كفاية الأصول - ج ٣

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-562-2
الصفحات: ٤٤٣

ولا يخفى : أنّه مع استقلاله بذلك (١) لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته (٢) ، فلا يكون مجال هاهنا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل كي يتوهّم أنّها تكون بيانا. كما أنّه مع احتماله لا حاجة إلى القاعدة ، بل في صورة المصادفة استحقّ العقوبة (٣) على المخالفة ولو قيل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل (٤).

__________________

ـ الواقعيّ ليس مستندا إلى تقصير من المكلّف بعد إعمال وظيفته من الفحص عن الدليل ، بل فواته إمّا أن يكون مستندا إلى أنّ المولى نفسه لم يستوف مراده ببيان يمكن وصول العبد إليه عادة ، وإمّا أن يكون مستندا إلى بعض الأسباب الّتي توجب اختفاء مراد المولى على المكلّف.

الثاني : أنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لأجل أنّ استحقاق الثواب والعقاب يدوران مدار الإطاعة والعصيان ، وهما يدوران مدار وجود التكليف الواصل إلى المكلّف وعدمه ، ضرورة أنّ المحرّك للعبد نحو عمل أو الزاجر له عنه إنّما هو التكليف الواصل إليه ، لا مجرّد وجوده الواقعيّ. وعليه فلا عصيان مع مخالفة التكليف غير الواصل إليه ، فلا عقوبة أيضا في مخالفته ، فإنّ العقوبة على مخالفته ـ حينئذ ـ عقوبة على ما لا يقتضي محرّكيّة المكلّف نحو مراد المولى ، بل عقاب على ما لا يوجب استحقاق العقوبة ، وهو قبيح عقلا.

الثالث : أنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لأجل كونه من صغريات الظلم المحكوم بقبحه. بيان ذلك : أنّ مخالفة التكليف الحقيقيّ الّذي قامت عليه الحجّة من أفراد الظلم ، لأنّه خروج من زيّ الرقّيّة ورسم العبوديّة ، وهو ظلم من العبد إلى مولاه ، فيستحقّ منه الذمّ والعقاب. بخلاف ما إذا خالف التكليف الواقعيّ الّذي لم تقم عليه الحجّة ، فإنّه ليس من أفراد الظلم ، إذ ليس زيّ الرقّيّة أن لا يخالف العبد مولاه في الواقع ، فليس مخالفة ما لم تقم الحجّة خروجا من زيّ الرقّيّة حتّى يكون ظلما من العبد إلى مولاه ، بل هو ظلم من المولى إلى عبده ، وهو قبيح من كلّ أحد بالإضافة إلى كلّ أحد ولو من المولى إلى عبده.

ويستفاد الأمران الأوّلان من كلمات المحقّق النائينيّ في فوائد الاصول ٣ : ٢١٥ و ٣٦٥ ـ ٣٦٦ وأجود التقريرات ٢ : ١٧٦. كما أنّ الأمر الثالث يستفاد من كلمات المحقّق الاصفهانيّ في نهاية الدراية ٢ : ٤٦١ ـ ٤٦٢.

(١) أي : مع استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان.

(٢) إذ مع حكم العقل بقبح العقاب مع عدم وصول التكليف إلى المكلّف لا يبقى احتمال الضرر ليجب دفعه بحكم العقل ، بل معه يرفع موضوع حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فتكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان واردة على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

(٣) والأولى أن يقول : «يستحقّ العقوبة».

(٤) والحاصل : أنّه إذا جرت قاعدة قبح العقاب بلا بيان في مورد فلا تجري قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، لأنّ موضوع الثانية احتمال الضرر ، والاولى تنفي احتماله ، فيرتفع بها ـ

٤١

وأمّا ضرر غير العقوبة (١) : فهو وإن كان محتملا ، إلّا أنّ المتيقّن منه ـ فضلا عن محتمله ـ ليس بواجب الدفع شرعا ولا عقلا ، ضرورة عدم القبح في تحمّل بعض المضارّ ببعض الدواعي عقلا (٢) وجوازه شرعا (٣). مع أنّ احتمال الحرمة أو الوجوب لا يلازم احتمال المضرّة وإن كان ملازما لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة ، لوضوح أنّ المصالح والمفاسد الّتي تكون مناطات الأحكام ـ وقد استقلّ العقل بحسن الأفعال الّتي تكون ذات المصالح وقبح ما كان ذات المفاسد ـ ليست براجعة إلى المنافع والمضارّ ، وكثيرا ما يكون محتمل التكليف مأمون الضرر. نعم ، ربما تكون المنفعة أو المضرّة مناطا للحكم شرعا وعقلا.

إن قلت : نعم ، ولكنّ العقل يستقلّ بقبح الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته ، وأنّه كالإقدام على ما علم مفسدته ، كما استدلّ به شيخ الطائفة قدس‌سره على أنّ الأشياء على الحظر أو الوقف (٤).

__________________

ـ موضوع الثانية. وإذا لم تجر قاعدة قبح العقاب بلا بيان في مورد واحتمل الضرر الاخرويّ ـ وهو العقاب ـ فيحكم العقل بلزوم اجتناب ذلك الضرر المحتمل واستحقاق العقوبة على المخالفة في صورة المصادفة للواقع ، سواء قلنا بقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل أو قلنا بعدم وجوبه.

وبالجملة : أنّه لو سلّم صحّة أصل قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل فلا مجال لها في المقام.

وقال المحقّق الاصفهانيّ : «إنّ قاعدة دفع الضرر ليست قاعدة عقليّة ولا عقلائيّة بوجه من الوجوه. نعم كلّ ذي شعور بالجبلّة والطبع حيث أنّه يحبّ نفسه يفرّ ممّا يؤذيه ، وهذا الفرار الجبلّي ليس ملاكا لمسألة الاحتياط». نهاية الدراية ٢ : ٤٦٧.

(١) أي : الضرر الدنيويّ.

(٢) كبذل المال لجلب اعتماد الناس.

(٣) كجواز بذل المال لإقامة شعائر الدين.

(٤) هكذا في بعض النسخ. وفي بعضها : «على الحظر والوقف». والصحيح أن يقول : «على الوقف» ، فإنّ شيخ الطائفة استدلّ به على الوقف ، لا على الحظر أو الوقف. وإليك نصّ كلامه :«وذهب كثير من الناس إلى أنّها على الوقف ، ويجوّز كلّ واحد من الأمرين فيه ، وينتظر ورود السمع بواحد منهما. وهذا المذهب كان ينصره شيخنا أبو عبد الله رحمه‌الله. وهو الّذي يقوى في نفسي». العدّة في اصول الفقه ٢ : ٧٤٢. ـ

٤٢

قلت : استقلاله بذلك ممنوع ، والسند شهادة الوجدان ومراجعة ديدن العقلاء من أهل الملل والأديان ، حيث إنّهم لا يحترزون ممّا لا تؤمن مفسدته ولا يعاملون معه معاملة ما علم مفسدته ، كيف! وقد أذن الشارع بالإقدام عليه (١) ، ولا يكاد يأذن بارتكاب القبيح ، فتأمّل.

[أدلّة المحدّثين على وجوب الاحتياط]

واحتجّ للقول بوجوب الاحتياط فيما لم تقم فيه حجّة بالأدلّة الثلاثة :

[الدليل الأوّل ، والجواب عنه]

أمّا «الكتاب» : فبالآيات الناهية عن القول بغير العلم (٢) وعن الإلقاء في التهلكة(٣) والآمرة بالتقوى (٤).

