كفاية الأصول - ج ٣

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-562-2
الصفحات: ٤٤٣

وإمّا يكون مترتّبا على ما إذا كان متّصفا بكذا (١) ، فلا مورد للاستصحاب أصلا ، لا في مجهول التأريخ ولا في معلومه ، كما لا يخفى ، لعدم اليقين بالاتّصاف به (٢) سابقا فيهما (٣).

وإمّا يكون مترتّبا على عدمه الّذي هو مفاد ليس التامّة في زمان الآخر ، فاستصحاب العدم في مجهول التأريخ منهما كان جاريا ، لاتّصال زمان شكّه بزمان يقينه ، دون معلومه ، لانتفاء الشكّ فيه في زمان ، وإنّما الشكّ فيه بإضافة زمانه إلى الآخر ، وقد عرفت جريانه فيهما تارة (٤) وعدم جريانه كذلك اخرى (٥).

فانقدح أنّه لا فرق بينهما ، كان الحادثان مجهولي التأريخ أو كانا مختلفين ، ولا بين مجهوله ومعلومه في المختلفين فيما اعتبر في الموضوع خصوصيّة ناشئة من إضافة أحدهما إلى الآخر بحسب الزمان من التقدّم أو أحد ضدّيه وشكّ فيها ، كما لا يخفى.

كما انقدح أنّه لا مورد للاستصحاب أيضا فيما تعاقب حالتان متضادّتان ـ كالطهارة والنجاسة ـ وشكّ في ثبوتهما وانتفائهما ، للشكّ في المقدّم والمؤخّر منهما ، وذلك لعدم إحراز الحالة السابقة المتيقّنة المتّصلة بزمان الشكّ في ثبوتهما وتردّدها بين الحالتين ، وأنّه ليس من تعارض الاستصحابين ، فافهم وتأمّل في المقام ، فإنّه دقيق.

__________________

(١) أي : يكون الأثر مترتّبا على وجود أحد الحادثين أو عدم أحدهما متّصفا بأحد الأنحاء الثلاثة. فبهذه العبارة يشير إلى الصورة الثانية والثالثة ، كما مرّ.

(٢) أي : بكذا. والمراد أنّ اتّصاف وجود أحد الحادثين بالتقدّم وضدّيه غير معلوم سابقا ، ضرورة أنّه لا يقين سابقا بوجود إسلام الوارث متّصفا بكونه مقدّما على موت المورّث مثلا ، كما لا يقين كذلك بوجود موت المورّث متّصفا بكونه مقدّما على إسلام الوارث. وهكذا في جانب عدم أحد الحادثين.

(٣) وفي بعض النسخ : «منهما». ويرجع الضمير إلى مجهول التأريخ ومعلومه.

(٤) وهو في الصورة الاولى من الصور الأربعة الرئيسة لما إذا كان أحدهما معلوم التأريخ.

(٥) وهو في الصورة الثانية والثالثة.

٢٦١

[التنبيه] الثاني عشر : [استصحاب الامور الاعتقاديّة]

انّه قد عرفت (١) أنّ مورد الاستصحاب لا بدّ أن يكون حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم كذلك ، فلا إشكال فيما كان المستصحب من الأحكام الفرعيّة أو الموضوعات الصرفة الخارجيّة (٢) أو اللغويّة (٣) إذا كانت ذات أحكام شرعيّة.

وأمّا الامور الاعتقاديّة الّتي كان المهمّ فيها شرعا هو الانقياد والتسليم والاعتقاد ـ بمعنى عقد القلب عليها ـ من الأعمال القلبيّة الاختياريّة (٤) ، فكذا لا إشكال في الاستصحاب فيها حكما وكذا موضوعا فيما كان هناك يقين سابق وشكّ لاحق (٥) ، لصحّة التنزيل (٦) وعموم الدليل (٧).

وكونه أصلا عمليّا إنّما هو بمعنى أنّه وظيفة الشاكّ تعبّدا ، قبالا للأمارات الحاكية عن الواقعيّات ، فيعمّ العمل بالجوانح كالجوارح.

__________________

(١) في التنبيه العاشر ، حيث قال : «إنّه قد ظهر ممّا مرّ لزوم أن يكون المستصحب حكما شرعيّا أو ذا حكم كذلك». راجع الصفحة : ٢٤٩ من هذا الجزء.

(٢) كالماء واللحم وغيرها من موضوعات الأحكام الشرعيّة.

(٣) مثلا : إذا علم أنّ لفظ «الصعيد» ـ وهو موضوع جواز التيمّم ـ حقيقة لغة في مطلق وجه الأرض ، ثمّ شكّ في نقله إلى معنى آخر عند نزول الآية الآمرة بالتيمّم بالصعيد ، فيستصحب بقائه على المعنى السابق ويحكم بجواز التيمّم بمطلق وجه الأرض.

(٤) من دون لزوم تحصيل العلم بها ومعرفة حقيقتها ، كخصوصيّات عالم البرزخ والبعث والحساب والجنّة والنار ، ضرورة أنّ المطلوب فيها شرعا هو التسليم لها والاعتقاد بها على ما هي عليه.

(٥) أمّا الاستصحاب الموضوعيّ : فكما إذا شكّ في بقاء سؤال النكيرين في بعض بقاع الأرض ، فيستصحب بقائه ويترتّب عليه وجوب الاعتقاد به.

وأمّا الاستصحاب الحكميّ : فكما إذا شكّ في بقاء وجوب الاعتقاد بوحشة القبر ، لاحتمال وجوبه على خصوص المسلمين في صدر الإسلام ، فيستصحب وجوبه.

(٦) أي : صحّة تنزيل المشكوك منها منزلة المتيقّن.

(٧) أي : عموم دليل «لا تنقض اليقين بالشكّ».

٢٦٢

وأمّا الّتي كان المهمّ فيها شرعا وعقلا هو القطع بها ومعرفتها (١) ، فلا مجال له موضوعا (٢) ، ويجري حكما (٣). فلو كان متيقّنا بوجوب (٤) تحصيل القطع بشيء ـ كتفاصيل القيامة ـ في زمان وشكّ في بقاء وجوبه ، يستصحب.

وأمّا لو شكّ في حياة إمام زمان ـ مثلا ـ فلا يستصحب ، لأجل ترتيب لزوم معرفة إمام زمانه ، بل يجب تحصيل اليقين بموته أو حياته مع إمكانه (٥).

ولا يكاد يجدي في مثل وجوب المعرفة عقلا أو شرعا إلّا إذا كان حجّة من

__________________

(١) كالاعتقاد بوجود البارئ تعالى وعدم الشريك له تعالى ، والاعتقاد بالنبوّة والمعاد ، فإنّ موضوع وجوب الاعتقاد في هذه الامور هو معرفتها واليقين بها ، لا نفس الالتزام بثبوتها من دون معرفتها.

(٢) لأنّ المفروض أنّ المطلوب شرعا هو تحصيل اليقين بالموضوع ، والاستصحاب لا يجدي في تحصيل اليقين.

(٣) وفي بعض النسخ : «ومجرى حكما».

(٤) وفي بعض النسخ : «فلو شكّ في وجوب ...». والصحيح ما أثبتناه.

(٥) لا يخفى : أنّ في كلامه هذا وجوه :

الأوّل : أنّه لمّا كان وجوب معرفة الإمام عليه‌السلام مترتّبا على حياة الإمام واقعا فالشكّ في حياته يوجب الشكّ في وجوب معرفته. وحينئذ لا يستصحب وجود الإمام عليه‌السلام ، ولا يترتّب وجوب معرفة إمام الزمان.

الثاني : أنّ ما يتوقّف على حياة الإمام عليه‌السلام هو نفس معرفته ، لا وجوب معرفته ، فإنّ معرفته واجب على كلّ تقدير ، سواء علم بحياته أو لم يعلم. وحينئذ فإذا شكّ في حياة الإمام عليه‌السلام في زمان فهل يكفي في حصول معرفته استصحاب حياته أو يجب تحصيل اليقين بحياته؟ فأجاب المصنّف رحمه‌الله بأنّه يجب تحصيل اليقين بحياته كي يمكن حصول معرفته ويترتّب عليه وجوب معرفته.

