا بإتيان الأكثر ، لتنجّزه به حيث تعلّق بثبوته فعلا (١).

[القول بالبراءة وما فيه]

وتوهّم «انحلاله إلى العلم بوجوب الأقلّ تفصيلا والشكّ في وجوب الأكثر بدوا ، ضرورة لزوم الإتيان بالأقلّ لنفسه شرعا أو لغيره كذلك (٢) أو عقلا ، ومعه (٣) لا يوجب تنجّزه لو كان متعلّقا بالأكثر» (٤) فاسد

__________________

(١) توضيحه : أنّ المكلّف يعلم إجمالا بثبوت التكليف بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، والعلم الإجماليّ منجّز للتكليف ، فالاشتغال اليقينيّ بالتكليف معلوم ، وهو يقتضي لزوم تحصيل العلم بفراغ الذمّة ، ولا يحصل العلم بالفراغ إلّا بالإتيان بالأكثر ، فلا مناص من الاحتياط.

(٢) أي : شرعا.

(٣) أي : مع الانحلال.

(٤) هذا ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٢ : ٣٢٢ ، حيث قال : «وبالجملة : فالعلم الإجماليّ غير مؤثّر في وجوب الاحتياط ، لكون أحد طرفيه معلوم الإلزام تفصيلا والآخر مشكوك الإلزام رأسا». وتوضيحه : أنّ الأقلّ واجب يقينا بالوجوب الجامع بين الوجوب النفسيّ والوجوب الغيريّ ، إذ لو كان الواجب في الواقع هو الأقلّ فيكون الأقلّ واجبا نفسيّا ، ولو كان الواجب في الواقع هو الأكثر فيكون الأقلّ واجبا غيريّا ، فالتكليف بالنسبة إلى الأقلّ منجّز على كلّ تقدير. بخلاف الأكثر ، فإنّ أمره دائر بين أن يكون واجبا فيما إذا كان مشكوك الجزئيّة جزءا للمامور به واقعا وبين أن لا يكون واجبا فيما إذا لم يكن جزءا للمامور به واقعا ، فيكون الشكّ بالنسبة إلى الأكثر بدويّا ، فلا يكون التكليف بالنسبة إليه منجّزا ، بل هو مجرى قاعدة العقاب بلا بيان.

وقد اختلفت كلمات الأعلام حول تقريب الانحلال ، نكتفي بذكر ما أفاده المحقّقان الأصفهانيّ والعراقيّ.

أمّا المحقّق الاصفهانيّ : فقرّبه بما حاصله : أنّ الأجزاء في الواجب لا تكون واجبة بالوجوب الغيري المقدّميّ ، بل هناك وجوب نفسيّ واحد منبعث عن إرادة نفسيّة واحدة منبّعة عن غرض واحد قائم بالأجزاء بالأسر الّتي هي عين الكلّ ، فهذا الوجوب النفسيّ الشخصيّ المعلوم أصله منبسط على تسعة أجزاء ـ مثلا ـ بتعلّق واحد ، وانبساطه بغير ذلك التعلّق على الجزء العاشر المشكوك غير معلوم ، فإذن يكون التكليف بالمقدار المعلوم انبساط الوجوب النفسيّ عليه فعليّا منجّزا ، وبالمقدار الآخر المجهول انبساطه عليه لا مقتضي لفعليّته وتنجّزه. وبما أنّ التكليف المتعلّق بالأقلّ هو الوجوب النفسيّ الّذي يترتّب الثواب والعقاب على ـ

١١٦

قطعا (١) ، لاستلزام الانحلال المحال ، بداهة توقّف لزوم الأقلّ فعلا ـ إمّا لنفسه أو لغيره ـ على تنجّز التكليف مطلقا ولو كان متعلّقا بالأكثر ، فلو كان لزومه كذلك مستلزما لعدم تنجّزه (٢) إلّا إذا كان متعلّقا بالأقلّ كان خلفا (٣).

__________________

ـ مخالفته وموافقته ، فلا تتوقّف فعليّته وتنجّزه على تكليف آخر غير معلوم الحال.