والجواب : أنّ القول بالإباحة شرعا وبالأمن من العقوبة عقلا ليس قولا بغير

__________________

ـ وحاصل الإشكال : أنّ احتمال التكليف الإلزاميّ وإن لم يكن ملازما لاحتمال المنفعة أو المضرّة ، فلا يلازمان احتمال العقاب الاخرويّ ، إلّا أنّ العقل يحكم بقبح الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته ، كما يحكم بقبحه على ما علم مفسدته. ومعلوم أنّ محتمل الحرمة ممّا لا تؤمن مفسدته ، فيجب الاجتناب عنه بمقتضى حكم العقل بقبح الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته.

وبالجملة : تكون قاعدة قبح الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته رافعا لموضوع قبح العقاب بلا بيان ، لأنّها صالحة للبيانيّة.

(١) كما قال عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه». وسائل الشيعة ١٢ : ٥٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

(٢) كقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) الإسراء / ٣٦ ، وقوله تعالى : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) الأعراف / ٣٣.

(٣) كقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) البقرة / ١٩٥.

(٤) كقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) آل عمران / ١٠٢ ، وقوله تعالى : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) الحجّ / ٧٨ ، وقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) التغابن / ١٦. وتعرّض للاستدلال بها المحقّق البحرانيّ في الحدائق الناضرة ١١ : ٢٩.

٤٣

علم ، لما دلّ على الإباحة من النقل وعلى البراءة من حكم العقل ، ومعهما لا مهلكة في اقتحام الشبهة أصلا ، ولا فيه مخالفة التقوى ، كما لا يخفى.

[الدليل الثاني ، والجواب عنه]

وأمّا «الأخبار» : فبما دلّ على وجوب التوقّف عند الشبهة ـ معلّلا في بعضها بأنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في التهلكة (١) ـ من الأخبار الكثيرة الدالّة عليه مطابقة أو التزاما (٢).

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «في المهلكة». والأولى ما أثبتناه ، فإنّه الموافق لنصّ الأخبار.

(٢) فالأخبار الدالّة على وجوب التوقّف على طوائف ثلاث :

إحداها : الأخبار المعلّلة الدالّة على وجوب التوقّف مطابقة. وهي عدّة روايات :

منها : مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات». وسائل الشيعة ١٨ : ٧٥ ـ ٧٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ١.

ومنها : خبر أبي سعيد الزهريّ عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ...». وسائل الشيعة ١٨ : ١١٢ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٢.

ومنها : خبر داود بن فرقد ، وموثّقة مسعدة بن زياد ، وخبر السكونيّ. فراجع وسائل الشيعة ١٨ : ١١٥ و ١١٦ و ١٢٦ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٣ و ١٥ و ٥٠.

وثانيتها : الأخبار غير المعلّلة الّتي تدلّ على وجوبه مطابقة. وهي أيضا عدّة روايات :

منها : ما رواه جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام في وصيّة له لأصحابه ، قال : «إذا اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا». وسائل الشيعة ١٨ : ١٢٣ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٣.

ومنها : رواية عبد الله بن جندب عن الرضا عليه‌السلام ، قال : «والواجب لهم من ذلك الوقوف عند التحيّر وردّ ما جهلوه من ذلك إلى عالمه ...». وسائل الشيعة ١٨ : ١٢٥ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٩.

ومنها : ما رواه الميثمي عن الرضا عليه‌السلام ـ في اختلاف الأحاديث ـ ، قال : «وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه». وسائل الشيعة ١٨ : ١٢١ ، الباب ١٢ ، الحديث ٣١.

وثالثتها : الأخبار الدالّة على وجوب التوقّف التزاما. وهي كثيرة : ـ

٤٤

وبما دلّ على وجوب الاحتياط من الأخبار الواردة بألسنة مختلفة (١).

والجواب : أنّه لا تهلكة (٢) في الشبهة البدويّة مع دلالة النقل [على الإباحة] (٣) وحكم العقل بالبراءة ، كما عرفت.

وما دلّ على وجوب الاحتياط لو سلّم (٤) وإن كان واردا على حكم العقل (٥) ، فإنّه كفى بيانا على العقوبة على مخالفة التكليف المجهول (٦)

__________________

ـ منها : موثّقة حمزة بن طيّار ، أنّه عرض على أبي عبد الله عليه‌السلام بعض خطب أبيه عليه‌السلام ، حتّى إذا بلغ موضعا منها ، قال له : «كفّ واسكت». ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّه لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا تعلمون إلّا الكفّ عنه والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى حتّى يحملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرّفوكم فيه الحقّ ، قال الله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) النحل / ٤٣». وسائل الشيعة ١٨ : ١١٢ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣.

ومنها : حسنة هشام بن سالم ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما حقّ الله على خلقه؟ قال : «أن يقولوا ما يعلمون ويكفوا عمّا لا يعلمون ، فإذا فعلوا ذلك فقد أدّوا إلى الله حقّه». المصدر السابق ، الحديث٤.

(١) منها : صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منها جزاء؟ قال : «لا ، بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد». قلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه. فقال : «إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا». وسائل الشيعة ١٨ : ١١١ ـ ١١٢ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

ومنها : ما من عبد الله بن وضّاح ، أنّه كتب إلى العبد الصالح عليه‌السلام يسأله عن وقت المغرب والإفطار ، فكتب إليه : «أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة وتأخّر بالحائطة لدينك». وسائل الشيعة ١٨ : ١٢٢ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٧.

ومنها : ما عن الرضا عليه‌السلام : «أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لكميل بن زياد : أخوك لدينك ، فاحتط لدينك بما شئت». وسائل الشيعة ١٨ : ١٢٣ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤١.

(٢) وفي بعض النسخ : «لا مهلكة».

(٣) وما بين المعقوفتين ليس في النسخ. والصحيح إثباته.

(٤) أي : لو سلّم دلالتها على وجوب الاحتياط ، فإنّه يمكن المناقشة فيها بدعوى وجود قرائن على أنّ الأمر فيها للاستحباب أو الإرشاد ، كما سيأتي.

(٥) وهو حكمه بقبح العقاب بلا بيان.

(٦) فإنّ وجوب الاحتياط حكم ظاهريّ وبيان للوظيفة الفعليّة ومصحّح للعقوبة على مخالفة ـ

٤٥

ـ ولا يصغى (١) إلى ما قيل (٢) من : «أنّ إيجاب الاحتياط إن كان مقدّمة للتحرّز عن عقاب الواقع المجهول فهو قبيح ، وإن كان نفسيّا فالعقاب على مخالفته لا على مخالفة الواقع». وذلك (٣) لما عرفت (٤) من أنّ إيجابه يكون طريقيّا ، وهو عقلا ممّا يصحّ أن يحتجّ به على المؤاخذة في مخالة الشبهة ، كما هو الحال في أوامر الطرق والأمارات والاصول العمليّة (٥) ـ ، إلّا

__________________

ـ التكليف المجهول.

(١) أي : ولا يمال.

(٢) والقائل الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٢ : ٧١.

(٣) أي : عدم الإصغاء إلى ما قيل.

(٤) في الصفحة : ١٩ و ٣٦ من هذا الجزء.

(٥) ولا يخفى عليك : أنّ قوله : «ولا يصغى» إلى قوله «والاصول العمليّة» تعريض بما أجاب به الشيخ الأعظم عن أخبار وجوب الوقوف ، لا عن أخبار وجوب الاحتياط. ولذا كان الأولى أن يقدّم هذه العبارة على قوله : «وما دلّ على وجوب الاحتياط ...».

نعم ، وجّه المحشّي المشكينيّ ذكرها في المقام بقوله : «لمّا كان على تقدير تماميّته جاريا في مطلق إيجاب الاحتياط ذكره المصنّف في المقام». راجع كفاية الاصول (الطبع الحجريّ) ٢ : ١٨٤.

وكيف كان فالمهمّ توضيح ما أفاده الشيخ الأعظم وما اعترض عليه المصنّف رحمه‌الله في المقام.