الثالث : أنّ وجوب معرفة إمام الزمان متوقّف على اليقين بحياته ، لا على حياته واقعا. وحينئذ فإذا شكّ في حياة إمام زمان فهل يكتفى باستصحاب حياته عن اليقين بها كي يترتّب عليه وجوب معرفته ، أو لا يكتفى به ، بل يجب تحصيل اليقين بحياته أو اليقين بموته الّذي يستلزم إمامة اللاحق المعلوم حياته؟ أجاب المصنّفرحمه‌الله بأنّه لا يستصحب حياته ـ أي لا يكتفى باستصحاب حياته عن اليقين بها ـ ، فلا يترتّب عليه وجوب معرفة الإمام.

وأحسن الوجوه هو الوجه الثالث ، فإنّه الأنسب إلى ظاهر كلامه ، بل هو الأقرب إلى الواقع.

٢٦٣

باب إفادته الظنّ وكان المورد ممّا يكتفى به أيضا (١).

فالاعتقاديّات كسائر الموضوعات لا بدّ في جريانه فيها من أن يكون في المورد أثر شرعيّ يتمكّن من موافقته مع بقاء الشكّ فيه ، كان ذاك متعلّقا بعمل الجوارح أو الجوانح.

وقد انقدح بذلك أنّه لا مجال له (٢) في نفس النّبوّة إذا كانت ناشئة من كمال النفس بمثابة يوحى إليها وكانت لازمة لبعض مراتب كمالها ، إمّا لعدم الشكّ فيها بعد اتّصاف النفس بها ، أو لعدم كونها مجعولة ، بل من الصفات الخارجيّة التكوينيّة ، ولو فرض الشكّ في بقائها باحتمال انحطاط النفس عن تلك المرتبة وعدم بقائها بتلك المثابة ـ كما هو الشأن في سائر الصفات والملكات الحسنة الحاصلة بالرياضات والمجاهدات ـ ، وعدم (٣) أثر شرعيّ مهمّ لها يترتّب عليها باستصحابها.

نعم ، لو كانت النبوّة من المناصب المجعولة وكانت كالولاية ـ وإن كان لا بدّ في إعطائها من أهليّة وخصوصيّة يستحقّ بها لها ـ لكانت موردا للاستصحاب بنفسها ، فيترتّب عليها آثارها ولو كانت عقليّة (٤) بعد استصحابها ، لكنّه يحتاج إلى دليل كان هناك غير منوط بها ، وإلّا لدار ، كما لا يخفى (٥).

وأمّا استصحابها ، بمعنى استصحاب بعض أحكام شريعة من اتّصف بها ،

__________________

(١) أي : كانت الموارد ممّا يكتفى فيه بالظنّ كما يكتفى فيه بالعلم ، كما لو اخذت المعرفة بمعنى أعمّ من القطع والظنّ.

(٢) أي : للاستصحاب.

(٣) معطوف على قوله : «عدم كونها مجعولة».

(٤) كوجوب إطاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٥) توضيحه : أنّ جريان الاستصحاب في النبوّة المجعولة منوط بثبوت حجّيّته من غير ناحية بقاء النبوّة ، ضرورة أنّ إثبات حجّيّته من ناحية بقاء النبوّة متفرّع على بقاء النبوّة ، والمفروض أنّ بقاء النبوّة متفرّع على جريان الاستصحاب فيها ، وهذا دور.

٢٦٤

فلا إشكال فيه (١) ، كما مرّ (٢).

ثمّ لا يخفى : أنّ الاستصحاب لا يكاد يلزم به الخصم إلّا إذا اعترف بأنّه على يقين فشكّ فيما صحّ هناك التعبّد والتنزيل ودلّ عليه الدليل ، كما لا يصحّ أن يقنع به إلّا مع اليقين والشكّ والدليل على التنزيل.

ومنه انقدح أنّه لا موقع لتشبّث الكتابيّ باستصحاب نبوّة موسى عليه‌السلام أصلا (٣) ، لا إلزاما للمسلم ، لعدم الشكّ في بقائها قائمة بنفسه المقدّسة واليقين (٤) بنسخ شريعته ، وإلّا لم يكن بمسلم ؛ مع أنّه لا يكاد يلزم به ما لم يعترف بأنّه على يقين وشكّ ؛ ولا إقناعا مع الشكّ ، للزوم معرفة النبيّ بالنظر إلى حالاته ومعجزاته عقلا وعدم الدليل على التعبّد بشريعته لا عقلا ولا شرعا ، والاتّكال على قيامه في شريعتنا لا يكاد يجديه إلّا على نحو محال (٥) ، ووجوب العمل (٦) بالاحتياط عقلا في حال عدم المعرفة بمراعاة الشريعتين ما لم يلزم منه الاختلال ، للعلم بثبوت إحداهما على الإجمال ، إلّا إذا علم بلزوم البناء على الشريعة السابقة ما لم يعلم الحال (٧).

[التنبيه] الثالث عشر : [استصحاب حكم المخصّص]

انّه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب في مقام مع دلالة مثل العامّ ، لكنّه

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «فيها». والأولى ما أثبتناه ، فإنّه يرجع إلى استصحابها.

(٢) مرّ في التنبيه السادس ، فراجع الصفحة : ٢٣٥ من هذا الجزء.

(٣) إشارة إلى ما جرى من المناظرة بين بعض أهل الكتاب وبين العلّامة السيّد محمّد باقر القزوينيّ ـ على ما في بحر الفوائد ٣ : ١٥ ـ أو العلّامة السيّد محسن الكاظميّ أو السيّد حسين القزوينيّ ـ على ما في أوثق الوسائل : ٥١٦ ـ.

(٤) معطوف على قوله : «عدم الشكّ» أي : وليقينه.

(٥) أي : لازم اعتباره في شريعتنا ارتفاع شريعته ، فيلزم من استصحاب تلك الشريعة عدم الشريعة.

(٦) معطوف على : «للزوم معرفة النبيّ».

(٧) هذا هو الوجه الأوّل من الوجوه الخمسة الّتي ذكرها الشيخ الأعظم في الجواب عن تمسّك الكتابيّ باستصحاب نبوّة نبيّه. راجع فرائد الاصول ٣ : ٢٦٦ ـ ٢٧١.

٢٦٥

ربما يقع الإشكال والكلام فيما إذا خصّص في زمان في أنّ المورد بعد هذا الزمان مورد الاستصحاب أو التمسّك بالعامّ (١).

والتحقيق أن يقال : إنّ مفاد العامّ تارة يكون ـ بملاحظة الزمان (٢) ـ ثبوت حكمه لموضوعه على نحو الاستمرار والدوام ، واخرى على نحو جعل كلّ يوم من الأيّام فردا لموضوع ذاك العامّ. وكذلك مفاد مخصّصه تارة يكون على نحو اخذ الزمان ظرف استمرار حكمه ودوامه ، واخرى على نحو يكون مفرّدا ومأخوذا في موضوعه (٣).

