كفاية الأصول - ج ٣

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-562-2
الصفحات: ٤٤٣

المتدارك (١) أو إرادة النهي من النفي (٢) جدّا ، ضرورة (٣) بشاعة استعمال الضرر وإرادة خصوص سبب من أسبابه أو خصوص غير المتدارك منه (٤). ومثله لو اريد ذاك بنحو التقييد (٥) ، فإنّه وإن لم يكن ببعيد ، إلّا أنّه بلا دلالة عليه غير سديد. وإرادة النهي من النفي وإن كان ليس بعزيز (٦) ، إلّا أنّه لم يعهد من مثل هذا

__________________

ـ باب إطلاق لفظ المسبّب وإرادة السبب ، نظير إطلاق لفظ «القتل» على الرمي ، وهو المجاز في الكلمة ، فيراد من «لا ضرر» أنّه حكم ضرريّ ، أي : حكم شرعيّ يلزم منه ضرر على العباد. وهذا مختار الشيخ الأعظم ، وتبعه المحقّق النائينيّ ، فراجع فرائد الاصول ٢ : ٤٦٠ ، ومنية الطالب ٢ : ٢٠١.

(١) بأن يكون المنفيّ حصّة خاصّة من الضرر ، وهي الضرر غير المتدارك ، وهو المجاز في التقدير ، فيراد من الحديث أنّه لا ضرر لم يحكم الشارع بوجوب تداركه وجبرانه. وهذا ما ذهب إليه الفاضل التونيّ في الوافية : ١٩٤.

(٢) كما ذهب إليه البدخشيّ في مناهج العقول في شرح منهاج الوصول ٣ : ١٧٧. واختاره السيّد مير فتّاح الحسينيّ ، وأصرّ عليه شيخ الشريعة الأصفهانيّ ، ومال إليه صاحب الجواهر ، فراجع العناوين ١ : ٣١١ ، ورسالة في قاعدة لا ضرر : ١٩ ، وجواهر الكلام ٣٧ : ١٥.

(٣) تعليل لبعد إرادة نفي الحكم الضرريّ أو الضرر غير المتدارك.

(٤) أي : من الضرر.

(٥) الضمير في «مثله» راجع إلى استعمال الضرر وإرادة خصوص غير المتدارك. وهو المشار إليه بقوله : «ذاك»

وتوضيح ما أفاده : أنّ في استعمال كلمة «الضرر» وإرادة خصوص غير المتدارك وجهان :

أحدهما : أن يستعمل الضرر ويراد من لفظ «الضرر» الضرر غير المتدارك من باب استعمال اللفظ الكلّي في بعض مصاديقه. أشار المصنّف قدس‌سره إلى هذا الوجه بقوله : «أو خصوص غير المتدارك منه».

ثانيهما : أن يستعمل الضرر ويراد الضرر غير المتدارك بدالّ آخر بنحو التقييد ـ أي بنحو تعدّد الدالّ والمدلول ـ. وأشار المصنّف إليه بقوله : «ومثله لو اريد ذلك بنحو التقييد».

(٦) بل استعمل النفي واريد النهي في كثير من الموارد ، كقوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة / ١٩٧] ، وقوله تعالى : (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) [طه / ٩٧] ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا جلب ولا جنب ولا شعار في الإسلام» [الكافي ٥ : ٣٦١] ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» [الكافي ٢ : ٣٧٢ ، الفقيه ٤ : ٣٨١].

١٦١

التركيب (١).

وعدم إمكان إرادة نفي الحقيقة حقيقة لا يكاد يكون قرينة على إرادة واحد منها (٢) بعد إمكان حمله على نفيها ادّعاء ، بل كان هو الغالب في موارد استعماله.

ثمّ الحكم الّذي اريد نفيه بنفي الضرر هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها (٣) أو المتوهّم ثبوته لها كذلك في حال الضرر (٤) ، لا الثابت له بعنوانه (٥) ، لوضوح أنّه العلّة للنفي ، ولا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه ، بل يثبته ويقتضيه.

[نسبة القاعدة مع أدلّة أحكام الأفعال بعناوينها الأوّليّة]

ومن هنا لا يلاحظ النسبة بين أدلّة نفيه وأدلّة الأحكام ، وتقدّم أدلّته على أدلّتها ، مع أنّها عموم من وجه ، حيث إنّه يوفّق بينهما عرفا بأنّ الثابت للعناوين الأوّليّة اقتضائيّ يمنع عنه فعلا ما عرض عليها من عنوان الضرر بأدلّته ، كما هو الحال في التوفيق بين سائر الأدلّة المثبتة أو النافية لحكم الأفعال بعناوينها الثانويّة والأدلّة المتكفّلة لحكمها بعناوينها الأوّليّة.

نعم ، ربّما يعكس الأمر فيما احرز بوجه معتبر أنّ الحكم في المورد ليس بنحو الاقتضاء ، بل بنحو العلّيّة التامّة.

وبالجملة : الحكم الثابت بعنوان أوّليّ تارة يكون بنحو الفعليّة مطلقا أو بالإضافة إلى عارض دون عارض بدلالة لا يجوز الإغماض عنها بسبب دليل حكم العارض المخالف له ، فيقدّم دليل ذاك العنوان على دليله ؛ واخرى يكون على نحو لو كانت هناك دلالة للزم الإغماض عنها بسببه عرفا ، حيث كان اجتماعهما

__________________

(١) أي : إرادة النهي من النفي فيما إذا دخلت على اسم الجنس لم تعهد في الاستعمالات المتعارفة ، بل انّما يكون متعارفا فيما إذا دخلت على الفعل كقوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) الواقعة / ٧٩.

(٢) أي : واحد من المعاني المجازيّة.

(٣) أي : العناوين الأوّليّة للأفعال ، كالصلاة والحجّ والبيع والصوم وغير ذلك من العناوين الأوّليّة.

(٤) أي : أو الحكم المتوهّم ثبوته لها بهذه العناوين الأوّليّة في حال الضرر.

(٥) أي : بعنوان الضرر.

١٦٢

قرينة على أنّه بمجرّد المقتضي وأنّ العارض مانع فعليّ. هذا ولو لم نقل بحكومة دليله على دليله (١) ، لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله ، كما قيل (٢).

[نسبة أدلّة القاعدة مع أدلّة أحكام العناوين الثانويّة غير الضرر]

ثمّ انقدح بذلك حال توارد دليلي العارضين ، كدليل نفي العسر ودليل نفي الضرر مثلا ، فيعامل معهما معاملة المتعارضين لو لم يكن من باب تزاحم المقتضيين ، وإلّا فيقدّم ما كان مقتضيه أقوى وإن كان دليل الآخر أرجح وأولى.

ولا يبعد أنّ الغالب في توارد العارضين أن يكون من ذاك الباب بثبوت المقتضي فيهما مع تواردهما ، لا من باب التعارض ، لعدم ثبوته إلّا في أحدهما ، كما لا يخفى.

هذا حال تعارض الضرر مع عنوان أوّليّ أو ثانويّ آخر.

[حكم تعارض الضرر مع ضرر آخر]

وأمّا لو تعارض مع ضرر آخر ، فمجمل القول فيه :

أنّ الدوران ، إن كان بين ضرري شخص واحد أو اثنين ، فلا مسرح إلّا لاختيار أقلّهما لو كان ، وإلّا فهو مختار.

