كفاية الأصول - ج ٣

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-562-2
الصفحات: ٤٤٣

ولا يذهب عليك أنّه بضميمة عدم القول بالفصل قطعا بين الحلّيّة والطهارة وبين سائر الأحكام لعمّ الدليل وتمّ.

ثمّ لا يخفى : أنّ ذيل موثّقة عمّار : «فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك» (١) يؤيّد ما استظهرنا منها من كون الحكم المغيّى واقعيّا ثابتا للشيء بعنوانه ، لا ظاهريّا ثابتا له بما هو مشتبه ، لظهوره في أنّه (٢) متفرّع على الغاية وحدها ، وأنّه بيان لها وحدها منطوقها ومفهومها (٣) ، لا لها مع المغيّى ، كما لا يخفى على المتأمّل (٤).

ثمّ إنّك إذا حقّقت ما تلونا عليك ممّا هو مفاد الأخبار فلا حاجة في إطالة

__________________

ـ ظهور الغاية في كونها حدّا للحكم الواقعيّ فيفيد الاستصحاب ، لا حدّا لموضوع الحكم الواقعيّ كي تدلّ على أصالة الطهارة أو أصالة الحلّ.

(١) وسائل الشيعة ٢ : ١٠٥٤ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٤.

(٢) الضمير في قوله : «ظهوره» و «أنّه» يرجع إلى ذيل موثّقة عمّار.

(٣) المراد من منطوقها قوله عليه‌السلام : «فإذا علمت فقد قذر». والمراد من مفهومها قوله عليه‌السلام : «وما لم تعلم فليس عليك».

(٤) لا يخفى : أنّه قد أورد بعض الأعلام على كلامه من وجوه :

منها : أنّ الموضوع في قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك طاهر» أو «حلال» إمّا أن يكون الشيء بما هو هو ، وإمّا أن يكون الشيء بوصف كونه مشكوك الحلّيّة أو مشكوك الطهارة. فعلى الأوّل يلزمه أن يكون المحمول ـ أي طاهر أو حلال ـ حكما واقعيّا ، فإنّ موضوعات الأحكام الواقعيّة انّما هي ذوات الأشياء بما هي هي ومرسلة. وعلى الثاني يلزمه أن يكون المحمول حكما ظاهريّا ، لأنّ موضوعات الأحكام الظاهريّة انّما هي ذوات الأشياء مقيّدة بكونها مشكوكة حكما. ولا يمكن أن يكون المراد منه الأعمّ من المرسل والمشكوك ، ضرورة استحالة لحاظ الشيء مقيّدا وغير مقيّد. فوائد الاصول ٤ : ٣٦٨ ، نهاية الدراية ٣ : ١٠٩.

ومنها : أنّ الحكم الظاهريّ متأخّر عن الحكم الواقعيّ رتبة ، كما أنّ الشيء المشكوك متأخّر عن الشيء المرسل رتبة ، فيكون موضوع الحكم الظاهريّ وحكمه في طول موضوع الحكم الواقعيّ وحكمه ، ولا يعقل جعلهما بانشاء واحد ولحاظهما بلحاظ واحد. فوائد الاصول ٤ : ٣٦٨.

ومنها : أنّ معنى جعل الحكم الظاهريّ هو الحكم بالبناء العمليّ عليه حتّى يعلم خلافه. ومعنى جعل الحكم الواقعيّ هو إنشاء ذاته ، لا البناء العمليّ عليه. والجمع بين هذين الجعلين ممّا لا يمكن. الرسائل (للإمام الخمينيّ) ١ : ١١٣.

٢٠١

الكلام في بيان سائر الأقوال والنقض والإبرام فيما ذكر لها من الاستدلال.

[حول الأحكام الوضعيّة والتفصيل بين أقسامها في حجّيّة الاستصحاب]

ولا بأس بصرفه إلى تحقيق حال الوضع وأنّه حكم مستقلّ بالجعل كالتكليف ، أو منتزع عنه وتابع له في الجعل ، أو فيه تفصيل؟ حتّى يظهر حال ما ذكر هاهنا بين التكليف والوضع من التفصيل ، فنقول ـ وبالله الاستعانة ـ :

لا خلاف ـ كما لا إشكال ـ في اختلاف التكليف والوضع مفهوما (١) ، واختلافهما في الجملة موردا (٢) ، لبداهة ما بين مفهوم السببيّة أو الشرطيّة ومفهوم مثل الإيجاب أو الاستحباب من المخالفة والمباينة.

كما لا ينبغي النزاع في صحّة تقسيم الحكم الشرعيّ إلى التكليفيّ والوضعيّ ، بداهة أنّ الحكم وإن لم يصحّ تقسيمه إليهما ببعض معانيه ولم يكد يصحّ إطلاقه على الوضع ، إلّا أنّ صحّة تقسيمه بالبعض الآخر إليهما وصحّة إطلاقه عليه بهذا المعنى ممّا لا يكاد ينكر كما لا يخفى (٣). ويشهد به كثرة إطلاق الحكم عليه في

__________________

(١) قال المحقّق النائينيّ ـ على ما في تقريرات بحثه ـ : «المراد من الأحكام التكليفيّة هي المجعولات الشرعيّة الّتي تتعلّق بأفعال العباد أوّلا وبالذات بلا واسطة ، وهي تنحصر بالخمسة ، أربعة منها تقتضي البعث والزجر ، وهي الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة ، وواحدة منها تقتضي التخيير ، وهي الإباحة.

وأمّا الأحكام الوضعيّة : فهي المجعولات الشرعيّة الّتي لا تتضمّن البعث والزجر ، ولا تتعلّق بالأفعال ابتداء أوّلا وبالذات ، وإن كان لها نحو تعلّق بها ولو باعتبار ما يستتبعها من الأحكام التكليفيّة ، سواء تعلّق الجعل الشرعيّ بها ابتداء ـ تأسيسا أو إمضاء ـ أو تعلّق الجعل الشرعيّ بمنشإ انتزاعها». فوائد الاصول ٤ : ٣٨٤.

(٢) كما أنّ في قولنا : «الإفطار سبب لوجوب القضاء» يكون الإفطار مورد السببيّة ، والقضاء مورد الوجوب.

(٣) والحاصل : أنّ في تفسير الحكم الشرعيّ وجهين :

الأوّل : أنّ الحكم الشرعيّ عبارة عن الخطاب المتعلّق بأفعال العباد الصادر من الشارع ـ

٢٠٢

كلماتهم. والالتزام بالتجوّز فيه (١) كما ترى.

وكذا لا وقع للنزاع في أنّه محصور في امور مخصوصة ـ كالشرطيّة والسببيّة والمانعيّة كما هو المحكيّ عن العلّامة ، أو مع زيادة العلّيّة والعلاميّة ، أو مع زيادة الصحّة والبطلان والعزيمة والرخصة ، أو زيادة غير ذلك كما هو المحكيّ عن غيره (٢) ، أو ليس بمحصور (٣) ، بل [هو] (٤) كلّ ما ليس بتكليف ممّا له دخل فيه ، أو في متعلّقه وموضوعه ، أو لم يكن له دخل ممّا اطلق عليه الحكم في كلماتهم ، ضرورة أنّه لا وجه للتخصيص بها بعد كثرة إطلاق الحكم في الكلمات على

__________________

ـ من حيث الاقتضاء والتخيير.

الثاني : أنّ الحكم الشرعيّ عبارة عن مطلق ما يصحّ أخذه من الشارع وانشاؤه له بما هو شارع.

فعلى الأوّل لا يصحّ تقسيم الحكم الشرعيّ إلى التكليفيّ والوضعيّ ، لعدم تعلّق مثل السببيّة والزوجيّة والملكيّة بفعل المكلّف بلا واسطة ، وعليه ليست الوضعيّات أحكاما شرعيّة ، إذ ليس فيها جهة البعث والزجر ، ولا جهة التخيير.