__________________

(١) والحاصل : أنّ النزاع والخلاف إنّما هو في الصغرى بعد الاتّفاق على الكبرى. وتوضيحه : أنّ البحث في المقام ليس من جهة التعارض بين العموم والاستصحاب ، فإنّ الاستصحاب أصل عمليّ لا مجال للرجوع إليه مع وجود الدليل من عموم وإطلاق ، فعدم جريان الاستصحاب مع وجود دلالة مثل العامّ متّفق عليه. وإنّما البحث في تعيين موارد الرجوع إلى العموم وتمييزها عن موارد التمسّك بالاستصحاب ، فيبحث عمّا إذا ورد ما يكون عامّا من حيث الزمان ، ثمّ خرج عنه بعض أفراده في بعض الأزمنة ، فشكّ بعد انقضاء ذلك الزمان الخاصّ في حكم الفرد الخاصّ ، فهل يكون هذا الفرد بعد ذاك الزمان من موارد الرجوع إلى العامّ أو يكون من موارد الاستصحاب؟ مثلا : ورد قوله تعالى : (أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) [الأنفال / ٤١] ، وهو يدلّ على وجوب الخمس في كلّ فائدة ـ بناء على أنّ المراد من الغنيمة مطلق الفائدة ، كما هو الحقّ ـ ، ثمّ ورد قوله عليه‌السلام : «الخمس بعد المئونة». فإذا صارت الفائدة مئونة للشخص ولعياله تخرج من عموم وجوب الخمس. إنّما الكلام فيما إذا خرجت عن كونه مئونة لعدم حاجة الشخص إليه ، فهل تكون من موارد الرجوع إلى عموم العامّ فيجب تخميسه ، أو تكون من موارد استصحاب حكم المخصّص؟

مثال آخر : أنّه ورد قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة / ١] ، وهو يدلّ على لزوم كلّ عقد مستمرّا. ثمّ ورد قوله عليه‌السلام : «المغبون له الخيار» ، فخصّص البيع الغبنيّ ، فإذا شكّ في أنّ خروجه عن العموم في خصوص خروجه حين العلم بالغبن وظهوره أو في جميع الأزمنة فهل يرجع إلى عموم العامّ أو يرجع إلى استصحاب حكم المخصّص؟

(٢) أي : بملاحظة الزمان الّذي يقع فيه العامّ لا محالة.

(٣) توضيح ما أفاده : أنّ الزمان أو المكان قد يؤخذ في موضوع الحكم على نحو الظرفيّة والاستمرار من دون أن يكون للزمان أو المكان دخلا في الحكم ، فيلحظ الزمان قطعة واحدة لاستمرار الحكم الواحد الثابت لأفراد العامّ ، مثلا يقول المولى : «أكرم العلماء من هذا اليوم ـ

٢٦٦

فإن كان مفاد كلّ من العامّ والخاصّ على النحو الأوّل فلا محيص عن استصحاب حكم الخاصّ في غير مورد دلالته (١) ، لعدم دلالة للعامّ على حكمه (٢) ، لعدم دخوله على حدة في موضوعه (٣) ، وانقطاع الاستمرار (٤) بالخاصّ الدالّ على ثبوت الحكم له في الزمان السابق من دون دلالته على ثبوته في الزمان اللاحق ، فلا مجال إلّا لاستصحابه (٥). نعم ، لو كان الخاصّ غير قاطع

__________________

ـ إلى عشرة أيّام» ، والمفروض أنّ للعامّ عشرة أفراد ؛ فبناء على الظرفيّة يكون الحكم الثابت لكلّ فرد حكما واحدا مستمرّا من أوّل حدوث الأمر إلى اليوم العاشر ، فالإكرامات الواجبة على المكلّف عشرة. وقد يؤخذ في موضوع الحكم على نحو القيديّة والمفرّديّة ، بحيث يكون كلّ فرد من أفراد الموضوع محكوما بأحكام متعدّدة بتعدّد آنات الزمان وقطعه ، ففي المثال السابق يكون إكرام كلّ واحد من العشرة في كلّ يوم واجبا مستقلّا غير مرتبط بإكرامه في يوم آخر ، فإكرام الفرد الواحد في اليوم الأوّل فرد من الإكرام الواجب وإكرامه في اليوم الثاني فرد آخر منه وهكذا ، فالإكرامات الواجبة على المكلّف مائة فرد.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ كلا من العامّ والخاصّ بملاحظة الزمان المأخوذ فيه ينقسم إلى القسمين المذكورين ، فتكون الصور على ما ذكره أربع :

الأولى : أن يكون الزمان في كلّ من العامّ والخاصّ مأخوذا على نحو الظرفيّة.

الثانية : أن يكون الزمان فيهما مأخوذا على نحو القيديّة.

الثالثة : أن يكون الزمان في العامّ مأخوذا على نحو الظرفيّة وفي الخاصّ على نحو القيديّة.

الرابعة : هي الثالثة عكسا.

وسيأتي حكم كلّ من الأقسام.

(١) أي : دلالة الخاصّ. والمراد من غير مورد دلالته هو ما بعد زمان الخاصّ.

(٢) أي : على حكم غير مورد دلالة الخاصّ. وبتعبير أوضح : لعدم دلالة العامّ على حكم ما بعد الزمان الّذي دلّ الخاصّ على تخصيصه.

(٣) الضمير في قوله : «لعدم دخوله» يرجع إلى غير مورد دلالة الخاصّ. وفي قوله : «موضوعه» يرجع إلى العامّ.

(٤) أي : استمرار حكم العامّ.

(٥) توضيح العبارة يحتاج إلى فرض أزمنة ثلاثة :

أحدها : زمان صدور حكم العامّ ، فنفرض أنّ المولى قال في يوم السبت : «أكرم العلماء من هذا اليوم إلى يوم الخميس».

ثانيها : زمان صدور حكم الخاصّ ، فنفرض أنّ المولى قال في يوم الخميس : «لا تكرم ـ

٢٦٧

لحكمه ، كما إذا كان مخصّصا له من الأوّل لما ضرّ به في غير مورد دلالته ، فيكون أوّل زمان استمرار حكمه بعد زمان دلالته (١) ؛ فيصحّ التمسّك ب (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٢) ولو خصّص بخيار المجلس ونحوه (٣) ، ولا يصحّ التمسّك به فيما إذا خصّص بخيار لا في أوّله (٤) ، فافهم (٥).

__________________

ـ زيدا النحويّ في هذا اليوم».

ثالثها : بعد الزمان الّذي دلّ الخاصّ على تخصيصه بالقطع ، وهو يوم الجمعة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ مورد النزاع هو إكرام زيد في يوم الجمعة ، وهو المراد من غير مورد دلالة حكم الخاصّ ، فأفاد المصنّف رحمه‌الله أنّه إن كان الزمان في العامّ والخاصّ ظرفا لاستمرار الحكم فيهما فلا محيص عن استصحاب حكم الخاصّ ـ أي حرمة إكرام زيد النحويّ ـ في يوم الجمعة ، لأنّ المفروض عدم كون الزمان في العامّ مفرّدا كي يكون زيد النحويّ بعد زمان التخصيص ـ أي بعد يوم الخميس ـ فردا مستقلّا للعامّ ، بل ينقطع استمرار حكم العامّ ـ وهو وجوب إكرام العلماء ـ الشامل لزيد النحويّ بالدليل الخاصّ الّذي صدر يوم الخميس ، فإنّ الدليل الخاصّ يدلّ على ثبوت حكم الخاصّ ـ وهو حرمة الإكرام ـ في الزمان السابق على زمان الشكّ في ثبوت حكم الخاصّ أو العامّ ، من دون أن يدلّ على ثبوت حكم الخاصّ في الزمان اللاحق ـ أي يوم الجمعة ـ الّذي شكّ فيه في ثبوت حكم الخاصّ أو العامّ.

وبالجملة : فالعامّ يدلّ على وجوب الإكرام واستمراره إلى ما لم ينقطع بقاطع ، والمفروض أنّ الخاصّ الصادر في يوم الخميس قاطع لحكمه ؛ فهو يدلّ ـ في المثال ـ على وجوب إكرام زيد إلى آخر يوم الأربعاء ؛ والخاصّ يدلّ على حرمة إكرام زيد في يوم الخميس فقط ؛ وأمّا بالنسبة إلى بعد يوم الخميس ـ أي يوم الجمعة ـ فلا دلالة له ، فيشكّ في استمرار حكم الخاصّ ـ بعد العلم بانقطاع استمرار حكم العامّ ـ إلى يوم الجمعة ، فيستصحب بقاء حكم الخاصّ.

(١) الضمير في قوليه : «غير مورد دلالته» و «بعد زمان دلالته» يرجع إلى الخاصّ. والضمير في «حكمه» يرجع إلى العامّ.