وأمّا لو كان بين ضرر نفسه وضرر غيره ، فالأظهر عدم لزوم تحمّله الضرر ، ولو كان ضرر الآخر أكثر ، فإنّ نفيه يكون للمنّة على الامّة ، ولا منّة على تحمّل الضرر لدفعه عن الآخر وإن كان أكثر.

نعم ، لو كان الضرر متوجّها إليه ليس له دفعه عن نفسه بإيراده على الآخر.

اللهم إلّا أن يقال : إن نفي الضرر وإن كان للمنّة ، إلّا أنّه بلحاظ نوع الامّة ، واختيار الأقلّ بلحاظ النوع منّة ، فتأمّل.

__________________

(١) أي : لو لم نقل بحكومة دليل العنوان الثانويّ على دليل العنوان الأوّليّ.

(٢) أي : قيل بحكومة دليل نفي الضرر ـ وهو العنوان الثانويّ ـ على أدلّة أحكام العناوين الأوّليّة.

والقائل به هو الشيخ الأعظم في فرائد الاصول ٢ : ٤٦٢.

١٦٣

فصل

[في الاستصحاب]

[كثرة الأقوال والعبارات في حجّيّته وتعريفه]

وفي حجّيّته إثباتا ونفيا أقوال للأصحاب (١).

ولا يخفى : أنّ عباراتهم في تعريفه وإن كانت شتّى (٢) ، إلّا أنها تشير إلى مفهوم واحد ومعنى فارد ، وهو «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شكّ في بقائه» (٣) ، إمّا من جهة بناء العقلاء على ذلك (٤) في أحكامهم العرفيّة مطلقا أو في الجملة ـ تعبّدا ، أو للظنّ به الناشئ من ملاحظة ثبوته سابقا ـ ، وإمّا من جهة دلالة النصّ أو دعوى الإجماع عليه كذلك (٥) ، حسبما تأتي الإشارة إلى ذلك

__________________

(١) وقد تعرّض الشيخ الأعظم لأحد عشر قولا في فرائد الاصول ٣ : ٤٨ ـ ٤٩. والمصنّف اقتصر على ذكر مختاره ـ وهو الحجيّة مطلقا ـ وبعض تفاصيل آخر.

(٢) منها : ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاريّ وعدّه أخصر التعاريف وأسدّها ، وهو : «إبقاء ما كان». فرائد الاصول ٣ : ٩.

ومنها : ما ذكره أيضا الشيخ الأعظم الأنصاريّ وجعله أزيف التعاريف ، وهو «كون حكم أو وصف يقينيّ الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق». فرائد الاصول ٣ : ١٠.

(٣) أشار بقوله : «ببقاء حكم» إلى جريان الاستصحاب في الشبهة الحكميّة. وأشار بقوله : «أو موضوع ذي حكم» إلى جريانه في الشبهة الموضوعيّة.

(٤) أي : على الحكم بالبقاء.

(٥) توضيح ما أفاده : أنّ الاستصحاب هو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شكّ في ـ

١٦٤

مفصّلا (١).

__________________

ـ بقائه. ويستدلّ على الحكم بالبقاء بامور أربعة :

الأوّل : استقرار بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة في أحكامهم العرفيّة ، غاية الأمر أنّ بعض العقلاء بنوا على ذلك مطلقا ، سواء كان الحكم كلّيّا أم جزئيّا ، أو كان وضعيّا أم تكليفيّا ، أو كان الشكّ في المقتضي أو في الرافع وهكذا ؛ وبعض آخر منهم بنوا على ذلك بعد اختيار بعض التفاصيل ؛ كما أنّ بعضهم بنوا على ذلك تعبّدا ولو لم يحصل الظنّ الشخصيّ أو النوعيّ ببقاء الحكم السابق ، فيكون أصلا ؛ وبعض آخر منهم بنوا على ذلك للظنّ ببقاء الحكم الناشئ من لحاظ ثبوته سابقا ، فيكون أمارة. وهذا ما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :«إمّا من جهة بناء العقلاء».

وممّا ذكرنا يظهر معنى قوله : «مطلقا» وقوله : «في الجملة». ويظهر أيضا أنّ قوله : «تعبّدا أو للظنّ به» قيد لبناء العقلاء.

الثاني : دلالة الأحاديث المختلفة على الحكم بالبقاء وعدم نقض اليقين بالشكّ. وهذا ما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : «وإمّا من جهة دلالة النصّ».

الثالث : دعوى الإجماع على الحكم بالبقاء مطلقا أو في الجملة. وأشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : «ودعوى الإجماع عليه كذلك».

وغرض المصنّف قدس‌سره أنّ ما ذكرنا من التعريف يلتئم مع ما ذكر من الامور الثلاثة لإثبات اعتبار الاستصحاب.

(١) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «حسبما يأتي بيان كلّ من الأدلّة تفصيلا» ، ضرورة أنّ الإشارة لا تلائم التفصيل.

ولا يخفى : أنّ الأعلام الثلاثة لم يرتضوا بما ذكره الشيخ الأعظم والمصنّف قدس‌سره في تعريف الاستصحاب ، بل ناقشوا فيما أفادا وذكروا تعاريف أخر :

فقال المحقّق النائينيّ : «فالأولى في تعريفه أن يقال : إنّ الاستصحاب عبارة عن عدم انتقاض اليقين السابق المتعلّق بالحكم أو الموضوع من حيث الأثر والجري العمليّ بالشكّ في بقاء متعلّق اليقين. وهذا المعنى ينطبق على ما هو مفاد الأخبار ، وليس حقيقة الاستصحاب إلّا ذلك». فوائد الاصول ٤ : ٣٠٧.

وقال المحقّق الأصفهانيّ : «والتحقيق أنّ الاستصحاب ـ كما يناسب المشتقّات منه ـ هو الإبقاء العمليّ». نهاية الدراية ٣ : ٩.

وذهب المحقّق العراقيّ إلى أنّ حقيقة الاستصحاب عند القوم برمّتهم التصديق ببقاء ما كان ظنّا أم يقينا تعبّدا. راجع نهاية الأفكار ٤ : ٢ ـ ٣ ، وهامش فوائد الاصول ٤ : ٣٠٧.

١٦٥

ولا يخفى : أنّ هذا المعنى هو القابل لأن يقع فيه النزاع والخلاف في نفيه وإثباته ـ مطلقا أو في الجملة ـ وفي وجه ثبوته (١) على أقوال ، ضرورة أنّه لو كان الاستصحاب هو نفس بناء العقلاء على البقاء أو الظنّ به الناشئ من العلم بثبوته لما تقابل فيه الأقوال (٢) ، ولما كان النفي والإثبات واردين على مورد واحد ، بل موردين.

وتعريفه بما ينطبق على بعضها (٣) وإن كان ربّما يوهم أن لا يكون هو الحكم

__________________

(١) أي : في مدرك ثبوت الاستصحاب. ضرورة أنّ الخلاف كما يقع في حجّيّة الاستصحاب نفيا وإثباتا كذلك يقع في مدرك حجّيّته وأنّه هل هو بناء العقلاء أو هو الأخبار أو غيرهما.

(٢) إذ القائل بثبوت الاستصحاب قد لا يثبت البناء المذكور ، بل يستدلّ على ثبوته بالأخبار ، والقائل بنفيه قد لا يثبت البناء المذكور ولكن لا يراه حجّة. وكذا القائل بثبوت الاستصحاب قد يقول بعدم حصول الظنّ بالبقاء له ، والقائل بنفيه قد يعترف بحصول الظنّ ولكن يمنع الدليل على حجّيّته.