وعلى الثاني يصحّ تقسيم الحكم الشرعيّ إليهما ، ويصحّ أيضا إطلاق الحكم على الوضعيّات ، فإنّها ممّا تناله يد الجعل التشريعيّ ، ضرورة أنّه يمكن اعتبار الملكيّة للحائز ، كما يمكن اعتبار لابدّيّة فعل له.

ومن هنا يظهر أنّ مراد المصنّف قدس‌سره من قوله : «ببعض معانيه» هو المعنى الأوّل. ومراده من قوله : «بالبعض الآخر» هو المعنى الثاني.

(١) أي : في إطلاق الحكم على الوضع.

(٢) ذهب العلّامة في النهاية ـ على ما في بحر الفوائد : ٢٥٩ ـ إلى أنّ الأحكام الوضعيّة ثلاثة :

الشرطيّة والسببيّة والمانعيّة.

وزاد الآمديّ الصحّة والبطلان والعزيمة والرخصة وغيرها. راجع الإحكام في اصول الأحكام ١ : ١٣٧.

وزاد صاحب كتاب «التقرير والتحبير» العلّيّة والعلاميّة. راجع كتاب التقرير والتحبير ٢ : ١٠٢.

(٣) كما في الاصول العامّة : ٦٤ ، والرسائل (للإمام الخمينيّ) ١ : ١١٤ ـ ١١٥.

(٤) ما بين المعقوفتين ليس في النسخ. والأولى إثباته.

٢٠٣

غيرها ، مع أنّه لا تكاد تظهر ثمرة مهمّة علميّة أو عمليّة للنزاع في ذلك.

وإنّما المهمّ في النزاع هو أنّ الوضع كالتكليف في أنّه مجعول تشريعا بحيث يصحّ انتزاعه بمجرّد إنشائه ، أو غير مجعول كذلك ، بل إنّما هو منتزع عن التكليف ومجعول بتبعه وبجعله؟

والتحقيق أنّ ما عدّ من الوضع على أنحاء :

منها : ما لا يكاد يتطرّق إليه الجعل تشريعا أصلا ، لا استقلالا ولا تبعا ، وإن كان مجعولا تكوينا عرضا بعين جعل موضوعه كذلك.

ومنها : ما لا يكاد يتطرّق إليه الجعل التشريعيّ إلّا تبعا للتكليف.

ومنها : ما يمكن فيه الجعل استقلالا ـ بإنشائه ـ وتبعا للتكليف ـ بكونه منشأ لانتزاعه ـ ، وإن كان الصحيح انتزاعه من إنشائه وجعله ، وكون التكليف من آثاره وأحكامه على ما تأتي الإشارة إليه.

أمّا النحو الأوّل : فهو كالسببيّة والشرطيّة والمانعيّة والرافعيّة لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعة ورافعه (١) ، حيث أنّه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها من التكليف المتأخّر عنها ذاتا حدوثا (٢) أو ارتفاعا (٣) ؛ كما أنّ اتّصافها بها ليس إلّا لأجل ما عليها من الخصوصيّة المستدعية لذلك (٤) تكوينا ، للزوم أن يكون في العلّة بأجزائها ربط خاصّ (٥) به كانت مؤثرة (٦) في معلولها ، لا في غيره ، ولا غيرها فيه ، وإلّا لزم أن يكون كلّ شيء مؤثّرا في كلّ

__________________

(١) المثال للسببيّة هو دلوك الشمس لوجوب الصلاة ، وللشرطيّة هو الاستطاعة الشرعيّة لوجوب الحج ، وللمانعيّة هو العجز المانع عن التكليف بالطهارة المائيّة ، وللرافعيّة هو أحد نواقض الوضوء الرافع لجواز الدخول فيما يشترط فيه الطهارة.

(٢) كما في السبب والشرط والمانع.

(٣) كما في الرافع.

(٤) أي : لاتّصاف السبب والشرط والمانع والرافع بالسببيّة والشرطيّة والمانعيّة والرافعيّة.

(٥) وفي بعض النسخ : «من ربط خاصّ». والصحيح ما أثبتناه.

(٦) وفي بعض النسخ : «كان مؤثّرا». والصحيح ما أثبتناه.

٢٠٤

شيء. وتلك الخصوصيّة لا تكاد توجد فيها بمجرّد إنشاء مفاهيم العناوين ومثل قول «دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة» إنشاء لا إخبارا ، ضرورة بقاء الدلوك على ما هو عليه قبل إنشاء السببيّة له من كونه واجدا لخصوصيّة مقتضية لوجوبها أو فاقدا لها ، وأنّ الصلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدلوك ما لم يكن هناك ما يدعو إلى وجوبها ، ومعه (١) تكون واجبة لا محالة وإن لم ينشأ السببيّة للدلوك أصلا.

ومنه انقدح أيضا عدم صحّة انتزاع السببيّة له حقيقة من إيجاب الصلاة عنده (٢) ، لعدم اتّصافه بها بذلك ضرورة (٣).

نعم ، لا بأس باتّصافه بها عناية ، وإطلاق السبب عليه مجازا. كما لا بأس بأن يعبّر عن إنشاء وجوب الصلاة عند الدلوك ـ مثلا ـ بأنّه سبب لوجوبها ، فكنّي به (٤) عن الوجوب عنده.

فظهر بذلك : أنّه لا منشأ الانتزاع السببيّة وسائر ما لأجزاء العلّة للتكليف إلّا ما هي عليه (٥) من الخصوصيّة الموجبة لدخل كلّ فيه على نحو غير دخل الآخر ، فتدبّر جيّدا (٦).

__________________

(١) أي : مع ما يدعو إلى وجوبها. وهو تلك الخصوصيّة.

(٢) هذا الضمير وضمير قوله : «له» يرجعان إلى الدلوك.

(٣) أي : من الضروريّ عدم اتّصاف الدلوك بالسببيّة بسبب إيجاب الصلاة عنده.

(٤) أي : بكونه سببا.

(٥) وفي بعض النسخ : «ما هي عليها». والصحيح ما أثبتناه.

(٦) والحاصل : أنّ المصنّف قدس‌سره استدلّ على أنّ النحو الأوّل غير مجعول ـ لا استقلالا ولا تبعا ـ بوجهين :

الأوّل : أنّه لا يمكن أن تكون السببيّة ونحوها منتزعة عن التكليف ، لتأخّره عنها ، فإذا كانت منتزعة عنه لزم تأخّرها عنه ، وهو خلف. فلا يعقل جعلها تبعا.

الثاني : أنّ سببيّة الشيء ـ كالدلوك ـ للتكليف لا بدّ وأن تكون ناشئة عن خصوصيّة في ـ

٢٠٥

__________________

ـ ذات السبب تقتضي ترتّب التكليف عليه ، لما يعتبر بين العلّة والمعلول من السنخيّة ، فيعتبر أن يكون في العلّة ـ وهي السبب ـ بأجزائها ربط خاصّ تكون بسببه مؤثّرة في المعلول ـ أي التكليف ـ دون غيره ، ولا يكون غيرها مؤثّرا فيه ، بداهة أنّه لو لم تعتبر السنخيّة لزم أن يؤثّر كلّ شيء في كلّ شيء ، وهو ضروريّ البطلان. ومعلوم أنّ تلك الخصوصيّة من الخصوصيّات التكوينيّة الّتي لا تناط بجعل السببيّة ، بل الشيء بنفسه إمّا أن تكون واجدة لها ، وإمّا أن تكون فاقدة لها ، فجعل السببيّة لا تأثير له في وجود الخصوصيّة ولا في عدمها. وعليه فتكون السببيّة منتزعة عن أمر تكوينيّ ولم يتعلّق بها الجعل استقلالا.

وقد استشكل المحقّق الأصفهانيّ في كلا الوجهين :

أمّا الوجه الأوّل : فلأنّ ما يكون التكليف متأخّرا عنه هو ذات السبب ، لا عنوان السببيّة الّتي تنتزع من ترتّب التكليف على ذات السبب ، فلا يلزم الخلف من انتزاع عنوان السببيّة من ترتّب التكليف عليها ، إذ ما هو المتأخّر عن التكليف ـ وهو ذات السبب ـ غير المتأخّر عنه التكليف ـ وهو عنوان السببيّة ـ.

