كفاية الأصول - ج ٣

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-562-2
الصفحات: ٤٤٣

العلّة (١) هو عدم الريب فيه بالإضافة إلى الخبر الآخر ولو كان فيه ألف ريب.

ولما في التعليل بأنّ الرشد في خلافهم (٢).

ولا يخفى ما في الاستدلال بها :

أمّا الأوّل : فإنّ (٣) جعل خصوص شيء فيه جهة الإراءة والطريقيّة حجّة أو مرجّحا لا دلالة فيه على أنّ الملاك فيه بتمامه جهة إراءته ، بل لا إشعار فيه كما لا يخفى ، لاحتمال دخل خصوصيّته في مرجّحيّته أو حجّيّته ، لا سيّما قد ذكر فيها ما لا يحتمل الترجيح به إلّا تعبّدا (٤) ، فافهم (٥).

وأمّا الثاني : فلتوقّفه على عدم كون الرواية المشهورة في نفسها ممّا لا ريب فيها ، مع أنّ الشهرة في الصدر الأوّل بين الرواة وأصحاب الأئمّة عليهم‌السلام موجبة لكون الرواية ممّا يطمأنّ بصدورها ، بحيث يصحّ أن يقال عرفا : «إنّها ممّا لا ريب فيها» ، كما لا يخفى. ولا بأس بالتعدّي منه إلى مثله ممّا يوجب الوثوق والاطمئنان بالصدور ، لا إلى كلّ مزيّة ولو لم توجب إلّا أقربيّة ذي المزيّة إلى الواقع من المعارض الفاقد لها.

__________________

(١) أي : العلّة في ترجيح المشهور على الخبر الشاذّ.

(٢) وهذا ثالث الوجوه الّتي استدلّ بها الشيخ على القول بالتعدّي. راجع فرائد الاصول ٤ : ٧٧.

(٣) هكذا في النسخ. والاولى أن يقول : «فلأنّ».

(٤) حاصل الجواب : أنّ مثل الأصدقيّة والأوثقيّة وإن جعل مرجّحا لما فيه جهة الإراءة والكشف عن الواقع ، إلّا أنّه لم يعلم كون تمام الملاك في جعله مرجّحا هو ما فيه من جهة الإراءة ، بل يحتمل دخالة خصوصيّة في جعله مرجّحا ، خصوصا بملاحظة أنّه جعل مثل الأفقهيّة أيضا مرجّحا ، فإنّه ممّا لا يحتمل الترجيح به إلّا تعبّدا ، لعدم جهة الطريقيّة فيها.

(٥) لعلّه إشارة إلى ما أفاد المحقّق الأصفهانيّ ، وحاصله : أنّ اعتبار الأعدليّة والأورعيّة أيضا بلحاظ شدّة مراقبة الراوي وكثرة مداقّته في النقل ، لا بلحاظ الجهات الأجنبيّة عن مرحلة النقل ، كي يكون مرجّحا تعبّديّا. وكذا اعتبار الأفقهيّة يكون بلحاظ دخلها في بيان ما صدر من المعصوم عليه‌السلام ، حيث أنّ الغالب في بيان الروايات هو النقل بالمعنى ، لا بلحاظ مجرّد اطّلاع الراوي الفقيه على ما هو أجنبيّ عن مرحلة النقل ، كي يكون مرجّحا تعبّديّا. نهاية الدراية ٣ : ٣٨٧.

٣٢١

وأمّا الثالث : فلاحتمال أن يكون الرشد في نفس المخالفة ، لحسنها (١). ولو سلّم أنّه لغلبة الحقّ في طرف الخبر المخالف (٢) ، فلا شبهة في حصول الوثوق بأنّ الخبر الموافق المعارض بالمخالف لا يخلو من الخلل صدورا أو جهة ، ولا بأس بالتعدّي منه إلى مثله ، كما مرّ آنفا.

ومنه انقدح حال ما إذا كان التعليل لأجل انفتاح باب التقيّة فيه ، ضرورة كمال الوثوق بصدوره كذلك (٣) مع الوثوق بصدورهما (٤) لو لا القطع به في الصدر الأوّل لقلّة الوسائط ومعرفتها ، هذا.

[بعض القرائن الدالّة على لزوم الاقتصار]

مع ما في عدم بيان الإمام عليه‌السلام للكلّيّة (٥) ، كي لا يحتاج السائل إلى إعادة السؤال مرارا ، وما (٦) في أمره عليه‌السلام بالإرجاء ـ بعد فرض التساوي فيما ذكره من المزايا المنصوصة ـ من الظهور في أنّ المدار في الترجيح على المزايا المخصوصة ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه (٧) بناء على التعدّي حيث كان في المزايا المنصوصة ما لا يوجب الظنّ

__________________

(١) أي : يحتمل أن يكون حديث الرشد مشعرا بأنّ في نفس مخالفتهم مصلحة أقوى من مصلحة الواقع ، فيكون الرشد في مخالفتهم من جهة حسن المخالفة في نفسها ، لا من جهة كشفها عن أقربيّة الخبر المخالف إلى الواقع.

(٢) أي : لو سلّم أنّ حديث الرشد مشعر بأنّ مخالفتهم كاشفة عن أقربيّة الخبر المخالف لهم إلى الواقع ، فيكون فيها الرشد لغلبة الحقّ في طرف الخبر المخالف.

(٣) أي : صدور الخبر الموافق تقيّة.

(٤) أي : بصدور المخالف والموافق.

(٥) أي : لضابط كلّيّ.

(٦) أي : ومع ما ...

وهذا قرينة ثانية على لزوم الاقتصار على المرجّحات المنصوصة.

(٧) إشارة إلى قرينة ثالثة على لزوم الاقتصار.

٣٢٢

بذي المزيّة ولا أقربيّته ـ كبعض صفات الراوي ، مثل الأورعيّة أو الأفقهيّة إذا كان موجبهما ممّا لا يوجب الظنّ أو الأقربيّة ، كالتورّع من الشبهات والجهد في العبادات وكثرة التّتبع في المسائل الفقهيّة أو المهارة في القواعد الاصوليّة ـ فلا وجه للاقتصار على التعدّي إلى خصوص ما يوجب الظنّ (١) أو الأقربيّة (٢) ، بل إلى كلّ مزيّة ولو لم تكن بموجبة لأحدهما ، كما لا يخفى.

