خريدة العجائب وفريدة الغرائب

سراج الدين بن الوردي

خريدة العجائب وفريدة الغرائب

المؤلف:

سراج الدين بن الوردي


المحقق: أنور محمود زناتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-358-6
الصفحات: ٥٠٣

ولما فتح كسرى بلاد العجم وأحكم البنيان وشيد الحصون ومهد البلاد ونشر العدل والإنصاف في الحاضر والباد ، وجند الجنود وحشد الحشود ، سار إلى نحو الجزيرة وآمد (٥٣٣) ، وفتح ما هناك من البلاد إلا آمد فإنه عجز عنها لتشييد بنائها وتمكين سورها ، فرحل إلى الفرات وافتتح حلب وأعمالها وكثيرا من الشام ، وغدر (٥٣٤) بقيصر ملك الشام والروم ؛ وقتل ابن أخته بحمص ثم سار إلى أنطاكية وقتل صاحبها وافتتحها. فخاف قيصر وهادنه وحمل إليه الجزية (٥٣٥). وكان ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك نزل قوله تعالى : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ)(٥٣٦). والقضية قصة مشهورة ليس هذا موضع ذكرها. قال : وحمل كسرى من الشام من أعاجيب الرخام وبدائع المرمر وأنواع البلاط المجزع والأحجار البهجة ؛ فبنى بالعراق مدينة تسمى برومية وزخرفها بأبهى ما قدر عليه ، وكان أراد أن يصنع ذلك بآمد فلم يقدر على أخذها وفتحها ؛ فجعل رومية على هيئتها وشكلها. واشتد سلطان كسرى وعظم ملكه حتى هابته ملوك الأرض وهادنته وحملت إليه الجزية ، وتزوج بشاه روزا ابنة خاقان ملك الترك ولم يكن في زمانها أكمل منها محاسن ، ولا أبدع صورة وشكلا. وكتب إليه ملك الصين : من نقفور ملك الصين صاحب قصر الدر والجواهر ، الذي يجري في ساحة

__________________

(٥٣٣) آمد : بكسر الميم ، وهي لفظة رومية : بلد قديم حصين مبني لا لحجارة السود ، ودجلة محيطة بأكثره ، مستديرة به كالهلال (مراصد الاطلاع ، البغدادي ، ج ١ ، ص ٦).

(٥٣٤) الغدر : الإخلال بالشيء وتركه ، والغدر يقال لترك العهد ، ومنه قيل : فلان غادر ، وجمعه : غدرة ، وغدار : كثير الغدر ، والأغدر ، وغدرت الشاة : تخلفت فهي غدرة انظر : اللسان (غدر).

(٥٣٥) الجزية : Tribute : الجزية ما يؤخذ من أهل الذمة من مال وغيره من أهل البلاد المفتوحة مقابل حمايتهم والذود عنهم.

(٥٣٦) سورة الروم : آية ١ ـ ٣.

٣٨١

قصره نهران يسقيان العود والكافور ، الذي يوجد ريح قصره في فرسخين ، وتخدمه بنات ألف ملك ؛ والذي في مربطه ألف فيل أبيض ، إلى أخيه كسرى أنوشروان.