نعم ، لا يعلم أنّ ذات الأقلّ بحسب الفعليّة تمام المنبسط عليه واقعا أو بعضه. لكن عدم العلم به لا يخرج الأمر المتعلّق به عن النفسيّة والفعليّة. نهاية الدراية ٢ : ٦٢٧ ـ ٦٢٨.

وأمّا المحقّق العراقيّ : فقرّبه بوجه آخر ، حاصله : أنّ وصف الأقلّيّة أو الأكثريّة للواجب انّما يكون باعتبار حدّ التكليف من حيث وقوفه على الأقلّ أو شموله وانبساطه على الجزء المشكوك ، فالاختلاف بين الأقلّ والأكثر ليس ناشئا من اختلاف الوجوب المتعلّق بالأقلّ مع الوجوب المتعلّق بالأكثر ، بل الوجوب المتعلّق بالأقلّ لا يتغيّر ، سواء انبسط الوجوب على الأكثر في الواقع أو لم ينبسط عليه ؛ وانّما الاختلاف ناشئ من أنّ حدّ التكليف غير معلوم. وعليه فالشكّ بين الأقلّ والأكثر يرجع إلى الشكّ في أنّ شخص التكليف المنبسط على الأجزاء هل يكون محدودا بحدّ يشمل الجزء المشكوك أو يكون بحدّ لا يشمله؟ وهذا نظير الخط القصير والخط الطويل ، فإنّه إذا رسم الخط القصير ثمّ اضيف إليه ما يوجب ازدياد طوله لم يختلف واقع الخط القصير عمّا كان عليه قبل الزيادة. فالشكّ في المقام يرجع إلى الشكّ في ثبوت الزيادة على المقدار الأقلّ وعدمه. وظهر أنّ وجوب الأقلّ معلوم بالتفصيل ، سواء انبسط على الزائد أو لم ينبسط ، فلا شكّ في وجوب الأقلّ ، وانّما الشكّ في انبساط الوجوب على الجزء الزائد المشكوك ، وهو شكّ بدويّ ، والمرجع فيه البراءة. نهاية الأفكار ٣ : ٣٨١ ، هامش فوائد الاصول ٤ : ١٥٢ ـ ١٥٣.

وقد ذكروا لتقريب الانحلال وجوها أخر. ولا يهمّ التعرّض لها. وإن شئت فراجع المطوّلات.

(١) خبر لقوله : «توهّم».

(٢) أي : فلو كان لزوم الأقلّ مطلقا ـ ولو كان متعلّقا بالأكثر ـ مستلزما لعدم تنجّز التكليف ....

(٣) تقرير الخلف : أنّ انحلال العلم الإجماليّ بالتكليف موقوف على تنجّز التكليف في بعض الأطراف على كلّ تقدير ، سواء كان التكليف في الواقع متعلّقا به أو بأطراف أخر ، فحينئذ يتبدّل العلم الاجماليّ به إلى علم تفصيليّ بالتكليف في ذلك الطرف وشكّ بدويّ في الآخر.

وعليه فانحلال العلم الإجماليّ في المقام وإثبات عدم تنجّز التكليف بالنسبة إلى الأكثر موقوف على تنجّز التكليف في الأقلّ على كلّ تقدير ، سواء كان الوجوب في الواقع متعلّقا بالأقلّ أو بالأكثر ، فلو كان تنجّز التكليف في الأقلّ كذلك ـ أي على كلّ تقدير ـ مستلزما لعدم تنجّزه في الأكثر كان خلفا ، وهو محال.

١١٧

مع أنّه يلزم من وجوده عدمه (١) ، لاستلزامه عدم تنجّز التكليف على كلّ حال المستلزم لعدم لزوم الأقلّ مطلقا المستلزم لعدم الانحلال ، وما يلزم من وجوده عدمه محال(٢).

نعم ، إنّما ينحلّ إذا كان الأقلّ ذا مصلحة ملزمة ، فإنّ وجوبه حينئذ يكون معلوما له ، وإنّما كان الترديد لاحتمال أن يكون الأكثر ذا مصلحتين أو مصلحة

__________________

(١) أي : يلزم من وجود الانحلال عدم الانحلال.