[وهم ودفع]

وتوهّم : «أنّ ما يوجب الظنّ بصدق أحد الخبرين لا يكون بمرجّح ، بل موجب لسقوط الآخر عن الحجّيّة ، للظنّ بكذبه حينئذ» (٣) فاسد ، فإنّ الظنّ بالكذب لا يضرّ بحجّيّة ما اعتبر من باب الظنّ نوعا ، وإنّما يضرّ فيما اخذ في اعتباره عدم الظنّ بخلافه ، ولم يؤخذ في اعتبار الأخبار صدورا ولا ظهورا ولا جهة ذلك (٤). هذا.

مضافا إلى اختصاص حصول الظنّ بالكذب بما إذا علم بكذب أحدهما

__________________

(١) تعريض بالمحقّق الرشتيّ ، حيث ذهب إلى أنّ التعدّي إلى غير المرجّحات المنصوصة منوط بالظنّ. بدائع الأفكار (للمحقّق الرشتيّ) : ٤٣٤.

(٢) تعريض بالشيخ الأعظم الأنصاريّ ، حيث ذهب إلى التعدّي إلى خصوص ما يوجب أقربيّة ذيه إلى الواقع. فرائد الاصول ٤ : ٧٥.

(٣) هذا ما توهّمه الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٤ : ١١٦ ـ ١١٧.

وحاصل التوهّم : أنّه ـ بناء على التعدّي عن المرجّحات المنصوصة ـ يتعدّى إلى ما يوجب الظنّ الشأنيّ بالصدور دون الفعليّ ، إذ المزيّة الموجبة للظنّ الفعليّ بصدور ذيها توجب الظنّ الفعليّ بعدم صدور المعارض الفاقد لتلك المزيّة ، والظنّ بعدم الصدور يوجب خروجه عن الحجّيّة ، وحينئذ تخرج تلك المزيّة عن كونها مرجّحة لحجّة على حجّة اخرى ، بل تندرج فيما يميّز الحجّة عن اللاحجّة ، وهو أجنبيّ عن المقام.

(٤) أي : عدم الظنّ بالخلاف.

٣٢٣

صدورا ، وإلّا فلا يوجب الظنّ بصدور أحدهما ، لإمكان صدورهما مع عدم إرادة الظهور في أحدهما أو فيهما أو إرادته تقيّة ، كما لا يخفى.

نعم ، لو كان وجه التعدّي اندراج ذي المزيّة في أقوى الدليلين لوجب الاقتصار على ما يوجب القوّة في دليليّته وفي جهة إثباته وطريقيّته ، من دون التعدّي إلى ما لا يوجب ذلك ، وإن كان موجبا لقوّة مضمون ذيه ثبوتا ، كالشهرة الفتوائيّة أو الأولويّة الظنّيّة ونحوهما (١) ، فإنّ المنساق من قاعدة «أقوى الدليلين» أو المتيقّن منها إنّما هو الأقوى دلالة ، كما لا يخفى ، فافهم.

__________________

(١) كالإجماع المنقول.

٣٢٤

فصل

[اختصاص قواعد التعارض بغير موارد الجمع العرفيّ]

قد عرفت سابقا (١) أنّه لا تعارض في موارد الجمع والتوفيق العرفيّ ، ولا يعمّها ما يقتضيه الأصل في المتعارضين من سقوط أحدهما رأسا ، وسقوط كلّ منهما في خصوص مضمونه كما إذا لم يكونا في البين ؛ فهل التخيير أو الترجيح يختصّ أيضا بغير مواردها (٢) أو يعمّها؟ قولان.

أوّلهما المشهور (٣). وقصارى ما يقال في وجهه : أنّ الظاهر من الأخبار العلاجيّة ـ سؤالا وجوابا ـ هو التخيير أو الترجيح في موارد التحيّر ممّا لا يكاد يستفاد المراد هناك عرفا ، لا فيما يستفاد ولو بالتوفيق ، فإنّه من أنحاء طرق الاستفادة عند أبناء المحاورة.

ويشكل : بأنّ مساعدة العرف على الجمع والتوفيق وارتكازه في أذهانهم على وجه وثيق لا يوجب اختصاص السؤالات بغير موارد الجمع ، لصحّة السؤال

__________________

(١) في الفصل الأوّل من هذا المقصد ، حيث قال : «وعليه فلا تعارض بينهما بمجرّد تنافي مدلولها ...». راجع الصفحة : ٢٩٤ من هذا الجزء.

(٢) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «موارده» ، فإنّ الضمير يرجع إلى الجمع. أو يقول : «بغيرها» كي يرجع الضمير إلى موارد الجمع العرفيّ.

(٣) بل ادّعى الشيخ الأعظم الأنصاريّ كونه ممّا لا خلاف فيه. فرائد الاصول ٤ : ٨٢.

٣٢٥

بملاحظة التحيّر في الحال ، لأجل ما يتراءى من المعارضة ، وإن كان يزول عرفا بحسب المآل ، أو للتحيّر (١) في الحكم واقعا وإن لم يتحيّر فيه ظاهرا ، وهو كاف في صحّته قطعا ؛ مع إمكان أن يكون لاحتمال الردع شرعا عن هذه الطريقة المتعارفة بين أبناء المحاورة ؛ وجلّ العناوين المأخوذة في الأسئلة (٢) ـ لو لا كلّها ـ تعمّها ، كما لا يخفى.

ودعوى : «أنّ المتيقّن منها غيرها» (٣) مجازفة ، غايته أنّه كان كذلك خارجا ، لا بحسب مقام التخاطب.

وبذلك ينقدح وجه القول الثاني (٤).

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ التوفيق في مثل الخاصّ والعامّ والمقيّد والمطلق كان عليه السيرة القطعيّة من لدن زمان الأئمّة عليهم‌السلام ، وهي كاشفة إجمالا عمّا يوجب تخصيص أخبار العلاج بغير موارد التوفيق العرفيّ ، لو لا دعوى اختصاصها به (٥) وأنّها سؤالا وجوابا بصدد الاستعلاج والعلاج في موارد التحيّر والاحتياج ، أو دعوى الإجمال وتساوي احتمال العموم مع احتمال الاختصاص. ولا ينافيها (٦)

__________________

(١) معطوف على قوله : «لصحّة».

(٢) كقول الراوي : «تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة» ، وقوله : «كيف نصنع بالخبرين المختلفين» وغيرهما.

(٣) أي : أنّ المتيقّن من الأخبار العلاجيّة غير موارد التوفيق العرفيّ.

