خريدة العجائب وفريدة الغرائب

سراج الدين بن الوردي

خريدة العجائب وفريدة الغرائب

المؤلف:

سراج الدين بن الوردي


المحقق: أنور محمود زناتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-358-6
الصفحات: ٥٠٣

واختلف في كمية عدد الأرضين قال الله عز وجل وهو أصدق القائلين : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)(٥٢) فاحتمل هذا التمثيل أن يكون في العدد والطباق. فروي في بعض الأخبار أن بعضها فوق بعض ، وغلظ كل أرض مسيرة خمسمائة عام ، حتى عدد بعضهم لكل أرض أهلا على صفة وهيئة عجيبة ، وسمى كل أرض باسم خاص ، كما سمى كل سماء باسم خاص. وزعم بعضهم أن في الأرض الرابعة حيات أهل الدنيا وفي الأرض السادسة حجارة أهل النار ، فمن نازعته نفسه إلى الاستشراف عليها نظر في كتب وهب بن منبه (٥٣) وكعب ومقاتل. وعن عطاء بن يسار (٥٤) في قول الله عز وجل : (سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)(٥٥) قال : في كل أرض آدم (٥٦) مثل آدمكم ، ونوح مثل نوحكم ، وإبراهيم مثل إبراهيمكم. والله أعلم.

__________________

(٥٢) سورة الطلاق : آية ١٢.

(٥٣) يعتبر وهب بن منبه (ت ١١٠ ه‍ / ٧٣٢ م) من رجال الطبقة الأولى من كتاب المغازي والسير وهو من مواليد اليمن ، فقد ولد في قرية تسمى زمار بجوار صنعاء حوالي سنة ٣٤ ه‍ ومعنى هذا الاهتمام بالمغازي ، والسير لم يعد مقصورا على أهل المدينة وحدهم ، بل أصبح الاشتغال بها موضع اهتمام من العلماء في كل الأقطار الإسلامية ، وقد أسهم وهب بن منبه إسهاما طيبا في إثراء حركة التأليف في المغازي والسير وعاش حياة علمية ثرية.

(٥٤) عطاء بن يسار : تابعي أمولى أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث زوج محمدا كنيته أبو محمد. كان قاصا واعظا جليل القدر روى عن أمهات المؤمنين مولاته ميمونة وعائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما وعن زيد بن ثابت وأبي هريرة. طارده الحجاج فهرب إلى مكة مع تابعين آخرين فألقي القبض عليه وقتله الحجاج سنة ١٠٣ ه‍ وهو ابن ٨٤ سنة.

(٥٥) سورة الطلاق : آية ١٢.

(٥٦) آدم : أبو البشر ، أول إنسان خلقه الله تعالى ، ونفخ فيه من روحه ، إذا سوّيته ونفخت فيه من رّوحي فقعوا له ساجدين الحجر : (٢٩) (تاريخ الطبري (١ / ٨٩) ، أخبار الزمان (ص ٧١).

٤١

وليس هذا القول بأعجب من قول الفلاسفة : إن الشموس شموس كثيرة والأقمار أقمار كثيرة ففي كل اقليم شمس وقمر ونجوم. وقال القدماء الأرض سبع على المجاورة والملاصقة وافتراق الإقليم ، لا على المطابقة والمكابسة. وأهل النظر من المسلمين يميلون إلى هذا القول ، ومنهم من يرى أن الأرض سبع على الانخفاض والارتفاع كدرج المراقي. ويزعم بعضهم أن الأرض مقسومة خمس مناطق وهي : المنطقة الشمالية والجنوبية والمستوية والمعتدلة والوسطى ، واختلفوا في مبلغ الأرض وكميتها ، فروي ، عن مكحول (٥٧) أنه قال : مسيرة ما بين أقصى الدنيا إلى أدناها خمسمائة سنة ، مائتان من ذلك في البحر ، ومائتان ليس يسكنها أحد ، وثمانون فيها يأجوج ومأجوج ، وعشرون فيها سائر الخلق.

وعن قتادة قال : الدنيا أربعة وعشرون ألف فرسخ ، منها اثنا عشر ألف فرسخ ملك السودان ، وملك الروم ثمانية آلاف فرسخ ، وملك العجم والترك ثلاثة آلاف فرسخ ، وملك العرب ألف فرسخ ، وعن عبد الله بن عمر (٥٨) رضي الله عنهما قال : ربع من لا يلبس الثياب من السودان أكثر من جميع الناس.

__________________

(٥٧) مكحول (ـ ٩٥٤ ه‍) مكحول قيل هو ابن شهراب ، ابو عبد الله ، ويقال : ابو ايوب ، ويقال : ابو مسلم. مولي هذيل. أصله من الفرس. دمشقي. فقيه تابعي. أعتق بمصر. وجمع علمها ، وانتقل في المصار.عده الزهري عالم أهل الشام وامامهم قال يحيي ين معين : كان قدريا ثم رجع. [تذكرة الحفاظ ١ / ١٠١ ؛ وتهذيب التهذيب ١٠ / ٢٨٩ ؛ والاعلام ٨ / ٢١٢].

(٥٨) ابن عمر (١٠ ق ه ـ ٧٣ ه‍) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب ، أبو عبد الرحمن. ترشي عدوي.صاحب رسول الله صلي الله علية وسلم. نشأ في الإسلام ، وهاجر مع أبيه إلي الله ورسوله. شهد الخندق وما بعدها ، ولم يشهد بدرا ولا أحدا لصغره. أفتي الناس ستين سنة. ولما قتل عثمان عرض علية ناس أن يبايعوه بالخلافة فأبي شهد فتح أفريقية. كف بصره في آخر حياته. كلن آخر من توفي بمكة من الصحابة.هو أحد المكثرين من الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم. (الأعلام للرزكلي ٤ / ٢٤٦ ، والإصابة ، وطبقات ابن سعد ، وسير النبلاء للذهبي ، وأحبار عبد الله ابن عمر لعلي الطنطاوي).

٤٢

وقد حدد بطليموس مقدار قدر الأرض واستدارتها في المجسطي (٥٩) بالتقريب ، قال : استدارة الأرض مائة ألف وثمانون ألف اسطاربوس ؛ والاسطاربوس أربعة وعشرون ميلا فيكون هذا الحكم مائة ألف ألف وأربعمائة وأربعين ألف فرسخ ، والفرسخ ثلاثة أميال ، والميل ثلاثة آلاف ذراع بالملكي ، والذراع ثلاثة أشبار ، وكل شبر اثنا عشر أصبعا ، والأصبع الواحد خمس شعيرات مضمومات بطون بعضها إلى بعض ، وعرض الشعيرة الواحدة ست شعيرات من شعر بغل. والإسطاربوس اثنان وسبعون ألف ذراع ، قال : وغلظ الأرض وهو قطرها سبعة آلاف وستمائة وثلاثون ميلا فيكون ألفين وخمسمائة فرسخ وخمسة وأربعين فرسخا وثلثي فرسخ. قال : فبسط الأرض كلها مائة واثنان وثلاثون ألف ألف وستمائة ألف ميل فيكون مائتي ألف وثمانية وثمانين ألف فرسخ ، فإن كان ذلك حقا فهو وحي من الحق (٦٠) سبحانه أو إلهام (٦١) ، وإن كان قياسا واستدلالا فقريب أيضا من الحق. والله أعلم.