(٢) المائدة / ١.

(٣) كخيار الحيوان.

(٤) كتخصيصه بخيار التأخير ، فإذا باع شيئا ولم يقبض تمام الثمن ولم يسلّم المبيع إلى المشتري فحينئذ يلزم البيع ثلاثة أيّام ، فإن جاء المشتري بالثمن فهو أحقّ بالسلعة ، وإلّا فللبائع فسخ البيع ، وبعد انقطاع اللزوم لا يصحّ التمسّك بعد الثلاثة ب «أوفوا بالعقود» ، لانقطاع حكمه.

(٥) لعلّه إشارة إلى ما أفاد أكثر المتأخّرين من عدم الفرق بين تخصيص العامّ من الأوّل وبين تخصيصه في الأثناء ، بل يجوز التمسّك بالعامّ مطلقا. وستأتي الإشارة إلى ما أفادوه في التعليقة (١) من الصفحة : ٢٧٠.

٢٦٨

وإن كان مفادهما على النحو الثاني (١) فلا بدّ من التمسّك بالعامّ بلا كلام ، لكون موضوع الحكم بلحاظ هذا الزمان (٢) من أفراده ، فله الدلالة على حكمه ، والمفروض عدم دلالة الخاصّ على خلافه.

وإن كان مفاد العامّ على النحو الأوّل والخاصّ على النحو الثاني (٣) فلا مورد للاستصحاب ، فإنّه وإن لم يكن هناك دلالة أصلا (٤) إلّا أنّ انسحاب حكم الخاصّ إلى غير مورد دلالته من إسراء حكم موضوع إلى آخر (٥) ، لا استصحاب حكم الموضوع. ولا مجال أيضا للتمسّك بالعامّ ، لما مرّ آنفا (٦) ، فلا بدّ من الرجوع إلى سائر الاصول (٧).

وإن كان مفادهما على العكس (٨) كان المرجع هو العامّ ، للاقتصار في تخصيصه بمقدار دلالة الخاصّ. ولكنّه لو لا دلالته (٩) لكان الاستصحاب مرجعا ، لما عرفت من أنّ الحكم في طرف الخاصّ قد اخذ على نحو صحّ استصحابه (١٠).

__________________

(١) وهو أن يكون الزمان في العامّ والخاصّ مأخوذا على نحو القيديّة والمفرّديّة.

(٢) أي : ما بعد زمان التخصيص ، وهو يوم الجمعة في المثال السابق.

(٣) فيكون الزمان في العامّ مأخوذا على نحو الظرفيّة ، وفي الخاصّ على نحو القيديّة.

(٤) أي : لا للعامّ ولا للخاصّ ، ضرورة أنّه لا دلالة لهما على حكم ما بعد زمان الخاصّ.

(٥) أي : إلى موضوع آخر. وذلك لأنّ مقتضى مفرّديّة الزمان للخاصّ هو مغايرة الموضوع في غير زمان الخاصّ لما هو الموضوع في زمانه.

(٦) حيث قال : «لعدم دلالة للعامّ على حكمه ، لعدم دخوله على حدة في موضوعه وانقطاع الاستمرار بالخاصّ ...».

(٧) وهو في المقام أصالة البراءة ، حيث يشكّ بعد زمان الخاصّ في ثبوت التكليف بالنسبة إلى الأفراد ، فيرجع الشكّ إلى الشكّ في التكليف ، وتجري أصالة البراءة.

(٨) وهو أن يكون الزمان في العامّ مأخوذا على نحو القيديّة ، وفي الخاصّ على نحو الظرفيّة.

(٩) أي : لو لا دلالة العامّ على حكم ما بعد زمان الخاصّ.

(١٠) توضيحه : أنّه إذا كان الزمان فى العامّ مأخوذا على نحو القيديّة والمفرّديّة ، وفي الخاصّ على نحو الظرفيّة والاستمرار ، يكون المرجع حينئذ في غير مورد دلالة الخاصّ هو العامّ. ـ

٢٦٩

فتأمّل تعرف أنّ إطلاق كلام شيخنا العلّامة «أعلى الله مقامه» في المقام نفيا وإثباتا في غير محلّه (١).

__________________

ـ وذلك لأنّ مقتضى مفرّديّة الزمان في العامّ أنّ ما بعد زمان الخاصّ أيضا فرد من أفراد العامّ ، فمع دلالة العامّ على حكم ما بعد زمان الخاصّ لا مجال لاستصحاب حكم الخاصّ ، لعدم جريان الأصل مع الدليل. نعم ، لو ابتلى العامّ بمانع ـ كما إذا كان له معارض ـ لكان استصحاب حكم الخاصّ مرجعا في هذه الصورة ، لأنّ المفروض أنّ الزمان في الخاصّ مأخوذ على نحو الظرفيّة ، ومع الظرفيّة لا تنثلم وحدة الموضوع ـ بخلاف القيديّة ، فإنّها تنثلم وحدة الموضوع ويتعدّد ، كما مرّ ـ ، فيصحّ جريان الاستصحاب فيما بعد زمان الخاصّ.

(١) حاصل ما أفاد الشيخ الأعظم هو التفصيل بين ما إذا اخذ الزمان في العامّ إفراديّا ، بحيث يكون كلّ فرد من أفراد العامّ محكوما بأحكام متعدّدة بتعدّد آنات الزمان وقطعه ، وبين ما إذا اخذ الزمان قطعة واحدة لبيان استمرار الحكم. فعلى الأوّل يعمل عند الشكّ بالعموم ولا يجري الاستصحاب ، وعلى الثاني يجري الاستصحاب. فرائد الاصول ٣ : ٢٧٤.

والمصنّف رحمه‌الله وإن وافق الشيخ في تقسيمه للعامّ إلى قسمين ، ولكن خالفه في إطلاق الحكم بكون القسم الأوّل موردا لأصالة العموم دون الاستصحاب وكون القسم الثاني موردا للاستصحاب دون أصالة العموم. حاصل ما أفاده : أنّه لا بدّ من ملاحظة الزمان المأخوذ في دليل الخاصّ أيضا ؛ فإذا اخذ الزمان في العامّ والخاصّ على نحو الظرفيّة ولبيان استمرار الحكم فلا مانع من التمسّك بالاستصحاب ، إلّا فيما إذا كان التخصيص من أوّل أزمنة العموم ؛ وإذا اخذ الزمان في العامّ على نحو الظرفيّة وفي الخاصّ على نحو القيديّة فلا يمكن التمسّك بالاستصحاب ، كما لا مجال للتمسّك بالعموم أيضا ، بل يرجع إلى أصل آخر من البراءة أو الاشتغال حسب ما يقتضيه المقام ؛ وإذا اخذ الزمان في العامّ على نحو القيديّة وفي الخاصّ على نحو الظرفيّة فالمتعيّن الرجوع إلى العامّ إن لم يكن له معارض ، وإلّا يتمسّك بالاستصحاب ؛ وإذا اخذ الزمان فيهما على نحو القيديّة فلا بدّ من التمسّك بالعامّ.

ولا يخفى : أنّ كثيرا من الأعلام خالفوهما في المقام.

فذهب المحقّق النائينيّ إلى تفصيل آخر ، فقال : «كلّ مورد كان مصبّ العموم الزمانيّ متعلّق الحكم فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه عند الشكّ في التخصيص الزمانيّ أو في مقداره ، بل لا بدّ فيه من الرجوع إلى عموم العامّ لو كان ، وإلّا فإلى البراءة والاشتغال. وفي كلّ مورد كان مصبّ العموم الزمانيّ نفس الحكم فلا مجال للتمسّك فيه بالعامّ الزمانيّ عند الشكّ في التخصيص أو في مقداره ، بل لا بدّ فيه من الرجوع إلى الاستصحاب لو تمّت أركانه وإلّا فإلى البراءة أو الاشتغال» فوائد الاصول ٤ : ٥٤٣.