(٤) وهو القول بشمول قواعد التعارض لموارد الجمع العرفيّ. وهذا القول منسوب إلى الشيخ الطوسيّ والمحقّق القمّيّ وبعض المحدّثين. راجع الاستبصار ١ : ٤ ، عدّة الاصول ١ : ١٤٧ ـ ١٤٨ ، قوانين الاصول ١ : ٣١٥ ، الدرر النجفيّة : ٦٠ ، فرائد الاصول ٤ : ٨٢ ـ ٨٥.

(٥) أي : اختصاص أخبار العلاج بغير موارد التوفيق العرفيّ.

(٦) هكذا في أكثر النسخ. وفي بعض النسخ : «ولا ينافيهما». والصحيح ما أثبتناه ، سواء قلنا برجوع الضمير إلى دعوى الإجمال ، أو قلنا برجوعه إلى دعوى الاختصاص ودعوى الإجمال ، حيث عطف قوله : «دعوى الإجمال» على قوله : «دعوى اختصاصهما به» بكلمة «أو».

٣٢٦

مجرّد صحّة السؤال لما (١) لا ينافي العموم ما لم يكن هناك ظهور أنّه لذلك (٢) ، فلم يثبت بأخبار العلاج ردع عمّا هو عليه (٣) بناء العقلاء وسيرة العلماء من التوفيق وحمل الظاهر على الأظهر والتصرّف فيما يكون صدورهما قرينة عليه ، فتأمّل.

__________________

(١) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «عمّا».

(٢) والأولى سوق العبارة هكذا : «ولا ينافي دعوى الإجمال مجرّد صحّة السؤال عن التعارض بإطلاقه ـ حتّى إذا كان هناك جمع عرفيّ ـ ما لم يكن هناك ظهور كون السؤال للعموم».

(٣) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «عمّا عليه».

٣٢٧

فصل

[حول ما قيل في المرجّحات النوعيّة]

قد عرفت حكم تعارض الظاهر والأظهر وحمل الأوّل على الآخر ، فلا إشكال فيما إذا ظهر أنّ أيّهما ظاهر وأيّهما أظهر.

وقد ذكر فيما اشتبه الحال لتمييز ذلك ما لا عبرة به أصلا. فلا بأس بالإشارة إلى جملة منها وبيان ضعفها :

[١ ـ ترجيح العموم على الإطلاق]

منها : ما قيل (١) في ترجيح ظهور العموم على الإطلاق وتقديم التقييد على التخصيص ـ فيما دار الأمر بينهما (٢) ـ من «كون ظهور العامّ في العموم تنجيزيّا ،

__________________

(١) والقائل هو الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٤ : ٩٧ ـ ٩٨. وأشار إليه قبله الشهيد الثاني وتنظّر فيه. راجع شرح اللمعة ٥ : ١٣٢ ، مسالك الأفهام ١ : ٤٥٤.

(٢) مثاله : الأرض الّتي أحياها محيي ، ثمّ عرض عليها الموت ، ثمّ أحياها محيي ثان. فيقع النزاع في أنّه هل المحيي الثاني يملكها بعمليّة الإحياء ، أو لا يملكها بل يبقى على ملكيّة المحيي الأوّل. ومنشأ النزاع ما دلّ على ملكيّة الأرض بعمليّة الإحياء ، فإنّه دلّ بعموم صدره على الأوّل ، ودلّ بإطلاق ذيله على الثاني. بيان ذلك : أنّه ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «من أحيا أرضا ميتة (مواتا) فهي له» *.

ولهذه الرواية صدر وذيل :

أمّا صدرها : فهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أحيا أرضا» ، وهو عامّ ، فإن كلمة «من» عامّ ، تشمل ـ

٣٢٨

بخلاف ظهور المطلق في الإطلاق ، فإنّه معلّق على عدم البيان ، والعامّ يصلح بيانا ، فتقديم العامّ حينئذ لعدم تماميّة مقتضي الإطلاق معه ، بخلاف العكس ، فإنّه موجب لتخصيصه بلا وجه إلّا على نحو دائر» ؛ ومن «أنّ التقييد أغلب من التخصيص» (١).

__________________

ـ كلّ محيي الأرض ، سواء سبقه أحد في إحيائها أو لم يسبقه أحد في إحيائها ؛ وكذا كلمة «الأرض» عامّ ، تشمل كلّ أرض محياة ، سواء كانت مواتا بالأصالة أو كانت محياة ثمّ عرض عليها الموت. وعلى هذا فعموم قوله : «من أحيا أرضا» يشمل المحيي الثاني ، فيدلّ على صيرورته مالكا للأرض بعمليّة الإحياء بعد خرابها.

وأمّا ذيلها : فهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فهي له». وهو ظاهر في الملكيّة المطلقة غير المؤقّتة ، فهو يدلّ بإطلاقه على أنّ المحيي الأوّل يصير مالكا للأرض بعمليّة الإحياء مطلقا ، سواء عرض عليها الموت أو لم يعرض.

فالرواية تدلّ بعموم صدرها على أنّ الأرض الّتي عرض عليها الموت بعد الإحياء يصير ملكا للمحيي الثاني إذا أحياها. وتدلّ بإطلاق ذيلها على أنّها ملك للمحيي الأوّل. فيعارض صدرها مع ذيلها. وحينئذ لا بدّ لنا إمّا من تقديم العموم على الإطلاق ، فيقيّد إطلاق ذيلها بعموم صدرها ويقال : «إنّها ملك للمحيي الأوّل بعد خرابها أيضا ، إلّا إذا أحياها محيي آخر» ؛ وإمّا من تقديم الإطلاق على العموم ، فيخصّص عموم صدرها بإطلاق ذيلها ويقال : «إنّ المحيي الثاني يملك الأرض بعمليّة الإحياء ، إلّا إذا سبقه في الإحياء فرد آخر».

(*) سنن البيهقيّ ٦ : ١٤٣ ، كنز العمّال ٣ : ٩١٠ ؛ مسند أحمد بن حنبل ٣ : ٣٣٨ ؛ وسائل الشيعة ١٧ : ٣٢٧ ، الباب ١ من أبواب إحياء الموات ، الحديث ٥ و ٦.

(١) والحاصل : أنّ الشيخ الأعظم الأنصاريّ ذكر في تقديم العموم على الإطلاق وجهين :

أحدهما يبتني على مقالة سلطان العلماء في حقيقة الإطلاق والموضوع له أسماء الأجناس ، وثانيهما يبتني على مقالة المشهور هنا.

وتوضيحه : يتوقّف على تقديم مقدّمة :

وهي : أنّ في حقيقة الإطلاق والموضوع له أسماء الأجناس قولان :

أحدهما : أنّها موضوعة للطبيعة المهملة وذات المعنى بما هي هي ، لا المعنى المطلق.