__________________

(٥٩) المجسطي : موسوعة فلكية ورياضية ألفها بطلميوس حوالي العام ١٤٠ للميلاد. كانت مرجعا رئيسيا لعلماء الفلك العرب والأوروبيين حتى مطلع القرن السابع عشر تقريبا. ترجمت إلى العربية نقلا عن السريانية عام ٨٢٧ للميلاد ثم ترجمت إلى اللاتينية نقلا عن العربية في النصف الثاني من القرن الثاني عشر.

وهي تقع في ثلاثة عشر كتابا.

(٦٠) الحقّ في اللّغة خلاف الباطل ، وهو مصدر حقّ الشّيء يحقّ إذا ثبت ووجب ، وعرّفه الجرجانيّ بأنّه الثّابت الّذي لا يسوغ إنكاره ، والحقّ اسم من أسماء الله تعالى ، وقيل من صفاته.

(٦١) الإلهام : Afflatus : الإلهام هو ما يلقى في الروع بطريق الفيض وقيل الإلهام ما وقع في القلب من علم وهو يدعو الى العمل من غير استدلال بآية ولا نظر في حجة

٤٣

وأما قول قتادة (٦٢) ومكحول (٦٣) فلا يوجب العلم اليقين الذي يقطع على الغيب به. واختلفوا في البحار والمياه والأنهار ، فروى المسلمون أن الله خلق ماء البحار مرا زعافا وأنزل من السماء ماء عذبا كما قال الله تعالى :

(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ، لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ)(٦٤) وقال تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ).

فكل ماء عذب من بئر أو نهر أو عين فمن ذلك الماء المنزل من السماء ، فإذا اقتربت الساعة بعث الله ملكا معه طست (٦٥) لا يعلم عظمته إلا الله تعالى فجمع تلك المياه فردها إلى الجنة.

وزعم أهل الكتاب أن أربعة أنهار تخرج من الجنة : الفرات وسيحان وجيحان ودجلة (٦٦). وذلك أنهم يزعمون أن أهل الجنة في مشارق الأرض. وروي أن

__________________

(٦٢) قتادة (٦١ ـ ١١٨ ه‍) هو قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي. من أهل البصرة. ولد ضريرا. أحد المفسرين والحفاظ للحديث. قال أحمد بن حنبل : قتادة أحفظ أهل البصرة. وكان مع عمله بالحديث رأسا في العربية ، ومفردات اللغة وأيام العرب ، والنسب. كان يري القدر. وقد يدلس في الحديث. مات بواسط في الطاعون. [الاعلام للزركلي ٦ / ٢٧ ؛ وتذكرة الحفاظ ١ / ١١٥].

(٦٣) سبق ترجمته.

(٦٤) سورة الواقعة : آية ٦٨ ـ ٧٠.

(٦٥) الطست : معرب عن اللفظ الفارسي" تست" وفي العامية المصرية يسمى" طشت".

(٦٦) دجلة : من أشهر أنهار العرب ، تأتي من جبال الأناضول فتلتقي بالفرات فيكونان شط العرب ، وعلى ضفتي دجلة تقع مدينة بغداد عاصمة الخلافة العباسية في صدر الإسلام.

٤٤

الفرات جزر في أيام معاوية (٦٧) رضي الله عنه ، فرمى برمانة مثل البعير البارك ، فقال كعب : إنها من الجنة. فإن صدقوا فليست هي بجنة الخلد ولكنها من جنان الأرض.وعند القدماء أن المياه من الاستحالات ، فطعم كل ماء على طعم أرضه وتربته ؛ وأما نحن فلا ننكر قدرة الله تعالى على إحالة الشيء على ما يشاء كما تحول النقطة علقة والعلقة مضغة ، ثم كذلك حالا بعد حال إلى أن يفنيه كما يشاء وكما أنشأه. فسبحان من قدرته صالحة لكل شيء.

واختلفوا أيضا في ملوحة البحر : فزعم قوم أنه لما طال مكثه وألحت الشمس عليه بالإحراق صار مرا ملحا واجتذب الهواء ما لطف من أجزائه فهو بقية ما صفته الأرض من الرطوبة (٦٨) فغلظ لذلك. وزعم آخرون أن في البحر عروقا تغير ماء

__________________

(٦٧) معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه (ت ٦٨٠) : مؤسس الدولة الأموية. أول خليفة أموي (٦٦١ ـ ٦٨٠). أحد دهاة العرب الأربعة : عمرو بن العاص ، المغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه ومعاوية. أسلم يوم فتح مكة. اشترك مع أخيه يزيد الذي كان واليا على الشام. خلفه معاوية زمن عمر بن الخطاب ، وأقره عثمان بن عفان في منصبه. أظهر كفاءة إدارية ، واستمال إليه أهل ولايته. خرج على علي بن أبي طالب ، وحاربه في موقعة صفين ٦٥٧ ، التي انتهت إلى اتفاق الطرفين على التحكيم ، مما أضعف موقف علي. فلما فشل التحكيم استأنفا القتال ، واستولى معاوية على مصر ، وأغار على العراق. في ٦٥٩ اتخذ لنفسه لقب خليفة في بيت المقدس ، وأخذ لنفسه البيعة من أهل الشام. أعد علي حملة كبيرة ضده ، لكنه اغتيل قبل ذلك. تنازل له الحسن بن علي عن الخلافة ، فاصبح أول خليفة أموي ٦٦١. اتخذ دمشق عاصمة له.ونجح في توحيد البلاد ، بفضل حنكته السياسية ، فقد تفادى المنازعات القبلية وصاهر قبيلة كلب العربية الجنوبية. ينسب إليه إنشاء ديوان البريد ، وديوان الخاتم ، واتخاذ مقصورة في الجامع. توسعت الدولة الإسلامية في عهده شرقا حتى بلاد ماوراء النهر ، وغربا في شمال أفريقيا. حارب الروم ، وأغار عليهم باستمرار برا وبحرا في حملات الصوائف التي كانت تجري كل صيف ، والشواتي التي كانت تجري كل شتاء. حاول فتح القسطنطينية ، لكنه فشل أمام أسوارها المنيعة. استخلف ابنه يزيدا قبل موته ، فكان أول من حول الخلافة الإسلامية إلى وراثية [البداية والنهاية (وفيات سنة ٦٠ ه‍) ؛ ومناهج السنة ٢ / ٢٠١ ـ ٢٢٦ ؛ وابن الأثير ٤ / ٢ ؛ والإصابة ٣ / ٤٣٣].