٢٧٠

[التنبيه] الرابع عشر : [جريان الاستصحاب مع الظنّ بالخلاف]

الظاهر أنّ الشكّ في أخبار الباب وكلمات الأصحاب هو خلاف اليقين ، فمع الظنّ بالخلاف فضلا عن الظنّ بالوفاق يجري الاستصحاب.

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى أنّه كذلك لغة كما في الصحاح (١) ، وتعارف استعماله فيه في الأخبار في غير باب (٢) ـ قوله عليه‌السلام في أخبار الباب : «ولكن تنقضه بيقين آخر» ، حيث إنّ ظاهره أنّه في بيان تحديد ما ينقض به اليقين ، وأنّه ليس إلّا اليقين.

وقوله عليه‌السلام أيضا : «لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام» ، بعد السؤال عنه عليه‌السلام عمّا إذا

__________________

ـ وذهب المحقّق العراقيّ إلى تفصيل آخر ، حاصله : أنّ الزمان إذا اخذ في العامّ على نحو القيديّة والمفرّديّة يكون المرجع هو العموم الزمانيّ مطلقا ، من غير فرق بين أن يكون الزمان في دليل الخاصّ مأخوذا على نحو القيديّة وبين أن يكون مأخوذا على نحو الظرفيّة ، ولا بين كون الخروج من وسط الأزمنة أو من أوّلها. وإذا اخذ في العامّ على نحو الاستمرار والدوام وكان العامّ ناظرا إلى إثبات حكم سنخيّ لذات موضوع المستمرّ في أجزاء الزمان على نحو قابل للتكثّر تحليلا فيكون المرجع عند الشكّ هو عموم هذا العامّ دون الاستصحاب. وأمّا إذا كان العامّ ناظرا إلى حيث وحدة الحكم وشخصيّته بنحو غير قابل للتكثّر ولو تحليلا فلا محيص عن الرجوع إلى استصحاب حكم المخصّص. نهاية الأفكار ٤ : ٢٣١ ـ ٢٣٤.

والظاهر من كلام المحقّق الاصفهانيّ أنّ المرجع هو عموم العامّ ولا مجال للتمسّك بالاستصحاب مطلقا. نهاية الدراية ٣ : ٢٦١ ـ ٢٦٥.

وصرّح السادة المحقّقون ـ البروجرديّ والخمينيّ والخوئيّ ـ بأنّ المرجع هو أصالة العموم مطلقا. راجع الحاشية على الكفاية (للبروجرديّ) ٢ : ٤٣٩ ، الرسائل (للإمام الخمينيّ) ١ : ٢٠٧ ـ ٢١٢ ، موسوعة الإمام الخوئيّ (مصباح الاصول) ٤٨ : ٢٦٠ ـ ٢٦٦.

(١) بل في أكثر كتب اللغة. فراجع الصحاح ٤ : ١٥٩٤ ، القاموس المحيط ٣ : ٣٠٩ ، تاج العروس ٧ : ١٥٠ ، لسان العرب ١٠ : ٤٥١ ، مجمع البحرين ٢ : ٥٣٦.

(٢) راجع وسائل الشيعة ٥ : ٣٢٩ ، الباب ١٦ من أبواب لخلل الواقع في الصلاة ، الأحاديث ٢ ، ٤ ، ٥ ؛ والصفحة : ٣٣٧ ، الباب ٢٣ منها ، الحديث ٩.

وقد تعرّض الشيخ الأعظم الأنصاريّ لتلك الأخبار ، وتبيّن وجه ظهورها في استعمال الشكّ في خلاف اليقين ، فراجع فرائد الاصول ٣ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

٢٧١

حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم ، حيث دلّ بإطلاقه ـ مع ترك الاستفصال بين ما إذا أفادت هذه الأمارة الظنّ وما إذا لم تفد ، بداهة أنّها لو لم تكن مفيدة له دائما لكانت مفيدة له أحيانا ـ على عموم النفي لصورة الإفادة.

وقوله عليه‌السلام بعده (١) : «ولا تنقض اليقين بالشكّ» ، أنّ الحكم (٢) في المغيّى مطلقا (٣) هو عدم نقض اليقين بالشكّ ، كما لا يخفى.

وقد استدلّ عليه أيضا بوجهين آخرين (٤) :

الأوّل : الإجماع القطعيّ على اعتبار الاستصحاب مع الظنّ بالخلاف على تقدير اعتباره من باب الأخبار.

وفيه : أنّه لا وجه لدعواه ولو سلّم اتّفاق الأصحاب على الاعتبار (٥) ، لاحتمال أن يكون ذلك من جهة ظهور دلالة الأخبار عليه (٦).

الثاني : أنّ الظنّ غير المعتبر إن علم بعدم اعتباره بالدليل فمعناه أنّ وجوده كعدمه عند الشارع ، وأنّ كلّ ما يترتّب شرعا على تقدير عدمه فهو المترتّب على تقدير وجوده ؛ وإن كان ممّا شكّ في اعتباره فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعليّ السابق بسببه إلى نقض اليقين بالشكّ ، فتأمّل جيّدا.

وفيه : أنّ قضيّة عدم اعتباره ـ لإلغائه أو لعدم الدليل على اعتباره ـ لا يكاد يكون إلّا عدم إثبات مظنونه به (٧) تعبّدا ليترتّب عليه آثاره شرعا ، لا ترتيب آثار الشكّ مع عدمه ، بل لا بدّ حينئذ في تعيين أنّ الوظيفة أيّ أصل من الاصول العمليّة

__________________

(١) أي : بعد قوله عليه‌السلام : «لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام».

(٢) هكذا في النسخ. والصواب أن يقول : «على أنّ الحكم» أي : ويدلّ قوله عليه‌السلام على أنّ الحكم ...

(٣) أي : ولو كان الظنّ على خلافه.

(٤) استدلّ بهما الشيخ الأعظم في فرائد الاصول ٣ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

(٥) أي : على اعتبار الاستصحاب مع الظنّ بالخلاف.

(٦) فيصير الإجماع مدركيّا لا يصلح للركون إليه.

(٧) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «المظنون به» أي : المظنون بالظنّ غير المعتبر.

٢٧٢

من الدليل (١) ، فلو فرض عدم دلالة الأخبار معه (٢) على اعتبار الاستصحاب فلا بدّ من الانتهاء إلى سائر الاصول بلا شبهة ولا ارتياب. ولعلّه اشير إليه بالأمر بالتأمّل (٣) ، فتأمّل جيّدا.

تتمّة

[في بيان شرطين من شرائط الاستصحاب]

لا يذهب عليك : أنّه لا بدّ في الاستصحاب من بقاء الموضوع وعدم أمارة معتبرة هناك ولو على وفاقه ، فهنا مقامان :

المقام الأوّل : [اعتبار بقاء الموضوع]

انّه لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع ، بمعنى اتّحاد القضيّة المشكوكة مع المتيقّنة موضوعا كاتّحادهما حكما ، ضرورة أنّه بدونه لا يكون الشكّ في البقاء ، بل في الحدوث ، ولا رفع اليد عن اليقين في محلّ الشكّ نقض اليقين بالشكّ. فاعتبار البقاء بهذا المعنى لا يحتاج إلى زيادة بيان وإقامة برهان.

والاستدلال عليه ب «استحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر ، لتقوّمه بالموضوع وتشخّصه به» (٤) ، غريب ، بداهة أنّ استحالته حقيقة غير مستلزم

__________________

(١) هكذا في النسخ. والأولى سوق العبارة هكذا : «بل لا بدّ من الدليل على أنّ الوظيفة أيّ أصل من الاصول العمليّة؟».

(٢) أي : مع الظنّ غير المعتبر.

(٣) أي : لعلّه اشير في كلام الشيخ إلى الإشكال بالأمر بالتأمّل حيث قال : «فتأمّل جدّا». فرائد الاصول ٣ : ٢٨٦.