أمّا الشيخ الأعظم : فإنّه ـ بعد الجواب عن أخبار الوقوف بحمل الأمر فيها على الطلب المشترك بين الوجوب والندب ـ أورد على نفسه إشكالا ، ثمّ أجاب عنه :

أمّا الإشكال : فحاصله : أنّ أخبار الوقوف دلّت على أنّ كلّ محتمل التكليف مظنّة للاقتحام في الهلكة. وبما أنّ ثبوت الهلكة بمجرّد ثبوت الحكم في الواقع ومن دون بيّنة للمكلّف من مصاديق العقاب بلا بيان ، وهو قبيح عقلا ، فيستكشف من ذلك أنّ هناك أمر شرعيّ مصحّح للعقاب المحتمل على تقدير وجوده ، وهو الأمر بالاحتياط ، فتكشف أخبار الوقوف عن إيجاب الشارع للاحتياط.

وأمّا الجواب : فحاصله : أنّ الأمر بالاحتياط المستكشف من أخبار الوقوف لا يصحّح العقاب على التكليف الواقعيّ المجهول. وذلك لأنّ إيجاب الاحتياط المستكشف من الروايات المذكورة إمّا أن يكون أمرا مقدّميّا أو يكون نفسيّا :

أمّا الأوّل : فلا يجدي في تصحيح العقوبة ، لأنّ الأمر الغيريّ لا تستتبع مخالفته العقاب ، فتصير العقوبة بلا مصحّح.

وأمّا الثاني : فهو وإن كان مصحّحا للعقوبة ، لترتّب العقوبة على مخالفة الواجب النفسيّ ، إلّا أنّه غير مستفاد من الروايات ، ضرورة أنّه إذا كان الأمر بالاحتياط نفسيّا فلا بدّ من ـ

٤٦

__________________

ـ أن يترتّب العقاب على مخالفة الأمر به بنفسه ، لا على مخالفة الواقع ، مع أنّ صريح أخبار الوقوف ترتّب العقوبة على مخالفة الواقع ، حيث كان مفادها وجوب التوقّف والاحتياط لأجل الاجتناب عن الهلكة المحتملة المترتّبة على الاقتحام في الشبهات.

والحاصل : أنّه لا بدّ من حمل أخبار الوقوف على الإرشاد إلى حكم العقل بلزوم الاجتناب عن الضرر المحتمل ، فلا يعارض مع أدلّة البراءة الظاهرة في جواز ارتكاب مشتبه الحكم. انتهى ما أفاده الشيخ الأعظم في فرائد الاصول ٢ : ٧١.

وأمّا المصنّف رحمه‌الله : فقد اعترض عليه بأنّ الأمر المولويّ بالاحتياط لا ينحصر في هذين القسمين ، بل هناك قسم آخر ، وهو الأمر الطريقيّ ، بمعنى أنّ الشارع أمر بالاحتياط لأجل كونه موجبا لحفظ الواقع وعدم الوقوع في مخالفة الحرام أو الواجب ، فيكون حجّة على التكليف الواقعيّ المجهول وموجبا لتنجّزه. وحينئذ فإذا خالف الواقع بترك الاحتياط استحقّ المؤاخذة على مخالفته ، لعدم صحّة العذر بعدم البيان ، فإنّ الأمر بالاحتياط الصادر من الشارع بيان ، فيكون العقاب على مخالفة الواقع المجهول عقاب مع البيان.

وعليه يمكن القول بأنّ الأمر بالاحتياط المستكشف بالروايات المذكورة يصحّح استحقاق العقوبة على مخالفة الشبهة ، لأنّه بيان. ولا يصغى إلى ما أفاده الشيخ الأعظم.

وقد ذكر المحقّق الأصفهانيّ وجهين آخرين في تقريب استكشاف الأمر المولويّ الطريقيّ بالاحتياط من الروايات المذكورة.

والوجهان يبتنيان على أمرين :

أحدهما : كون الشبهة شاملة للشبهة البدويّة.

ثانيهما : ظهور الهلكة في العقوبة ، لا فيما يعمّ المفسدة.

الوجه الأوّل : استكشافه من التعليل بأنّ الوقوف في الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ، فإنّ هذا التعليل يدلّ على أنّ الإقدام في كلّ شبهة اقتحام في العقوبة ؛ وبما أنّ العقوبة من آثار مخالفة الأمر المولويّ فيستكشف من التعليل المذكور ـ صونا للكلام عن اللغويّة ـ أنّ مصحّح العقوبة هو الأمر الطريقيّ الواصل مطلقا ، ولو كان وصوله من طريق وصول معلوله ، وهو العقوبة في كلّ شبهة ، ضرورة أنّه يمكن وصول النهي بوصول ما يترتّب عليه من العقوبة ، كما يمكن وصول الأمر بوصول ما يترتّب عليه من الثواب.

الوجه الثاني : استكشافه من الأمر بالتوقّف في الشبهات ، فإنّ أمر المخاطبين بالتوقّف المعلّل بهذه العلّة يكشف عن وصول الأمر الطريقيّ بالاحتياط إليهم ، وهذا ممّا لا مانع من احتماله في حقّ المخاطب ، وبضميمة قاعدة اشتراك الغائبين والمعدومين ـ

٤٧

أنّها (١) يعارض بما هو أخصّ وأظهر ، ضرورة أنّ ما دلّ على حلّيّة المشتبه أخصّ ، بل هو في الدلالة على الحلّيّة نصّ ، وما دلّ الاحتياط غايته أنّه ظاهر في وجوب الاحتياط (٢).

__________________

ـ مع المخاطبين في التكليف يستكشف ذلك الأمر الطريقيّ في حقّ غير المخاطبين ، فيكون أمر المخاطبين بالتوقّف بضميمة قاعدة الاشتراك كاشفا عن إيجاب الاحتياط طريقيّا في الشبهة البدويّة.

ثمّ أورد على الوجهين بمنع إرادة العقوبة الاخرويّة من الهلكة. هذا ملخّص كلامه ، وإن شئت فراجع نهاية الدراية ٢ : ٤٧٥ ـ ٤٧٧.

(١) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «إلّا أنّه ...» ، فإنّ الضمير يرجع إلى ما دلّ على وجوب الاحتياط.

(٢) لا يخفي : أنّ العبارة غير خالية من القصور. والصحيح سوق العبارة هكذا : «ضرورة أنّ ما دلّ على حلّيّة المشتبه أخصّ موضوعا وأظهر دلالة ـ بل في بعضه في الدلالة على الحلّيّة نصّ ـ ، وما دلّ على الاحتياط أعمّ موضوعا وظاهر في وجوب الاحتياط دلالة».

وتوضيح ما أفاده : أنّ أخبار الاحتياط ـ بعد تسليم دلالتها على وجوب الاحتياط ـ وإن كانت واردة على حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، إلّا أنّها تعارض بأخبار البراءة ، ويتعيّن تقديمها على أخبار الاحتياط لوجهين :

أحدهما : أنّ أخبار البراءة أخصّ موضوعا من موضوع أخبار الاحتياط ، لأنّ ما دلّ على البراءة ـ من حديث الرفع ، وحديث الحلّ ، وحديث السعة ـ إنّما يشمل الشبهات بعد الفحص ؛ وأمّا الشبهات قبل الفحص فلا خلاف بين الاصوليّ والأخباريّ في وجوب الاحتياط فيها. بخلاف ما دلّ على وجوب الاحتياط ، فإنّ مثل قوله عليه‌السلام :«فعليكم بالاحتياط» وقوله عليه‌السلام : «فاحتط لدينك» يدلّ على الاحتياط مطلقا ، قبل الفحص وبعده. فيكون ما دلّ عليه عامّا وما دلّ عليها خاصّا. وحينئذ يجب تخصيص العامّ بالخاصّ. فيحصّل : أنّه يجب الاحتياط في كلّ شبهة ، إلّا الشبهات البدويّة بعد الفحص ، وهو المطلوب.