(٦٨) الرطوبة : مصطلح عام يشير الى بخار الماء في الغلاف الجوي (القاموس الجغرافي ، ص ٢١٩).

٤٥

البحر ولذلك صار مرا زعافا. واختلفوا في المد والجزر ، فزعم أرسطاطاليس (٦٩) أن علة ذلك من الشمس إذا حركت الريح ، فإذا ازدادت الرياح كان منها المد ، وإذا نقصت كان منها الجزر. وزعم كيماويش أن المد بانصباب الأنهار في البحر والجزر بسكونها. والمنجمون منهم من زعم أن المد بامتلاء القمر والجزر بنقصانه. وقد روي في بعض الأخبار أن الله جعل ملكا موكلا بالبحار ، فإذا وضع قدمه في البحر مد وإذا رفعه جزر ؛ فإن صح ذلك والله أعلم كان اعتقاده أولى من المصير إلى غيره مما لا يفيد حقيقة. ولو ذهب ذاهب إلى أن ذلك الملك هو مهب الرياح التي تكون سببا للمد وتزيد في الأنهار وتفعل ذلك عند امتلاء المقر حتى يكون توفيقا وجمعا بين الكل لكان ذلك مذهبا حسنا. والله أعلم.

واختلفوا في الجبال. قال الله تعالى : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ)(٧٠) وقال تعالى : (ق ، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)(٧١). قال بعض المفسرين. إن من جبل قاف إلى السماء مقدار قامة رجل طويل. وقال آخرون. بل السماء منطبقة عليه. وقال قوم : من وراء قاف عوالم وخلائق لا يعلمها إلا الله تعالى. ومنهم من يقول : ماوراءه فهو من حد الآخرة ومن حكمها ، وأن الشمس تطلع منه وتغيب فيه وهو الساتر لها عن الأرض ؛ ومنهم من يزعم أن الجبال عظام الأرض وعروقها.

__________________

(٦٩) أرسطو طاليس (أرسطو) (٣٨٤ ـ ٣٢٢ ق. م) : فيلسوف يوناني مقدوني ، تكاملت على يديه الفلسفة اليونانية فبلغت الذروة في نضوجها. يعده مؤرخ الفلسفة المعروف الدكتور عبد الرحمن بدوي هو وأستاذه أفلاطون (أعظم فلاسفة العالم على طول تاريخ الفكر الانساني) ، ولقّب ب (المعلم الأول) و (صاحب المنطق). ترك عددا كبيرا من المؤلفات ذكر بطليموس الغريب ٨٢ عنوانا منها ، تتألف من ٥٥٠ مقالة. لكن قسما كبيرا منها ضاع ولم يصل إلينا. لكن لحسن الحظ أن الذي بقي هو الجانب الأهم).

(٧٠) سورة لقمان : آية ١٠.

(٧١) سورة ق : آية ١.

٤٦

واختلفوا فيما تحت الأرض : أما القدماء فأكثرهم يزعمون أن الأرض يحيط بها الماء ، وهذا ظاهر ، والماء يحيط به الهواء ؛ والهواء تحيط به النار ، والنار تحيط بها السماء الدنيا ثم السماء الثانية ثم الثالثة إلى السبع ، ثم يحيط بالكل فلك الكواكب الثابتة ؛ ثم يحيط بالكل الفلك الأعظم الأطلس المستقيم ، ثم يحيط بالكل عالم النفس ، وفوق عالم النفس عالم العقل ، وفوق عالم العقل عالم الروح وفوق عالم الروح والأمر الحضرة الإلهية (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)(٧٢).

وعلى قاعدة مذهب القدماء يلزم أن تحت الأرض سماء كما فوقها. وروي أن الله تعالى لما خلق الأرض كانت تتكفأ كما تتكفأ السفينة ، فبعث الله ملكا فهبط حتى دخل تحت الأرض فوضعها على كاهله ثم أخرج يديه ، إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب ، ثم قبض على الأرضين السبع فضبطها فاستقرت. ولم يكن لقدم الملك قرار ، فأهبط الله ثورا من الجنة له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة فجعل قرار قدمي الملك على سنامه ، فلم تصل قدماه إلى سنامه ، فبعث الله تعالى ياقوتة خضراء من الجنة ، غلظها مسيرة كذا ألف عام ، فوضعها على سنام الثور فاستقرت عليها قدما الملك وقرون الثور خارجة من أقطار الأرض ممتدة إلى العرش ، ومنخر الثور في ثقبين من تلك الياقوتة الخضراء تحت البحر ، فهو يتنفس في كل يوم نفسين ، فإذا تنفس مد البحر وإذا رد النفس جزر البحر ، ولم يكن لقوائم الثور قرار ، فخلق الله كثيبا من رمل كغلظ سبع سموات وسبع أرضين ، فاستقرت عليه قوائم الثور ، ثم لم يكن للكثيب مستقر ، فخلق الله حوتا يقال له البهموت فوضع الكثيب على وبر الحوت والوبر : الجناح الذي يكون في وسط ظهره وذلك الحوت مزموم بسلسلة من القدرة كغلظ السموات والأرض مرارا. قال : وانتهى إبليس لعنه الله إلى ذلك الحوت فقال له : ما خلق الله خلقا أعظم منك فلم لا تزيل الدنيا عن ظهرك؟ فهم بشيء من

__________________

(٧٢) سورة الأنعام : آية ١٨.

٤٧

ذلك فسلط الله عليه بقة في عينيه فشغلته. وزعم بعضهم أن الله سلط عليه سمكة وشغله بها فهو ينظر إليها ويهابها ويخافها.

قيل : وأنبت الله عز وجل من تلك الياقوتة جبل قاف ، وهو من زمردة خضراء وله رأس ووجه وأسنان ، وأنبت من جبل قاف الجبال الشواهق كما أنبت الشجر (٧٣) من عروق الشجر. وزعم وهب رضي الله عنه أن الثور والحوت يبتلعان ما ينصب من مياه الأرض في البحار ، فلذلك لا تؤثر في البحور زيادة فإذا امتلأت أجوافها من المياه قامت القيامة. وزعم قوم أن الأرض على الماء والماء على الصخرة والصخرة على سنام الثور والثور على كثيب من الرمل متلبدا ، والكثيب على ظهر الحوت والحوت على الريح العقيم والريح العقيم على حجاب من ظلمة والظلمة على الثرى. وإلى الثرى انتهى علم الخلائق ، ولا يعلم ما وراء ذلك أحد إلا الله عز وجل الذي له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.