(٢) بيان ذلك : أنّ لازم الانحلال عدم تنجّز التكليف على أيّ تقدير ، ضرورة أنّ الانحلال مستلزم لعدم تنجّزه على تقدير تعلّقه بالأكثر ، وعدم تنجّز التكليف على أيّ تقدير مستلزم لعدم لزوم الأقلّ على أيّ تقدير ، وهو مستلزم لعدم الانحلال ، فيلزم من فرض وجود الانحلال عدمه ، وهو محال.

ولا يخفى : أنّ ما أفاده المصنّف قدس‌سره في الإشكال على الانحلال ـ من لزوم الخلف ولزوم عدمه من وجوده ـ وقع مورد النقض والإبرام عند المحقّقين من الأعلام بوجوه :

منها : ما أفاده المحقّق النائينيّ وتبعه السيّد الإمام الخمينيّ. وحاصله : أنّ منشأ الإشكالين انّما هو توهّم كون وجوب الأقلّ مقدّميّا على تقدير أن يكون متعلّق التكليف هو الأكثر ، ضرورة أنّه لا مناص عن الإشكالين حينئذ ، لأنّ وجوب المقدّمة وتنجّزه تابع لوجوب ذيها ، فلا يعقل تنجّزه بالنسبة إلى الأقلّ مع عدم تنجّزه بالنسبة إلى الأكثر ـ أي ذى المقدّمة ـ. ولكن وجوب الأقلّ لا يكون إلّا نفسيّا على كلّ تقدير ، سواء كان متعلّق التكليف هو الأقلّ أو كان هو الأكثر ، فإنّ الأجزاء انّما تجب بعين وجوب الكلّ ، فلا يتوقّف وجوب الأقلّ على تنجّز الأكثر ، فإنّ الأمر بالمركّب منجّز ، وينجّز الأمر بالأقلّ بعين تنجّز الأمر بالمركّب. فوائد الاصول ٤ : ١٥٦ ـ ١٥٧ ، أنوار الهداية ٢ : ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

ومنها : ما أفاده المحقّق العراقيّ. وحاصله : أنّ ما أفاد المصنّف قدس‌سره مبنيّ على أخذ جهة الارتباط والانضمام بالزائد قيدا للأقلّ في مرحلة كونه معروضا للوجوب الضمنيّ ، فإنّه حينئذ يستحيل تصوّر مجيء الأقلّ في العهدة مستقلّا وانفكاكه عن تنجّز الأكثر. ولكن هذا المبنى فاسد ، لأنّ جهة الارتباط والانضمام غير مأخوذة في موضوع الوجوب ، فإنّ موضوع الوجوب انّما هو نفس الأفراد بلا ارتباط لبعضها بالآخر حين طروء الوجوب ، بل انّما جاءت جهة الارتباط من قبل وحدة الوجوب المتعلّق بالأجزاء بأسرها ، وحينئذ لا قصور في مجيء الأقلّ في العهدة وتنجّز الوجوب بالنسبة إليه مستقلّا بسبب العلم بوجوبه ولو ضمنيّا. نهاية الأفكار ٣ : ٣٨٦ ـ ٣٨٧ ، هامش فوائد الاصول ٤ : ١٥٨.

١١٨

أقوى من مصلحة الأقلّ ، فالعقل في مثله وإن استقلّ بالبراءة بلا كلام إلّا أنّه خارج عمّا هو محلّ النقض والإبرام في المقام (١) ، هذا.

[الدليل الثاني على وجوب الاحتياط عقلا]

مع أنّ الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلّا بالأكثر ، بناء على ما ذهب إليه المشهور من العدليّة من تبعيّة الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهيّ عنها ، وكون الواجبات الشرعيّة ألطافا في الواجبات العقليّة (٢) ، وقد مرّ اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلا في إطاعة الأمر وسقوطه (٣) ، فلا بدّ من إحرازه في إحرازها ، كما لا يخفى(٤).

[الإيراد على ما ذكره الشيخ الأنصاريّ في الجواب عن الدليل الثاني]

ولا وجه للتفصّي عنه (٥) تارة بعدم ابتناء مسألة البراءة والاحتياط على ما ذهب إليه مشهور العدليّة ، وجريانها (٦) على ما ذهب إليه الأشاعرة المنكرين لذلك ، أو بعض العدليّة المكتفين (٧) بكون المصلحة في نفس الأمر دون

__________________

(١) والوجه في خروجه معلوم ، فإنّ محلّ الكلام هو الأقلّ والأكثر الارتباطيّان ، وما ذكر من الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين.