وثانيهما : أنّ أخبار الاحتياط ظاهرة في وجوب الاحتياط ، وأخبار البراءة بعضها أظهر منها في الدلالة على حلّيّة المشتبه ـ كحديث الرفع وحديث السعة ـ ، وبعضها نصّ في الدلالة على الحلّيّة ـ كحديث الحلّ ـ. ومعلوم أنّ النص والأظهر مقدّم على الظاهر.

٤٨

مع أنّ هناك قرائن دالّة على أنّه (١) للإرشاد (٢) ، فيختلف إيجابا واستحبابا حسب اختلاف ما يرشد إليه.

ويؤيّده أنّه لو لم يكن للإرشاد لوجب تخصيصه لا محالة ببعض الشبهات إجماعا ، مع أنّه آب عن التخصيص قطعا ؛ كيف لا يكون قوله : «قف عند الشبهة ، فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المهلكة» (٣) للإرشاد! مع أنّ المهلكة ظاهرة في العقوبة ، ولا عقوبة في الشبهة البدويّة قبل إيجاب الوقوف والاحتياط ، فكيف يعلّل إيجابه بأنّه خير من الاقتحام في المهلكة؟! (٤).

__________________

(١) أي : الأمر بالتوقّف والاحتياط.

(٢) والقرائن الدالّة عليه كثيرة :

منها : أنّه لو لم يكن الأمر للإرشاد يلزم تخصيص الأكثر ، ضرورة أنّ موضوع الأمر بالتوقّف والاحتياط هو عنوان «الشبهة» ، وهو يصدق على كلّ شبهة. فإذا حملنا الأمر بالاحتياط على ظاهره من الأمر المولويّ اللزوميّ يستلزم شموله بظاهره للشبهات مطلقا. ومن المعلوم أنّ جريان البراءة في غير الشبهة الحكميّة التحريميّة من المتّفق عليه بين الأخباريّ والاصوليّ ، فيخصّص الأمر بالاحتياط بالشبهة الحكميّة الوجوبيّة والشبهة الموضوعيّة بكلا قسميه ، فيلزم حينئذ تخصيص الأكثر ، وهو مستهجن.

ومنها : بيان حكمة طلب التوقّف في بعض الروايات من أنّه سبب للتحرّز عن المحذور.

ومنها : ظهور قوله عليه‌السلام : «فمن ارتكب الشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم» في ترتّب الهلكة على ارتكاب الشبهة ، لا على مخالفة الأمر بالتوقّف.

ومنها : ما أشار إليه في المتن من إباء سياق الروايات من التخصيص.

(٣) هذا مضمون الرواية. وإليك نصّها : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة ، وقفوا عند الشبهة ... فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة». وسائل الشيعة ١٨ : ١١٦ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٥.

(٤) فإنّ الهلكة ـ وهي علّة لإيجاب الاحتياط ـ مقدّمة عليها رتبة ، فإذا ترتّبت الهلكة على إيجاب الاحتياط ـ بدعوى ترتّبها على تركه ـ كانت مؤخّرة عنه ، فيلزم أن يكون كلّ منهما مقدّما على صاحبه ومؤخّرا عنه في آن واحد ، وهو محال. فلا بدّ من القول بعدم ترتّبها على الأمر بالتوقّف والاحتياط ، وإذا لم تترتّب عليه كان للإرشاد.

٤٩

لا يقال (١) : نعم ، ولكنّه يستكشف منه (٢) على نحو الإنّ (٣) إيجاب الاحتياط من قبل (٤) ، ليصحّ به العقوبة على المخالفة.

فإنّه يقال : إنّ مجرّد إيجابه واقعا ما لم يعلم لا يصحّح العقوبة ، ولا يخرجها عن أنّها بلا بيان ولا برهان ، فلا محيص عن اختصاص مثله (٥) بما يتنجّز فيه المشتبه ـ لو كان ـ ، كالشبهة قبل الفحص مطلقا أو الشبهة المقرونة بالعلم الإجماليّ ، فتأمّل جيّدا (٦).

[الدليل الثالث ، والجواب عنه]

[التقرير الأوّل : العلم الإجماليّ]

وأمّا العقل : فلاستقلاله بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل حرمته ـ حيث علم إجمالا بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة فيما اشتبه وجوبه أو حرمته ممّا لم يكن هناك حجّة على حكمه ـ تفريغا للذمّة بعد اشتغالها ؛ ولا خلاف في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجماليّ إلّا من بعض

__________________

(١) هذا الإشكال تعرّض له الشيخ الأعظم الأنصاريّ وأجاب عنه بما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «لا يصغى إلى ما قيل». وأوضحنا الإشكال والجواب عنه ذيل التعليقة (٥) من الصفحة : ٤٦.

(٢) أي : من التعليل الوارد في الروايات المذكورة.

(٣) وهو العلم بالعلّة من العلم بالمعلول. والمراد من العلّة في المقام هو إيجاب الاحتياط ، ومن المعلول هو الهلكة.

(٤) أي : من قبل ورود هذا الحديث وتشريع إيجاب الاحتياط في الشبهات البدويّة.

(٥) أي : مثل هذا التعليل الوارد في الروايات.

(٦) ولا يخفى عليك : أنّ الأعلام من المتأخّرين المعاصرين قد ذكروا طوائف مختلفة من الروايات الّتي يستدل بها على الاحتياط ، ثمّ أجابوا عنها بوجوه أخر غير ما ذكره المصنّف رحمه‌الله في المتن. فلا نطيل الكلام بذكر ما أفادوه. وإن شئت فراجع نهاية الأفكار ٣ : ٢٤٢ ـ ٢٤٧ ، وفوائد الاصول ٣ : ٣٧٢ ـ ٣٧٨.

٥٠

الأصحاب (١).

والجواب : أنّ العقل وإن استقلّ بذلك (٢) ، إلّا أنّه إذا لم ينحلّ العلم الإجماليّ إلى علم تفصيليّ وشكّ بدويّ ، وقد انحلّ هاهنا ، فإنّه كما علم بوجود تكاليف إجمالا كذلك علم إجمالا بثبوت طرق واصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة أو أزيد ، وحينئذ لا علم بتكاليف أخر غير التكاليف الفعليّة في موارد المثبتة من الطرق والاصول العمليّة (٣).

__________________

(١) كما هو الظاهر من كلام المحقّق القمّي في قوانين الاصول ٢ : ٢٥ ، وصاحب المدارك في مدارك الأحكام ١ : ١٠٧ ، والمحقّق السبزواريّ في ذخيرة المعاد : ١٣٨.

ولا يخفى : أنّ ما أفاده المصنّف رحمه‌الله في تقرير هذا الدليل العقليّ يختلف عما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاريّ.

أمّا المصنّف رحمه‌الله : فجعل متعلّق العلم الإجماليّ في المقام مطلق التكاليف الإلزاميّة في الوقائع المشتبهة ، فأدرج الشبهات الوجوبيّة والتحريميّة في محلّ النزاع.

وأمّا الشيخ الأعظم : فجعل متعلّق العلم الإجماليّ في المقام خصوص التكاليف الإلزاميّة التحريميّة في الشبهات التحريميّة ، فأخرج الشبهات الوجوبيّة عن محلّ النزاع. وتبعه على ذلك المحقّقان : النائينيّ والعراقيّ. راجع فرائد الاصول ٢ : ٨٧ ، فوائد الاصول ٣ : ٣٧٨ ، نهاية الأفكار ٣ : ٢٤٨.