ولا يخفى : أنّ ما ذكره المصنّف قدس‌سره في المقام ـ من أنّ للاستصحاب مفهوم واحد قابل لوقوعه معركة الآراء ـ عدول عمّا أفاده في تعليقته على فرائد الاصول ، حيث قال :«لا يخفى : أنّ حقيقة الاستصحاب وماهيّته مختلف بحسب اختلاف وجه حجّيّته ...». درر الفوائد : ٢٨٩.

وذهب السيّدان العلمان ـ الخمينيّ والخوئيّ ـ إلى ما أفاده المصنّف قدس‌سره في التعليقة ، فصرّحا بعدم إمكان تعريف الاستصحاب بشيء يكون قابلا لأن يكون موردا للنقض والإبرام على جميع المسالك والأقوال ، بل يختلف تعريفه باختلاف المباني. راجع تمام كلامهما في الرسائل (للإمام الخمينيّ) ١ : ٧٠ ـ ٧٢ ، وموسوعة الإمام الخوئيّ (مصباح الاصول) ٤٨ : ٣ ـ ٥.

(٣) أي : بعض الأقوال : ولعلّ مراده من قوله : «ما ينطبق على بعضها» هو التعريف الّذي ذكره الفاضل التونيّ من «أنّه التمسّك بثبوت ما يثبت في وقت أو حال على بقائه» ، فإنّ هذا التعريف إنّما ينطبق على استناد حجّيّة الاستصحاب إلى الظنّ ، لأنّ ظاهر هذا التعريف أنّ نفس الثبوت السابق أمارة على ثبوته في اللاحق ، وهذا أجنبيّ عن الحكم بالبقاء الّذي هو فعل المكلّف. فهذا التعريف يوهم أن لا يكون تعريف الاستصحاب هو الحكم بالبقاء ، بل يكون تعريفه هذا الوجه الّذي ذكره الفاضل التونيّ.

ثمّ أفاد المصنّف قدس‌سره أنّ ما ذكر من التعاريف للاستصحاب لم يكن بحدّ ولا برسم ، بل من قبيل شرح الاسم ، فتعريفه بما ينطبق على بعضها ـ كتعريفه بما ذكره الفاضل التونيّ ـ لا يدلّ ـ

١٦٦

بالبقاء ، بل ذاك الوجه ، إلّا أنّه حيث لم يكن بحدّ ولا رسم (١) بل من قبيل شرح الاسم ـ كما هو الحال في التعريفات غالبا ـ لم يكن له دلالة على أنّه نفس الوجه ، بل للإشارة إليه من هذا الوجه. ولذا لا وقع للإشكال على ما ذكر في تعريفه بعدم الطرد أو العكس ، فإنّه لم يكن به ـ إذا لم يكن بالحدّ أو الرسم ـ بأس.

فانقدح أنّ ذكر تعريفات القوم له وما ذكر فيها من الإشكال بلا حاصل وطول بلا طائل.

[الاستصحاب من المسائل الاصوليّة]

ثمّ لا يخفى : أنّ البحث في حجّيّته (٢) مسألة اصوليّة ، حيث يبحث فيها (٣) لتمهيد قاعدة تقع في طريق استنباط الأحكام الفرعيّة. وليس مفادها حكم العمل بلا واسطة وإن كان ينتهي إليه (٤) ، كيف! وربّما لا يكون مجرى الاستصحاب إلّا حكما اصوليّا كالحجّيّة مثلا.

هذا لو كان الاستصحاب عبارة عمّا ذكرنا (٥).

__________________

ـ على أنّ ذلك التعريف هو التعريف الحقيقيّ عند القائل به كي يقع مورد النقض والإبرام.

(١) وفي بعض النسخ : «ولا برسم».

(٢) وفي بعض النسخ : «في حجّيّة». والصحيح أن يقول : «عن حجّيّته».

(٣) أي : في المسألة الاصوليّة.

(٤) وفي مرجع الضمير في قوله : «وليس مفادها» وجوه :

الأوّل : أن يرجع إلى حجّيّة الاستصحاب.

الثاني : أن يرجع إلى المسألة الاصوليّة.

وعلى كلا الوجهين كان الأولى أن يقول : «وليس مفادها حكم العمل بلا واسطة وإن كانت تنتهي إليه».

الثالث : أن يرجع إلى الاستصحاب. وعليه كان الصحيح أن يقول : «وليس مفاده حكم العمل بلا واسطة وإن كان ينتهي إليه».

(٥) وهو كون الاستصحاب عبارة عن الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شكّ في بقائه.

١٦٧

وأمّا لو كان عبارة عن بناء العقلاء على بقاء ما علم ثبوته أو الظنّ به الناشئ من ملاحظة ثبوته ، فلا إشكال في كونه مسألة اصوليّة (١).

__________________

(١) لا يخفى عليك : أنّهم اختلفوا في أنّ البحث عن الاستصحاب هل يكون بحثا عن المسألة الاصوليّة أو يكون بحثا عن القاعدة الفقهيّة؟

والبحث التفصيليّ عن هذا المطلب لا يسعه المقام ، وأشرنا إلى بعض الكلام ذيل التعليقة (١) من الصفحة : ٥ من هذا الجزء. فنكتفي بتوضيح ما أفاد المصنّف قدس‌سره والإشارة إلى ما اختاره بعض الأعلام من المحقّقين المتأخّرين.

أمّا المصنّف قدس‌سره : فأفاد أنّ الاستصحاب من المسائل الاصوليّة ، سواء كان عبارة عن الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شكّ في بقائه وكان من الاصول العمليّة الّتي هي وظيفة الشاكّ ، أو كان عبارة عن بناء العقلاء على بقاء ما علم ثبوته أو الظنّ به.

أمّا بناء على الأوّل : فلأنّ الضابط في المسألة الاصوليّة كونها ممهّدة لوقوعها في طريق استنباط الأحكام الفرعيّة ، وهذا ينطبق على الاستصحاب بمعنى الحكم ببقاء الحكم ، فيقال ـ مثلا ـ : «إنّ نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره بنفسه أو بعلاج مشكوك البقاء ، وكلّ مشكوك البقاء باق ، فنجاسة هذا الماء باق».

هذا فيما إذا كان مجرى الاستصحاب حكما فرعيّا ، وأمّا فيما إذا كان مجراه حكما اصوليّا ـ كالحجّيّة ـ فكونه من مسائل علم الاصول أظهر ، إذ لا مجال لتوهّم كونه من القواعد الفقهيّة ، بل جريانه في الحكم الاصوليّ شاهد على عدم كونه من القواعد الفقهيّة.

وأمّا بناء على الثاني : فبناء على كونه عبارة عن بناء العقلاء على بقاء ما علم ثبوته فواضح ، لأنّ البحث عن حجّيّة الاستصحاب ـ حينئذ ـ يرجع إلى البحث عن ثبوت التلازم بين ما علم حدوثه وبين بقائه عند العقلاء وعدمه ، ومعلوم أنّ هذا البحث أجنبيّ عن فعل المكلّف.

وكذا بناء على كونه عبارة عن الظنّ بالبقاء الناشئ من ملاحظة ثبوته سابقا ، فيبحث حينئذ عن حجّيّة هذا الظنّ ، كالبحث عن حجّيّة سائر الظنون ، والبحث عن حجّيّة الظنون من المسائل الاصوليّة لا من المسائل الفقهيّة. هذا ما أفاد المصنّف قدس‌سره.

وتبعه المحقّقان العراقيّ والخمينيّ ، فعدّا الاستصحاب من المسائل الاصوليّة. نهاية الأفكار ٤ : ٦ ، الرسائل ١ : ٧٥.