وهذه الأخبار مما يتولع به الناس ويتنافسون فيه ، ولعمري إن ذلك مما يزيد المرء بصيرة في دينه وتعظيما لقدرة ربه ، وتحيرا في عجائب خلقه ، فإن صحت فما خلقها على الصانع بعزيز ، وإن يكن من اختراع أهل الكتاب وتنميق القصاص ، فكلها تمثيل وتشبيه ليس بمنكر. والله أعلم.

وقد روى شيبان بن عبد الرحمن (٧٤) عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال (٧٥) : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه (٧٦) إذ أتى

__________________

(٧٣) الشجر : نبات معمر يقوم على ساق خشبية ، أو هو كل ما يقوم على ساق من نبات الأرض.

(٧٤) شيبان بن عبد الرحمن التميمي ، أبو معاوية البصري ، نزيل الكوفة ، ثقة ، من الطبقة السابعة ، توفى ١٦٤ ه‍.

٤٨

عليهم سحاب فقال : هل تدرون ما هذا؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : هذا العنان ، هذه زوايا الأرض يسوقها الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. ثم قال : هل تدرون ما الذي فوقكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : فإنها الرقيع ، سقف محفوظ وموج مكفوف. ثم قال : هل تدرون كم بينكم وبينها؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : فوقه العرش وبينه وبين السماء كبعد ما بين سماءين أو كما قال ثم قال : أتدرون ما تحتكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : الأرض ، وتحتها أرض أخرى بينهما خمسمائة عام. ثم قال : والذي نفس محمد بيده لو أنكم أدليتم بحبل لهبطتم على الله. ثم قرأ صلى الله عليه وسلم : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ)(٧٧) فهذا الخبر يشهد بصدق كثير مما يروون ، إن صح. والله أعلم.

ولنرجع الآن إلى ما نحن بصدده من ذكر شرح الدائرة المذكورة ، وتفصيل البلدان وذكرها ، وذكر عجائبها وأخبارها.

__________________

(٧٥) رواه الترمذي (٣٢٩٨) ، وأحمد (٢ / ٣٧٠) عن أبي هريرة ، وضعفه الشيخ الألباني في مشكاة المصابيح (٥٧٣٥).

(٧٦) الصحابي هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك.

(٧٧) سورة الحديد : آية ٣.

٤٩

فهرست ما نذكره إن شاء الله تعالي من الفصول المتضمنة ذلك :

فصل في ذكر البلدان والأقطار. فصل في الخلجان والبحار. فصل في الجزائر والآثار. فصل في العجائب للاعتبار. فصل في مشاهير الأنهار. فصل في العيون والآبار. فصل في الجبال الشواهق الكبار. فصل في خواص الأحجار ومنافعها.فصل في المعادن والجواهر وخواصها. فصل في النباتات والفواكه وخواصها. فصل في الحبوب وخواصها. فصل في البقول وخواصها. فصل في حشائش مختلفة وخواصها. فصل في البذور وخواصها. فصل في الحيوانات والطيور وخواصها.خاتمة الكتاب في ذكر الملاحم وعلامات الساعة وظهور الفتن والحوادث ، ولها فصول تذكر عند الشروع في كتابتها إن شاء الله تعالى. وبإتمامه يتم الكتاب ، والله تعالى الموفق للصواب.

٥٠

فصل في ذكر البلدان والأقطار

إعلم وفقنا الله وإياك أن بين مطلع الشمس ومغربها مدنا وبلادا وأنهارا لا تحصى كثرة ، ولا يحصيها إلا الله سبحانه وتعالى. ولكن نذكر منها ما ذكره فائدة واعتبار من البلاد المشهورة ، ونضرب صفحا عن ذكر ما ليس بمشهور ، ولا اعتبار ولا فائدة في ذكره خوفا من التطويل والسآمة ، والله تعالى المستعان.

فنبتدئ أولا بذكر بلاد المغرب إلى المشرق ، ثم نعود إلى بلاد الجنوب وهي بلاد السودان ، ثم نعود إلى بلاد الشمال وهي بلاد الروم والأفرنج والصقالبة وغيرهم ، على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى : أرض المغرب أولها البحر المحيط ، وهو بحر مظلم لم يسلكه أحد ولا يعلم سر ما خلفه. وبه جزائر عظيمة كثيرة عامرة يأتي ذكرها عند ذكر الجزائر ، منها جزيرتان تسميان الخالدتين ، على كل واحدة منهما صنم (٧٨) طوله مائة ذراع بالملكي ، وفوق كل صنم منها صورة رجل من نحاس يشير بيده إلى خلف ، أي : ما ورائي شيء ولا مسلك. والذي وضعهما وبناها لم يذكر له اسم

فأول بلاد المغرب السوس الأقصى (٧٩) وهو إقليم كبير فيه مدن عظيمة أزلية وقرى متصلة وعمارات متقاربة ، وبه أنواع الفواكه الجليلة المختلفة الألوان والطعوم ، وبه قصب السكر الذي ليس على وجه الأرض مثله طولا وغلظا وحلاوة حتى قيل : إن طول العود الواحد يزيد على عشرة أشبار في الغالب ، ودوره شبر ،

__________________

(٧٨) الصنم Idol : الصنم هم ما تخذ إلها من دون الله ، وقد فرق بعض العلماء بين الصنم والوثن فقالوا إن الوثن هو ما صنع من الحجارة ، والصنم ما صنع من مواد أخرى كالخشب أو الذهب أو الفضة أو غيرها من الجواهر ، وقال البعض : إن الصنم ما كان له صورة أم الوثن فهو ما لا صورة له.

(٧٩) السوس الأقصى : مدينة في نهاية عمران المغرب فيما وراء الأندلس في الساحل الجنوبي من بحر الروم.

٥١

وحلاوته لا يعادلها شيء حتى قيل : إن الرطل (٨٠) الواحد من سكره يحمل عشرة أرطال من الماء وحلاوته ظاهرة. ويحمل من بلاد السوس من السكر ما يعم جميع الأرض لو حمل إلى البلاد ، وبها تعمل الأكسية الرفيعة الخارقة ، والثياب الفاخرة السوسية المشهورة في الدنيا ، ونساؤها في غاية الحسن والجمال والظرف والذكاء ، وأسعارها في غاية الرخص ، والخصب بها كثير.