ولعلّ السرّ فيما أفاده الشيخ الأعظم ومن تبعه أنّ الأخباريّين لم يتمسّكوا بالعلم الإجماليّ في الشبهات الوجوبيّة ولم يلتزموا بوجوب الاحتياط فيها ، فلا نزاع معهم إلّا في الشبهات التحريميّة الناشئة من فقد النص ، فلا جدوى في إدراج الشبهات الوجوبيّة في محلّ النزاع.

(٢) أي : بلزوم الاحتياط.

(٣) هكذا في النسخ. والاولى أن يقول : «غير التكاليف الفعليّة المثبتة من الطرق والأمارات» ، أو يقول : «غير التكاليف الفعليّة المثبتة في موارد الطرق والأمارات» ، أو يقول : «غير التكاليف الفعليّة في موارد الطرق والاصول المثبتة».

وتوضيح الجواب : أنّ لنا علمين إجماليّين :

الأوّل : العلم الإجماليّ الكبير ، وهو ما يكون أطرافه جميع المشتبهات وموارد الأخبار والأمارات المعتبرة وغير المعتبرة. فنعلم إجمالا بوجود تكاليف شرعيّة فيها ، إذ لا معنى للشرع الخالي عن التكليف ، ولا نحتمل مخالفة جميع الأمارات للواقع.

الثاني : العلم الإجماليّ الصغير ، وهو ما يكون أطرافه خصوص موارد قيام الأمارات ـ

٥١

إن قلت : نعم ، لكنّه (١) إذا لم يكن العلم بها (٢) مسبوقا بالعلم بالتكاليف (٣).

__________________

ـ المعتبرة ، فإنّا نعلم إجمالا بمطابقة جملة من الأمارات المعتبرة للواقع. ومعلوم أنّ العقل يحكم بلزوم الاحتياط في أطراف الشبهات إذا لم ينحلّ العلم الإجماليّ الكبير بالعلم الإجماليّ الصغير إلى علم تفصيليّ وشكّ بدويّ ، وإلّا فلا يحكم به. وقد انحلّ العلم الإجماليّ الكبير هاهنا. والوجه في انحلاله انّا نعلم بالعلم الإجماليّ الصغير بمطابقة جملة من مؤدّيات الأمارات المعتبرة للواقع ، ونعلم أيضا أن لا يكون المعلوم بالإجمال في العلم الإجماليّ الصغير أقلّ عددا من المعلوم بالإجمال في العلم الإجماليّ الكبير ، بحيث لو أفرزنا من أطراف العلم الإجماليّ الكبير بمقدار المعلوم بالإجمال في العلم الإجماليّ الصغير لم يبق لنا علم إجماليّ في بقيّة الأطراف. مثلا : إذا علمنا إجمالا بوجود مائة حكم ـ مثلا ـ في جميع المشتبهات وموارد الأخبار والأمارات المعتبرة وغير المعتبرة ، وعلمنا بوجود هذا العدد ـ أو أزيد ـ أيضا في الأمارات المعتبرة ، لم يبق لنا علم إجماليّ بثبوت تكاليف في غير موارد الأمارات المعتبرة ، لإمكان انطباق المعلوم بالإجمال في العلم الإجماليّ الكبير ـ وهو مائة حكم ـ على المعلوم بالإجمال في الصغير ـ وهو أيضا مائة حكم ـ ؛ فحينئذ نعلم تفصيلا بثبوت تلك المائة من التكاليف في الأمارات المعتبرة الّتي نعلم اجمالا بصدور كثير منها ، ونشكّ في ثبوتها في غيرها شكّا بدويّا ، فلا يجب الاحتياط إلّا في أطراف العلم الاجماليّ الصغير ـ وهو موارد الأخبار والأمارات المعتبرة ـ ، وأمّا أطراف العلم الاجماليّ الكبير ـ من الشبهات وموارد الأمارات غير المعتبرة ـ فلا يجب الاحتياط فيها.

ولا يخفى : أنّ ما أفاده المصنّف رحمه‌الله هاهنا في تقرير وجه الانحلال يختلف عما أفاده في تقريره في الوجه الأوّل من الوجوه العقليّة الّتي اقيمت على حجّيّة خبر الواحد ، فإنّه جعل هناك أطراف العلم الإجماليّ الصغير خصوص موارد الأخبار المعتبرة ، وجعل هنا أطرافه الأمارات والاصول المعتبرة ـ كالأخبار والشهرة والسيرة ـ.

(١) أي : الانحلال.

(٢) أي : العلم بالأحكام الّتي هي مؤدّيات الأمارات وموارد الاصول.

(٣) وفي بعض النسخ : «بالواجبات». والصحيح ما أثبتناه.

وتوضيح الإشكال : أنّ العلم الإجماليّ بثبوت تكاليف فعليّة في موارد الطرق والاصول العمليّة المعتبرة متأخّر عن العلم الإجماليّ بثبوتها في مطلق المشتبهات وموارد الأمارات والاصول العمليّة ، ضرورة أنّ العلم الإجماليّ الكبير يحصل من أوّل البلوغ والالتفات إلى الشريعة ، والعلم الإجماليّ الصغير يحصل بعد التتبّع في موارد الطرق والاصول ، فالعلم الإجماليّ الصغير متأخّر عن العلم الإجماليّ الكبير ، والعلم الإجماليّ المتأخّر لا يؤثّر ـ

٥٢

قلت : إنّما يضرّ السبق إذا كان المعلوم اللاحق حادثا ، وأمّا إذا لم يكن كذلك ، بل ممّا ينطبق عليه ما علم أوّلا ، فلا محالة قد انحلّ العلم الإجماليّ إلى التفصيليّ والشكّ البدويّ(١).

إن قلت : إنّما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له بمقدار المعلوم بالإجمال ، ذلك (٢) إذا كان قضيّة قيام الطريق على تكليف موجبا لثبوته فعلا (٣). وأمّا بناء على أنّ قضيّة حجّيّته واعتباره شرعا ليست إلّا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا ـ وهو (٤) تنجّز ما أصابه والعذر عمّا أخطأ عنه ـ فلا انحلال لما علم بالإجمال أوّلا ، كما لا يخفى (٥).

__________________

ـ في انحلال العلم الإجماليّ المتقدّم ، بل انّما يؤثّر في انحلاله ويمنع من تأثيره فيما إذا كان متقدّما عليه أو مقارنا له.

(١) وتوضيح الجواب : أنّ المعتبر في الانحلال هو مطابقة المعلوم بالعلم الإجماليّ الصغير مع المعلوم بالعلم الإجماليّ الكبير ، لا مقارنة العلم الإجماليّ الصغير مع العلم الإجماليّ الكبير أو سبقه عليه ، فإذا تعلّق العلم الإجماليّ الكبير ـ مثلا ـ بإصابة قطرة دم بأحد الإنائين ، ثمّ تعلّق العلم الإجماليّ الصغير بوقوع تلك القطرة في الإناء الأبيض تحقّق انحلال العلم الإجماليّ الكبير بالعلم الإجماليّ الصغير ، سواء كان متأخّرا عنه أو مقارنا له أو سابقا عليه. وكذلك في المقام ، لأنّا نعلم إجمالا بثبوت تلك المائة في موارد الأمارات والاصول المعتبرة ، فيحتمل انطباق المعلوم بالعلم الإجماليّ الكبير على المعلوم بالعلم الإجماليّ الصغير ، فيتّحد المعلومان وينحلّ العلم الإجماليّ الكبير بالعلم الإجماليّ الصغير مطلقا ، سواء تقدّم الصغير على الكبير أو قارنه أو تأخّر عنه.

(٢) مفعول لقوله : «يوجب». والمشار إليه هو الانحلال.