فلا يكون استعمالها في المقيّد مجازا ، لأنّه أيضا أحد أفراد المعنى ، فيكون استعمالها فيه استعمالا في أحد أفراده. وهذا ما ذهب إليه المشهور.

ثانيهما : أنّها موضوعة للمعاني المطلقة ، على وجه يكون الإطلاق قيدا للموضوع لها ، فيكون استعمالها في المقيّد مجاز ، لأنّه استعمال في غير الموضوع له. وهذا ما ذهب إليه سلطان العلماء. ـ

٣٢٩

وفيه : أنّ عدم البيان الّذي هو جزء المقتضي في مقدّمات الحكمة إنّما هو عدم البيان في مقام التخاطب ، لا إلى الأبد (١) ؛ وأغلبيّة التقييد مع كثرة التخصيص ـ بمثابة قد قيل : «ما من عامّ إلّا وقد خصّ» ـ غير مفيد ؛ فلا بدّ في كلّ قضيّة من ملاحظة خصوصيّاتها الموجبة لأظهريّة أحدهما من الآخر ، فتدبّر (٢).

__________________

ـ إذا عرفت هذا ، فاعلم : أنّ الشيخ الأعظم وجّه تقديم العموم على الإطلاق بوجهين ، واعتمد على الأوّل بناء على مقالة سلطان العلماء ، وعلى الثاني بناء على مقالة المشهور.

أمّا الوجه الأوّل : فأشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «من كون ظهور العامّ في العموم تنجيزيّا ...». وحاصله : أنّ ظهور العامّ في العموم قدّم على ظهور المطلق في الإطلاق ، لكون ظهور العامّ في العموم تنجيزيّ ، لأنّه مستند إلى الوضع الّذي لم يعلّق على شيء ، بل يكون نفس لفظ العامّ تمام المقتضي في ظهوره في العموم. بخلاف ظهور المطلق في الإطلاق ، فإنّه معلّق على عدم البيان ، فيكون عدم البيان جزء المقتضي ، لظهوره في الإطلاق ، والعامّ صالح للبيانيّة ، فلا يتمّ مقتضيه ، فلا يؤخذ بالإطلاق ويقدّم العامّ ، لعدم تماميّة مقتضي الإطلاق مع وجود العامّ وتماميّة مقتضي العامّ مع وجود المطلق.

وممّا ذكر يظهر أنّ الوجه في تقديم العامّ على الإطلاق وتقييده به هو تمام المقتضي في العامّ مع وجود المطلق ؛ بخلاف العكس. وأمّا تقديم الإطلاق على العموم وتخصيصه به فإمّا يكون اقتراحا محضا وبلا وجه. وإمّا يكون على نحو دائر ، إذ تقديم المطلق على العامّ والعمل به موقوف على طرح العامّ ، لعدم تماميّة مقتضي الإطلاق مع وجود العامّ ، وطرح العامّ موقوف على العمل بالمطلق ، وهذا دور.

وأمّا الوجه الثاني : فأشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «ومن أنّ التقييد أغلب من التخصيص». وحاصله : أنّ التقييد في المحاورات العرفيّة أكثر من التخصيص ، وهذا يوجب أظهريّة العامّ في العموم من ظهور المطلق في الإطلاق.

(١) بتعبير آخر : إنّ البيان ـ وهو العامّ ـ إنّما يمنع عن انعقاد الظهور للمطلق إذا ورد في مقام التخاطب ومتّصلا بالمطلق ، لا فيما إذا ورد منفصلا عنه. والمفروض هنا أنّ العامّ ورد منفصلا عن المطلق ، وهو لا يمنع عن انعقاد الظهور للمطلق. وحينئذ يكون ظهور المطلق في الإطلاق تامّا. فيقع التعارض بين الظهورين ، فلا بدّ في ترجيح أحدهما على الآخر من ملاحظة خصوصيّات كلّ منهما بحسب المورد.

(٢) وأورد عليه السيّد الخوئيّ ، بما حاصله : أنّه إذا كان العامّ صالحا للقرينيّة على التقييد ـ كما اعترف به المصنّف رحمه‌الله في مبحث الواجب المشروط ـ فلا فرق بين كونه متّصلا بالكلام أو ـ

٣٣٠

[٢ ـ ترجيح التخصيص على النسخ]

ومنها : ما قيل (١) فيما إذا دار بين التخصيص والنسخ ـ كما إذا ورد عامّ بعد حضور وقت العمل بالخاصّ ، حيث يدور بين أن يكون الخاصّ مخصّصا ، أو يكون العامّ ناسخا ؛ أو ورد الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، حيث يدور بين أن يكون الخاصّ مخصّصا للعامّ أو ناسخا له ورافعا لاستمراره ودوامه ـ في وجه تقديم التخصيص على النسخ من «غلبة التخصيص وندرة النسخ».

ولا يخفى : أنّ دلالة الخاصّ أو العامّ على الاستمرار والدوام إنّما هو بالإطلاق ، لا بالوضع ؛ فعلى الوجه العقليّ في تقديم التقييد على التخصيص ، كان اللازم في هذا الدوران تقديم النسخ على التخصيص أيضا. وأنّ غلبة التخصيص إنّما توجب أقوائيّة ظهور الكلام في الاستمرار والدوام من ظهور العامّ في العموم إذا كانت مرتكزة في أذهان أهل المحاورة بمثابة تعدّ من القرائن المكتنفة بالكلام ، وإلّا فهي وإن كانت مفيدة للظنّ بالتخصيص ، إلّا أنّها غير موجبة لها (٢) ، كما لا يخفى (٣).

__________________

ـ منفصلا عنه. غاية الأمر أنّ العامّ المتّصل يمنع عن انعقاد الظهور في المطلق من أوّل الأمر ، فلا يكون المطلق مع ورود العامّ المتّصل حجّة أصلا ، والعامّ المتّصل يكشف عن عدم تعلّق الإرادة الجدّيّة بالإطلاق من لفظ المطلق ، فيحكم بأنّ الظهور لم يكن مرادا من أوّل الأمر ، لكنّه كان حجّة إلى حين وصول العامّ ، وهذا المقدار من الفرق لا يوجب الحكم بلزوم تقديم العامّ على المطلق. مصباح الاصول ٣ : ٣٧٧.

(١) والقائل هو صاحب الفصول والشيخ الأعظم الأنصاريّ. راجع الفصول الغرويّة : ٢١٣ ـ ٢١٦ ، فرائد الاصول ٤ : ٩٣ ـ ٩٤.