وأهدى إليه فارسا هو وفرسه من الدر المنضود ، وعينا فرسه من الياقوت الأحمر ؛ وأهدى إليه ثوبا من الحرير الصيني ، فيه صورة الملك كسرى وهو جالس على كرسيه في إيوانه ، والتاج على رأسه والملوك في خدمته ، والخدم بأيديهم المذاب المصورة المنسوجة بالذهب في أرض لازوردية ، في صندوق مرصع بأنواع اليواقيت الفاخرة التي لا قيمة لها ؛ وأهدى إليه جارية خطائية تغيب في شعرها الحالك إذا أسبلته ، يتلألأ جمالا وبهاء ، وغير ذلك من طرف الصين وأعاجيبه. وكتب إليه ملك الهند : من ملك الهند وعظيم أراكنة (٥٣٧) الشرف ، صاحب قصر الذهب والزمرد والياقوت والزبرجد ، الذي أبواب قصره من الزمرد الزباني. إلى أخيه كسرى أنوشروان ملك فارس. وأهدى إليه ألفا من العود الهندي الذي يذوب على النار كالشمع ويختم عليه كما يختم على الشمع فتبين فيه الكتابة. وأهدى إليه جاما من الياقوت البهماني ، يفتح شبرا في شبر ، سمكه عرض أصبعين. وأهدى إليه أربعين درة يتيمة ، كل واحدة تزيد على ثلاثة مثاقيل ، وأهدى إليه عشرة أمنان كافور كالفستق ، وأكبر جارية طولها عشرة أشبار إلى صدرها ، وخمسة أشبار إلى فرقها ، تضرب أهداب عينيها على خديها فكأن بين أجفانها لمعانا كلمعان البرق من بياض مقلتيها وسواد سوادهما مع صفاء لونها ودقة تخاطيطها وإتقان شكلها مقرونة الحاجبين. وكان كتابه في لحاء شجر الكادي والكتابة بالذهب. وهذا شجر يكون بأرض الصين والهند ، وهو نوع من نبات الطيب عجيب ذو لون أبيض كالفة مصقول بالمرآة ، ينطوي كالورق ولا يتكسر ، وريحه أعطر شيء من الطيب

__________________

(٥٣٧) الأركون ، رئيس القرية ورئيسها الأعظم ، على وزن أفعول من الركون لأن أهلها يركنون إليه ، أي يسكنون ويميلون إليه (لسان العرب ، ٣ / ١٧٢٢ / مادة ركن).

٣٨٢

وأهدى إليه ملك تبت من عجائب بلاده مائة جوشن (٥٣٨) تبتية ومائة قطعة تخافيف كالبرانس كل واحدة منها تستر الفارس وفرسه ومائة ترس تبتية ، لا تعمل في هذه الأتراس والجواشن والتخافيف عوامل الرماح ولا بواتر الصفاح ولا شدائد نصول الجراح ، وزنة كل قطعة من المذكورات ما بين أربعين إلى ستين درهما. وأهدى إليه أربعة آلاف من من المسك التبتي ، وتسعين غزالا من غزلان المسك في الحياة ومائدة عظيمة من الذهب الأحمر مرصعة بأنواع الدر والجواهر يدور حولها نحو ثلاثين رجلا ، قد كتب على حافتها : أشهى الطعام ما أكله الآكل من حله وجاد على ذي الفاقة من فضله. ما أكلته وأنت تشتهيه فقد أكلته ، وما أكلته وأنت لا تشتهيه فقد أكلك.

وكان لكسرى خواتيم أربعة : خاتم للخراج ، فصه ياقوت أحمر يتقد كالنار ، نقشه : العدل للعدل. وخاتم للضياع ، فصه فيزوزج نقشه : العمارة العمارة. وخاتم للضرب والعقوبة ، فصه من زمرد ، نقشه : التأني التأني. وخاتم للبرد والرسل فصه درة بيضاء ، نقشه : العجل العجل. وكان له مائدة أهداها إليه قيصر ملك الروم من العنبر ، فتحها ثلاثة أذرع ، على ثلاث قوائم من الذهب مفصصة بأنواع الجواهر ، أحد الأرجل الثلاثة ساعد أسد وكفه ، والآخر ساق وعل ، والثالث كف عقاب ومخلبه وثلاثون جاما من الجزع اليماني ، فتح كل منها شبر في شبر. وكان عنده خمسة آلاف درة ، زنة كل واحدة منها ثلاثة مثاقيل. وكان يقول خير الكنوز معروف أودعته الأحرار ، وعلم توارثته الأعقاب ، وأطول الناس عمرا من كثر علمه فانتفع به من بعده. وكان لكسرى عشرة آلاف غلام من الترك والخطا وهم في غاية الحسن والجمال واستقامة الصور والتخطيط ، في آذانهم قروط الذهب الأحمر فيها الدر

__________________

(٥٣٨) الجوشن : الدرع (بطرس البستاني : محيط المحيط).

٣٨٣

والياقوت معلقا ، ولباسهم أقبية الديباج المدثر عشرة صنوف ، كل صنف منها على قد واحد وزي واحد ولون واحد من ملابس الديباج ، ولا يزالون كذلك وكلما التحى واحد منهم أو مات أتي بغيره مكانه في الوقت والحال. وكان على مربطه تسعة آلاف فيل ، منها ألفان وسبعمائة فيل أشد بياضا من الثلج ، ومنها ما ارتفاعه أربعون شبرا ، مات منها فيل فوزن أحد نابيه فوجد مائتين وأربعين منا بالبغدادي.