(٣) هكذا في جميع النسخ. والصحيح أن يقول : «إذا كان قيام الطريق على تكليف موجبا لثبوته فعلا» ، أو يقول : «إذا كانت قضيّة قيام الطريق على تكليف ثبوته فعلا».

(٤) أي : ما للطريق المعتبر.

(٥) توضيح الإشكال يتوقّف على تقديم مقدّمة :

وهي : أنّ في حجّيّة الأمارات والطرق مذهبان : (أحدهما) : أنّها حجّة مجعولة على نحو السببيّة ، بمعنى أنّها تكون سببا لحدوث مصلحة في مؤدّاها وموجبا لكونه حكما فعليّا للمكلّف. (ثانيهما) : أنّها مجعولة على نحو الطريقيّة ، بمعنى أنّها مجعولة لتكون طريقا ـ

٥٣

قلت : قضيّة الاعتبار شرعا على اختلاف ألسنة أدلّته وإن كانت ذلك (١) ـ على ما قوّينا في البحث (٢) ـ ، إلّا أنّ نهوض الحجّة على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف ، يكون عقلا بحكم الانحلال وصرف تنجّزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف ، والعذر عمّا إذا كان في سائر الأطراف ؛ مثلا : إذا علم إجمالا بحرمة إناء زيد بين الإنائين ، وقامت البيّنة على أنّ هذا إناؤه ، فلا ينبغي الشكّ في أنّه (٣) كما إذا علم أنّه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلّا عن خصوصه دون الآخر. ولو لا ذلك لما كان يجدي القول بأنّ قضيّة اعتبار الأمارات هي كون المؤدّيات أحكاما شرعيّة فعليّة ، ضرورة أنّها تكون كذلك بسبب حادث ، وهو كونها مؤدّيات الأمارات الشرعيّة.

هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعيّة في موارد الطرق المثبتة بمقدار

__________________

ـ إلى الواقع وكاشفا عنه ، فيترتّب عليها ما يترتّب على الطريق المعتبر من أنّها منجّزة للواقع فيما إذا أصابته ومعذّرة للمكلّف في مخالفته فيما إذا أخطأته.

وذهب المصنّف قدس‌سره إلى الثاني.

إذا عرفت هذه المقدّمة ، فيقال ـ إيرادا على المصنّف قدس‌سره ـ : أنّ الظاهر من كلامه أنّه ادّعى الانحلال الحقيقيّ في المقام ، بمعنى أنّ التتبّع في موارد الطرق والاصول يوجب العلم الإجماليّ بوجود تكاليف واقعيّة فعليّة تؤدّيها الأمارات والاصول ، وهي بمقدار يحتمل انطباقها على الأحكام الواقعيّة المعلومة بالعلم الإجماليّ الكبير ، فينحلّ العلم الإجماليّ الكبير بالعلم الإجماليّ الصغير ، بل يكشف بالعلم الإجماليّ الصغير عدم تعلّق العلم الإجماليّ الكبير بالتكاليف الواقعيّة من أوّل الأمر. وأنت خبير بأنّ دعوى هذا الانحلال إنّما يصحّ على القول بحجّيّة الأمارات على نحو السببيّة ، حيث أنّ مؤدّاها حينئذ تكاليف حقيقيّة فعليّة ، فيحتمل انطباق الأحكام الواقعيّة المعلومة بالعلم الإجماليّ الكبير على تلك المؤدّيات. وأمّا على القول بحجّيّتها على نحو الطريقيّة وأنّ المجعول هو المنجّزيّة والمعذّريّة ـ كما عليه المصنّف قدس‌سره ـ فلا يتمّ ما ذكر ، لعدم كون مؤدّاها تكاليف حقيقيّة فعليّة كي يدّعى احتمال انطباق الأحكام الواقعيّة المعلومة ثبوتها بالعلم الإجماليّ الكبير عليها.

(١) وفي بعض النسخ : «وإن كان ذلك». والصحيح ما أثبتناه. والمشار إليه بقوله : «ذلك» هو ترتيب التنجّز والتعذير.

(٢) من حجّيّة الأمارات على نحو الطريقيّة.

(٣) أي : قيام البيّنة

٥٤

المعلوم بالإجمال ، وإلّا فالانحلال إلى العلم بما في الموارد وانحصار أطرافه بموارد تلك الطرق بلا إشكال ، كما لا يخفى (١).

__________________

(١) حاصل الجواب : دعوى الانحلال الحكميّ بعد تسليم عدم تحقّق الانحلال الحقيقيّ. وتوضيحه موقوف على تقديم مقدّمة :

وهي : أنّه يمكن انحلال العلم الإجماليّ بأحد الوجهين :

الأوّل : الانحلال الحقيقيّ. وهذا على قسمين : (أحدهما) : أن ينحلّ العلم الإجماليّ بواسطة العلم التفصيليّ بالمعلوم بالإجمال ، كما إذا علم إجمالا بوقوع قطرة دم في أحد هذين الإنائين ، ثمّ علم تفصيلا بأنّ قطرة الدم وقعت في الإناء الأبيض مثلا. (ثانيهما) : أن ينحلّ العلم الإجماليّ بواسطة انكشاف عدم تعلّق العلم الإجماليّ بالتكليف الفعليّ من أوّل الأمر ، كما إذا تعلّق العلم الإجماليّ بوقوع قطرة بول في الإناء الأسود أو الإناء الأبيض ، ثمّ علم أنّ الإناء الأسود خارج عن مورد الابتلاء ، وهذا يكشف عن عدم تعلّق التكليف بالإناء الأسود من أوّل الأمر ، فيزول العلم الإجماليّ.

الثاني : الانحلال الحكميّ. وهو ارتفاع أثر العلم الإجماليّ ـ من التنجيز ووجوب الاحتياط ـ وإن كان العلم الإجماليّ باقيا على حاله.

إذا عرفت هذه المقدّمة ، فاعلم أنّ المصنّف قدس‌سره أجاب عن دليل العقل بدعوى تحقّق الانحلال بأحد الوجهين.

فأشار إلى تحقّق القسم الأوّل من الانحلال الحقيقيّ بقوله : «هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعيّة ...».

وأشار إلى تحقّق القسم الثاني من الانحلال الحقيقيّ بقوله : «وقد انحلّ هاهنا ، فإنّه كما علم بوجود تكاليف إجمالا كذلك». ومرّ توضيحه في التعليقة (٣) من الصفحة : ٥١.

والتزم بالانحلال الحكميّ بعد تسليم عدم انحلال الحقيقيّ ، فقال : «قضيّة الاعتبار شرعا على اختلاف ألسنة أدلّته ... وهو كونها مؤدّيات الأمارات الشرعيّة». وحاصله : أنّه لو سلّم عدم تحقّق الانحلال الحقيقيّ ، لبقاء العلم الإجماليّ بعد قيام الأمارة أيضا على حاله ، ولكن ندّعي تحقّق الانحلال الحكميّ ، بمعنى أنّ قيام الأمارة غير العلميّة على وجود التكليف في بعض الأطراف يستلزم انصراف التكليف المنجّز بالعلم الإجماليّ إلى خصوص الأطراف الّتي قامت الأمارة على وجود التكليف فيها ، ضرورة أنّ مقتضى طريقيّة الأمارات هو ترتيب ما للعلم ـ من التنجيز والتعذير ـ عليها ، فقيام الحجّة والأمارة على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف يستلزم صرف التكليف المنجّز بالعلم الإجماليّ إلى ما إذا كان التكليف الواقعيّ في ذلك الطرف والعذر عمّا إذا كان في الطرف الآخر ، فتجري ـ

٥٥

[التقرير الثاني : أصالة الحظر]

وربما استدلّ (١) بما قيل (٢) من استقلال العقل بالحظر في الأفعال الغير الضروريّة قبل الشرع ، ولا أقلّ من الوقف وعدم استقلاله (٣) ، لا به ولا بالإباحة ، ولم يثبت شرعا إباحة ما اشتبه حرمته ، فإنّ ما دلّ على الإباحة معارض بما دلّ على وجوب التوقّف أو الاحتياط.