(٢) أي : أنّ الغلبة غير موجبة لأقوائيّة ظهور الكلام.

(٣) ولا يخفى : أنّ كلامه هذا ينافي بظاهره ما أفاد في مبحث العامّ والخاصّ ، فإنّه قدّم التخصيص على النسخ هناك ، حيث قال : «إلّا أنّ الأظهر كونه مخصّصا ، ولو فيما كان ظهور العامّ في عموم الأفراد أقوى من ظهور الخاصّ في الخصوص ، لما اشير إليه من تعارف التخصيص وشيوعه وندرة النسخ جدّا في الأحكام». راجع الجزء الثاني : ١٩٣.

وقد مرّ هناك ما أفاد الأعلام الثلاثة في وجه تقديم التخصيص على النسخ ، فراجع.

٣٣١

ثمّ إنّه بناء على اعتبار عدم حضور وقت العمل في التخصيص ـ لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ـ يشكل الأمر في تخصيص الكتاب أو السنّة بالخصوصات الصادرة عن الأئمّة عليهم‌السلام ، فإنّها صادرة بعد حضور وقت العمل بعموماتهما (١). والتزام نسخهما بها (٢) ـ ولو قيل بجواز نسخهما بالرواية عنهم عليهم‌السلام (٣) ـ كما ترى (٤).

فلا محيص في حلّه من أن يقال : إنّ اعتبار ذلك (٥) حيث كان لأجل قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ـ وكان من الواضح أنّ ذلك (٦) فيما إذا لم يكن هناك مصلحة في إخفاء الخصوصات أو مفسدة في إبدائها ، كإخفاء غير واحد من التكاليف في الصدر الأوّل ـ لم يكن بأس بتخصيص عموماتهما بها ، واستكشاف أنّ موردها كان خارجا عن حكم العامّ واقعا ، وإن كان داخلا فيه ظاهرا. ولأجله لا بأس بالالتزام بالنسخ بمعنى رفع اليد بها عن ظهور تلك العمومات بإطلاقها في الاستمرار والدوام أيضا ، فتفطّن (٧).

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «بعموماتها». والصحيح ما أثبتناه ، فإنّ الضمير يرجع إلى الكتاب والسنّة.

(٢) أي : نسخ الكتاب والسنّة بالخصوصات. وفي بعض النسخ : «نسخها بها» أي : نسخ عموماتهما بالخصوصات.

(٣) لم أعثر على من صرّح بذلك.

(٤) لأنّ الالتزام المذكور مستلزم لكثرة النسخ. وهو خلاف ما شاع بينهم من ندرة النسخ.

(٥) أي : اعتبار عدم حضور وقت العمل بالعامّ في التخصيص.

(٦) أي : قبح تأخير البيان.

(٧) لعلّه إشارة إلى أنّ النسخ بالمعنى المذكور ليس إلّا التخصيص حقيقة.

٣٣٢

فصل

[عدم انقلاب النسبة]

لا إشكال في تعيين الأظهر ـ لو كان في البين ـ إذا كان التعارض بين الاثنين.

وأمّا إذا كان بين الزائد عليهما فتعيّنه ربّما لا يخلو عن خفاء (١).

__________________

(١) توضيح محلّ النزاع أنّ التعارض قد يحصل بين دليلين ، وقد يحصل بين أكثر من دليلين.

وفي كلتا الصورتين لا بدّ من ملاحظة الأدلّة ، فإن كان التوفيق العرفيّ ممكنا ـ بأن كان دليل أظهر من غيره ـ فهو ، وإلّا فلا بدّ من إعمال قانون التعارض من الترجيح أو التخيير بينه وبين غيره.

إنّما الكلام في تشخيص الأظهر ، وهو فيما إذا كان التعارض بين الدليلين سهل ، ضرورة أنّه كلّ واحد منهما يلاحظ مع الآخر وبعد ملاحظة النسبة بينهما يتعيّن الأظهر. وأمّا تشخيصه فيما إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين لا يخلو من صعوبة وخفاء. وذلك لأنّ النسبة بين الأدلّة ـ مثلا ـ قد تنقلب إلى نسبة اخرى بعد عمليّة العلاج بين بعضها ، فيبحث حينئذ عن أنّه هل يلاحظ النسبة الأوّليّة الثابتة بينها بلحاظ ظهوراتها الأوّليّة ، فيلاحظ الجمع والعلاج بين كلّ منهما وغيره دفعة واحدة ، أو تلاحظ النسبة الحادثة الثابتة بينها بعد ملاحظة الاثنين منها وعلاج التعارض بينهما؟

مثلا : إذا ورد «أكرم الأمراء» ، ثمّ ورد «لا تكرم فسّاقهم» ، وورد أيضا «لا يكره إكرام الأمراء الكوفيّين» فتكون النسبة بين الأوّل وكلّ واحد من الأخيرين عموما مطلقا. وأمّا إذا خصّص الأوّل بأحد الأخيرين تنقلب النسبة بينه وبين الآخر إلى العموم من وجه ، فإنّ النسبة بين «أكرم الأمراء» وبين «لا تكرم فسّاقهم» هو العموم المطلق ، لأنّ كلّ فاسق من الامراء أمير ، وليس كلّ أمير فاسقا ، كما أنّ النسبة بينه وبين «الامراء الكوفيّين» هو العموم المطلق ، كما هو واضح ؛ وأمّا بعد ملاحظة «أكرم الامراء» مع «لا تكرم فسّاقهم» وبعد العلاج بينهما تحصل قضيّة هي : «أكرم الامراء العدول» ، وتكون نسبة هذه القضيّة مع قضيّة «يكره إكرام ـ

٣٣٣

__________________

ـ الامراء الكوفيّين» هو العموم من وجه ، لاجتماعهما في الأمير الكوفيّ العادل ، وافتراقهما في الأمير غير الكوفيّ والأمير الكوفيّ الفاسق. فحينئذ يبحث عن أنّه هل يصحّ انقلاب النسبة ـ بمعنى أنّه يلزم رعاية الترتيب في العلاج بين المتعارضات ولحاظ النسبة الحادثة ـ أو لا يصحّ انقلاب النسبة؟

فعلى الأوّل يلزم أن يلاحظ العامّ مع الخاصّ الأوّل «لا تكرم فسّاقهم» ، ثمّ تلاحظ النسبة بين ما ينتج من علاجها وبين الخاصّ الآخر ، ففي مادّة الاجتماع ـ أي الأمير الكوفيّ غير الفاسق ـ يقدّم الراجح منهما ، فإن كان الراجح ما ينتج من علاج العامّ مع الخاصّ الأوّل ـ أي وجوب إكرام الامراء العدول ـ فيقدّم ويحكم بوجوب إكرام الأمير الكوفيّ العادل ، وإن كان الراجح هو الخاصّ الثاني فيقدّم ويحكم بكراهة إكرام الأمير الكوفيّ العادل.