فمن مدنها المشهورة ما رودنت وهي مدينة العظماء من ملوك المغرب ، بها أنهار جارية وبساتين مشتبكة وفواكه مختلفة وأسعار رخيصة. والطريق منها إلى أغمات أريكة في أسفل جبل ، ليس في الأرض مثله إلا القليل في العلو والارتفاع وطول المسافة واتصال العمارة وكثرة الأنهار والتفاف الأشجار والفواكه الفاخرة التي يباع منها الحمل بقيراط من الذهب. وبأعلى هذا الجبل أكثر من سبعين حصنا وقلعة ، منها حصن منيع هو عمارة محمد بن تومرت (٨١) ، ملك المغرب ، إذا أراد أربعة من

__________________

(٨٠) الرطل : اثنتا عشرة أوقية بأواقي العرب والأوقية : أربعون درهما.

(٨١) ابن تومرت : مؤسس دولة الموحدين على أنقاض دولة المرابطين ينتمي إلى قبيلة هرغة إحدى القبائل المصمودية المستقرة بالأطلس الصغير بمنطقة سوس الأقصى المغربية. ولد في الثلث الأخير من القرن الخامس الهجري ببلاد المغرب الأقصى ، وقد اختلف المؤرخون في تحديد سنة مولده اشتهر منذ صغره بالتقوى والورع. وقد امتاز بمواظبته على الدراسة والصلاة ، إلى حد أنه اشتهر لدى قبيلته باسم" أسفو" أي المشعل. رحل إلى بلاد المشرق ليكمل تحصيله ويعمق معارفه في أهم المراكز العلمية هناك. ويزعم أنه التقى بأبي حامد الغزالي صاحب كتاب إحياء علوم الدين ثم رجع إلى المغرب. يقول عنه ابن خلدون : «بحرا متفجرا من العلم وشهابا واريا من الدين» فأثار الإعجاب بعلمه وورعه وتعلق به وبأفكاره كثير من الناس وعلى رأسهم" عبد المؤمن بن علي الكومي" الذي التقى بابن تومرت بقرية ملالة ففضل ملازمته واتباع نهجه وطريق مسيرته. لقد ركز ابن تومرت دعوته في مواجهته لفقهاء المالكية على أسس دينية وأخلاقية واجتماعية ووافاه الأجل في شهر رمضان ٥٢٤ ه‍.

٥٢

الناس أن يحفظوه من أهل الأرض حفظوه لحصانته ، اسمه تأتملت. ولما مات محمد بن تومرت المذكور بجبل الكواكب حمل ودفن في هذا الحصن.

وأذكى : وهي أول مراقي الصحراء وهي مدينة متسعة ، وقيل إن النساء التي فيها لا أزواج لهن ، إذا بلغت إحداهن أربعين سنة تتصدق بنفسها على الرجال فلا تمتنع ممن يريدها. سجلماسة (٨٢) : من مدنها المشهورة ، وهي واسعة الأقطار عامرة الديار رائعة البقاع فائقة القرى والضياع. غزيرة الخيرات كثيرة البركات. يقال إنه يسير السائر في أسواقها نصف يوم فلا يقطعها ، وليس لها حصن بل قصور شاهقة وعمارات متصلة خارقة ، وهي على نهر يأتي من جهة المشرق وبها بساتين كثيرة وثمار مختلفة ، وبها رطب يسمى النوبي ، وهو أخضر اللون حسن المظهر أحلى من الشهد

__________________

(٨٢) سجلماسة : من تأسيس بني مدرار الخوارج أواسط القرن الثاني الهجري ، وقد حدد كثير من المؤرخين ذلك بعام : ١٤٠ ه‍. وذكر ابن أبي محلّي : أن تأسيسها كان على أيدي العرب الفاتحين عام : ٤٠ ه‍ ، ثم وسعها بنو مدرار ، فكانت عاصمة لتلك الدولة ، إلى أن استولى عليها الفاطميون ملوك القيروان ، فأدرت عليهم أموالا طائلة باعتبارها مركزا تجاريا مهما في طرق القوافل المتجرة في السودان ، ولما قامت دولة المرابطين ... رجعت إلى حكم المغرب وظلت عامرة كذلك أيام الموحدين والمرينيين إلى أن خربت قبيل قيام دولة السعديين ، ويقول محمد بن الحسن الوزان ـ في سبب خراب سجلماسة ـ : " وقد استولى بنو مرين على هذا الإقليم ، بعد اضمحلال مملكة الموحدين ، وعهدوا بحكمه إلى أقرب الناس إليهم ، وخاصة أبناءهم ، وظل الأمر كذلك إلى أن مات أحمد ملك فاس ، فثار الإقليم ، وقتل أهل البلاد الوالي ، وهدموا سور المدينة ، فبقيت خالية حتى يومنا هذا ، وتجمع الناس فبنوا قصورا ضخمة ، ضمن الممتلكات ومناطق الإقليم ، بعضها حر ، وبعضها خاضع للأعراب ، تعتبر من أعظم حواضر المغرب التاريخية ، وأشهر مدنه التجارية والعلمية ، وقلما يخلو مؤلف في التاريخ العام أو الخاص ، وكذا كتب الجغرافية ، من ذكر سجلماسة ـ بسطا أو اختصارا ـ باعتبارها مدينة سياسية واقتصادية وعلمية (انظر : تقييد في التعريف بسجلماسة. مخطوط : م ، م. رقم ٣٦. ٢٤. نقلا عن حاشية لمحمد حجي. ومحمد الأخضر. على (وصف إفريقية) للوزان. ٢ / ١٢١. ون ـ أيضا ـ (الاستقصا) للناصري (١ / ١٢٤) ، وصف إفريقية) ٢ / ١٢١. ترجمة : د. حجي. ود. محمد الأخضر)

٥٣

ونواه في غاية الصغر. ويقال إنهم يزرعون ويحصدون الزرع ويتركون جذوره وأصوله في الأرض على حالها قائمة ، فإذا كان في العام المقبل وعمه الماء نبت ثاني مرة واستغله أربابه ، من غير بذر ، وبها يأكلون الكلاب والجراذين وغالب أهلها عمش العيون.

ورقادة (٨٣) : وهي مدينة عظيمة حصينة خصيبة. ذكر أهل الطبائع أنه يحصل للرجال بها الضحك من غير عجب ، والسرور من غير طرب ، وعدم الهم والنصب ، ولا يعلم لذلك موجب ولا سبب. أغمات (٨٤) : وهي مدينتان : أغمات أريكة وهي مدينة عظيمة في ذيل جبل كثير الأشجار والثمار والأعشاب والنباتات ، ونهرها يشقها وعلى النهر أرحية كثيرة تدور صيفا وفي الشتاء يجمد الماء ويجوز عليه الناس والدواب ، وبها عقارب قتالة في الحال ، وأهلها ذو وأموال ويسار ولهم على أبوابهم علامات تدل على مقادير أموالهم. وأغمات إيلان وهي مدينة كبيرة في أسفل جبل يسكنها يهود تلك البلاد.