(٤) هذا ما استدلّ به الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٣ : ٢٩٠ ـ ٢٩١. وتوضيحه : أنّ الحكم عارض على الموضوع ، فإذا جرى الاستصحاب في بقاء الحكم العارض على الموضوع الّذي لم يعلم بقاؤه لاحقا لزم إمّا بقاء العرض ـ أي الحكم ـ بلا موضوع ، وهو محال ، لأنّ الموضوع من علل تشخّص العرض وقوامه في الخارج ، فبقاؤه بلا موضوع ممتنع ؛ وإمّا انتقاله إلى موضوع آخر ، وهذا أيضا محال ، لأنّ الحكم ببقاء العرض حينئذ ليس إبقاؤه لنفس ذلك العرض ، بل هو حكم بحدوث عارض مثله في موضوع آخر.

٢٧٣

لاستحالته تعبّدا والالتزام بآثاره شرعا (١).

وأمّا (٢) بمعنى إحراز وجود الموضوع خارجا فلا يعتبر قطعا في جريانه ، لتحقّق أركانه بدونه. نعم ، ربما يكون ممّا لا بدّ منه في ترتيب بعض الآثار. ففي استصحاب عدالة زيد لا يحتاج إلى إحراز حياته لجواز تقليده ، وإن كان محتاجا إليه في جواز الاقتداء به أو وجوب إكرامه أو الإنفاق عليه.

وإنّما الإشكال كلّه في أنّ هذا الاتّحاد هل هو بنظر العرف أو بحسب دليل الحكم أو بنظر العقل؟ (٣)

__________________

(١) توضيح الإيراد : أنّ بقاء العرض على قسمين : تكوينىّ وتعبّديّ. ولا شكّ في أنّ البقاء الحقيقيّ التكوينيّ للعرض لا ينفكّ عن بقاء معروضه حقيقة ، وإلّا يستلزم أحد المحذورين المذكورين من بقاء العارض بلا موضوع وانتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر.

وأمّا في البقاء التشريعيّ التعبّديّ فيمكن انفكاكه عن موضوع وانتقاله إلى موضوع آخر ، فإنّ البقاء التعبّدي ـ وهو مفاد الاستصحاب ـ ليس إلّا ترتيب آثار وجود المستصحب بأمر الشارع ، فلا استحالة في التعبّد بانتقال عرض من موضوع إلى موضوع آخر ، ضرورة أنّه لا استحالة في أمر المولى بأنّك إن كنت على يقين من عدالة زيد فتعبّد بعدالة أبيه بترتيب آثارها.

وبالجملة : أنّ البرهان العقليّ المذكور إنّما يثبت استحالة انتقال العرض حقيقة من موضوع إلى موضوع آخر ، ولا يثبتها تعبّدا.

واورد عليه بوجوه أخر أيضا :

منها : أنّ الدليل المذكور أخصّ من المدّعى ، لأنّ المستصحب لا يكون من الأعراض القائمة بالموضوعات الخارجيّة دائما ، بل قد يكون من الجواهر ، وقد يكون من الامور الاعتباريّة ، وقد يكون من الامور العدميّة.

ومنها : أنّ أدلّة الاستصحاب وافية باعتبار اتّحاد القضيّتين موضوعا ومحمولا ، فيكون الاستدلال بهذا البرهان العقليّ تبعيد للمسافة.

(٢) معطوف على قوله : «بمعنى اتّحاد القضيّة المشكوكة مع المتيقّنة».

(٣) المراد من الاتّحاد بنظر العقل والاتّحاد بنظر العرف واضح ، كما كان الفرق بينهما أيضا واضحا ، فإنّ في كثير من الموارد الّتي يحكم العقل باختلاف الموضوع بالدقّة العقليّة يحكم العرف باتّحاده ، مثلا : إذا شكّ في بقاء نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّر أوصافه بنفسه فالعقل يحكم بأنّ الماء المتغيّر موضوع والماء الّذي زال تغيّره موضوع آخر ، لاحتمال دخل التغيّر في موضوع النجاسة وكونه من مقوّماته ، فلا مجال للاستصحاب ، بخلاف العرف ، ـ

٢٧٤

فلو كان مناط الاتّحاد هو نظر العقل ، فلا مجال للاستصحاب في الأحكام ، لقيام احتمال تغيّر الموضوع في كلّ مقام شكّ في الحكم بزوال بعض خصوصيّات

__________________

ـ فإنّه يحكم بأنّهما واحد ويكون التغيّر من حالات الموضوع الواحد ، لا من مقوّماته.

وإنّما المهمّ هو معنى الاتّحاد بحسب دليل الحكم. وتوضيحه : أنّ لسان الدليل الدالّ على ثبوت الحكم في الموضوع مختلف. فقد يكون بحيث لا يمكن جريان الاستصحاب ، وقد يكون بحيث لا مانع من جريانه. مثلا : لو سافر أحد في أوّل الوقت ووصل إلى وطنه آخره ، وشكّ في أنّ الواجب عليه هل هو القصر لكونه مسافرا في أوّل الوقت ، أو التمام لكونه حاضرا في آخره؟ فحينئذ لا بدّ من الرجوع إلى لسان الدليل الدالّ على وجوب القصر ، فتارة يقول المولى : «إنّ المسافر يقصّر» ، واخرى يقول : «انّ المكلّف إن سافر يقصّر». فمفاد الكلامين وإن كان واحدا بحسب المعنى ، وهو وجوب القصر على المسافر ، إلّا أنّ لسانهما مختلف بحسب مقام الإثبات ، فإنّ الموضوع في الأوّل عنوان المسافر ، وفي الثاني هو عنوان المكلّف مع كون السفر شرطا لوجوب القصر عليه. فعلى الأوّل لا يمكن جريان الاستصحاب فيه ، إذ الموضوع لوجوب القصر هو المسافر وهو حين الشكّ حاضر ، فلا يكون الموضوع في القضيّة المتيقّنة والمشكوكة واحدا. وعلى الثاني فلا مانع من جريان الاستصحاب ، إذ الموضوع لوجوب القصر هو المكلّف الّذي سافر ، وهو باق في ظرف الشكّ ، فيكون الموضوع في المتيقّنة والمشكوكة واحد ، فيجري استصحاب وجوب القصر.

ولا يخفى : أنّ الفرق بين النظر العرفيّ والنظر بحسب لسان الدليل أنّ للعرف نظرين :

أحدهما : نظره بما هو أهل المحاورة وفي مقام التفاهم ، فيفهم من الدليل بحسب متفاهم الألفاظ وفي مقام المحاورة أنّ الموضوع للحكم هو الأمر الكذائيّ الّذي تكون الخصوصيّات من مقوّماته ، أو يفهم منه أنّ الموضوع له هو الأمر الكذائيّ الّذي لا تكون الخصوصيّات من مقوّماته ، بل تكون من حالاته ، فيحكم بوحدة الموضوع أو مغايرته بحسب ما يفهم من لفظ الدليل.

ثانيهما : نظره بحسب ما يرتكز لديه من مناسبات الأحكام وموضوعاتها.

وأشار المصنّف رحمه‌الله بالفرق بينهما بقوله الآتي : «كما أنّه ربما لا يكون موضوع الدليل بنظر العرف بخصوصه موضوعا ...» فإنّ كلامه هذا جواب عن سؤال مقدّر ، وهو أنّه ما المراد من جعل النظر العرفيّ في مقابل النظر بحسب لسان الدليل؟ وما الفرق بينهما؟.

وهذا السؤال قرّ به الأعلام الثلاثة بوجوه مختلفة إيرادا على المقابلة المذكورة ، وأجابوا عنه ، فراجع فوائد الاصول ٤ : ٥٧٥ ، نهاية الأفكار ٤ (القسم الثاني) : ١٠ ، نهاية الدراية ٣ : ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

٢٧٥

موضوعه ، لاحتمال دخله فيه (١) ، ويختصّ بالموضوعات (٢) ، بداهة أنّه إذا شكّ في حياة زيد شكّ في نفس ما كان على يقين منه حقيقة.