وعلى الثاني يلاحظ كلّ من الخاصّين مع العامّ دفعة واحدة ، ويخصّص العامّ بكلّ منهما مع الغض عن الآخر ، فيخرج الخاصّان عن العامّ ويحكم بعدم إكرام فسّاق الامراء والكوفيّين منهم ، كما يحكم بإكرام الامراء العدول من غير الكوفيّين.

وبالجملة : هل يلاحظ نسبة واحد منها مع الآخر ، وبعد علاج التعارض بينهما تلاحظ النسبة بين محصول العلاج مع الآخر ، أو يلاحظ نسبة كلّ واحد مع الآخر قطع النظر عن الثالث أو الرابع؟

ذهب المحقّق النراقيّ إلى الأوّل. راجع عوائد الأيّام : ٣٤٩ ـ ٣٥٣ ، مناهج الأحكام : ٣١٧.

وذهب الشيخ الأعظم الأنصاريّ إلى التفصيل بين ما إذا كانت نسبة المتعارضات نسبة واحدة ، كما لو كانت نسبتها نسبة الخاصّ إلى العامّ ـ مثلا : قال : «أكرم العلماء» ، ثمّ قال : «لا تكرم النحويّين» ، ثمّ قال : «لا تكرم الصرفيّين» ـ وبين ما إذا كانت نسبة المتعارضات مختلفة ـ مثلا : ورد عامّ ، نحو قوله : «أكرم العلماء» ، ثمّ ورد عامّ آخر نسبته مع الأوّل نسبة العموم من وجه ، نحو قوله : «لا تكرم فسّاق العلماء» ، ثمّ ورد مخصّص لأحدهما مثل قوله : «يستحبّ إكرام العدول» ـ. فعلى الأوّل لا يصحّ انقلاب النسبة ، بل يلزم رعاية النسبة السابقة. وعلى الثاني يصحّ انقلاب النسبة ورعاية الترتيب والنسبة المنقلبة. فرائد الاصول ٤ : ١٠٢ ـ ١٠٣.

ومن هنا يظهر عدم صحّة نسبة القول بالانقلاب على إطلاقه إلى الشيخ ـ كما في مجمع الأفكار ٤ : ٤١٣ ـ ، ولا نسبة القول بعدمه كذلك ـ كما في مصباح الاصول ٣ : ٣٨٦ ـ.

وذهب المصنّف رحمه‌الله إلى عدم انقلاب النسبة مطلقا ، كما سيأتي. ووافقه في أصل دعوى إنكار انقلاب النسبة المحقّقان الاصفهانيّ والعراقيّ. راجع نهاية الدراية ٣ : ٤٠٨ ـ ٤١٢ ، نهاية الأفكار ٤ (القسم الثاني) ٢ : ١٦١ ـ ١٦٧ ، مقالات الاصول ٢ : ٤٨٢ ، هامش فوائد الاصول ٣ : ١٧٦. ـ

٣٣٤

[القول بانقلاب النسبة ، وما فيه]

ولذا وقع بعض الأعلام (١) في اشتباه وخطأ ، حيث توهّم أنّه إذا كان هناك عامّ وخصوصات ، وقد خصّص ببعضها ، كان اللازم ملاحظة النسبة بينه وبين سائر الخصوصات بعد تخصيصه به ، فربّما تنقلب النسبة إلى عموم وخصوص من وجه ، فلا بدّ من رعاية هذه النسبة وتقديم الراجح منه ومنها (٢) ، أو التخيير بينه وبينها (٣) لو لم يكن هناك راجح ، لا تقديمها عليه ، إلّا إذا كانت النسبة بعده على حالها (٤).

وفيه : أنّ النسبة إنّما هي بملاحظة الظهورات ، وتخصيص العامّ بمخصّص منفصل ـ ولو كان قطعيّا ـ لا ينثلم به ظهوره ، وإن انثلم به حجّيّته ، ولذلك يكون بعد التخصيص حجّة في الباقي ، لأصالة عمومه بالنسبة إليه (٥).

__________________

ـ وذهب بعض الأعلام إلى تفاصيل أخر ، تركناها خوفا من التطويل ، وإن شئت فراجع أجود التقريرات ٢ : ٥١٨ ـ ٥٢٠ ، فوائد الاصول ٤ : ٧٤٠ ـ ٧٤٨ ، مصباح الاصول ٣ : ٣٨٦ ـ ٣٩٦ ، الرسائل (للإمام الخمينيّ) ٢ : ٣٢ ـ ٣٦.

(١) وهو المحقّق المولى أحمد النراقيّ في عوائد الأيّام : ٣٤٩ ـ ٣٥٣ ، ومناهج الأحكام : ٣١٧.

(٢) أي : من العامّ المخصّص ومن سائر الخصوصات.

(٣) أي : بين العامّ المخصّص وبين سائر الخصوصات.

(٤) والحاصل : أنّ المحقّق النراقيّ ذهب إلى لزوم ملاحظة النسبة المنقلبة الحادثة ، إلّا إذا كانت النسبة السابقة باقية على حالها بعد عمليّة العلاج وتخصيص العامّ بالخصوصات.

(٥) حاصل الجواب : أنّ النسبة بين المتعارضين أو المتعارضات إنّما هي بملاحظة ظهوريهما أو ظهوراتهما ، والمخصّص المنفصل لا يصادم أصل ظهور العامّ في العموم ، وإنّما يصادم حجّيّته بالنسبة إلى مورد الخاصّ ، فلا يرتفع ظهور العامّ في العموم بالمخصّص المنفصل ، بل يبقى على ظهوره ويخصّص بكلّ من الخصوصات من دون انقلاب ؛ فإذا قال : «أكرم العلماء» ، ثمّ قال : «لا تكرم فسّاقهم» ، ثمّ قال : «ولا تكرم النحويّين» فظهور العامّ في العموم محفوظ على حاله ولا ينثلم بقوله : «لا تكرم فسّاقهم» ، وإن انثلم به حجّيّته بالنسبة إلى فسّاقهم ؛ وإذا كان ظهوره محفوظا على حاله ـ ولو بعد تخصيصه بذلك المخصّص ـ فتبقى النسبة بينه وبين قوله : «ولا تكرم النحويّين» على ما كانت سابقا ، وهي العموم المطلق ، فيخصّص به ثانيا ، ويحكم بوجوب إكرام العالم العادل غير النحويّ. ـ

٣٣٥

لا يقال : إنّ العامّ بعد تخصيصه بالقطعيّ (١) لا يكون مستعملا في العموم قطعا ، فكيف يكون ظاهرا فيه (٢).