__________________

(٨٣) رقادة : مدينة بناها إبراهيم بن أحمد بن الأغلي سنة ٢٦٣ ه‍ ، وقيل في تسميتها أكثر من سبب ، من هذه الأسباب ، أنها سميت (رقادة) لكثرة القتلى فيها ، انظر : معجم البلدان ، ياقوت الحموي ، ج ٣ ، ص ٥٥ وتعد رقادة المدينة الثانية بعد القيروان التي اتخذها الأمراء مقرّا لهم ، وتقع على بعد ١٠ كلم. من جنوبها الشرقيّ. أمّا اليوم ، فلم تبق منها إلّا آثار قليلة.

(٨٤) أغمات Aghmat : ناحية من جنوب المغرب تقع على نهير بهذا الاسم ينبع من جبال اطلس يتجه احد فروعه غربا الى مراكش ، استولى عليها المرابطون عام ٤٤٩ ه‍ ، وجعلها يوسف بن تاشفين حاضرة له حتى بنى مدينة مراكش عام ٤٥٤ ه‍ وفيها نفي وتوفى المعتمد بن عباد آخر امراء اشبيلية (القاموس الإسلامي ، ج ١ ، ص ١٤٠).

٥٤

فاس (٨٥) : وهي مدينة كبيرة ومدينة صغيرة يشقها نهر كبير يأتي من عيون صنهاجة وعليه أرحاء كثيرة. وتسمى إحدى هاتين المدينتين الأندلس ومياهها قليلة والأخرى القرويس وهي ذات مياه كثيرة يجري الماء في كل شارع منها ، وسوق وزقاق (٨٦) وحمام ودار ، وفي كل زقاق ساقية متى أراد أهل الزقاق أن يجروها أجروها وإذا أرادوا قطعها قطعوها.

المهدية (٨٧) : مدينة حسنة حصينة بناها المهدي الفاطمي (٨٨) وحصنها وجعل لها أبوابا من حديد ، في كل باب ما يزيد على مائة قنطار ، ولما بناها وأحكمها قال : أمنت الآن على الفاطميين.

__________________

(٨٥) مدينة فاس هي ثالث أكبر مدن المملكة المغربية بعد الدار البيضاء والرباط بعدد سكان يزيد عن ٩٤٦ ألف نسمة (إحصائيات ٢٠٠٤ م). تعد فاس مدينة تاريخية عريقة وهي أول عاصمة سياسية للمغرب ، يعود تاريخ مدينة فاس إلى القرن الثاني الهجري ، عند ما قام بتأسيسها إدريس بن عبد الله مؤسس دولة الأدارسة عام ١٧٢ ه‍ الموافق لعام ٧٨٩ م. في التاريخ الحديث ، كانت فاس عاصمة للمملكة المغربية حتى عام ١٩١٢ م فترة الاحتلال الفرنسي والتي استمرت حتى ١٩٥٦ م وتم فيها تحويل العاصمة إلى مدينة الرباط.

(٨٦) الزقاق : طريق ضيق غير نافذ وهو دون السكة والسكة دون الدرب والشارع وقد يطلق على الزقاق على الطريق الضيق عامة نافذا او غير نافذ (القاموس الاسلامي ، ج ٣ ، ص ٦٥).

(٨٧) خاب أمل أهل المغرب في عبيد الله المهدي ، وساء ظنهم به بعد أن ذهبت الوعود التي وعدهم بها أبو عبد الله الشيعي سدى ، فلم ينقطع الفساد بخلافة المهدي ، ولم يحل العدل والإنصاف محل الظلم والجور ، بالإضافة إلى السياسة المالية المتعسفة التي انتهجها الفاطميون في جمع الضرائب ، والتفنن في تنويعها حتى فرضوا ضريبة على أداء فريضة الحج ، وزاد الأمر سوءا قيام عبيد الله المهدي ودعاته بسبّ الصحابة على المنابر فيما عدا علي بن أبي طالب ، وعمار بن ياسر ، وسلمان الفارسي ، والتغيير في صيغة الأذان ، وهو ما لا يمكن أن يقبله شعب نشأ على السنة ، وتعصّب لمذهب الإمام مالك ، وكان من نتيجة ذلك أن اشتعلت عدة ثورات ضد عبيد الله المهدي ، ولكنه وإن نجح في إخمادها فإنه أصبح غير مطمئن على نفسه في مجتمع يرفض مذهبه ويقاطع دولته مقاطعة تامة ؛ ولذا حرص على أن يبعد عن السكنى في

٥٥

__________________

رقادة مركز المقاومة السنّي ، وأسس مدينة جديدة عرفت باسم" المهدية" في سنة (٣٠٣ ه‍ ـ ٩١٥ م) على طرف الساحل الشرقي لإفريقية (تونس) فوق جزيرة متصلة بالبر ، ولم ينتقل إليها إلا في سنة (٣٠٨ ه‍ ـ ٩٢٠ م) بعد أن استكمل بناءها وتشييدها ، وأقام تحصيناتها ومرافقها المختلفة ، وأصبحت المهدية قلعة حصينة للفاطميين بالمغرب ومركزا لعملياتهم الحربية والبحرية ، وظلت حتى مطالع العصر الحديث أكبر مركز إسلامي للجهاد في البحر المتوسط.