وتبعه المحقّق الاصفهانيّ أيضا واستدلّ عليه بأنّ الحجّيّة بمعنى الواسطة ، وهي تعمّ الواسطة في إثبات الواقع عنوانا واعتبارا والواسطة في إثبات الواقع أثرا وتنجّزا ، فتعمّ مطلق المنجّزيّة والمعذّريّة ، ويدخل البحث عن منجّزيّة الاحتمال ومعذريّة الجهل في المسائل الاصوليّة.

وعليه فيدخل الاستصحاب في المسائل الاصوليّة. نهاية الدراية ٢ : ٤٠٥ ـ ٤٠٨ و ٣ : ١٥ ـ ١٨. ـ

١٦٨

[اعتبار اتّحاد القضيّة المشكوكة والمتيقّنة]

وكيف كان ، فقد ظهر ممّا ذكرنا في تعريفه اعتبار أمرين في مورده : القطع بثبوت شيء ، والشكّ في بقائه.

ولا يكاد يكون الشكّ في البقاء إلّا مع اتّحاد القضيّة المشكوكة والمتيقّنة بحسب الموضوع والمحمول. وهذا (١) ممّا لا غبار عليه في الموضوعات الخارجيّة في الجملة (٢).

وأمّا الأحكام الشرعيّة ، سواء كان مدركها العقل أم النقل ، فيشكل حصوله

__________________

ـ وذهب المحقّق النائينيّ إلى التفصيل بين الاستصحابات الجارية في الشبهات الحكميّة فتكون من المسائل الاصوليّة ، وبين الجارية في الشبهات الموضوعيّة فتكون من القواعد الفقهيّة. فوائد الاصول ٤ : ٣٠٧ ـ ٣١٢.

واختار بعض المحقّقين أنّ الاستصحاب من القواعد الفقهيّة. منهم العلّامة المحشّي المشكينيّ في حاشية الكفاية ٤ : ٣٨٢ ، والسيّد المحقّق الخوئيّ في دراسات في الاصول ٤ : ٨ ـ ٩ ومصباح الاصول ٣ : ٦.

(١) أي : اعتبار اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة.

(٢) لعلّه إشارة إلى بعض التفاصيل في جريان الاستصحاب في الموضوعات الخارجيّة ، حيث يعتبر اتّحاد القضيّتين في بعض الموارد ، وأمّا في مقابليها فلا يجري الاستصحاب كي يقال باعتبار اتّحاد القضيّتين.

منها : التفصيل بين ما إذا كان الشكّ في بقاء الموضوع الخارجيّ من جهة الشكّ في المقتضي ، كالشكّ في حياة زيد من جهة الشكّ في انقضاء استعداده للبقاء ، وبين ما إذا كان الشكّ فيه من جهة الشكّ في الرافع ، كالشكّ في حياته من جهة الشكّ في قتله ؛ فلا يجري الاستصحاب في الأوّل ، ويجري في الثاني. ذهب إليه المحقّق التبريزيّ في أوثق الوسائل : ٥٣٢.

ومنها : التفصيل بين ما إذا كانت الموضوعات من الموضوعات المستنبطة ـ وهي مفاهيم الألفاظ ، مثل كون الصعيد مطلق وجه الأرض ـ ، وبين ما إذا كانت من الموضوعات الصرفة ـ وهي المصاديق الخارجيّة للمفاهيم الكلّيّة ـ ؛ فلا يجري الاستصحاب في الأوّل ، ويجري في الثاني. وهذا ما نسبه الشيخ الأعظم إلى بعض مشايخه. راجع الحاشية على استصحاب القوانين : ٢٢٢.

١٦٩

فيها (١) ، لأنّه لا يكاد يشكّ في بقاء الحكم إلّا من جهة الشكّ في بقاء موضوعه بسبب تغيّر بعض ما هو عليه ممّا احتمل دخله فيه حدوثا أو بقاء (٢) ، وإلّا (٣) لما تخلّف (٤) الحكم عن موضوعه إلّا بنحو البداء بالمعنى المستحيل في حقّه تعالى ؛ ولذا كان النسخ بحسب الحقيقة دفعا لا رفعا.

ويندفع هذا الإشكال بأنّ الاتّحاد في القضيّتين بحسبهما (٥) وإن كان ممّا لا محيص عنه في جريانه ، إلّا أنّه لمّا كان الاتّحاد بحسب نظر العرف كافيا في تحقّقه وفي صدق الحكم ببقاء ما شكّ في بقائه ، وكان بعض ما عليه الموضوع من الخصوصيّات الّتي يقطع معها بثبوت الحكم له ممّا يعدّ بالنظر العرفيّ من حالاته وإن كان واقعا من قيوده ومقوّماته ، كان جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة الثابتة لموضوعاتها عند الشكّ فيها لأجل طروء انتفاء بعض ما احتمل دخله فيها ممّا عدّ من حالاتها لا من مقوّماتها ، بمكان من الإمكان (٦) ، ضرورة صحّة إمكان دعوى بناء العقلاء على البقاء تعبّدا أو لكونه مظنونا ولو نوعا ، أو دعوى دلالة النصّ أو قيام الإجماع عليه قطعا ، بلا تفاوت في ذلك بين كون دليل الحكم نقلا أو عقلا (٧).

__________________

(١) أي : حصول اتّحاد القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة في الأحكام الشرعيّة.

(٢) فيرجع الشكّ في بقاء الحكم إلى الشكّ في بقاء موضوعه ، وحينئذ لا يحرز بقاء الموضوع كي يحرز وحدته في القضيّتين ويستصحب الحكم ، مثلا : إذا ثبتت النجاسة للماء المتغيّر أوصافه بما هو متغيّر ، ثمّ زال تغيّر أوصافه بنفسه أو بعلاج فيشكّ في بقاء نجاسته من جهة الشكّ في بقاء موضوعه ، لاحتمال دخل التغيّر في موضوع النجاسة ، فلا يحرز وحدة القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة موضوعا.

(٣) أي : وإن لا يكن الشكّ في الحكم من جهة الشكّ في بقاء الموضوع.

(٤) وفي بعض النسخ : «لا يتخلّف».

(٥) أي : بحسب الموضوع والمحمول.

(٦) قوله : «بمكان من الإمكان» خبر كان.

(٧) تعريض بما ابتكره الشيخ الأعظم الأنصاريّ من التفصيل بين كون المستصحب ممّا ثبت بدليل عقليّ فلا يجري فيه الاستصحاب ، وبين ما ثبت بدليل نقليّ فيجري فيه الاستصحاب. فرائد الاصول ٣ : ٣٧.

١٧٠

أمّا الأوّل (١) : فواضح (٢).

وأمّا الثاني (٣) : فلأنّ الحكم الشرعيّ المستكشف به (٤) عند طروء انتفاء ما احتمل دخله في موضوعه ـ ممّا لا يرى مقوّما له (٥) ـ كان (٦) مشكوك البقاء عرفا ، لاحتمال عدم دخله فيه واقعا ، وإن كان لا حكم للعقل بدونه (٧) قطعا (٨).

__________________

(١) وهو الحكم المستند إلى النقل.

(٢) لأنّ تميّز الموضوع وتشخيص وحدته في القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة في هذه الأحكام بيد العرف المخاطب بها.

(٣) وهو الأحكام المستكشفة من حكم العقل بقاعدة الملازمة.

(٤) أي : بالعقل.