ولما ملك الاسكندر فارس والمغرب والشام وبنى الاسكندرية ودمشق وغيرهما وأحاديثه طويلة ارتحل نحو الهند والسند والصين فوطئ أرضها وأذل ملوكها ، وأهديت إليه الهدايا من الترك والتبت وغيرهم إلى أن أنهى مطلع الشمس من العمران ، وكان معلمه أرسطاطاليس ، فبلغه أن بأقصى الهند ملكا عادلا من ملوكهم وهو ذو حكمة وديانة وسياسة وقد أتى عليه مئات من السنين وهو قاهر لطبيعته مميت لشهوات نفسه ، يتجمل بكل خلق كريم ويظهر بكل فعل جميل. فكتب إليه الإسكندر يقول : إذا أتاك كتابي هذا فلا تقعد ولو كنت ماشيا ، حتى تأتيني وإلا مزقت ملكك وألحقتك بمن مضى.

فلما ورد الكتاب على ملك الهند كتب جوابا للإسكندر بأحسن خطاب وألطف جواب ، ولقبه بملك الملوك العادلة وأعلم الإسكندر في جوابه أنه قد اجتمع عنده أشياء لم تجتمع عند ملك من ملوك الدنيا ، من ذلك ابنة لم تطلع الشمس على أحسن صورة وهيئة منها ، ومنها فيلسوف يخبرك عن مرادك من قبل أن تسأله ؛ ومنها طبيب لا تخشى معه من الأدواء والأمراض والعوارض إلا ما جاء من قبل الموت ، ومنها قدح إذا ملأته شرب منه عسكرك بجمعه ولا ينقص من القدح شيء ، وإني مهد جميع ذلك إلى ملك الملوك وسائر إليه.

٣٨٤

قال : فلما قرأ الإسكندر جوابه وسمع بذكر هذه الأشياء قلق إليها قلقا عظيما ، فأرسل إليه جماعة من الحكماء أن يشخصوه إليه إن كان كاذبا وأن يخيروه في المقام إن كان صادقا ويأتوه بهذه الأربع. فمضى القوم إلى ملك الهند فتلقاهم أحسن لقاء وأنزلهم أرحب منزل وأكرمهم أعظم إكرام مدة ثلاثة أيام. فلما كان اليوم الرابع جلس لهم مجلسا خاصا وأقبل على الحكماء وباحثهم في أصول الحكمة والفلسفة والعلم الإلهي والمبادئ الأول والهيئة والأرض ومساحتها والبحار وغيرها ، حتى ملأ صدورهم من العلم والحكمة. ثم أخرج ابنته إليهم وأبرزها عليهم فلم يقع أحدهم على عضو من أعضائها فأمكنه أن يتعدى ببصره عن ذلك العضو إلى غيره ، وشغله تأمل ذلك العضو وحسن تخطيطه واتقان صنعه. فخافوا على عقولهم من الزوال ، ثم رجعوا إلى نفوسهم عند سترها وقد اندهشوا ، وسير صحبتهم القدح والطبيب والفيلسوف ، وودعهم مسافة من الأرض بعد أن خيروه في المقام.

فلما ورد ذلك على الإسكندر أمر بإنزال الطبيب والفيلسوف في دار الضيافة والإكرام ، ونظر إلى الجارية فطاش عقله عند مشاهدتها وشغف بها ، وكان الإسكندر إذ ذاك ابن خمس وعشرين سنة ، وكان من أحسن الناس خلقا وخلقا ، وأكثر الملوك إنصافا وعدلا ، وأغزر الخلق معرفة وحكمة ، وأعظم الملوك هيبة وصيتا ، فأمر القيمة بإكرامها واحترامها وتعظيمها وتقديمها على سائر حرمه وأهله.