وأمّا الوجه الثاني : فلأنّ للتكليف مقامين : (أحدهما) مقام المصلحة. و (ثانيهما) مقام الجعل. ولا شكّ أنّ دخالة السبب ـ وهو دلوك الشمس مثلا ـ في تأثير المصلحة المقتضية لجعل المولى التكليف أمر تكوينيّ ، لا جعليّ ، إذ تأثير المصلحة من الامور الواقعيّة الماهويّة ، لا تكوينيّة ، ولا تشريعيّة. وأمّا إذا لوحظ مقام الجعل فللشارع أن يعلّق الطلب على شيء ، فصار ذلك الشيء سببا للتكليف ، بحيث لا يكون الإنشاء مصداقا للبعث إلّا إذا اقترن بذلك الشيء ، فتكون صيرورة الشيء سببا للتكليف ممّا بيد الشارع ، فله أن يعتبر وجوده في موضوع الحكم فتنتزع عنه عنوان السببيّة ، وأن يعتبر عدمه فيه فتنتزع عنه عنوان المانعيّة. نهاية الدراية ٣ : ١٢٥ ـ ١٢٦.

واستشكل المحقّق الخوئيّ أيضا ـ تبعا لاستاذه المحقّق النائينيّ ـ فيما أفاد المصنّف قدس‌سره بما حاصله : أنّ استدلال المصنّف قدس‌سره في كلا الوجهين مبنيّ على الخلط بين الجعل والمجعول ، لأنّ ما لا يقبل الجعل ـ وهو شرائط الجعل من المصالح والمفاسد ـ خارج عن محلّ الكلام ، وما هو محلّ الكلام ـ وهو السببيّة والشرطيّة والمانعيّة بالنسبة إلى التكليف المجعول ـ يقبل الجعل بتبع التكليف. فوائد الاصول ٤ : ٣٩٦ ـ ٣٩٧ ، موسوعة الإمام الخوئيّ (مصباح الاصول) ٤٨ : ٩٦ ـ ٩٧.

ولكن أورد عليه المحقّق الأصفهانيّ بأنّ الجعل والمجعول واحد بالذات ، وانّما يختلفان بالاعتبار. نهاية الدراية ٣ : ١٢٥ ـ ١٢٦. ـ

٢٠٦

وأمّا النحو الثاني : فهو كالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة والقاطعيّة لما هو جزء المكلّف به وشرطه ومانعة وقاطعه (١) ، حيث إنّ اتّصاف شيء بجزئيّة المأمور به أو شرطيّته أو غيرهما لا يكاد يكون إلّا بالأمر بجملة امور مقيّدة بأمر وجوديّ أو عدميّ ، ولا يكاد يتّصف شيء بذلك ـ أي كونه جزءا أو شرطا للمأمور به ـ إلّا بتبع ملاحظة الأمر بما يشتمل عليه مقيّدا بأمر آخر ، وما لم يتعلّق بها الأمر كذلك لما كاد اتّصف (٢) بالجزئيّة أو الشرطيّة ، وإن أنشأ الشارع له الجزئيّة أو الشرطيّة.

وجعل الماهيّة وأجزاءها (٣) ليس إلّا تصوير ما فيه المصلحة المهمّة الموجبة للأمر بها ؛ فتصوّرها بأجزائها وقيودها لا يوجب اتّصاف شيء منها بجزئيّة المأمور به أو شرطيّته (٤) قبل الأمر بها.

فالجزئيّة للمأمور به أو الشرطيّة له إنّما تنتزع لجزئه أو شرطه بملاحظة الأمر به بلا حاجة إلى جعلها له (٥) ؛ وبدون الأمر به لا اتّصاف بها أصلا ، وإن اتّصف بالجزئيّة أو الشرطيّة للمتصوّر أو لذي المصلحة ، كما لا يخفى (٦).

__________________

ـ وذهب السيّد الإمام الخمينيّ إلى أنّ السببيّة من المجعولات الشرعيّة. الرسائل ١ : ١١٨.

(١) كالسورة والطهارة والنجاسة والاستدبار في الصلاة.

(٢) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «لما كاد أن يتّصف».

(٣) وفي بعض النسخ : «وجعل الماهيّة واختراعها».

(٤) وفي بعض النسخ : «أو شرطه». والصحيح ما أثبتناه.

(٥) أي : بلا حاجة إلى جعل الجزئيّة أو الشرطيّة لذلك الشيء مستقلّا.

(٦) لا يخفى : أنّ أكثر الأعلام وافق المصنّف قدس‌سره في المقام. ولكنّ المحقّق العراقيّ خالفه في الشرطيّة وإن وافقه في الجزئيّة ، ففرّق بينهما بأنّ الجزئيّة تنتزع من التكليف دون الشرطيّة : أمّا الجزئيّة : فلأنّها تنتزع عن جهة الوحدة ، وهي في المأمور به ليست إلّا الأمر به وكونه متعلّقا له ، فإذا تعلّق الأمر به بذوات أجزائه ينتزع عنه عنوان الجزئيّة لها.

وأمّا الشرطيّة : فلأنّها تنتزع عن تقيّد العمل بالشرط وإضافته له ، ومعلوم أنّ جهة التقيّد والإضافة سابقة عن تعلّق الأمر ، فلا تتوقّف على الأمر ، بل هي معروضة للأمر ، إذ الأمر بالمقيّد فرع أخذ التقيّد في متعلّق الأمر ، وهذا يقتضي سبق التقيّد على الأمر. نعم ، كون الشيء شرطا للمأمور به يتوقّف على الأمر ، لا أنّ أصل شرطيّته متوقّفة على الأمر ، مثلا : إذا ـ

٢٠٧

وأمّا النحو الثالث : فهو كالحجّيّة والقضاوة والولاية والنيابة والحرّيّة والرقّيّة والزوجيّة والملكيّة إلى غير ذلك ، حيث إنّها وإن كان من الممكن انتزاعها من الأحكام التكليفيّة الّتي تكون في مواردها ـ كما قيل ـ ومن جعلها بإنشاء أنفسها (١) ، إلّا أنّه لا يكاد يشكّ في صحّة انتزاعها من مجرّد جعله «تعالى» أو من بيده الأمر من قبله «جلّ وعلا» لها بإنشائها بحيث يترتّب عليها آثارها ، كما تشهد به ضرورة صحّة انتزاع الملكيّة والزوجيّة والطلاق والعتاق بمجرّد العقد أو الإيقاع ممّن بيده الاختيار بلا ملاحظة التكاليف والآثار ، ولو كانت منتزعة عنها لما كاد يصحّ اعتبارها إلّا بملاحظتها ، وللزم أن لا يقع ما قصد ، ووقع ما لم يقصد (٢).

كما لا ينبغي أن يشكّ في عدم صحّة انتزاعها عن مجرّد التكليف في موردها ، فلا ينتزع الملكيّة عن إباحة التصرّفات ، ولا الزوجيّة من جواز الوطء ، وهكذا

__________________

ـ تعلّق الأمر بالصلاة المشروطة بالطهارة تكون شرطيّة الطهارة منتزعة عن تقيّد الصلاة بالطهارة ، وهو سابق على الأمر بها ، كما أنّ مقدّميّة المقدّمة سابقة على التكليف ؛ نعم ، كون الطهارة شرطا للواجب منتزع عن الأمر به ، لا أصل شرطيّتها ، كما أنّ كون إكرام العالم الواجب الاحترام إكراما لا يرتبط بالأمر ، بل هو إكرام في نفسه ، لكن كونه إكراما لمن يجب احترامه ينتزع عن الأمر باحترامه. نهاية الأفكار ٤ : ٩١ ـ ٩٤.

(١) تعريض بالشيخ الأعظم الأنصاريّ ، حيث ذهب ـ تبعا لبعض آخر من المحقّقين ـ إلى أنّ مثل هذه الامور منتزع عن الحكم التكليفيّ ، فالزوجيّة ـ مثلا ـ منتزعة عن جواز المباشرة والنظر واللمس ، والملكيّة منتزعة عن كون الشيء بحيث يجوز الانتفاع به وبعوضه. راجع فرائد الاصول ٣ : ١٢٥ ـ ١٣٠.