(٥) أي : ممّا لا يراه العرف مقوّما للموضوع.

(٦) خبر قوله : «فلأنّ الحكم الشرعيّ المستكشف به».

(٧) أي : بدون ما احتمل دخله في الموضوع.

(٨) غرض المصنّف رحمه‌الله دفع ما أفاد الشيخ الأعظم الأنصاريّ في إثبات عدم جريان الاستصحاب فيما إذا كان الحكم مستندا إلى العقل. وتوضيح الدفع موقوف على بيان ما أفاد الشيخ في وجه عدم جريانه فيه ، ثمّ إيضاح ما أفاد المصنّف قدس‌سره في دفعه :

أمّا كلام الشيخ : فحاصل ما أفاده أنّ الأحكام العقليّة مبيّنة مفصّلة محدّدة الموضوع لدى العقل ، ولا يكاد طروء الشكّ في بقاء موضوع حكمه ، لأنّ العقل لا يحكم بقبح شيء أو حسنه إلّا بعد الالتفات التامّ إلى ذلك الشيء الموضوع والإحاطة بجميع ما له دخل في حسنه أو قبحه من القيود والخصوصيّات ، فلا بدّ وأن يكون لكلّ خصوصيّة أخذها العقل في موضوع حكمه دخل في الموضوع الّذي هو مناط حكمه ، فإذا انتفى بعض الخصوصيّات يقطع بارتفاع الموضوع والمناط ، فيقطع بارتفاع الحكم ؛ كما أنّه إذا بقى الموضوع على ما هو عليه يقطع ببقاء الموضوع والمناط ويعلم بقاء الحكم. فالحكم العقليّ إمّا أن يكون مقطوع الارتفاع ، وإمّا أن يكون مقطوع البقاء ، فلا يتطرّق إليه الشكّ كي يجري فيه الاستصحاب. وكذا الحكم الشرعيّ المستكشف من حكم العقل بقاعدة الملازمة ، فإنّ الموضوع والمناط في الحكم الشرعيّ ليس إلّا الموضوع والمناط في الحكم العقليّ ، فإنّ هذا الحكم الشرعيّ إنّما يستفاد من الحكم العقليّ ، ولا يمكن أن تكون دائرة ما هو مناط الحكم الشرعيّ بأوسع من دائرة ما هو مناط الحكم العقليّ ، فإذا علمنا بانتفاء بعض خصوصيّات الموضوع والمناط علمنا بارتفاع الحكم الشرعيّ ، كما علمنا بارتفاع الحكم العقليّ ، وإذا علمنا ببقاء الموضوع على ما هو عليه علمنا ببقاء الحكم الشرعيّ كما علمنا ببقاء الحكم العقليّ. فالحكم الشرعيّ المستكشف من الحكم العقليّ أيضا إمّا أن يكون مقطوع الارتفاع وإمّا أن يكون مقطوع ـ

١٧١

إن قلت : كيف هذا (١) مع الملازمة بين الحكمين؟!

قلت : ذلك لأنّ الملازمة إنّما تكون في مقام الإثبات والاستكشاف ، لا في مقام الثبوت ، فعدم استقلال العقل إلّا في حال (٢) غير ملازم لعدم حكم الشرع في تلك الحال(٣) ، وذلك لاحتمال أن يكون ما هو ملاك حكم الشرع ـ من المصلحة أو

__________________

ـ البقاء ، ولا يتطرّق إليه الشكّ في البقاء كي يجري الاستصحاب. فرائد الاصول ٣ : ٣٧ ـ ٤٠.

وأمّا كلام المصنّف قدس‌سره : فدفع كلام الشيخ بما حاصله : أنّ الحكم الشرعيّ المستكشف من حكم العقل انّما يدور أمره مدار مناط الحكم واقعا ، وليس كلّ خصوصيّة أخذها العقل في موضوع حكمه دخيلا في مناط حكمه واقعا ، كيف! وقد لا يدرك العقل دخل الخصوصيّة في المناط واقعا ، بل أخذها في الموضوعات من باب أنّ الواجد لها هو القدر المتيقّن في قيام مناط الحسن أو القبح به ، مع أنّه يحتمل أن لا يكون لها دخل في مناط الحكم واقعا. وعليه فزوال حكم العقل بزوال بعض الخصوصيّات ـ الّتي أخذها العقل في الموضوعات وكانت مقوّمة للحكم ـ لا يستلزم زوال الحكم الشرعيّ المستكشف به ، لأنّ الحكم الشرعيّ إنّما يدور مدار مناط الحكم واقعا ، ويحتمل أن لا تكون تلك الخصوصيّة الزائلة دخيلا فيما يقوم به الملاك واقعا ، فيحتمل بقاء الحكم الشرعيّ مع زوال تلك الخصوصيّة ، وإن ينتفي حكم العقل بانتفائها قطعا.

وبالجملة : فيمكن الشكّ في بقاء الحكم المستكشف من حكم العقل ـ بالملازمة ـ ، ويصحّ استصحابه عند الشكّ في بقائه ، لأجل انتفاء بعض خصوصيّات الموضوع الّتي لا يرى بنظر العرف مقوّما للموضوع ، لاحتمال عدم دخله في الموضوع واقعا.

(١) أي : كيف يمكن التفكيك بين حكمي العقل والشرع بجعل الأوّل مقطوع الانتفاء عند زوال بعض الخصوصيّات والثاني مشكوك البقاء ومحكوما بالإبقاء تعبّدا ، مع أنّ المفروض أنّ بين الحكمين ملازمة ، فإنّ كلّما حكم به العقل حكم به الشرع؟!

(٢) أي : عدم استقلال العقل بالحكم إلّا في حال ثبوت خصوصيّة.

(٣) هكذا في النسخ. ولكن الصحيح أن يقول : «فعدم استقلال العقل في حال ـ وهو حال عدم اجتماع الخصوصيّات الدخيلة في حكمه ـ غير ملازم لعدم حكم الشرع في تلك الحال». أو يقول : «فعدم استقلال العقل إلّا في حال ـ وهو حال اجتماع الخصوصيّات الدخيلة في الحكم ـ غير ملازم لعدم حكم الشرع في غير تلك الحال ـ أي حال عدم اجتماعها ـ» ، أو يقول : «فعدم استقلال العقل إلّا في حال ـ وهو حال اجتماع الخصوصيّات ـ غير ملازم لعدم حكم الشرع إلّا في تلك الحال».

١٧٢

المفسدة الّتي هي ملاك حكم العقل ـ كان على حاله (١) في كلتا الحالتين (٢) ، وإن لم يدركه إلّا في إحداهما ، لاحتمال عدم دخل تلك الحالة فيه ، أو احتمال أن يكون معه ملاك آخر بلا دخل لها فيه أصلا ، وإن كان لها دخل فيما اطّلع عليه من الملاك.

وبالجملة : حكم الشرع إنّما يتّبع ما هو ملاك حكم العقل واقعا ، لا ما هو مناط حكمه فعلا. وموضوع حكمه كذلك ممّا لا يكاد يتطرّق إليه الإهمال والإجمال مع تطرّقه إلى ما هو موضوع حكمه شأنا ، وهو ما قام به ملاك حكمه واقعا ؛ فربّ خصوصيّة لها دخل في استقلاله (٣) مع احتمال عدم دخله ، فبدونها لا استقلال له بشيء قطعا ، مع احتمال بقاء ملاكه واقعا ، ومعه يحتمل بقاء حكم الشرع جدّا ، لدورانه معه وجودا وعدما ، فافهم وتأمّل جيّدا (٤).