فإنّه يقال : إنّ المعلوم عدم إرادة العموم ، لا عدم استعماله فيه لإفادة (٣) القاعدة الكلّيّة ، فيعمل بعمومها ما لم يعلم بتخصيصها ، وإلّا لم يكن وجه في حجّيّته في تمام الباقي ، لجواز استعماله حينئذ فيه وفي غيره من المراتب الّتي يجوز أن ينتهي إليها التخصيص (٤).

وأصالة عدم مخصّص آخر (٥) لا توجب انعقاد ظهور له ، لا فيه ولا في غيره

__________________

ـ وأجاب الشيخ الأعظم الأنصاريّ عمّا أفاد المحقّق النراقيّ بوجهين :

أحدهما : أنّ تقديم أحد الخاصّين معيّنا على العامّ ثمّ ملاحظة نسبة العامّ مع الخاصّ الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فلا محيص عن ملاحظتهما معا مع العامّ.

ثانيهما : أنّه إذا خصّص العامّ بأحد الخاصّين فلا ينعقد له ظهور في الباقي ، إلّا مع إحراز عدم المخصّص ، ومع وجود الخاصّ الآخر لا يمكن إحراز عدم المخصّص ، فلا ينعقد له ظهور في الباقي كي يصلح لمعارضة الخاصّ الآخر وملاحظة النسبة بينهما. فرائد الاصول ٤ : ١٠٣ ـ ١٠٤.

(١) كالإجماع والعقل.

(٢) والحاصل : أنّ المخصّص القطعيّ ـ كالعقل أو الإجماع الّذي يكون كالمخصّص المتّصل ـ يكشف عن عدم استعمال العامّ في العموم من أوّل الأمر ، وحينئذ فاللازم ملاحظة النسبة بين العامّ والخاصّ الثاني بعد تخصيصه بالخاصّ الأوّل المفروض كونه قطعيّا.

(٣) متعلّق بقوله : «استعماله».

(٤) حاصل الجواب : أنّ المخصّص المنفصل القطعيّ لا يكاد يكون قرينة على عدم استعمال العامّ في العموم كي يمنع ظهوره في العموم ، بل إنّما يكون قرينة على أنّ المتكلّم لم يرد العموم في مقام الثبوت وعالم الواقع ، وعدم إرادة العموم في مقام الثبوت لا يلازم عدم استعماله فيه في مقام الإثبات.

إن قلت : إذا لم يرد المتكلّم العموم من العامّ فما الفائدة في استعمال العامّ فيه؟

قلت : يمكن استعمال العامّ في العموم لأجل إفادة قاعدة كلّيّة تكون مرجعا عند الشكّ في التخصيص. ويشهد بذلك ما هو المعروف من حجّيّة العامّ في تمام ما بقي بعد التخصيص ، إذ مع عدم استعمال العامّ في العموم لا وجه لحجّيّته في الباقي ، لاحتمال عدم كون المستعمل فيه بعد التخصيص تمام الباقي ، بل يحتمل استعماله في بعض مراتب الباقي.

(٥) تعريض بالشيخ الأعظم الأنصاريّ ، حيث أثبت ظهور العامّ في تمام الباقي بأصالة عدم ـ

٣٣٦

من المراتب ، لعدم الوضع ولا القرينة المعيّنة لمرتبة منها ، كما لا يخفى ، لجواز إرادتها وعدم نصب قرينة عليها.

نعم ، ربّما يكون عدم نصب قرينة مع كون العامّ في مقام البيان قرينة على إرادة التمام ، وهو غير ظهور العامّ فيه في كلّ مقام.

[المختار عدم انقلاب النسبة]

فانقدح بذلك أنّه لا بدّ من تخصص العامّ بكلّ واحد من الخصوصات مطلقا ، ولو كان بعضها مقدّما أو قطعيّا ، ما لم يلزم منه محذور انتهائه إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه عرفا (١) ، ولو لم تكن مستوعبة لأفراده ، فضلا عمّا إذا كانت مستوعبة لها ، فلا بدّ حينئذ (٢) من معاملة التباين بينه وبين مجموعها (٣) ومن ملاحظة الترجيح بينهما وعدمه. فلو رجّح جانبها أو اختير فيما لم يكن هناك ترجيح فلا مجال للعمل به أصلا ؛ بخلاف ما لو رجّح طرفه أو قدّم تخييرا ، فلا يطرح منها إلّا خصوص ما لا يلزم مع طرحه المحذور من التخصيص بغيره ، فإنّ التباين إنّما كان بينه وبين مجموعها لا جميعها (٤) ، وحينئذ فربما يقع التعارض بين الخصوصات فيخصّص ببعضها ترجيحا أو تخييرا ، فلا تغفل.

__________________

ـ التخصيص بمخصّص آخر. فرائد الاصول ٤ : ١٠٤.

(١) وهو تخصيص الأكثر المستهجن.

(٢) أي : حين لزوم المحذور المذكور.

(٣) أي : بين العامّ وبين مجموع الخصوصات.

(٤) والفرق بين المجموع والجميع أنّ المجموع عنوان لهيئة اجتماعيّة ذوات آحاد ، فيكون الدخيل في الحكم نفس الهيئة الاجتماعيّة. بخلاف الجميع فإنّه عنوان مشير إلى آحاد الأفراد ، فيكون الدخيل في الحكم نفس آحاد الأفراد دون الهيئة الاجتماعيّة.

إذا عرفت هذا فيقال : إنّ المعارض للعامّ ليس الجميع ـ أي كلّ واحد من الخصوصات ـ حتّى يلزم طرحها أجمع على تقدير تقديم العمل بالعامّ ، بل المعارض للعامّ هو المجموع ـ أي الهيئة الاجتماعيّة ـ ، فيلزم طرحه بترك العمل ببعض الخصوصات.

٣٣٧

هذا فيما كانت النسبة بين المتعارضات متّحدة (١).