(٨٨) لا يستطيع أحد القطع برأي حاسم في نسب" عبيد الله المهدي" ، فالشيعة الإسماعيلية يؤكدون صحة نسبه إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ، في حين يذهب المؤرخون من أهل السنّة وبعض خصوم الفاطميين من الشيعة إلى إنكار نسب عبيد الله إلى علي بن أبي طالب. خرج عبيد الله المهدي من مكمنه في" سلمية" من أرض حمص ببلاد الشام في سنة (٢٩٢ ه‍ ـ ٩٠٥ م) ، واتجه إلى المغرب ، بعد الأنباء التي وصلته عن نجاح داعيته أبي عبد الله الشيعي في المغرب ، وإلحاح كتامة في إظهار شخصية الإمام الذي يقاتلون من أجله ، وبعد رحلة شاقة نجح عبيد الله المهدي في الوصول إلى" سجلماسة" متخفيا في زي التجار ، واستقربها. ومن ملجئه في سجلماسة في المغرب الأقصى أخذ عبيد الله المهدي يتصل سرا بأبي عبد الله الشيعي الذي كان يطلعه على مجريات الأمور ، ثم لم يلبث أن اكتشف" اليسع بن مدرار" أمير سجلماسة أمر عبيد الله ؛ فقبض عليه وعلى ابنه" أبي القاسم" وحبسهما ، وظلا في السجن حتى أخرجهما أبو عبد الله الشيعي بعد قضائه على دولة الأغالبة. وكان أبو عبد الله الشيعي حين علم بخبر سجنهما قد عزم على السير بقواته لتخليصهما من السجن ، فاستخلف أخاه" أبا العباس" واتجه إلى سجلماسة ، ومر في طريقه إليها على" تاهرت" حاضرة الدولة الرسمية فاستولى عليها ، وقضى على حكم الرّستميين ، وبلغ سجلماسة ـ فحاصرها حتى سقطت في يده ، وأخرج المهدي وابنه من السجن. ويذكر المؤرخون أن أبا عبد الله الشيعي حين أبصر عبيد الله المهدي ترجّل وقابله بكل احترام وإجلال ، وقال لمن معه : هذا مولاي ومولاكم قد أنجز الله وعده وأعطاه حقه وأظهر أمره. وأقام أبو عبد الله الشيعي وعبيد الله المهدي في سجلماسة أربعين يوما ، ثم رحلوا عائدين فدخلوا رقادة في يوم الخميس الموافق (٢٠ من شهر ربيع الآخر ٢٩٧ ه‍ ـ ٧ من يناير ٩١٠ م). وخرج أهل القيروان مع أهل رقادة يرحبون بالإمام المهدي ، وفي يوم الجمعة التالي أمر عبيد الله أن يذكر اسمه في الخطبة في كل من رقادة والقيروان ، معلنا بذلك قيام الدولة الفاطمية. استهدف عبيد الله الفاطمي منذ أن بويع بالخلافة واستقامت له الأمور أن يدعم مركزه ، وأن تكون كل السلطات في يديه ، وأن يكون السيد المطلق على الدولة الناشئة والدعوة الإسماعيلية ، وأنشأ دولة بدهائه وذكائه قبل سيفه وقوته. وخاب أمل أهل المغرب في عبيد الله المهدي ، وساء ظنهم به بعد أن ذهبت الوعود التي وعدهم بها أبو عبد الله الشيعي سدى ، فلم ينقطع الفساد

٥٦

__________________

بخلافة المهدي ، ولم يحل العدل والإنصاف محل الظلم والجور ، بالإضافة إلى السياسة المالية المتعسفة التي انتهجها الفاطميون في جمع الضرائب ، والتفنن في تنويعها حتى فرضوا ضريبة على أداء فريضة الحج. وكان من نتيجة ذلك أن اشتعلت عدة ثورات ضد عبيد الله المهدي ، ولكنه وإن نجح في إخمادها فإنه أصبح غير مطمئن على نفسه في مجتمع يرفض مذهبه ويقاطع دولته مقاطعة تامة ؛ ولذا حرص على أن يبعد عن السكنى في رقادة مركز المقاومة السنّي ، وأسس مدينة جديدة عرفت باسم" المهدية" في سنة (٣٠٣ ه‍ ـ ٩١٥ م) على طرف الساحل الشرقي لإفريقية (تونس) فوق جزيرة متصلة بالبر ، ولم ينتقل إليها إلا في سنة (٣٠٨ ه‍ ـ ٩٢٠ م) بعد أن استكمل بناءها وتشييدها ، وأقام تحصيناتها ومرافقها المختلفة ، وأصبحت المهدية قلعة حصينة للفاطميين بالمغرب ومركز العملياتهم الحربية والبحرية ، وظلت حتى مطالع العصر الحديث أكبر مركز إسلامي للجهاد في البحر المتوسط.

٥٧

سبتة (٨٩) : مدينة في بر العدو قبالة الجزيرة الخضراء ، وهي سبعة أجبل صغار متصلة عامرة ويحيط بها البحر من ثلاث جهاتها. وفيها أسماك عظيمة ليست في غيرها. وبها شجر المرجان الذي لا يفوقه شيء حسنا وكثرة ، وبها سوق كبيرة لإصلاح المرجان ، وبها من الفواكه وقصب السكر شيء كثير جدا. طنجة (٩٠) : هي في

__________________

(٨٩) سبتة : seuta : تقع مدينة في موقع كبير الأهمية ، سواء بالنسبة لموقعها الجغرافي على البحر المتوسط ، وتقابل الأراضي الأسبانية ، أو بالنسبة لاعتبارها كمنطلق أساسي لجميع الجيوش الإسلامية التي عبرت البحر ، باتجاه الأندلس ، وتشير الروايات التاريخية إلى أهمية موقع هذه المدينة ، لأنها تطل على جميع السفن التي تعبر جبل طارق ، فضلا عن أهمية مرساها البحري كقاعدة تجارية وحربية ، حتى سميت (باب الجهاد). وكانت سبتة خاضعة للحكم الروماني الذي حكم المغرب لمدة قرون ، ثم استطاع الوندال أن يزيل الحكم الروماني نهائيا ، وأن يستمر في حكم المغرب لمدة قرون تقريبا ، ثم خلفهم البيزنطيون لفترة وجيزة ، وسرعان ما كانت جيوش الفتح الإسلامي بقيادة موسى بن نصير وطارق بن زياد ، تتقدم بقوة وثبات في شمال افريقيا والأندلس لتقيم أول دولة إسلامية في الغرب الإسلامي .. وكانت مدينة سبتة إحدى أهم المدن التي فتحها المسلمون الأوائل ، وانطلقوا منها إلى الأندلس ، في أول سرية إسلامية بقيادة طريف بن مالك سنة ٩١ هجرية ، وبعد عام انطلق منها الجيش الإسلامي نحو الأندلس وأصبحت مدينة سبتة خلال عصر المرابطين من أهم مراكزهم الحربية ، وأقام فيها يوسف بن تاشفين مدة من الزمن ، لكي يتمكن من أن يتابع بنفسه الإشراف على الجيش الإسلامي ونصرة إخوانهم في الأندلس. ومما يؤكد هذا الازدهار العلمي والحضاري والتجاري الذي شهدته المدينة قبل الغزو البرتغالي ، هو الإحصائيات التي استخرجت من كتاب (اختصار الأخبار عما كان بثغر سبتة من سنى الآثار) لمحمد بن القاسم الأنصاري السبتي الذي ذكر أن المدينة اشتملت على :

١٠٠٠ مسجد ، و ٦٢ خزانة علمية ، و ٤٧ رباط وزاوية ، و ٢٢ حماما ، ١٧٤ سوقا ، ٢٤٠٠٠ حانوتا ، و ٣٦٠ فندقا ، و ٣٦٠ فرنا ، إضافة الى أنواع الفواكه والورود ، وهذا كله يدل على الازدهار الفكري والحضاري الذي وصلت إليه مدينة سبتة في عصرها الإسلامي ، قبل أن تسقط بيد البرتغال ، ثم تصبح بعد ذلك مدينة اسبانية في أرض عربية مسلمة.