__________________

(١) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «باقيا على حاله ...».

(٢) أي : حال اجتماع الخصوصيّات وحال انتفاء بعضها.

(٣) أي : في استقلال العقل بالحكم.

(٤) لعلّه إشارة إلى ما أفاد المحقّق الاصفهانيّ من منع جريان الاستصحاب في الحكم الشرعيّ المستكشف من حكم العقل ببيان آخر. وحاصله : أنّ انتفاء الحكم العقليّ المستلزم للحكم الشرعيّ بانتفاء بعض الخصوصيّات ليس من باب انتفاء الكاشف والواسطة في الإثبات فقط ، كي يقال : «انتفاء الكاشف لا يستدعي انتفاء المكشوف ، غاية الأمر أنّ العقل لا استقلال له إلّا في حالة اجتماع الخصوصيّات ، وهو لا يقتضي عدم المناط واقعا كي يحكم بانتفاء الحكم شرعا» ، بل يكون لأجل أنّ الشك في الخصوصيّة يوجب القطع بانتفاء موضوع الحكم العقليّ ، وهو مستلزم للقطع بزوال الحكم ، فإنّ متعلّق حكم العقل بالحسن أو القبح ليس الموضوع مع الخصوصيّة بوجودها الواقعيّ ، بل بوجودها العلميّ ، ضرورة أنّ القبح أو الحسن لا يتعلّق إلّا بالفعل الاختياريّ الصادر عن الالتفات ، فلا يثبت في غير مورد العلم. وعليه فإذا شكّ في بقاء خصوصيّة من خصوصيّات الموضوع يقطع بعدم موضوع القبح أو الحسن ، فيعلم بعدم القبح أو الحسن العقليّ ، ويتبعه القطع بعدم الحكم شرعا لانتفاء مناطه. نهاية الدراية ٣ : ٢٥ ـ ٢٦.

وأورد السيّد الإمام الخمينيّ على ما أفاد المصنّف قدس‌سره في دفع كلام الشيخ ، ثمّ دفعه بوجه آخر. راجع كلامه في الرسائل ١ : ٧٧ ـ ٨٠.

وأمّا المحقّقان النائينيّ والعراقيّ فتبعا المصنّف قدس‌سره في المقام وأفادا ما أفاد. فوائد الاصول ٤ : ٣٢٠ ـ ٣٢٣ ، نهاية الأفكار ٤ : ١٨ ـ ٢٣.

١٧٣

[بعض الآراء في حجيّة الاستصحاب]

ثمّ إنّه لا يخفى اختلاف آراء الأصحاب في حجّيّة الاستصحاب مطلقا (١) ، وعدم حجّيّته كذلك (٢) ، والتفصيل بين الموضوعات والأحكام (٣) ، أو بين ما كان الشكّ في الرفع وما كان في المقتضي (٤) ، إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة على أقوال شتّى لا يهمّنا نقلها ونقل ما ذكر من الاستدلال عليها (٥).

[المختار والاستدلال عليه]

وإنّما المهمّ الاستدلال على ما هو المختار منها ـ وهو الحجّيّة مطلقا ـ على نحو يظهر بطلان سائرها.

فقد استدلّ عليه بوجوه :

[١ ـ الاستدلال ببناء العقلاء ، وما فيه]

الوجه الأوّل : استقرار بناء العقلاء من الإنسان ـ بل ذوي الشعور من كافّة أنواع الحيوان ـ على العمل على طبق الحالة السابقة ، وحيث لم يردع عنه الشارع كان ماضيا.

وفيه : أوّلا : منع استقرار بنائهم على ذلك تعبّدا ، بل إمّا رجاء واحتياطا ، أو

__________________

(١) ذهب إليه أكثر العامّة ، كالحنابلة والمالكيّة وأكثر الشافعيّة والظاهريّة على ما في إرشاد الفحول : ٢٣٧. واختاره المصنّف قدس‌سره في المقام كما سيأتي.

(٢) والقائل به أكثر الحنفيّة وجماعة من المتكلّمين كأبي الحسين البصريّ على ما في الإحكام (للآمدي) ٤ : ١٧٢.

(٣) وهذا ما استظهره المحقّق القمّيّ عن كلمات المحقّق السبزواريّ. راجع قوانين الاصول ٢ : ٦٣ ، وذخيرة المعاد : ١١٥ ـ ١١٦.

(٤) ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٣ : ٥١.

(٥) ولتحقيق الأقوال والقائلين بها والاستدلال عليها راجع قوانين الاصول ٢ : ٥٦ ـ ٥٧ ، والحاشية على استصحاب القوانين : ٣٧ ـ ٨٠.

١٧٤

اطمئنانا بالبقاء ، أو ظنّا ولو نوعا ، أو غفلة كما هو الحال في سائر الحيوانات دائما وفي الإنسان أحيانا.

وثانيا : سلّمنا ذلك (١) ، لكنّه لم يعلم أنّ الشارع به راض وهو عنده ماض ، ويكفي في الردع عن مثله ما دلّ من الكتاب (٢) والسنّة (٣) على النهي عن اتّباع غير العلم ، وما دلّ على البراءة أو الاحتياط في الشبهات ، فلا وجه لاتّباع هذا البناء فيما لا بدّ في اتّباعه من الدلالة على إمضائه ، فتأمّل جيّدا (٤).

__________________

(١) أي : استقرار بنائهم على العمل على طبق الحالة السابقة تعبّدا.

(٢) الأنعام / ١١٦ ، يونس / ٣٦ ، الإسراء / ٣٦.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ٧٥ ـ ٨٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٤) توضيح ما أفاده يتوقّف على بيان امور :

الأمر الأوّل : أنّ الاستدلال ببناء العقلاء مركّب من صغرى وكبرى ونتيجة :

أمّا الصغرى : فهي أنّ السيرة القطعيّة من العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة ثابتة.

وأمّا الكبرى : فهي أنّ هذه السيرة حجّة ، فإنّ الشارع رضى به حيث لم يردع عنها.

وأمّا النتيجة : فهي أنّ العمل على طبق الحالة السابقة حجّة.

الأمر الثاني : أنّ المصنّف قدس‌سره أورد على الاستدلال صغرويّا وكبرويّا :

أمّا الصغرى : فلعدم ثبوت استقرار بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة تعبّدا ـ أي اعتمادا على الحالة السابقة ـ ، بل يكون منشأ بنائهم عليه أحد الامور العقلائيّة التالية :

الأوّل : أن يكون عملهم رجاء واحتياطا ، كمن يرسل الدرهم إلى ابنه الّذي يعيش في بلد آخر ليصرفه في حوائجه ، وإذا أخبر واحد بموته وشكّ في حياته فيرسل إليه أيضا للرجاء والاحتياط حذرا من وقوعه في المضيقة على تقدير حياته.

الثاني : أن يكون عملهم لأجل اطمئنانهم بالبقاء ، كمن يرسل أموالا إلى تاجر آخر في بلدة اخرى لاطمئنانه بحياته ، لا للاعتماد على مجرّد الحالة السابقة ، ولذا لو زال اطمئنانه بحياته لم يرسل إليه هذه الأموال لما فيه من الخطر.

الثالث : أن يكون عملهم لغفلتهم عن البقاء وعدمه ، بحيث ليس لهم التفات حتّى يحصل لهم الشكّ ، فيعملون اعتمادا على الحالة السابقة ، كمن يجىء إلى داره بلا التفات إلى بقاء الدار وعدمه.