والمراد من قوله : «كما قيل» هو من ذكره الشيخ الأعظم ، فقال : «المشهور ـ كما في شرح الزبدة ـ ، بل الّذي استقرّ عليه رأي المحقّقين ـ كما في شرح الوافية للسيّد صدر الدين ـ أنّ الخطاب الوضعيّ مرجعه إلى الخطاب الشرعيّ ...». راجع فرائد الاصول ٣ : ١٢٥ ، غاية المأمول في شرح زبدة الاصول (مخطوط) : ٥٩ ، شرح الوافية (مخطوط) : ٣٥٠.

(٢) توضيحه : أنّ البائع ـ مثلا ـ انّما يقصد بإنشاء البيع وقوع التمليك ، فإذا لم تترتّب الملكيّة على قصده ، بل ترتّب التكليف الّذي ينتزع عنه الملكيّة ، يلزم عنه أن يقع ما لم يقصد وأن يقصد ما لم يقع.

٢٠٨

سائر الاعتبارات في أبواب العقود والإيقاعات.

فانقدح بذلك أنّ مثل هذه الاعتبارات إنّما تكون مجعولة بنفسها ، يصحّ انتزاعها بمجرّد إنشائها كالتكليف ، لا مجعولة بتبعه ومنتزعة عنه (١).

وهم ودفع

أمّا الوهم فهو : أنّ الملكيّة كيف جعلت من الاعتبارات الحاصلة بمجرّد الجعل والإنشاء الّتي تكون من خارج المحمول (٢) ، حيث ليس بحذائها في الخارج شيء ، وهي (٣) إحدى المقولات المحمولات بالضميمة الّتي لا يكاد تكون بهذا

__________________

(١) هكذا في النسخ. والتأنيث في العبارة باعتبار المضاف إليه في قوله : «مثل هذه الاعتبارات» ، وإلّا فكان الأولى أن يذكّر ويقال : «إنّما يكون مجعولا بنفسه ، يصحّ انتزاعه بمجرّد انشائه ، كالتكليف ، لا مجعولا بتبعه ومنتزعا عنه».

وفي الختام نذكر ما تعرّض له المحقّقان النائينيّ والعراقيّ استدلالا على كون النحو الثالث مجعولا بالاستقلال وإيرادا على الشيخ الأعظم :

أمّا المحقّق النائينيّ : فأفاد ما لفظه : «ليس من الأحكام الوضعيّة ما يختصّ بحكم تكليفيّ لا يشاركه غيره فيه ، فكيف يكون منشأ لانتزاعه بخصوصه؟ ودعوى أنّ الحكم الوضعيّ ينتزع من جملة من الأحكام التكليفيّة الّتي بجملتها تختصّ به كما ترى! مع أنّ هذا أيضا في بعض المقامات لا يمكن ، فإنّ الحجّيّة والطريقيّة من الأحكام الوضعيّة الّتي ليس في موردها حكم تكليفيّ قابل لانتزاع الحجّيّة منه». فوائد الاصول ٤ : ٣٨٧.

وأمّا المحقّق العراقيّ : فأفاد ما حاصله : أنّ ظواهر الأدلّة تنافي دعوى الانتزاع ، لأنّه قد أخذت فيها هذه الامور الوضعيّة الإضافيّة موضوعا للأحكام التكليفيّة ، مثل ما دلّ على حرمة التصرّف في مال الغير بدون إذنه ، وما دلّ على سلطنة الناس على أموالهم. ومعلوم أنّ منشأ إضافة المال إلى الشخص أو الغير لا يكاد يكون نفس ذلك التكليف المتعلّق بالموضوع المزبور ، وإلّا لزم الدور ، وهو محال. ولا يكون أيضا ناشئا من تكليف آخر في الرتبة السابقة عن الإضافة المزبورة ، وإلّا لزم اجتماع المثلين ، وهو محال ، بل يكون منشؤها صرف جعلها قبل تعلّق التكليف بها ، فلا تكون منتزعة من الحكم. نهاية الأفكار ٤ : ١٠٣.

(٢) قد مرّ الفرق بين خارج المحمول والمحمول بالضميمة فيما علّقت على مباحث المشتقّ في الجزء الأوّل : ١١٠.

(٣) أي : الملكيّة.

٢٠٩

السبب (١) ، بل بأسباب أخر كالتعمّم والتقمّص والتنعّل ، فالحالة الحاصلة منها للإنسان هو الملك ، وأين هذه من الاعتبار الحاصل بمجرّد إنشائه؟

وأمّا الدفع فهو : أنّ الملك يقال (٢) بالاشتراك على ذلك ـ ويسمّى بالجدة أيضا ـ واختصاص شيء بشيء خاصّ ؛ وهو (٣) ناشئ إمّا من جهة إسناد وجوده إليه (٤) ، ككون العالم ملكا للبارئ «جلّ ذكره» ، أو من جهة الاستعمال والتصرّف فيه ، ككون الفرس لزيد بركوبه له وسائر تصرّفاته فيه ، أو من جهة إنشائه والعقد مع من اختياره بيده ، كملك الأراضي والعقار البعيدة للمشتري بمجرّد عقد البيع شرعا وعرفا. فالملك الذي يسمّى بالجدة أيضا غير الملك الّذي هو اختصاص خاصّ ناشئ من سبب اختياريّ كالعقد ، أو غير اختياريّ كالإرث ، ونحوهما من الأسباب الاختياريّة وغيرها.

فالتوهّم إنّما نشأ من إطلاق الملك على مقولة الجدة أيضا ، والغفلة عن أنّه بالاشتراك بينه وبين الاختصاص الخاصّ والإضافة الخاصّة الإشراقيّة كملكه «تعالى» للعالم ، أو المقوليّة كملك غيره لشيء بسبب من تصرّف واستعمال أو إرث أو عقد أو غيرها من الأعمال ؛ فيكون شيء ملكا لأحد بمعنى ولآخر بالمعنى الآخر ، فتدبّر (٥).

إذا عرفت اختلاف الوضع في الجعل ، فقد عرفت أنّه لا مجال لاستصحاب

__________________

(١) أي : بالجعل والإنشاء.

(٢) أي : يحمل.

(٣) أي : الاختصاص.

(٤) أي : إسناد وجود الشيء المختصّ إلى وجود الشيء الخاصّ.

(٥) ولا يخفى : أنّه بقي في المقام امور أخر ، كالصحّة والفساد والطهارة والنجاسة والرخصة والعزيمة. اختلفوا فيها ، فذهب بعضهم إلى أنّ كلّها من الأحكام الوضعيّة ؛ وذهب بعض آخر إلى أنّها من الامور الواقعيّة غير المجعولة ؛ وذهب بعض آخر إلى إلى أنّها من الامور الانتزاعيّة ؛ وفصّل بعض بينها ، فعدّ بعضها من الأحكام الوضعيّة وبعض آخر من الأحكام التكليفيّة أو الامور الواقعيّة أو الانتزاعيّة. فراجع فوائد الاصول ٤ : ٣٩٨ ـ ٤٠٣ ، نهاية الدراية ٣ : ١٣٩ ـ ١٤٠ ، أجود التقريرات ٢ : ٣٨٦ ، مصباح الأصول ٣ : ٨٤ ـ ٨٧ ، نهاية الأفكار ٤ : ٩٧ ـ ٩٩.

٢١٠

دخل ما له الدخل في التكليف (١) إذا شكّ في بقائه على ما كان عليه من الدخل ، لعدم كونه حكما شرعيّا ، ولا يترتّب عليه أثر شرعيّ (٢) ؛ والتكليف وإن كان مترتّبا عليه إلّا أنّه ليس بترتّب شرعيّ (٣) ، فافهم (٤).

وأنّه لا إشكال في جريان الاستصحاب في الوضع المستقلّ بالجعل حيث إنّه كالتكليف (٥).