وقد ظهر منه حالها فيما كانت النسبة بينها متعدّدة ، كما إذا ورد هناك عامّان من وجه مع ما هو أخصّ مطلقا من أحدهما (٢) ، وأنّه لا بدّ من تقديم الخاصّ على العامّ ومعاملة العموم من وجه بين العامّين من الترجيح والتخيير بينهما ، وإن انقلبت النسبة بينهما إلى العموم المطلق بعد تخصيص أحدهما ، لما عرفت من أنّه لا وجه إلّا لملاحظة النسبة قبل العلاج.

نعم ، لو لم يكن الباقي تحته بعد تخصيصه إلّا ما لا يجوز أن يجوز عنه التخصيص أو كان بعيدا جدّا لقدّم على العامّ الآخر (٣) ، لا لانقلاب النسبة بينهما (٤) ، بل لكونه كالنصّ فيه ، فيقدّم على الآخر الظاهر فيه بعمومه ، كما لا يخفى.

__________________

(١) كما إذا كانت النسبة بينها أخصّ مطلقا ، نظير قوله : «أكرم العلماء» و «لا تكرم النحويّين منهم» و «لا تكرم الأطبّاء منهم» ، فإنّ النسبة بين كلّ واحد من الخاصّين والعامّ أخصّ مطلق.

(٢) كما إذا قال المولى : «أكرم العلماء» ، ثمّ قال : «ولا تكرم فسّاقهم» ، ثمّ قال : «يستحبّ إكرام العدول» ، فإنّ النسبة بين الأوّلين أخصّ مطلق ، وبين الثالث والأوّل عموم من وجه.

(٣) أي : لو لم يبق تحت العامّ المخصّص بعد تخصيصه إلّا أفراد نادرة ، بحيث لا يصحّ أن يتعدّى التخصيص عن تلك الأفراد ، فلا يحتمل تخصيصا آخر أو كان التخصيص الآخر بعيدا ، لقدّم العامّ المخصّص على العامّ الآخر.

(٤) تعريض بالشيخ الأعظم الأنصاريّ وحيث جعل مناط تقديم العامّ المخصّص على العامّ انقلاب النسبة بينهما. راجع فرائد الاصول ٤ : ١١١.

٣٣٨

فصل

[رجوع المرجّحات إلى المرجّح الصدوريّ ، ونفي الترتيب بينها]

[رجوع جميع المرجّحات إلى المرجّح الصدوريّ]

لا يخفى : أنّ المزايا المرجّحة لأحد المتعارضين الموجبة للأخذ به وطرح الآخر ـ بناء على وجوب الترجيح ـ وإن كانت على أنحاء مختلفة ومواردها متعدّدة من راوي الخبر ونفسه ووجه صدوره ومتنه ومضمونه ـ مثل الوثاقة والفقاهة ، والشهرة ، ومخالفة العامّة ، والفصاحة ، وموافقة الكتاب ، والموافقة لفتوى الأصحاب ... إلى غير ذلك ممّا يوجب مزيّة في طرف من أطرافه (١) ، خصوصا لو قيل بالتعدّي من المزايا المنصوصة ـ ، إلّا أنّها موجبة لتقديم أحد السندين وترجيحه وطرح الآخر ، فإنّ أخبار العلاج دلّت على تقديم رواية ذات مزيّة في أحد أطرافها ونواحيها. فجميع هذه من مرجّحات السند حتّى موافقة الخبر للتقيّة (٢) ، فإنّها أيضا ممّا يوجب ترجيح أحد السندين وحجّيّته فعلا وطرح الآخر

__________________

(١) كأضبطيّة الراوي.

(٢) هكذا في جميع النسخ. ولكن الصحيح أن يقول : «مخالفة الخبر للتقيّة» ، لأنّها من المرجّحات ، لا موافقته للتقيّة. ومعنى العبارة : أنّ مخالفة الخبر للتقيّة ـ الّتي هي عند المشهور من المرجّحات الجهتيّة المتأخّرة رتبة عن أصل الصدور ـ تكون من المرجّحات السنديّة.

٣٣٩

رأسا. وكونها في مقطوعي الصدور متمحّضة في ترجيح الجهة لا يوجب كونها كذلك في غيرهما ، ضرورة أنّه لا معنى للتعبّد بسند ما يتعيّن حمله على التقيّة ، فكيف يقاس على ما لا تعبّد فيه للقطع بصدوره؟!

[عدم مراعاة الترتيب بين المرجّحات]

ثمّ إنّه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجّحات لو قيل بالتعدّي وإناطة الترجيح بالظنّ (١) أو بالأقربيّة إلى الواقع (٢) ، ضرورة أنّ قضيّة ذلك تقديم الخبر الّذي ظنّ صدقه أو كان أقرب إلى الواقع منهما ، والتخيير (٣) بينهما إذا تساويا ، فلا وجه لإتعاب النفس في بيان أنّ أيّها (٤) يقدّم أو يؤخّر إلّا تعيين أنّ أيّها يكون فيه المناط في صورة مزاحمة بعضها مع الآخر.

وأمّا لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة فله (٥) وجه ، لما يتراءى من ذكرها مرتّبا في المقبولة (٦) والمرفوعة (٧).

مع إمكان (٨) أن يقال : إنّ الظاهر كونهما ـ كسائر أخبار الترجيح ـ بصدد بيان أنّ هذا مرجّح وذاك مرجّح ، ولذا اقتصر في غير واحد منها على ذكر مرجّح واحد ، وإلّا لزم تقييد جميعها ـ على كثرتها ـ بما في المقبولة ، وهو بعيد جدّا. وعليه فمتى وجد في أحدهما مرجّح وفي الآخر آخر منها كان المرجع هو إطلاقات التخيير ، ولا كذلك على الأوّل (٩) ، بل لا بدّ من ملاحظة الترتيب ، إلّا إذا كانا في عرض واحد.

__________________

(١) والقائل به هو المحقّق الرشتيّ في بدائع الأفكار : ٤٣٤.

(٢) والقائل به هو الشيخ الأعظم الأنصاريّ. راجع فرائد الاصول ٤ : ٧٥.

(٣) معطوف على قوله : «تقديم».

(٤) أي : المرجّحات.

(٥) أي : مراعاة الترتيب.

(٦) الكافي ١ : ٦٧.

(٧) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣.

(٨) غرضه المناقشة في جعل ذكرها مرتّبا فيهما دليلا على اعتبار الترتيب.

(٩) ولا يرجع إلى إطلاقات باب التخيير بناء على كون المقبولة والمرفوعة بصدد بيان لزوم مراعاة الترتيب بين المرجّحات ، بل يلاحظ الترتيب ويقدّم الخبر الّذي يكون مرجّحه مقدّما على مرجّح الخبر الآخر رتبة.

٣٤٠