بخلاف ما لو كان بنظر العرف أو بحسب لسان الدليل ، ضرورة أنّ انتفاء بعض الخصوصيّات وإن كان موجبا للشكّ في بقاء الحكم ، لاحتمال دخله في موضوعه ، إلّا أنّه ربما لا يكون بنظر العرف ولا في لسان الدليل من مقوّماته ، كما أنّه ربما لا يكون موضوع الدليل بنظر العرف بخصوصه موضوعا ، مثلا : إذا ورد «العنب إذا غلى يحرم» ، كان العنب بحسب ما هو المفهوم عرفا هو خصوص العنب ، ولكنّ العرف بحسب ما يرتكز في أذهانهم ويتخيّلونه من المناسبات بين الحكم وموضوعه يجعلون الموضوع للحرمة ما يعمّ الزبيب ، ويرون العنبيّة والزبيبيّة من حالاته المتبادلة (٣) ، بحيث لو لم يكن الزبيب محكوما بما حكم به العنب كان عندهم من ارتفاع الحكم عن موضوعه ، ولو كان محكوما به كان من بقائه ، ولا ضير في أن يكون الدليل بحسب فهمهم على خلاف ما ارتكز في أذهانهم بسبب ما تخيّلوه من الجهات والمناسبات فيما إذا لم تكن بمثابة تصلح قرينة على صرفه (٤) عمّا هو ظاهر فيه.

ولا يخفى : أنّ النقض وعدمه حقيقة يختلف بحسب الملحوظ من الموضوع ، فيكون نقضا بلحاظ موضوع ولا يكون بلحاظ موضوع آخر (٥). فلا بدّ في تعيين

__________________

(١) أي : لاحتمال دخل بعض الخصوصيّات في الموضوع ، فإذا زال بعض الخصوصيّات زال الموضوع.

(٢) أي : الموضوعات الّتي يحكم العقل بوحدتها في القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة.

(٣) الّتي لا يوجب انتفاؤها ارتفاع الموضوع.

(٤) أي : صرف الدليل.

(٥) أي : قد يصدق نقض اليقين بالشكّ على رفع اليد عن الحكم السابق في مورد بلحاظ ، ولا يصدق النقض المذكور في نفس المورد بلحاظ آخر ، فيصدق النقض بلحاظ حكم العرف باتّحاد الموضوع في القضيّتين ، ولا يصدق بلحاظ حكم العقل بمغايرته فيهما ، أو يصدق النقض في مورد بلحاظ لسان دليل ، ولا يصدق في نفس المورد بلحاظ لسان دليل آخر.

٢٧٦

أنّ المناط في الاتّحاد هو الموضوع العرفيّ أو غيره من بيان أنّ خطاب «لا تنقض» قد سيق بأيّ لحاظ؟.

فالتحقيق أن يقال : إنّ قضيّة إطلاق خطاب «لا تنقض» هي أن يكون بلحاظ الموضوع العرفيّ ، لأنّه المنساق من الإطلاق في المحاورات العرفيّة ، ومنها الخطابات الشرعيّة (١) ، فما لم يكن هناك دلالة على أنّ النهي فيه (٢) بنظر آخر غير ما هو الملحوظ في محاوراتهم ، لا محيص عن الحمل على أنّه بذاك اللحاظ ، فيكون المناط في بقاء الموضوع هو الاتّحاد بحسب نظر العرف وإن لم يحرز بحسب العقل أو لم يساعده النقل ، فيستصحب مثلا ما ثبت بالدليل للعنب إذا صار زبيبا ، لبقاء الموضوع واتّحاد القضيّتين عرفا. ولا يستصحب فيما لا اتّحاد كذلك وإن كان هناك اتّحاد عقلا ، كما مرّت الإشارة إليه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّيّ ، فراجع (٣).

المقام الثاني : [اعتبار عدم الأمارة المعتبرة في مورد الاستصحاب]

أنّه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة في مورده ، وإنّما الكلام في أنّه للورود (٤) أو

__________________

(١) الّتي يكون العرف مخاطبين بها.

(٢) أي : النهي عن نقض اليقين بالشكّ في خطاب «لا تنقض».

(٣) راجع الصفحة : ٢٢١ من هذا الجزء.

(٤) معنى مورد أحد الدليلين على الآخر هو كونه رافعا لموضوع الآخر حقيقة بعناية التعبّد به.

وبعبارة اخرى : الورود هو كون أحد الدليلين متضمّنا لخروج فرد عن موضوع دليل آخر حقيقة بواسطة التعبّد الشرعيّ ، بحيث يكون خروج ذلك الفرد عن الدليل الآخر ناشئا عن تصرّف من ناحية الحاكم ، بحيث لو لا هذا التصرّف لكان الدليل الآخر شاملا له ، كما إذا كان الثوب ـ مثلا ـ متنجّسا وشكّ في طهارته ، وشهدت بيّنة بطهارته ، فهذا الثوب المشتبه عند قيام البيّنة يخرج عن موضوع الاستصحاب ـ وهو الشكّ ـ ببركة التعبّد بالأمارة ـ وهي البيّنة في المقام ـ الّذي هو نحو تصرّف من ناحية الحاكم ، فلولا التعبّد بها كان الثوب داخلا ـ

٢٧٧

الحكومة (١) أو التوفيق بين دليل اعتبارها وخطابه (٢)؟

والتحقيق أنّه للورود (٣) ، فإنّ رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة

__________________

ـ في موضوع الاستصحاب.

والفرق بين الورود والتخصّص أنّ كلّا منهما وإن يشتركان في خروج الشيء عن موضوع دليل آخر حقيقة ، إلّا أنّ الخروج في التخصّص يكون تكوينا بلا عناية التعبّد من الشارع ، كخروج الجاهل عن موضوع دليل «أكرم العلماء» ، فإنّ الجاهل خارج عن عموم العلماء تكوينا ؛ والخروج في الورود ببركة التعبّد الشرعيّ.

(١) وهي ـ على ما يستفاد من كلمات الشيخ الأعظم الأنصاريّ ـ عبارة عن كون دليل ناظرا إلى الدليل الآخر ، بأن يتصرّف الدليل الحاكم فيما يتكفّله الدليل المحكوم من الحكم الشرعيّ بعناية التصرّف في موضوعه ، فينفي وجود موضوعه في مورد أو يثبته ، بأن يتصرّف إمّا في موضوع الدليل المحكوم بإدخال ما يكون خارجا عنه أو بإخراج ما يكون داخلا فيه ، كقولنا : «الفاسق عالم» أو «الفاسق غير عالم» عقيب قولنا : «أكرم العلماء» ، وإمّا في محموله بتضييق دائرة الحكم وتخصيصه ببعض الحالات أو الأفراد.

والفرق بينها وبين التخصيص أنّ الدليل المخصّص يكون لسانه تحديد موضوع دليل العامّ وإخراج مدلوله عن موضوع دليل العامّ إخراجا حقيقيّا ؛ بخلاف الدليل الحاكم ، فإنّ لسانه تحديد موضوع الدليل المحكوم أو محموله تنزيلا وادّعاء.

(٢) مراده من التوفيق بين دليل اعتبار الأمارة وخطاب الاستصحاب هو الجمع العرفيّ ، بأن يقال : إنّ البناء على الحالة السابقة المتيقّنة حجّة لو لم تقم الأمارة المعتبرة على خلافها ، فيدلّ دليل اعتبار الاستصحاب على حكم اقتضائيّ ، ودليل اعتبار الأمارة على حكم فعليّ.