وكذا ما كان مجعولا بالتبع ، فإنّ أمر وضعه ورفعه بيد الشارع ولو بتبع منشأ انتزاعه.

وعدم تسميته (٦) حكما شرعيّا ـ لو سلّم ـ غير ضائر بعد كونه ممّا تناله يد

__________________

(١) كالسببيّة والشرطيّة والمانعيّة للتكليف.

(٢) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «ولا ما يترتّب عليه أثر شرعيّ».

وحاصل كلامه : أنّه إذا شكّ في بقاء السبب على سببيّته لا مجال لاستصحاب سببيّته ، فإذا شكّ في بقاء الدلوك على سببيّته لوجوب الصلاة لم يكن لنا أن نستصحب سببيّته ، لعدم كون السببيّة حكما شرعيّا ، لما عرفت أنّ هذا القسم لا تناله يد الجعل ، ولا يكون ممّا يترتّب عليه أثر شرعيّ.

(٣) جواب عن إشكال مقدّر.

أمّا الإشكال : فحاصله : أنّه لو سلّم أنّ هذا النحو من الحكم الوضعيّ ليس حكما شرعيّا ، ولكن لا نسلّم عدم كونه ممّا يترتّب عليه التكليف الشرعيّ ، فإنّ سببيّة الدلوك ـ مثلا ـ وإن لم تكن حكما شرعيّا إلّا أنّه يترتّب عليها وجوب الصلاة.

وأمّا الجواب : فحاصله : أنّ ترتّب الحكم الشرعيّ ـ كوجوب الصلاة ـ على سببيّة السبب ـ كالدلوك ـ لا يصحّح جريان الاستصحاب في السببيّة ، إذ ليس ترتّب الحكم الشرعيّ على سببيّته شرعيّا ، بل هو عقليّ ، ويعتبر في الاستصحاب أن يكون ترتّب الحكم الشرعيّ على المستصحب شرعيّا.

(٤) لعلّه إشارة إلى ما في كلامه من الخلط بين ذات السبب وسببيّة السبب ، حيث أنّ التكليف والأثر الشرعيّ انّما يترتّب على ذات السبب بما لها من الخصوصيّة الذاتيّة الكامنة فيه ، لا على سببيّته كي يقال : «والتكليف وإن كان مترتّبا على دخل ما له الدخل وسببيّة السبب ، إلّا إنّه ليس بترتّب شرعيّ».

(٥) لأنّه قابل للوضع والرفع.

(٦) أي : عدم تسمية المجعول بالتبع.

٢١١

التصرّف شرعا.

نعم ، لا مجال لاستصحابه لاستصحاب سببه ومنشأ انتزاعه (١) ، فافهم (٢).

[تنبيهات الاستصحاب]

ثمّ إنّ هاهنا تنبيهات :

[التنبيه] الأوّل : [اعتبار فعليّة الشك واليقين]

انّه يعتبر في الاستصحاب فعليّة الشكّ واليقين (٣) ، فلا استصحاب مع الغفلة ، لعدم الشكّ فعلا ، ولو فرض أنّه يشكّ لو التفت ، ضرورة أنّ الاستصحاب وظيفة الشاكّ ، ولا شكّ مع الغفلة أصلا. فيحكم بصحّة صلاة من أحدث ، ثمّ غفل وصلّى ، ثمّ شكّ في أنّه تطهّر قبل الصلاة ، لقاعدة الفراغ. بخلاف من التفت قبلها وشكّ ، ثمّ غفل وصلّى ، فيحكم بفساد صلاته فيما إذا قطع بعدم تطهيره بعد الشكّ ، لكونه محدثا قبلها بحكم الاستصحاب مع القطع بعدم رفع حدثه

__________________

(١) الضمائر ترجع إلى ما كان مجعولا بالتبع.

وحاصل مرامه : أنّه لا مجال لاستصحاب المجعول بالتبع إذا كان هناك استصحاب حاكم عليه ـ كاستصحاب سببه أو استصحاب منشأ انتزاعه ـ ، ضرورة أنّه إذا دار الأمر بين استصحاب سببيّ واستصحاب مسبّبيّ يقدّم الأوّل ولا يجري الثاني ؛ فإذا شككنا في جزئيّة السورة للصلاة بعد ما كنّا نعلم بجزئيّته لم يجر استصحاب الجزئيّة ، لأنّ استصحاب وجوب الصلاة ـ وهو منشأ انتزاع جزئيّة السورة ـ حاكم عليه ، فتثبت الجزئيّة باستصحابه بلا حاجة إلى استصحاب الجزئيّة.

وبالجملة : فلا مجال لاستصحاب المجعول بالتبع مع إمكان استصحاب سببه ومنشأ انتزاعه.

(٢) لعلّه إشارة إلى أنّه ربما لا يجري الاستصحاب السببيّ لوجود معارض يمنع عن جريانه فيه ، وحينئذ يجري الاستصحاب المسبّبيّ ، فلا يصحّ القول بأنّه لا مجال لاستصحابه أصلا.

(٣) قال السيّد الإمام الخمينيّ : «وليس المراد من فعليّتهما تحقّقهما في خزانة النفس ولو كان الإنسان ذاهلا عنهما ، بل بمعنى الالتفات إلى يقينه السابق وشكّه اللاحق». الرسائل ١ : ١٢١.

٢١٢

الاستصحابيّ (١).

لا يقال : نعم ، ولكنّ استصحاب الحدث في حال الصلاة بعد ما التفت بعدها يقتضي أيضا فسادها.

فإنّه يقال : نعم ، لو لا قاعدة الفراغ المقتضية لصحّتها المقدّمة على أصالة فسادها(٢).

[التنبيه] الثاني : [جريان الاستصحاب في مؤدّى الأمارات] (٣)

انّه هل يكفي في صحّة الاستصحاب الشكّ في بقاء شيء على تقدير ثبوته

__________________

(١) ولا يخفى : أنّ السيّد المحقّق الخوئيّ ـ بعد تسليم اعتبار اليقين والشكّ الفعليّ ـ أنكر تفرّع الفرعان المذكوران عليه. راجع تفصيل كلامه في موسوعة الإمام الخوئيّ (مصباح الاصول) ٤٨ : ١١١ ـ ١١٣.

(٢) المراد من أصالة فسادها هو استصحاب الحدث المقتضي لفساد العبادة.

(٣) لا يخفى : أنّ هذا التنبيه ممّا انفرد به المصنّف رحمه‌الله عمن قبله. وغرضه من عقده هو دفع الإشكال عن جريان الاستصحاب في مؤدّيات الطرق والأمارات.

توضيح الإشكال : أنّه لا يكون مؤدّى الأمارات غير العلميّة يقينيّ الحدوث ، بل الأمارات انّما يورث الظنّ بمؤدّاها ، وإذا انتفى اليقين السابق ينتفي الشكّ في بقاء المتيقّن السابق ، فلا مجال لجريان الاستصحاب في مؤدّاها ، لفقدان كلا ركني الاستصحاب. مثلا : إذا قامت البيّنة على نجاسة ماء في الأمس ، ثمّ شكّ في بقاء نجاسته في اليوم ، فلا مجال لجريان الاستصحاب ، لأنّ البيّنة انّما تورّث الظنّ بنجاسة الماء في الأمس ، فلم يحصل اليقين بحدوث نجاسته ، وإذا انتفى اليقين بحدوث النجاسة ينتفي الشكّ في بقاء النجاسة المتيقّنة ، فينهدم كلا ركني الاستصحاب.

أشار المصنّف قدس‌سره إلى الإشكال تارة بقوله : «من عدم إحراز الثبوت ... فإنّه على تقدير لم يثبت» ، واخرى بقوله : «وبه يمكن الذب عمّا في استصحاب ... كما هو ظاهر الأصحاب».