(٩٠) مدينة طنجة (بالإنجليزية : Tangier) في شمال المغرب بعدد سكان يقارب ٠٠٠ ٣٥٠ أو ٠٠٠ ٥٥٠ بضواحيها. تتميز طنجة بكونها نقطة التقاء بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي من جهة ، وبين القارة الأوروبية والقارة الافريقية من جهة أخرى. طنجة هي عاصمة جهة طنجة تطوان.

٥٨

العدوة أيضا وكذلك فاس وباقي المدن المشهورة كافريقية وتاهرت ووهران والجزائر والمقل والقيروان فكلها مدن حسنة متقاربة المقادير. والله سبحانه وتعالى أعلم

الغرب الأوسط : وهو شرق بلاد البر ، ومن مدنه بلاد الأندلس وسميت بالأندلس لأنها جزيرة مثلثة الشكل رأسها في أقصى المغرب في نهاية المعمورة ، وكان أهل السوس وهم أهل المغرب الأقصى يضرون أهل الأندلس في كل وقت ويلقون إليهم الجهد الجهيد إلى أن اجتاز بهم الإسكندر (٩١) فشكوا إليه حالهم فأحضر المهندسين وحضر إلى الزقاق ، وكان له أرض جافة ، فأمر المهندسين بوزن سطح الماء من المحيط والبحر الشامي ، فوجدوا المحيط يعلو البحر الشامي بشيء يسير ، فأمر

__________________

(٩١) الإسكندر الأكبر أو الإسكندر المقدوني : حاكم مقدونيا ، قاهر إمبراطورية الفرس وواحد من أذكى وأعظم القادة الحربيين على مر العصور. ولد الأسكندر في بيلا ، العاصمة القديمة لمقدونيا. ابن فيليبّوس الثاني ملك مقدونيا وابن الأميرة أو ليمبيا أميرة سيبرس. وكان أرسطو المعلم الخاص للأسكندر. حيث درّبه تدريبا شامل في فن الخطابة والادب وفي صيف (٣٣٦) قبل الميلاد أغتيل فيليبّوس الثاني فاعتلى العرش ابنه الإسكندر فوجد نفسه محاطا بالأعداء من حوله ومهدد بالتمرد والعصيان من الخارج. فتخلص مباشرة من المتآمرين وأعدائه من الداخل بالحكم عليهم بالاعدام. ثم انتقل إلى ثيساليا حيث حصل حلفائه هناك على استقلالهم وسيطرتهم. وباستعادة الحكم في مقدونيا. قبل نهاية صيف (٣٣٦) قبل الميلاد ، أعاد تأسيس موقعه في اليونان وتم اختياره من قبل الكونغرس في كورينث قائدا. وكان الإسكندر من أعظم الجنرالات على مر العصور حيث وصف كتكتيكي وقائد قوات بارع وذلك دليل قدرته على احتلال كل تلك المساحات الواسعة لفترة وجيزة. قبل أن يموت بفترة وجيزة أمر الإسكندر الإغريق بتمجيده وعبادته كإله ، وأرجعها لأسباب سياسية ولكن هذا القرار سرعان ما ألغي بعد موته. أهم ما قام به دخوله مدينة الإسكندرية (التي سميت بإسمه) وتغييرها تغييرا جذريا حيث أبدا لها اهتماما خاصا وكانت مهيئة بالمكان الاستراتيجي الجيد ووفرة الماء حيث أقبل عليها في عهده التجار والطلاب والعلماء وجميع الفئات وبهذه الإنجازات أصبحت اللغة اليونانية واسعة الانتشار ومسيطرة على لغات العالم.

٥٩

برفع البلاد التي على ساحل البحر الشامي ونقلها من الحضيض إلى الأعلى ، ثم أمر أن تحفر الأرض بين طنجة وبلاد الأندلس فحفرت حتى ظهرت الجبال السفلية وبنى عليها رصيفا بالحجر والجير بناء محكما وجعل طوله اثني عشر ميلا ، وهي المسافة التي كانت بين البحرين ، وبنى رصيفا آخر يقابله من ناحية طنجة وجعل بين الرصيفين ستة أميال. فلما أكمل الرصيفين حفر لها من جهة البحر الأعظم وأطلق فم الماء بين الرصيفين ودخل في البحر الشامي. ثم فاض ماؤه فأغرق مدنا كثيرة وأهلك أمما عظيمة كانت على الشاطئين ، وطغى الماء على الرصيفين إحدى عشرة قامة. فأما الرصيف الذي يلي بلاد الأندلس فإنه يظهر في بعض الأوقات إذا نقص الماء ظهورا بينا مستقيما على خط واحد ، وأهل الجزيرتين يسمونه القنطرة ، وأما الرصيف الذي من جهة طنجة فإن الماء حمله في صدره واحتفر ما خلفه من الأرض اثني عشر ميلا ، وعلى طرفه من جهة الشرق الجزيرة الخضراء ، وعلى طرفه من جهة الغرب جزيرة طريف. وتقابل الجزيرة الخضراء في بر العدوة سبتة ، وبين سبتة والجزيرة الخضراء عرض البحر.

والأندلس به جزائر عظيمة كالخضراء ، وجزيرة قادس (٩٢) ، وجزيرة طريف ، وكلها عامرة مسكونة آهلة.

__________________

(٩٢) قادس : جزيرة بالأندلس عند طالقة من مدن إشبيلية ، وطول جزيرة قادس من القبلة إلى الجوف اثنا عشر ميلا ، وعرضها في أوسع المواضع ميل ، وبها مزارع كثيرة الريع ، وأكثر مواشيها المعز ، فإذا رعت معزهم خروب ذلك المكان عند عقدها ، واسكر لبنها ، وليس يكون ذلك في ألبان الضان. وقال صاحب الفلاحة النبطية : بجزيرة قادس نبات رتم إذا رعته المعز أسكر لبنها إسكارا عظيما ؛ وأهلها يحققون هذه الخاصية. وفي طرف الجزيرة الثاني حصن خرب أولى ، بين الآثار ، وبه الكنيسة المعروفة بشنت بيطر (سان بيتر) ، وشجر المثنان كثير بهذه الجزيرة ، وبها آثار للأول كثيرة. ومن أعجب الآثار بها الصنم المنسوب إلى هذه الجزيرة ، بناه أركليش ، وهو هرقليس ، أصله من الروم الإغريقيين ، وكان من قواد الروم وكبرائهم.

٦٠