وبالجملة : فلم يثبت استقرار بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة اعتمادا عليها.

وأمّا الكبرى : فلعدم العلم بأنّ الشارع أمضاه ورضى به ، فإنّ ما دلّ من الكتاب والسنّة ـ

١٧٥

__________________

ـ على النهي عن اتّباع غير العلم يكفي في الردع عن مثل بناء العقلاء.

الأمر الثالث : أنّ المحقّق النائينيّ ناقش فيما أفاد المصنّف قدس‌سره إيرادا على الصغرى والكبرى.

أمّا الإيراد على الصغرى : فناقش فيه بما حاصله : أنّ دعوى ثبوت بناء العقلاء في الجملة ممّا لا اشكال ولا سبيل إلى إنكارها ، لأنّه قد استقرّت الطريقة العقلائيّة على العمل بالحالة السابقة وترتيب آثار البقاء عند الشكّ في الارتفاع ، كما يشاهد ذلك في مراسلاتهم ومعاملاتهم ومحاوراتهم ، بل لو لا ذلك يلزم اختلال النظام. وليس عملهم على ذلك لأجل الرجاء ، ولا لحصول الاطمئنان ، بل يكون لأجل أنّه مقتضى فطرتهم ، فصار البناء على بقاء المتيقّن من المرتكزات في أذهانهم.

وأمّا الإيراد على الكبرى : فناقش فيه بأنّ الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم لا تصلح لأن تكون رادعة عن السيرة العقلائيّة ، لما مرّ في حجّيّة خبر الواحد من أنّ جميع موارد السيرة العقلائيّة خارجة عن العمل بما وراء العلم تخصّصا ، فإنّ السيرة حاكمة على الآيات.

ثمّ ناقش فيما ذكره المصنّف قدس‌سره من أنّه تكفي الآيات والسنّة الناهيتان عن العمل بغير العلم في الردع عن مثل بنائهم. وحاصل المناقشة : أنّ كلامه هذا ينافي ما تقدّم منه في مبحث حجّيّة خبر الواحد من أنّ تلك الآيات لا يمكن أن تكون رادعة عن الطريقة العقلائيّة ، مع أنّ بناء العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة لو لم يكن أقوى من بنائهم على العمل بخبر الواحد فلا أقلّ من التساوي بين المقامين ، فكيف كانت الآيات رادعة عن بناء العقلاء في المقام ولم تكن رادعة عنه في ذلك المقام؟!

ثمّ إنّه ـ بعد ما قوّى اعتبار السيرة العقلائيّة في المقام ـ قال : «ولكنّ القدر المتيقّن من بناء العقلاء هو الأخذ بالحالة السابقة عند الشكّ في الرافع». فوائد الاصول ٤ : ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

وأمّا المحقّق العراقيّ : فوافق المصنّف في الكبرى ومنع عن حجّيّة بناء العقلاء ، وفصّل في الصغرى وذهب إلى أنّ ثبوت بنائهم على الأخذ بالحالة السابقة من باب الاستصحاب في الامور الراجعة إلى معاشهم وأحكامهم العرفيّة ممّا لا سبيل إلى إنكاره ، لما يرى منهم من ترتيب آثار البقاء على الشيء عملا مع الشكّ في ارتفاعه. وأمّا دعوى ثبوت البناء المزبور في الامور الدينيّة والأحكام الشرعيّة ففاسدة ، بل يمكن دعوى أنّه لا يكون لهم طريقة خاصّة في الامور الدينيّة.

ثمّ أجاب عمّا أورده المحقّق النائينيّ على المصنّف قدس‌سره من دعوى المنافاة بين كلاميه في المقامين. وحاصل الجواب : أنّ بين المقام وبين حجّيّة خبر الواحد فرق ، حيث أنّ عدم رادعيّة الآيات هناك انّما هو من جهة قيام السيرة العقلائيّة على تتميم الكشف وإثبات العلم بالواقع الموجب لخروج موردها عن موضوع تلك النواهي ، بخلاف المقام ، فإنّ بنائهم على ـ

١٧٦

[٢ ـ الاستدلال بحصول الظنّ بالبقاء ، وما فيه]

الوجه الثاني : أنّ الثبوت في السابق موجب للظنّ به في اللاحق.

وفيه : منع اقتضاء مجرّد الثبوت للظنّ بالبقاء فعلا ولا نوعا ، فإنّه لا وجه له أصلا إلّا كون الغالب فيما يثبت أن يدوم ، مع إمكان أن لا يدوم ، وهو غير معلوم. ولو سلّم ، فلا دليل على اعتباره بالخصوص مع نهوض الحجّة على عدم اعتباره بالعموم.

[٣ ـ الاستدلال بالإجماع ، وما فيه]

الوجه الثالث : دعوى الإجماع عليه ، كما عن المبادئ ، حيث قال : «الاستصحاب حجّة ، لإجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكم ، ثمّ وقع الشكّ في أنّه طرأ ما يزيله أم لا ، وجب الحكم ببقائه على ما كان أوّلا ؛ ولو لا القول بأنّ الاستصحاب حجّة لكان ترجيحا لأحد طرفي الممكن من غير مرجّح» ، انتهى (١).

وقد نقل عن غيره (٢) أيضا.

وفيه : أنّ تحصيل الإجماع في مثل هذه المسألة ـ ممّا له مبان مختلفة ـ في غاية الإشكال ، ولو مع الاتّفاق ، فضلا عمّا إذا لم يكن وكان مع الخلاف من المعظم ، حيث ذهبوا إلى عدم حجّيّته مطلقا أو في الجملة ؛ ونقله موهون جدّا لذلك ، ولو قيل بحجّيّته لو لا ذلك.

__________________

ـ الأخذ بالحالة السابقة انّما هو من باب جريان الأصل في ظرف الجهل بالواقع ، فلا يلازم القول بعدم صلاحيّة الآيات للرادعيّة عن بنائهم هناك للقول به في المقام أيضا. نهاية الأفكار ٤ : ٣٤ ـ ٣٧.

وذهب السيّد المحقّق الخوئيّ إلى عدم صحّة الاستدلال ببناء العقلاء من جهة منع الصغرى لا من جهة منع الكبرى ، فراجع كلامه في موسوعة الإمام الخوئيّ (مصباح الاصول) ٤٨ : ١١ ـ ١٢.

(١) مبادئ الوصول إلى علم الاصول : ٢٥١.

(٢) كصاحب المعالم والفاضل الجواد على ما نقل عنهما الشيخ في فرائد الاصول ٣ : ٥٤.

١٧٧

[٤ ـ الاستدلال بالأخبار]

الوجه الرابع : وهو العمدة في الباب ، الأخبار المستفيضة.

[الخبر الأوّل : صحيحة زرارة الاولى]

منها : صحيحة زرارة. قال : قلت له (١) : الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟

قال : «يا زرارة! قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن ، وإذا نامت العين والأذن والقلب فقد وجب الوضوء».

قلت : فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟

قال : «لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ، ولكنّه ينقضه بيقين آخر» (٢).

وهذه الرواية وإن كانت مضمرة (٣) ، إلّا أنّ إضمارها لا يضرّ باعتبارها ، حيث كان مضمرها مثل زرارة ، وهو ممّن لا يكاد يستفتي من غير الإمام عليه‌السلام لا سيّما مع هذا الاهتمام.

[تقريب الاستدلال بالرواية]

وتقريب الاستدلال بها أنّه لا ريب في ظهور قوله عليه‌السلام : «وإلّا فإنّه على

__________________

(١) أي : للمعصوم عليه‌السلام.