وتوضيح الجواب : أنّ دليل الاستصحاب يتكفّل جعل الملازمة الظاهريّة بين حدوث الشيء وبقائه ، من دون النظر إلى تيقّن حدوثه ، فالحدوث ـ بما هو حدوث ـ موضوع للحكم بالبقاء تعبّدا. وأمّا اليقين بالحدوث فانّما لوحظ طريقا لإحراز الحدوث الموضوع. وإذا تكفّل دليل الاستصحاب جعل الملازمة بينهما فلو قامت الأمارة على حدوث الحكم ثمّ شكّ ـ

٢١٣

وإن لم يحرز ثبوته فيما رتّب عليه أثر شرعا أو عقلا؟ إشكال : من عدم إحراز الثبوت ، فلا يقين ولا بدّ منه ، بل ولا شكّ ، فإنّه على تقدير لم يثبت ؛ ومن أنّ اعتبار اليقين إنّما هو لأجل أنّ التعبّد والتنزيل شرعا انّما هو في البقاء لا في الحدوث ، فيكفي الشكّ فيه على تقدير الثبوت ، فيتعبّد به على هذا التقدير ، فيترتّب عليه الأثر فعلا فيما كان هناك أثر ، وهذا هو الأظهر.

وبه يمكن أن يذبّ عمّا في (١) استصحاب الأحكام الّتي قامت الأمارات المعتبرة على مجرّد ثبوتها وقد شكّ في بقائها على تقدير ثبوتها من الإشكال (٢) بأنّه لا يقين بالحكم الواقعيّ ، ولا يكون هناك حكم آخر فعليّ بناء على ما هو التحقيق (٣) من أنّ قضيّة حجّيّة الأمارة ليست إلّا تنجّز التكاليف مع الإصابة والعذر مع المخالفة ـ كما هو قضيّة الحجّة المعتبرة عقلا ، كالقطع والظنّ في حال الانسداد على الحكومة ـ ، لا إنشاء أحكام فعليّة شرعيّة ظاهريّة ، كما هو ظاهر الأصحاب.

ووجه الذبّ بذلك : أنّ الحكم الواقعيّ الّذي هو مؤدّى الطريق حينئذ (٤)

__________________

ـ في بقائه كانت هذه الأمارة حجّة على الحدوث والبقاء معا ، فإنّ الدليل على أحد المتلازمين دليل على الملازم الآخر. فلا يعتبر اليقين الفعليّ بالحدوث ، بل يكفي الثبوت التقديريّ والشكّ فيه على تقدير الثبوت.

وأشار المصنّف إلى الجواب تارة بقوله : «ومن أنّ اعتبار اليقين ... وهذا هو الأظهر» ، واخرى بقوله : «ووجه الذبّ بذلك ...».

(١) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «وبه يمكن أن يذبّ ما في ...» ، فإنّ معنى ذبّ الشيء هو دفعه وطرده ، ومعنى الذبّ عن الشيء هو الدفع عنه وتثبيته.

(٢) بيان للموصول في قوله : «عمّا في ...».

(٣) وأمّا بناء على ما هو المشهور من كون مؤدّيات الأمارات أحكاما ظاهريّة شرعيّة ـ كما اشتهر أنّ ظنيّة الطريق لا تنافي قطعيّة الحكم ـ فالاستصحاب جار ، لأنّ الحكم الّذي أدّت إليه الأمارة محتمل البقاء ، لإمكان إصابتها الواقع وكان ممّا يبقى ، والقطع بعدم فعليّته حينئذ مع احتمال بقائه لكونها بسبب دلالة الأمارة والمفروض عدم دلالتها إلّا على ثبوته لا على بقائه غير ضائر بفعليّته الناشئة باستصحابه ، فلا تغفل ، منه [أعلى الله مقام].

(٤) أي : حين كفاية الشكّ في البقاء على تقدير الثبوت.

٢١٤

محكوم بالبقاء ، فتكون الحجّة على ثبوته حجّة على بقائه تعبّدا ، للملازمة بينه (١) وبين ثبوته واقعا.

إن قلت : كيف! وقد اخذ اليقين بالشيء في التعبّد ببقائه في الأخبار ، ولا يقين في فرض تقدير الثبوت.

قلت : نعم ، ولكنّ الظاهر أنّه اخذ كشفا عنه ومرآة لثبوته ، ليكون التعبّد في بقائه ، والتعبّد مع فرض ثبوته إنّما يكون في بقائه ، فافهم (٢).

__________________

(١) أي : بين البقاء.

(٢) ولا يخفى : أنّ الأعلام من المحقّقين المتأخّرين ـ بعد ما أوردوا على ما أفاد المصنّف قدس‌سره جوابا عن الإشكال بإيرادات يرجع بعضها إلى المبنى وبعض آخر إلى البناء ـ ذكر كلّ على مبناه وجوها أخر في التفصيّ عن الإشكال. ونكتفي بالتعرّض لما أفادوا تفصّيا عن الإشكال ، وتركنا الإيرادات خوفا من التطويل.

أمّا المحقّق النائينيّ : فتفصّى عن الإشكال بما حاصله : أنّ المراد من اليقين المعتبر في الاستصحاب ليس هو اليقين الوجدانيّ ، بل كلّ ما يكون محرزا للمستصحب بأحد وجوه الإحراز من اليقين الوجدانيّ أو ما هو بمنزلته كالطرق والاصول المحرزة ، بناء على قيامهما مقام القطع الطريقيّ. فلو قام طريق أو أمارة على ثبوت حكم أو موضوع ذي حكم ثمّ شكّ في بقاء الحكم أو الموضوع الّذي أدّت إليه الأمارة والطريق فلا مانع من استصحاب بقاء مؤدّى الأمارة والطريق ، لأنّ المستصحب قد احرز بقيام الأمارة عليه. فوائد الاصول ٤ : ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

وتفصّي المحقّق العراقيّ بأنّ مفاد أدلّة الطرق والأمارات ناظر إلى تتميم الكشف وإثبات الإحراز التعبّديّ للواقع ؛ وحينئذ فأدلّة الطرق والأمارات بعناية تكفّلها لإثبات العلم والإحراز يوسّع دائرة اليقين المنقوض والناقض في الاستصحاب بما يعمّ الوجدانيّ والتعبّديّ. وبذلك يكون المستصحب عند قيام الأمارة أو الطريق عليه محرزا باليقين التعبّديّ ، ومع الشكّ في بقائه في الزمان المتأخّر يجري فيه الاستصحاب ، لتماميّة أركانه من إحراز السابق والشكّ اللاحق. فلا يحتاج إلى جعل اليقين في أخبار الاستصحاب كناية عن مطلق الإحراز ـ كما صنعه المحقّق النائينيّ ـ ، كي يلزم تقدّم الأمارة عليه بمناط الورود لا الحكومة. نهاية الأفكار ٤ : ١٠٥ ـ ١٠٩.

وتفصّي السيّد الإمام الخمينيّ ـ بعد ما بنى على كون اليقين معتبرا في موضوع الاستصحاب ـ بما حاصله : أنّ العرف لأجل مناسبة الحكم والموضوع يلغي خصوصيّة ـ

٢١٥

[التنبيه] الثالث : [استصحاب الكلّي وأقسامه]

انّه لا فرق في المتيقّن السابق بين أن يكون خصوص أحد الأحكام أو ما يشترك بين الاثنين منها أو الأزيد ، من أمر عامّ.

فإن كان الشكّ في بقاء ذاك العامّ من جهة الشكّ في بقاء الخاصّ الّذي كان في ضمنه وارتفاعه (١) كان استصحابه كاستصحابه بلا كلام (٢).

وإن كان الشكّ فيه من جهة تردّد الخاصّ الّذي في ضمنه بين ما هو باق أو مرتفع قطعا (٣) فكذا لا إشكال في استصحابه ، فيترتّب عليه كافّة ما يترتّب عليه

__________________

ـ كون اليقين وجدانيّا ويحكم بأنّ الظاهر من الأدلّة أنّ الموضوع في الاستصحاب هو الحجّة على الواقع في مقابل اللاحجّة ، وهي جهة جامعة بين اليقين وغيره من الحجج العقلائيّة والشرعيّة ، فيلحق الظنّ المعتبر باليقين ، ويجري الاستصحاب في مؤدّاه ، كما يجري في اليقين الوجدانيّ. الرسائل ١ : ١٢٤.