وفيه : أوّلا : أنّه لا وجه للاستدلال بما هو محلّ الخلاف والإشكال (٤) ، وإلّا لصحّ الاستدلال على البراءة بما قيل من كون تلك الأفعال على الإباحة.

وثانيا : أنّه ثبتت الإباحة شرعا ، لما عرفت من عدم صلاحيّة ما دلّ على

__________________

ـ البراءة في الطرف الآخر.

ثمّ لا يخفى : أنّ السيّد المحقّق الخوئيّ أورد على ما ذكره المصنّف قدس‌سره من المثال. وذلك لوجود الفرق بين المقام وبين المثال المذكور ، إذ المعلوم بالإجمال في المثال أمر معيّن خاصّ ، فقيام الأمارة على تعيينه في طرف ينفي كونه في الطرف الآخر. بخلاف المقام ، فإنّ المعلوم بالإجمال فيه أحكام لا تعيّن لها بوجه ، وليس لها عنوان وعلامة ، فقيام الأمارة على ثبوت التكليف في بعض الموارد لا ينفي ثبوته في غيرها.

ثمّ أجاب عن الاستدلال بوجهين : (أحدهما) : النقض بالشبهات الوجوبيّة والموضوعيّة ، فإنّ هذا العلم لو كان مانعا عن الرجوع إلى البراءة في الشبهات الحكميّة التحريميّة كان مانعا عن الرجوع إليها فيها أيضا ، مع أنّ الأخباريّين لا يقولون بوجوب الاحتياط فيها. و (ثانيهما) : أنّ العلم الإجماليّ بالتكاليف الواقعيّة ينحلّ واقعا بقيام الأمارات على تكاليف الزاميّة بمقدار المعلوم بالإجمال. مصباح الاصول ٢ : ٣٠٤ ـ ٣٠٨.

(١) هذا الدليل ذكره الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٢ : ٩٠.

(٢) نسبه الشيخ والمحقّق إلى طائفة من الإماميّة. راجع العدّة ٢ : ٧٤٢ ، معارج الاصول : ٢٠٣.

(٣) كما عليه الشيخان : المفيد والطوسيّ. راجع التذكرة باصول الفقه : ٤٣ ، والعدّة ٢ : ٧٤٢.

(٤) فإنّ هذه المسألة محلّ الخلاف ومعركة الآراء ، كما قال الشيخ في العدّة : «وذهب كثير من البغداديّين وطائفة من أصحابنا الإماميّة إلى أنّها على الحظر ، ووافقهم على ذلك جماعة من الفقهاء. وذهب أكثر المتكلّمين من البصريّين ـ وهي المحكيّ عن أبي الحسن وكثير من الفقهاء ـ إلى أنّها على الإباحة ، وهو الّذي يختاره سيّدنا المرتضى. وذهب كثير من الناس إلى أنّها على الوقف». العدّة ٢ : ٧٤٢.

٥٦

التوقّف أو الاحتياط للمعارضة لما دلّ عليها.

وثالثا : أنّه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة للقول بالاحتياط في هذه المسألة ، لاحتمال أن يقال معه بالبراءة ، لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

[التقرير الثالث : وجوب دفع الضرر المحتمل]

وما قيل (١) من «أنّ الإقدام على ما لا تؤمن المفسدة فيه كالإقدام على ما تعلم فيه المفسدة».

ممنوع (٢) ، ولو قيل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فإنّ المفسدة المحتملة في المشتبه ليس بضرر غالبا ، ضرورة أنّ المصالح والمفاسد الّتي هي مناطات الأحكام ليست براجعة إلى المنافع والمضارّ ، بل ربّما تكون المصلحة فيما فيه الضرر ، والمفسدة فيما فيه المنفعة. واحتمال أن يكون في المشتبه ضرر ضعيف (٣) غالبا لا يعتنى به قطعا.

مع أنّ الضرر ليس دائما ممّا يجب التحرّز عنه عقلا ، بل يجب ارتكابه أحيانا فيما كان المترتّب عليه أهمّ في نظره ممّا في الاحتراز عن ضرره مع القطع به فضلا عن احتماله(٤).

[تنبيهات البراءة]

بقي امور مهمّة لا بأس بالإشارة إليها :

__________________

(١) والقائل شيخ الطائفة في العدّة ٢ : ٧٤٢.

(٢) خبر قوله : «وما قيل».

(٣) قوله : «ضرر» اسم «أن يكون» ، وقوله : «ضعيف» خبر «واحتمال».

(٤) هكذا في النسخ. والأولى أن يأتي قوله : «مع القطع به فضلا عن احتماله» قبل قوله : «فيما كان المترتّب عليه».

٥٧

[التنبيه] الأوّل : [اشتراط جريانها بعدم وجود أصل موضوعيّ في موردها]

أنّه إنّما تجري أصالة البراءة شرعا وعقلا فيما لم يكن هناك أصل موضوعيّ (١) مطلقا ، ولو كان موافقا لها (٢) ، فإنّه معه لا مجال لها أصلا ، لوروده عليها (٣) ـ كما يأتي تحقيقه ـ.

__________________

(١) ولا يخفى : أنّ المصنّف قدس‌سره ـ تبعا للشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٢ : ١٠٩ و ١٢٧ ـ عبّر عن هذا الأصل بالأصل الموضوعيّ. وليس مرادهما من الأصل الموضوعيّ خصوص الأصل الجاري في الموضوع ، بل المراد منه كلّ أصل مقدّم على البراءة ، سواء كان جاريا في الموضوع ، كما لو علم بخمريّة مائع ثمّ شكّ في انقلابه خلّا ، فإنّ استصحاب الخمريّة يرفع موضوع أصالة البراءة عن حرمة شربه ، أو كان جاريا في الحكم ، كما إذا شكّ في جواز وطء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال ، فإنّ جريان استصحاب الحرمة السابقة يمنع عن التمسّك بأصالة البراءة.

ويشهد بذلك ما أفاده الشيخ الأعظم في مقام التفريع على الشرط المذكور بقوله : «استصحاب الحرمة حاكمة على أصالة الحرمة». فرائد الاصول ٢ : ١٢٧.

ولعلّ وجه التعبير بالأصل الموضوعيّ هو التسالم على جريان الاستصحاب في الموضوع ووقوع الخلاف في جريانه في الأحكام.

وعن المحقّق النائينيّ أيضا أنّ مراد الشيخ والمصنّف من الأصل الموضوعيّ كلّ أصل متكفّل لتنزيل مؤدّاه منزلة الواقع بحسب الجري العمليّ ، سواء كان المؤدّى موضوعا خارجيّا أو حكما شرعيّا ، فإنّه كان حاكما على البراءة في كلتا الصورتين. فوائد الاصول ٣ : ٣٨٠ ، وأجود التقريرات ٢ : ١٩٣.

وعلى ما ذكر فكان الأولى أن يقول : «فيما لم يكن هناك أصل وارد ...».

(٢) توضيحه : أنّ عدم جريان أصالة البراءة فيما إذا جرى الأصل المقدّم لا يختصّ بما إذا كان مفاد الأصل المقدّم منافيا لما يقتضيه أصل البراءة ـ كما إذا اقتضى الاستصحاب خمريّة مائع شكّ في انقلابه خلّا فيكون شربه حراما ، واقتضى أصل البراءة جواز شربه ـ ، بل يعمّ ما إذا كان مفاده موافقا لأصل البراءة ، كما إذا اقتضى الاستصحاب خلّيّة مائع شكّ في انقلابه خمرا فيكون شربه حلالا ، واقتضى أصل البراءة حلّيّته أيضا.