ونقل المحقّق الاصفهانيّ عن فوائد العلّامة الطباطبائيّ أنّ المقصود به الإمام الباقر عليه‌السلام.

وروي عنه أيضا في الفصول والقوانين. راجع نهاية الدراية ٣ : ٣٨ ، الفصول : ٣٧٠ ، قوانين الاصول ٢ : ٢٧٨.

(٢) لا يخفى : أنّ بعض ألفاظ الرواية يختلف مع ما في الوسائل والتهذيب ، ولكنّه لا يخلّ بالمفهوم. راجع التهذيب ١ : ٧ ـ ٨ ؛ وسائل الشيعة ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١.

(٣) لعدم ذكر الإمام المسئول فيها.

١٧٨

يقين ...» عرفا في النهي عن نقض اليقين بشيء بالشكّ فيه ، وأنّه عليه‌السلام بصدد بيان ما هو علّة الجزاء المستفاد من قوله عليه‌السلام : «لا» في جواب : «فإن حرّك في جنبه ...» ، وهو (١) اندراج اليقين والشكّ في مورد السؤال في القضيّة الكلّيّة الارتكازيّة الغير المختصّة بباب دون باب.

واحتمال أن يكون الجزاء هو قوله : «فإنّه على يقين ...» غير سديد ، فإنّه لا يصحّ إلّا بإرادة لزوم العمل على طبق يقينه ، وهو إلى الغاية بعيد.

وأبعد منه كون الجزاء قوله : «لا ينقض ...» ، وقد ذكر : «فإنّه على يقين» للتمهيد (٢).

__________________

(١) أي : ما هو علّة الجزاء.

(٢) والحاصل : أنّ محلّ الاستدلال بالرواية انّما هو قوله : «وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ». والمحتملات في مفاد هذه الفقرة ثلاثة :

الاحتمال الأوّل : ما قرّبه الشيخ الأعظم في فرائد الاصول ٣ : ٥٦. وبنى عليه المصنّف قدس‌سره في المقام وأشار إليه بقوله : «وأنّه بصدد بيان ما هو علّة الجزاء المستفاد ...».

وتقريبه : أنّ الجزاء لقوله : «وإلّا» محذوف ، وقوله : «فإنّه على يقين ...» علّة للجزاء ، قامت مقامه لدلالته عليه ، فيكون المقدّر : «وإلّا فلا يجب عليه الوضوء ، لأنّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ».

وأورد عليه المحقّق النائينيّ بأنّه يلزم على هذا التكرار في الجواب وبيان حكم المسئول عنه من دون الفائدة في التكرار ، فإنّ معنى قوله عليه‌السلام : «لا ، حتّى يستيقن» عقيب قول السائل : «فإن حرّك في جنبه شيء» أنّه لا يجب عليه الوضوء ، فإذا قدّر جزاء قوله : «وإلّا» بمثل : «فلا يجب عليه الوضوء» يلزم تكرار الجواب ، وهو لا يخلو عن حزازة. فوائد الاصول ٤ : ٣٣٦ ـ ٣٣٧.

وأورد عليه المحقّق الاصفهانيّ أيضا بأنّ حمل الجملة على هذا الاحتمال انّما هو بعد عدم إمكان إرادة الجزاء من نفس الجملة ، وسيأتي إمكانه ؛ مضافا إلى أنّه يلزم حمله على التأكيد. نهاية الدراية ٣ : ٤٢.

الاحتمال الثاني : ما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : «واحتمال أن يكون ...». وتقريبه : أن يكون قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» هو الجزاء ، بأن يكون جملة خبريّة اريد بها الإنشاء ككثير من الجمل الخبريّة الواقعة في مقام الإنشاء.

وهذا الاحتمال تكلّف عند الشيخ الأعظم وبعيد إلى الغاية عند المصنّف قدس‌سره.

ولكنّ المحقّق الأصفهانيّ لم يستبعده ونفى التكلّف فيه ، لأنّه كسائر الموارد الّتي تستعمل فيها الجملة الخبريّة في مقام الإنشاء ، كقوله عليه‌السلام : «يعيد» أو «يغتسل» أو «يتوضّأ» ـ

١٧٩

[عدم اختصاص الرواية بباب الوضوء]

وقد انقدح بما ذكرنا ضعف احتمال اختصاص قضيّة «لا تنقض ...» باليقين والشكّ في باب الوضوء جدّا ، فإنّه ينافيه (١) ظهور التعليل (٢) في أنّه بأمر ارتكازيّ (٣) لا تعبّديّ قطعا.

ويؤيّده تعليل الحكم بالمضيّ مع الشكّ في غير الوضوء في غير هذه الرواية (٤)

__________________

ـ في مقام بيان وجوب الإعادة والغسل والوضوء. نهاية الدراية ٣ : ٤٣.

وأفاد المحقّق النائينيّ أيضا أنّ هذا الاحتمال هو المتعيّن. فوائد الاصول ٤ : ٣٣٧.

الاحتمال الثالث : ما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : «وأبعد منه كون الجزاء ...». حاصله : أن يكون الجزاء قوله : «ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ» ، ويكون قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» تمهيدا لذكر الجزاء ، فيكون معنى الجملة : «وإن لم يستيقن أنّه نام فحيث أنّه على يقين من وضوئه فلا ينقض اليقين بالشك».

ولعلّ الوجه في أبعديّة هذا الاحتمال أنّه لو كان قوله : «ولا ينقض اليقين بالشكّ» هو الجزاء لما صحّ تصديره بالواو ، بل الصحيح أن يكون إمّا مصدّرا بالفاء أو مجرّدا عنهما.

وزاد المحقّق الاصفهانيّ احتمالا آخر ، وهو أن يكون قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» جزاء مع التحفّظ على ظهوره في مقام الإخبار جدّا ، فيكون مفاد قوله : «وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه» أنّه إن لم يستيقن بالنوم الناقض فهو باق على يقينه بوضوئه ولا موجب لانحلاله إلّا الشكّ ، ولا ينقض اليقين بالشكّ ، فيكون قوله : «وإلّا فإنّه ...» بمنزلة الصغرى ، وقوله : «ولا ينقض اليقين ...» بمنزلة الكبرى. نهاية الدراية ٣ : ٤٥ ـ ٤٦.

وزاد السيّد الإمام الخمينيّ وجها خامسا ، وهو أن يكون الجزاء لقوله : «وإلّا» مقدّرا ، ويكون قوله : «وإلّا» راجعا إلى قوله : «لا حتّى يستيقن». ولكن المقدّر ليس ما ذكره الشيخ وتبعه المصنّف قدس‌سره ، بل يكون المقدّر : «وإن وجب الوضوء قبل الاستيقان لزم نقض اليقين بالشكّ». وقوله : «فإنّه على يقين» قرينة على المقدّر وبيان لفساد نقض اليقين بالشكّ ولزومه أيضا. الرسائل (للإمام الخمينيّ) ١ : ٨٥.

(١) أي : ينافي اختصاص القضيّة بباب الوضوء.

(٢) وهو قوله عليه‌السلام : «فإنّه على يقين من وضوئه».

(٣) وهو عدم نقض الأمر المبرم ـ أي اليقين ـ بالأمر غير المبرم ـ أي الشكّ ـ ، فإنّه المناسب للتعليل الظاهر في اطّراد الحكم المعلّل.

(٤) كصحيحة زرارة الثانية والثالثة وخبر الصفّار ، كما ستأتي. ـ

١٨٠