وذكر السيّد المحقّق الخوئيّ وجها آخر. حاصله : أنّ معنى جعل حجّيّة الأمارات هو جعل الأمارات من أفراد العلم في عالم الاعتبار ، فيكون لليقين فردان : اليقين الوجدانيّ واليقين الجعليّ الاعتباريّ ، فكما لو علمنا ـ علما وجدانيّا ـ بحكم من الأحكام ثمّ شككنا في بقائه نرجع إلى الاستصحاب كذلك إذا قامت الأمارة على حكم ثمّ شككنا في بقائه.

مصباح الاصول ٣ : ٩٩.

(١) معطوف على قوله : «بقاء الخاصّ».

(٢) أي : كان استصحاب الكلّيّ كاستصحاب الجزئيّ بلا كلام.

هذا هو القسم الأوّل من الأقسام الثلاثة لاستصحاب الكلّيّ. وهو ما إذا علم بوجود الكلّي في ضمن فرد معيّن ، ثمّ شكّ في بقاء الكلّي من جهة الشك في بقاء ذلك الفرد ، مثلا : علم بوجود الإنسان في الدار لعلمه بوجود زيد فيها ، ثمّ شكّ في بقاء زيد في الدار ، فيلزم منه الشكّ في بقاء الإنسان الكلّي.

(٣) هذا هو القسم الثاني من استصحاب الكلّي ، وهو ما إذا علم بوجود الكلّي في ضمن فرد مردّد بين طويل البقاء وقصير البقاء ، فيشكّ في بقاء الكلّي بعد مضيّ زمان ، فإن كان الفرد طويل البقاء تيقّن بوجود الكلّيّ في ضمنه في الزمان الثاني ، وإن كان قصير البقاء تيقّن بعدم وجود الكلّي في الزمان الثاني. مثاله : ما إذا علم بخروج سائل مردّد بين البول والمني ، ثمّ توضّأ ، فيتحقّق لديه الشكّ في بقاء كلّيّ الحدث من جهة أنّه إن كان السائل بولا فيكون حدثه أصغر وقد ارتفع بالوضوء جزما ، وإن كان منيّا فيكون حدثه أكبر ولم يرتفع بالوضوء قطعا.

٢١٦

عقلا أو شرعا من أحكامه ولوازمه.

وتردّد ذاك الخاصّ ـ الّذي يكون الكلّيّ موجودا في ضمنه ، ويكون وجوده بعين وجوده ـ بين متيقّن الارتفاع ومشكوك الحدوث المحكوم بعدم حدوثه (١) غير ضائر (٢) باستصحاب الكلّيّ المتحقّق في ضمنه مع عدم إخلاله (٣) باليقين والشكّ في حدوثه وبقائه. وإنّما كان التردّد بين الفردين ضائرا باستصحاب أحد الخاصّين اللّذين كان أمره مردّدا بينهما ، لإخلاله باليقين الّذي هو أحد ركني الاستصحاب ، كما لا يخفى (٤). نعم ، يجب رعاية التكاليف المعلومة إجمالا

__________________

(١) هذا أحد الإشكالات على جريان الاستصحاب في القسم الثاني. وتعرّض له الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٣ : ١٩٢.

حاصل الإشكال : أنّه لا ريب في بقاء الكلّي قبل مضيّ زمان الفرد القصير ، بل انّما يشكّ بعد مضيّ زمان القصير ، وحينئذ لو كان الفرد المردّد الّذي يكون الكلّي موجودا في ضمنه هو الفرد القصير فيقطع بارتفاعه بعد مضيّ زمانه ، ولو كان هو الفرد الطويل فهو مشكوك الحدوث ويجري فيه استصحاب العدم ، فيصير محكوما بعدم الحدوث تعبّدا.

والحاصل : أنّ الشكّ منتف بضميمة الوجدان إلى الأصل والتعبّد.

(٢) خبر قوله : «وتردّد ...».

(٣) أي : عدم إخلال التردّد المذكور.

(٤) وحاصل الجواب : أنّ الكلّي بوصف الكلّيّة متيقّن الحدوث ومشكوك البقاء ، فيتمّ فيه ركنا الاستصحاب. نعم ، لا يتمّ ركنا الاستصحاب بالنسبة إلى الخاصّين ، أمّا بالنسبة إلى القصير فلعدم الشكّ في بقائه بعد مضيّ زمانه ، وأمّا بالنسبة إلى الطويل فلعدم اليقين بحدوثه ، فينهدم أحد ركني الاستصحاب.

وأجاب المحقّق الأصفهانيّ عن الإشكال بوجه أدق. وحاصله : أنّ ما هو معلوم الارتفاع ـ إمّا وجدانا أو تعبّدا ـ هو الحصّة من الكلّي بمالها من الخصوصيّة والتعيّن الخاصّ ، الّتي لا يقين بحدوثه أيضا ، فلم يتحقّق فيه الركنان معا. وأمّا ذات الحصّة المتعيّنة واقعا ـ أي ذات الكلّيّ الطبيعيّ لا بما لها من التعيّن الخاصّ بهذا الفرد أو ذاك الفرد ـ فمتيقّنة الحدوث في الزمان الأوّل ومشكوكة البقاء في الزمان الثاني ، إذ لا علم بارتفاعها ، بل يشكّ في ارتفاعها وبقائها من جهة القطع بزوال التعيّن الخاصّ ـ وهو القصير ـ واحتمال كون تعيّنها هو التعيّن الباقي ـ أي الفرد الطويل ـ ، وارتفاع الفرد لا يقتضي إلّا ارتفاع الحصّة المتعيّنة به. نهاية الدراية ٣ : ١٦٨.

٢١٧

المترتّبة على الخاصّين فيما علم تكليف في البين (١).

وتوهّم «كون الشكّ في بقاء الكلّيّ الّذي في ضمن ذاك المردّد مسبّبا عن الشكّ في حدوث الخاصّ المشكوك حدوثه المحكوم بعدم الحدوث بأصالة عدمه» (٢) فاسد قطعا ، لعدم كون بقائه وارتفاعه من لوازم حدوثه وعدم حدوثه ، بل من لوازم كون الحادث المتيقّن ذاك المتيقّن الارتفاع أو البقاء (٣).

مع أنّ بقاء القدر المشترك إنّما هو بعين بقاء الخاصّ الّذي في ضمنه (٤) ، لا أنّه

__________________

) وبعبارة اخرى : إنّ العلم الإجماليّ بثبوت الحكم لكلّ واحد من الخاصّين يوجب الاحتياط بترتيب الآثار الخاصّة لكلّ واحد من الخاصّين ، ففي مثال السائل المردّد بين البول والمني يجب رعاية التكاليف المعلومة إجمالا المترتّبة على الخاصّين ، كغسل الملاقي به مرّتين وعدم اللبث في المساجد وعدم قراءة العزائم.

(٢) هذا التوهّم تعرّض له الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٣ : ١٩٣.

وحاصل التوهّم : أنّه لا مجال لاستصحاب الكلّيّ في القسم الثاني ، لأنّه محكوم بأصل حاكم عليه ، فإنّ الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل ، فالشكّ في بقاء الحدث مسبّب عن الشكّ في حدوث الجنابة ، فتجري أصالة عدم حدوث الفرد الطويل ـ أي الجنابة ـ ، وهذا الأصل حاكم على أصالة بقاء الكلّيّ ، لحكومة الأصل السببيّ على الأصل المسببيّ.

(٣) وبعبارة اخرى : إنّ الشكّ في بقاء الكلّي وارتفاعه ليس مسبّبا عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل وعدم حدوثه ، بل مسبّب عن الشكّ في خصوصيّة الفرد الحادث وأنّه هل الفرد القصير ليكون مرتفعا قطعا أو الفرد الطويل ليكون باقيا كذلك؟ وبما أنّه لا أصل يعيّن كيفيّة الحادث ـ لعدم حالة سابقة ـ فلا مانع من جريان استصحاب الكلّيّ.