ثم قصت الحكماء ما جرى بينهم وبين ملك الهند من المباحث ، فأعجب الإسكندر وامتحن القدح بأن ملأه ماء فشرب منه جميع عسكره ولم ينقص منه شيء.وسار في الحال إلى الفيلسوف يمتحنه فيما قيل عنه بإناء مملوء من السمن يحيث لا يمكن أن يزاد فيه شيء ، وقال للرسول : سر به إلى الفيلسوف وضعه بين يديه ولا تخبره بشيء أصلا. فلما وصل به وضعه بين يديه ووقف ولم يكلمه فأخذه الفيلسوف

٣٨٥

بيديه ونظره وتأمله بانفاذ بصيرته فأخذ إبرا صغارا كثيرة وغرزها في السمن حتى بقي وجه السمن كالقنفذ (٥٣٩) ، وسيرها إلى الاسكندر ، فلما رآها الإسكندر ووقف عليها حرك رأسه ثم أمر فجعل من الإبر كرة حديد وسيرها إلى الفيلسوف. فلما وقف الفيلسوف عليها ضرب منها مرآة مصقولة ترد صورة من تأملها من الأشخاص لشدة تلألئها وصفائها وزوال درنها ، وأمر بردها إلى الإسكندر. فجعلها الإسكندر في طست فيه ماء وسيرها إلى الفيلسوف. فلما نظرها الفليسوف جعلها كرة مقعرة حتى طفت على وجه الماء وسيرها إلى الإسكندر. فلما رآها الإسكندر ثقبها وملأها ترابا وردها إلى الفيلسوف. فلما رآها الفيلسوف تغير لونه ودمعت عينه وسيرها إلى الإسكندر على حالها من غير أن يحدث في التراب حادثة.

قال : فلما كان من الغد جلس الإسكندر جلوسا خاصا وأمر بإحضار الفيلسوف فلما أقبل نحو الإسكندر ، رآه الإسكندر شابا حسنا كأحسن الناس ، فتعجب من حسنه وهيئته ، فحط الفيلسوف يده على أنفه ثم أتى بتحية الملوك. فأشار الإسكندر إليه بالجلوس على كرسي وضعه له بين يديه فجلس حيث أمره ،

ثم قال له الإسكندر : ما بالك لما نظرت إليك وضعت أصبعك على أنفك؟ فقال أيها الملك المعظم دام لك الملك والنعم ، لما نظرت إلي استحسنت صورتي وخطر بخاطرك هل حكمة هذا الشاب على قدر صورته ، فوضعت اصبعي على أنفي أخبر الملك أنه ليس في الهند مثلي. فقال : صدقت قد خطر ذلك بخاطري.

__________________

(٥٣٩) القنفذ : حيوان ثديي آكل حشرات ، ليلي ، يكمن شتاء ، جسمه مغطى بأشواك تنتشر بين الشعر ويلتف فيصير كالكرة فيقي نفسه من خطر الأعداء (الموسوعة الثقافية ، كتاب الشعب ، مؤسسة دار الشعب / القاهرة ، ١٩٧٢ م).

٣٨٦

ثم قال له الاسكندر : يا رئيس حدثني بما كان بيني وبينك من الرسائل ، فقال : أيها الملك أرسلت إلي بإناء مملوء من سمن لا يمكن أن يزاد فيه ، تخبرني أنك قد امتلأت من الحكم فلا يمكن أن يزاد على حكمتك شيء ، فأخبرتك أن عندي من دقائق الحكم ولطائفها ما ينفذ في حكمتك كما نفذت الإبر في السمن. ثم أرسلت إلي بالإبر كرة ، فأخبرتني أن نفسك قد علاها من وسخ الصدأ بقتل الأعداء وسفك الدماء ما قد علا هذه الكرة ، فأخبرتك أن عندي من الحيلة والملاطفة ما يجعل نفسك مثل صفاء هذه المرآة حتى تشرق على الموجودات ، ثم أعلمتني بالطست (٥٤٠) والماء أن الأيام والليالي قد قصرت عن ذلك فأخبرتك أني سأعمل في الحيلة على إيصالك إلى العلم الكثير في العمر القصير ، كما شرفت الحديد الذي من طبعه الرسوب في الماء على وجه الماء فثقبت المقعر وملأته ترابا ، تخبرني بالموت والقبر ، فلم أغيره مخبرا للملك أن لا حيلة في الموت.