(٢) راجع كشف المراد : ٣٠٣ و ٣٤٨ ، شرح الباب الحادي عشر : ٢٦٠ ، مفتاح الباب : ١٥٢.

(٣) راجع الجزء الأوّل : ١٣٩ و ١٤٣.

(٤) هذا الدليل تعرّض له الشيخ الأعظم الأنصاريّ ثمّ أجاب عنه بوجهين سيأتي بيانهما. راجع فرائد الاصول ٢ : ٣١٩.

(٥) أي : عن الاستدلال بالغرض. وهذا تعريض بالشيخ الأعظم الأنصاريّ ، فإنّه تخلّص عن الاستدلال المذكور بالوجهين الآتيين. راجع فرائد الاصول ٢ : ٣١٩ ـ ٣٢٠.

(٦) أي : وبجريانها. فقوله : «جريانها» معطوف على «عدم ابتناء». والضمير راجع إلى المسألة.

(٧) هكذا في النسخ : والصحيح أن يقول : «على ما ذهب إليه الأشاعرة المنكرون لذلك أو بعض العدليّة المكتفون ...» أو يقول : «على مذهب الأشاعرة المنكرين لذلك أو مذهب بعض العدليّة المكتفين ...».

١١٩

المأمور (١).

واخرى بأنّ حصول المصلحة واللطف في العبادات لا يكاد يكون إلّا بإتيانها على وجه الامتثال (٢) ، وحينئذ كان لاحتمال اعتبار معرفة أجزائها تفصيلا ليؤتى بها مع قصد الوجه مجال ، ومعه (٣) لا يكاد يقطع بحصول اللطف والمصلحة الداعية إلى الأمر (٤) ، فلم يبق إلّا التخلّص عن تبعة مخالفته بإتيان ما علم تعلّقه به ، فإنّه واجب عقلا وإن لم يكن في المأمور به مصلحة ولطف رأسا ، لتنجّزه بالعلم به إجمالا. وأمّا الزائد عليه ـ لو كان ـ فلا تبعة على مخالفته من جهته ، فإنّ العقوبة عليه بلا بيان (٥).

وذلك (٦) ضرورة أنّ حكم العقل بالبراءة ـ على مذهب الأشعريّ ـ لا يجدي من ذهب إلى ما عليه المشهور من العدليّة ، بل من ذهب إلى ما عليه غير المشهور ، لاحتمال أن يكون الداعي إلى الأمر ومصلحته على هذا المذهب (٧) أيضا هو

__________________

(١) ومن القائلين بأنّ المصلحة تكون في نفس الأمر هو صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

وهذا هو الجواب الأوّل. وحاصله : أنّ مسألة البراءة والاحتياط ليست مبنيّة على مذهب مشهور العدليّة من تبعيّة الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها كي يقال بأنّ في إحراز حصول الغرض لا بدّ من إحراز إطاعة الأمر المتوقّف على إتيان الأكثر ، بل الكلام في جريان البراءة وعدمه في المقام عامّ ، فيمكن البحث عن المسألة والتكلّم فيها على مذهب بعض العدليّة من أنّ وجود المصلحة في نفس الأمر يكفي في صدور الأمر من المولى ، كالأوامر الامتحانيّة ، أو على مذهب الأشاعرة من عدم التبعيّة أصلا ولو في نفس الأمر.

(٢) ولذا لو أتى بها لا على وجه الامتثال لم يترتّب عليه لطف.

(٣) أي : ومع احتمال اعتبار معرفة الأجزاء.

(٤) لأنّ المفروض عدم العلم التفصيليّ بأجزائها.

(٥) انتهى ما أجاب به الشيخ الأعظم الأنصاريّ عن الاستدلال بالغرض على وجوب الاحتياط عقلا.

(٦) أي : عدم الوجه للتفصّي عن الاستدلال بالغرض بالوجهين المذكورين.

(٧) أي : مذهب غير المشهور من العدليّة ، وهو كون المصلحة في نفس الأمر دون المأمور به.

١٢٠