وهذا الجواب ذكره الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٣ : ١٩٣.

وأورد عليه السيّد المحقّق الخوئيّ بأنّ هذا الجواب مبنيّ على عدم جريان الأصل في العدم الأزليّ. وأمّا إذا قلنا بجريانه ـ كما هو الصحيح ـ فلا مانع من جريان أصل عدم كون الحادث طويلا. موسوعة الإمام الخوئيّ (مصباح الاصول) ٤٨ : ١٢٦.

(٤) لأنّ وجود الكلّي عين وجود أفراده ، فبقاء الكلّي عين بقاء الفرد الطويل ، لا من لوازمه ، فلا تكون سببيّة ومسبّبيّة.

ولكن أورد عليه السيّد المحقّق الخوئيّ بأنّ أصالة عدم حدوث الفرد الطويل لو كانت ـ

٢١٨

من لوازمه.

على أنّه لو سلّم أنّه من لوازم حدوث المشكوك (١) ، فلا شبهة في كون اللزوم عقليّا ، ولا يكاد (٢) يترتّب بأصالة عدم الحدوث إلّا ما هو من لوازمه وأحكامه شرعا (٣).

__________________

ـ مانعة عن استصحاب الكلّي بناء على السببيّة فهي مانعة عنه بطريق أولى على القول بالعينيّة. موسوعة الإمام الخوئيّ (مصباح الاصول) ٤٨ : ١٢٧.

(١) أي : لو سلّم أنّ بقاء القدر المشترك ـ أي الكلّي ـ يكون من لوازم حدوث الفرد الطويل الّذي حدوثه مشكوك.

(٢) وفي بعض النسخ : «فلا يكاد». والأولى ما أثبتناه.

(٣) هذا هو الوجه الثالث في الجواب عن التوهّم. وتوضيحه : أنّه لو سلّم أنّ الشك في بقاء الكلّي مسبّب عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل ، إلّا أنّ الميزان في حكومة الأصل السببيّ على الأصل المسبّبيّ أن يكون ثبوت المشكوك الثاني من اللوازم الشرعيّة للأصل السببيّ ـ كما في استصحاب الطهارة بالنسبة إلى قاعدة الطهارة ، فإنّ استصحاب الطهارة يرفع الشكّ في الطهارة ويثبتها شرعا ، فيكون حاكما عليها ـ أو يكون انتفاء المشكوك من الآثار الشرعيّة للأصل السببيّ ـ كما في تطهير ثوب متنجّس بماء مستصحب الطهارة ، فإنّ طهارة الثوب المغسول به من الآثار الشرعيّة لاستصحاب طهارة الماء ، فلا يبقى معه شكّ في نجاسة الثوب ليجري فيها الاستصحاب ـ ؛ وليس المقام من قبيل الأوّل ، ولا من قبيل الثاني ، بل عدم بقاء الكلّيّ إنّما يكون من اللوازم العقليّة لعدم حدوث الفرد الطويل ، فلا حكومة له على استصحاب الكلّيّ.

وقد زاد المحقّق النائينيّ وجها رابعا في الجواب عن التوهّم. وحاصله : أنّ الأصل السببيّ لا يكون حاكما على الأصل المسببيّ إلّا إذا لم يعارض بمثله ، وفي المقام يعارض بمثله ، فإنّ أصل عدم حدوث الفرد الطويل يعارض أصل عدم حدوث الفرد القصير ، كما أنّ أصل عدم كون الحادث طويلا يعارض أصل عدم كونه قصيرا ، وإذا تعارضا تساقطا ، وبعد سقوط الأصل السببيّ تصل النوبة إلى الأصل المسبّبيّ ، وهو استصحاب بقاء الكلّيّ. فوائد الاصول ٤ : ٤١٨.

ولكن أورد عليه تلميذه المحقّق الخوئيّ بأنّ دوران الأمر بين الطويل والقصير يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يكون لكلّ واحد منهما أثر مختصّ به ، ويكون لهما أثر مشترك أيضا ، فحينئذ وإن كان ما ذكر من تعارض الأصلين صحيحا ، إلّا أنّه لا فائدة في جريان الاستصحاب في الكلّيّ ، لتنجّز الآثار الشرعيّة بواسطة العلم الإجماليّ ، فيجب رعاية الاحتياط وترتيب آثار الكلّيّ.

ثانيهما : أن يكون لهما أثر مشترك ، ويكون للفرد الطويل فقط أثر مختصّ به. فحينئذ ـ

٢١٩

وأمّا إذا كان الشكّ في بقائه من جهة الشكّ في قيام خاصّ آخر في مقام ذاك الخاصّ الّذي كان في ضمنه بعد القطع بارتفاعه (١) ، ففي استصحابه إشكال ، أظهره عدم جريانه ، فإنّ وجود الطبيعيّ وإن كان بوجود فرده إلّا أنّ وجوده في ضمن المتعدّد من أفراده ليس من نحو وجود واحد له ، بل متعدّد حسب تعدّدها ، فلو قطع بارتفاعه ما علم وجوده منها لقطع بارتفاع وجوده ، وإن شكّ في وجود فرد آخر مقارن لوجود ذاك الفرد أو لارتفاعه بنفسه أو بملاكه ، كما إذا شكّ في الاستحباب بعد القطع بارتفاع الإيجاب بملاك مقارن أو حادث.

__________________

ـ يكون أصالة عدم حدوث الفرد الطويل ـ وهو الأصل السببيّ ـ بلا معارض ، فيكون حاكما على استصحاب الكلّيّ ، لعدم جريان الأصل في الفرد الصغير ، حيث لا يترتّب أثر عليه. موسوعة الإمام الخوئيّ (مصباح الاصول) ٤٨ : ١٢٧ ـ ١٢٨.

(١) وبتعبير أوضح : وأمّا إذا كان الشكّ في بقاء الكلّي مستندا إلى أنّه علم بوجود الكلّيّ في ضمن فرد معيّن ، ثمّ علم بزوال ذلك الفرد وشكّ في وجود فرد آخر غير الفرد المعلوم حدوثه وزواله ، فهو على نحوين :

أحدهما : أن يحتمل حدوث الفرد الآخر في ظرف وجود الفرد الأوّل ، كما إذا علم بوجود الإنسان في الدار للعلم بوجود زيد فيها ، ثمّ علم بخروج زيد من الدار واحتمل دخول عمرو فيها قبل خروج زيد منها.

ثانيهما : أن يحتمل حدوث الفرد الآخر مقارنا لارتفاع الفرد الأوّل.

ذهب الشيخ الأعظم الأنصاريّ إلى التفصيل بين النحوين ، فقال بجريان الاستصحاب في الأوّل دون الثاني. فرائد الاصول ٣ : ١٩٥ ـ ١٩٦.

واختار المصنّف قدس‌سره عدم جريانه في القسم الثالث مطلقا. وتبعه الأعلام الثلاثة ، واستثنوا ما إذا كان الفرد المشكوك حدوثه من مراتب الفرد المعلوم الزوال ، كما إذا علم بثبوت كلّيّ السواد في ثوب ، لاتّصافه بمرتبة شديدة منه ، ثمّ علم بزوال تلك المرتبة الشديدة وشكّ في تبدّلها إلى مرتبة ضعيفة منه أو زوالها بالمرّة وحدوث لون آخر. راجع نهاية الدراية ٣ : ١٧٧ ـ ١٧٨ ، فوائد الاصول ٤ : ٤٢٤ ، نهاية الأفكار ٤ : ١٣٤.

وتبعهم السيّدان العلمان ـ الإمام الخمينيّ والمحقّق الخوئيّ ـ ، وخالفهم في استثناء المورد المذكور ، فأفادا أنّ هذا المورد ليس من موارد استصحاب القسم الثالث ، بل يكون من موارد استصحاب القسم الأوّل ، فاستثناؤه من الاستثناء المنقطع. الرسائل ١ : ١٣٢ ـ ١٣٣ ، مصباح الاصول ٣ : ١١٤ ـ ١١٦.

٢٢٠