(٣) ولا يخفى : أنّ ما اختاره في المقام ينافي ما اختاره في تعليقاته على مبحث البراءة من فرائد الاصول ، فإنّه قال : «ومجمل الكلام في تقديم الدليل على الأصل هو أنّه إمّا وارد عليه برفع موضوعه حقيقة ، كما هو الحال في الدليل العلميّ بالنسبة إلى الأصل العمليّ مطلقا ، أو الدليل مطلقا بالإضافة إلى خصوص أصل كان مدركه العقل ، فإنّ موضوع حكم العقل بالبراءة أو الاحتياط أو التخيير يرتفع حقيقة بقيام الدليل المعتبر ، بداهة صلاحيّته للبيان ولحصول الأمان من العقاب وللمرجّحيّة. وإمّا حاكم عليه برفع موضوعه حكما ، كما هو الحال في الدليل غير العلميّ بالنسبة إلى كلّ أصل كان مدركه النقل». درر الفوائد : ١٨٤.

وأيضا ينافي ما اختاره في مبحث التعادل والتراجيح من الكتاب من تقدّم الأمارة على الاستصحاب بالجمع العرفيّ بالتصّرف في الدليلين الّذي جعله قسما للورود في المقام ، وهو بظاهره ينافي ما ذكره هاهنا.

٢٧٨

على خلافه ليس من نقض اليقين بالشكّ ، بل باليقين (١). وعدم رفع اليد عنه مع الأمارة على وفقه ليس لأجل أن لا يلزم نقضه به (٢) ، بل من جهة لزوم العمل بالحجّة (٣).

لا يقال : نعم ، هذا لو اخذ بدليل الأمارة في مورده ، ولكنّه لم لا يؤخذ بدليله ، ويلزم الأخذ بدليلها؟ (٤)

__________________

(١) ويمكن تقريب ورود الأمارة على الاستصحاب بوجوه :

الأوّل : أنّ موضوع أدلّة الاستصحاب هو «نقض اليقين بالشكّ» ، وإذا قام الدليل المعتبر على أمر كان الأخذ به ـ سواء وافق الحالة السابقة أو خالفها ـ نقضا لليقين باليقين ، لا نقض اليقين بالشكّ ، فيرتفع موضوع الاستصحاب ـ وهو نقض اليقين بالشك ـ حقيقة ببركة دليل اعتبار الأمارة. وهذا ما أفاده المصنّف رحمه‌الله في درر الفوائد : ٣٩٠.

الثاني : أنّ المراد من اليقين في الأخبار الدالّة على حجّيّة الاستصحاب هو مطلق الحجّة ، لا اليقين الوجدانيّ ، وإنّما ذكر خصوص اليقين لكونه أعلى أفراد الحجّة ؛ كما أنّ المراد من «الشكّ» فيها هو اللاحجّة ، فيكون موضوع الاستصحاب نقض الحجّة باللاحجّة. والإمارة المعتبرة حجّة. فإذا قامت الأمارة المعتبرة على ارتفاع الحكم أو بقائه ينتفي موضوع الاستصحاب ، فإنّ الأخذ بالأمارة حينئذ يكون من نقض الحجّة بالحجّة ، لا من نقض الحجّة باللاحجّة. وهذا الوجه يستفاد من كلمات المصنّف رحمه‌الله في الاستدلال بالأخبار.

الثالث : أنّ المراد من اليقين في أخبار الاستصحاب هو مطلق الإحراز الشامل للإحراز الوجدانيّ والإحراز التعبّدي ، وإنّما اخذ خصوص العلم في ظاهر الدليل لكونه أحد مصاديق الإحراز. فيكون مفاد الأخبار أنّ الإحراز لا ينقض بالشكّ ، بل لا بدّ في نقضه من إحراز آخر. ولا شكّ أنّه إذا قامت الأمارة على خلاف مؤدّى الأصل يكون مؤدّى الأمارة محرزا ببركة التعبّد بالأمارة وتتميم كشفها بجعل الشارع ، وإذا حصل الإحراز فيخرج المورد عن موضوع دليل الاستصحاب حقيقة ولا يشمله قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» الّذي كان معناه «لا تنقض الإحراز بالشكّ» ، بل يندرج حقيقة في قوله عليه‌السلام «بل تنقضه بيقين آخر» ، وهذا هو معنى الورود. هذا ما تعرّض له المحقّق النائينيّ في فوائد الاصول ٤ : ٥٩٩ ـ ٦٠.

وهذه الوجوه ذكرها بعض الأعلام وناقشوا فيها ، فراجع فوائد الاصول ٤ : ٥٩٧ ـ ٦٠١ ، نهاية الأفكار ٤ (القسم الثاني) : ١٨ ، موسوعة الإمام الخوئيّ (مصباح الاصول) ٤٨ : ٢٩٤ ـ ٢٩٦.

(٢) أي : نقض اليقين بالشكّ كي يكون العمل به مستندا إلى الاستصحاب ، لا إلى الأمارة.

(٣) وهي الأمارة.

(٤) وحاصل الإشكال : أنّ العمل بمؤدّى الإمارة المخالف للمتيقّن السابق إنّما يكون نقضا ـ

٢٧٩

فإنّه يقال : ذلك إنّما هو لأجل أنّه لا محذور في الأخذ بدليلها ؛ بخلاف الأخذ بدليله ، فإنّه يستلزم تخصيص دليلها بلا مخصّص إلّا على وجه دائر ، إذ التخصيص به (١) يتوقّف على اعتباره معها (٢) ، واعتباره كذلك يتوقّف على التخصيص به ، إذ لولاه لا مورد له معها ، كما عرفت آنفا (٣).

وأمّا حديث الحكومة (٤) : فلا أصل له أصلا ، فإنّه لا نظر لدليلها إلى مدلول دليله إثباتا وبما هو مدلول الدليل ، وإن كان دالّا على إلغائه معها ثبوتا وواقعا ، لمنافاة لزوم العمل بها مع العمل به لو كان على خلافها ، كما أنّ قضيّة دليله إلغاؤها كذلك (٥) ، فإنّ كلّا من الدليلين بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل ، فيطرد كلّ منهما الآخر مع المخالفة ، هذا. مع لزوم اعتباره معها في صورة الموافقة ، ولا أظنّ أن

__________________

ـ لليقين باليقين بناء على حجّيّة دليل الأمارة في مورد الاستصحاب ، وهو أوّل الكلام ، بل يمكن الأخذ بدليل الاستصحاب في مورد الاستصحاب ، فالأخذ بدليل الأمارة في مورده محتاج إلى مرجّح ، وهو مفقود في المقام.

(١) أي : تخصيص دليل الأمارة بدليل الاستصحاب.

(٢) أي : اعتبار الاستصحاب مع الأمارة.

(٣) والحاصل : أنّ الأخذ بدليل الاستصحاب في مورد الأمارة يستلزم إمّا تخصيص دليل الأمارة بلا مخصّص ، وإمّا تخصيصه بوجه دائر ، إذ مخصّصيّة دليل الاستصحاب لعموم دليل الأمارة موقوفة على حجّيّة الاستصحاب مع وجود الأمارة ، وحجّيته معها موقوفة على مخصّصيّة دليله لدليل الأمارة.

أمّا توقّف المخصّصيّة على الحجّيّة : فلأنّ التخصيص تصرّف في الدليل العامّ ، والمتصرّف في الدليل لا بدّ وأن يكون حجّة كي يصلح للتصرّف فيه.

وأمّا توقّف الحجّيّة على المخصّصيّة : فلأنّه لو لم يخصّص دليل الاستصحاب عموم دليل الأمارة كانت الأمارة يقينا تعبّديّا ، فترفع موضوع الاستصحاب.

(٤) هذا ما اختاره الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٣ : ٣١٤. وتبعه أكثر الأعلام من المتأخّرين ، منهم الأعلام الثلاثة والسيّدان العلمان والسيّد الحكيم ، راجع فوائد الاصول ٣ : ٥٩٦ ، نهاية الأفكار ٤ (القسم الثاني) : ١٨ ـ ١٩ ، نهاية الدراية ٣ : ٢٨٤ ـ ٢٨٨ ، الرسائل (للإمام الخمينيّ) ١ : ٢٤٢ ، مصباح الاصول ٣ : ٢٥٠ ، حقائق الاصول ٢ : ٥٣٥ ـ ٥٣٦.

(٥) أي : ثبوتا وواقعا.

٢٨٠