(٣) قوله : «لوروده» تعريض بالشيخ الأعظم الأنصاريّ ، فانّه جعل الوجه في تقدّم الأصل الموضوعيّ ـ بالمعنى الأعمّ ـ على البراءة هو الحكومة. راجع فرائد الاصول ٢ : ١٠٩ و ١٢٧.

وأمّا الوجه في وروده على البراءة أنّ موضوع البراءة العقليّة هو عدم البيان ، كما أنّ ـ

٥٨

[أصالة عدم التذكية (١)]

فلا تجري مثلا أصالة الإباحة في حيوان شكّ في حلّيّته مع الشكّ في قبوله

__________________

ـ موضوع البراءة الشرعيّة هو الشكّ وعدم العلم ، فكلّ ما يكون بيانا ورافعا للشكّ ـ ولو تعبّدا ـ يرفع موضوعهما ويمنع عن التمسّك بأصالة البراءة.

(١) لا يخفى : أنّ أصالة عدم التذكية انّما تجري في بعض موارد الشكّ في ذكاة الحيوان ويمنع عن جريان أصالة البراءة فيه. فلا بدّ من ذكر صور الشكّ في ذكاة الحيوان. وهي وإن كانت كثيرة إلّا أنّ المصنّف قدس‌سره انّما تعرّض ثلاث صور منها للشبهة الحكميّة وصورتين للشبهة الموضوعيّة ، فمجموع ما تعرّض له من الصور خمس :

الاولى : ما أشار إليه بقوله : «فلا تجري مثلا أصالة الإباحة ...». وحاصله : أن يشكّ في حلّيّة الحيوان أو طهارته لأجل الشكّ في أصل قابليّته للتذكية ، كما في الحيوان المتولّد من الشاة والخنزير من دون أن يصدق عليه اسم أحدهما ، فيشكّ في حلّيّته وطهارته لأجل الشكّ في قابليّته للتذكية ؛ وكما في الحيوان المتولّد من الأرنب والكلب من دون أن يصدق عليه اسم أحدهما ، فيشكّ في طهارته لأجل الشكّ في قابليّته للتذكية.

ذهب المصنّف قدس‌سره إلى جريان أصالة عدم التذكية في هذه الصورة ، فيحكم بنجاسته وحرمة لحمه.

والثانية : ما أشار إليه بقوله : «نعم ، لو علم بقبوله التذكية ...». وحاصله : أن يشكّ في حلّيّته لأجل الشكّ في مقدار قابليّته لها بعد العلم بأصلها ، فيشكّ في أنّ تذكيته هل تؤثّر في طهارته فقط أو تؤثّر في طهارته وحلّيّته ، كما إذا علمنا أنّ هذا الحيوان قابل للتذكية لكن لا نعلم أنّه من قبيل الأرنب أو من قبيل الغنم.

ذهب المصنّف قدس‌سره إلى أنّه لا مجال لأصالة عدم التذكية في هذه الصورة ، للعلم بتحقّقها حسب الفرض والقطع بتأثيرها في طهارته ، وانّما الشكّ في تأثيرها في حليّة لحمه ، فيرجع الشكّ إلى أنّ هذا الحيوان المذكّى حلال أو حرام؟ ويحكم حينئذ بحلّيّة لحمه استنادا إلى أصالة الحلّ.

والثالثة : ما أشار إليه بقوله : «هذا إذا لم يكن هناك أصل موضوعيّ ...». وحاصله : ما إذا كان الشكّ في الحلّيّة أو الطهارة ناشئا من الشكّ في مانعيّة شيء عن تأثير التذكية في الطهارة أو هي مع الحلّيّة ، كما إذا علمنا بقابليّة حيوان للتذكية وشككنا في بقاء قابليّته لها من جهة الشكّ في أنّ الحبل في الحيوان هل يمنع عن تأثير التذكية فيه فيرتفع قابليّته لها أو لا؟

ذهب المصنّف قدس‌سره إلى جريان الأصل الموضوعيّ في هذه الصورة ، فيستصحب قابليّته لها ويحكم بطهارته وحلّيّة لحمه.

٥٩

التذكية ، فإنّه إذا ذبح مع سائر الشرائط المعتبرة في التذكية (١) فأصالة عدم التذكية تدرجه (٢) فيما لم يذكّ ، وهو (٣) حرام إجماعا كما إذا مات حتف أنفه. فلا حاجة إلى إثبات أنّ الميتة تعمّ غير المذكّى شرعا (٤) ، ضرورة كفاية كونه مثله (٥) حكما.

وذلك (٦) بأنّ التذكية إنّما هي عبارة عن فري الأوداج الأربعة مع سائر شرائطها عن خصوصيّة في الحيوان الّتي بها يؤثّر فيه الطهارة وحدها أو مع

__________________

ـ والرابعة : ما أشار إليه بقوله : «وممّا ذكرنا ظهر الحال فيما اشتبهت الحلّيّة ...». وهو إحدى صورتي الشبهة الموضوعيّة. وحاصلها : أن يشكّ في تذكية الحيوان وكان منشأ الشكّ فيها هو الشكّ في وجود ما يعتبر في التذكية من إسلام الذابح وتوجيه الحيوان إلى القبلة ونحوهما.

ذهب المصنّف قدس‌سره إلى جريان أصالة عدم التذكية في هذه الصورة ، فيحكم بنجاسة الحيوان وحرمة لحمه.

والخامسة : ما تعرّض له بقوله : «كما أنّ أصالة قبول التذكية محكّمة ...». وهذا صورة اخرى من الشبهة الموضوعيّة. وحاصلها : أن يشكّ في تذكية الحيوان وكان منشأ الشكّ فيها هو الشكّ في ارتفاع القابليّة من جهة احتمال طروء عنوان على الحيوان مانع عن قبوله التذكية ، كاحتمال الحبل في الشاة أو كونها موطوءة إنسان أو ارتضاعها من لبن خنزير.

فذهب المصنّف قدس‌سره إلى جريان الأصل الموضوعيّ واستصحاب بقاء قابليّته للتذكية.

(١) من كون الذابح مسلما وكون الذبح بالحديد ووقوع الذبح إلى القبلة والتسمية قبل الذبح.

(٢) وفي بعض النسخ : «تدرجها». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) أي : الحيوان ما لم يذكّ.

(٤) تعريض بكلام الشيخ الأعظم الأنصاريّ ، فإنّه ـ بعد أن تعرّض لحكومة أصالة عدم التذكية المقتضية للحرمة والنجاسة على أصالتي الإباحة والطهارة في اللحم المردّد بين المذكّى والميتة ـ قال : «وربما يتخيّل خلاف ذلك ... لمعارضة أصالة عدم التذكية بأصالة عدم الموت ، والحرمة والنجاسة من أحكام الميتة».

ثمّ أجاب عن إشكال المعارضة بجوابين ، ثانيهما قوله : «إنّ الميتة عبارة عن غير المذكّى ، إذ ليست الميتة خصوص ما مات حتف أنفه ، بل كلّ زهاق روح انتفى فيه شرط من شروط التذكية ، فهي ميتة شرعا». فرائد الاصول ٢ : ١٢٨ ـ ١٢٩ و ٣ : ١٩٩.

فأورد المصنّف قدس‌سره على الجواب المذكور بأنّ ثبوت الإجماع على لحوق أحكام الميتة لغير المذكّى من الحيوانات كاف في جريان أصالة عدم التذكية والحكم بنجاسة الحيوان وحرمته. فلا يحتاج إلى تعميم الميتة لغير المذكّى كما التزم به الشيخ الأنصاريّ.

(٥) أي : كون ما لم يذكّ مثل ما مات حتف أنفه.

(٦) أي : جريان أصالة عدم التذكية.

٦٠