فتعجب الاسكندر وقال : والله ما غادر ما خطر بخاطري. ثم أمر له بخلع وأموال كثيرة فأبى وقال : أنا راغب فيما يزيد في عقلي ، فكيف أدخل على عقلي ما ينقصه؟ أيها الملك أحسن إلى أهل الهند وكف عن معارضتهم. وقيل : إن القدح الذي شرب منه عسكر الاسكندر وما نقص منه شيء هو قدح آدم أبي البشر عليه السلام ، معمول من ضروب الخواص والروحانية ؛ وشاهد من الطبيب من لطائف صنائعه ما بهر عقله ، ومن عجائب علاجه وتلطفه في إزالة الآفات والأدواء.

وقيل : مر ببابل فأخبر عن غار هناك وبه آثار عظيمة ، فأتاه ووقف على بابه فإذا عليه مكتوب بالسرياني : يا من نال المنى وأمن الفنا وقد وصل إلى هنا ، اقرأ وافتكر

__________________

(٥٤٠) الطست : من آنية الصفر وطشت وطست تعريب تشت الفارسي وهو إناء من النحاس تغسل فيه الأيدي وغيرها (طوبيا العنيسي ، تفسير الألفاظ الدخيلة ، ص ٤٦).

٣٨٧

وادخل إلى الغار واعتبر ، واعلم أني قد ملكت البلاد وحكمت على العباد وما نلت من الدنيا المراد ، قال : فدخل الإسكندر الغار وقد أسبل الدموع الغزار ، فوجد شيخا عظيم الهامة طويل القامة على سرير من الذهب ملقى ، وقد ترك جميع ما ملك ، وألقى يده اليمنى مقبوضة والأخرى مفتوحة ، ومفاتيح خزانته عند رأسه مطروحة ، وعلى يمينه لوح مكتوب فيه : جمعنا الماء وأمسكناه ، وعلى شماله لوح مكتوب فيه : ثم رحنا وتركناه ؛ وعند رأسه لوح مكتوب فيه :

لقد عمّرت في زمن سعيد

وكنت من الحوادث في أمان

وقاربت الثريّا في علوّ

فصرت على السرير كما تراني

فقال الإسكندر : سبحان الملك الذي لا عز إلا عزه. ووقع في قلبه الوجل والوله ، فترك كل ما كان له وتخلى للعبادة وأصلح عمله وفرق الذخائر والخزائن ، وتصدق بماله في الحصون والمدائن ، وأعتق العبيد والخدم ، وانتصب لعبادة الله على أحسن قدم وقال : أعزل نفسي قبل العزل ، وأحاسبها قبل حساب يوم الفصل ، ولبس الخشن والمسوح رغبة في ملك الأبد والثواب الممنوح ، وجرح نفسه بسكين الجوى ، حتى أعرضت عن مهاوي الهوى ، لما وجد في الغار الدوا ، وترك ما حاز واحتوى ؛ واعتزل اللهو وانزوى ، ولبساط الرغبة طوى ؛ ولسان حاله ينشد لما تم له واستوى :

دع الهوى ، فآفة العقل الهوى

ومنتهى الوصل صدود ونوى

وراقب الله ، فأنت راحل

إلى الثرى ، ومعظم العمر انطوى

ما ينفع الإنسان يوم موته

ما حاز من أمواله وما احتوى

يقسمها وارثه برغمه

وهو بنار إثمها قد اكتوى

تب قبل شيب الراس ، فالتائب لا

يتبع شيب رأسه إلا التوى

٣٨٨

ما دام في العمر اخضرار عوده

سهل ، وصعب عوده إذا ذوى

إذا أضيع أوّل العمر أبت

أعجازه إلا اعوجاجا والتوا

قيل : ورجع الإسكندر من بابل وقد أحاطت به البلابل وظهرت به آثار السقام ، حتى ثقل لسانه بالكلام وكان قد رأى في منامه وطيب لذيذ أحلامه أنه سيموت فوق أرض من حديد وتحت سماء من حديد ، ثم أخذه العطش والحمى والتلهب والظمأ ففرشوا تحته دروع الحديد وظللوا فوقه بالجحف الفولاذ استجلابا للتبريد ، فأفاق بعد زمان من الغشوة واللهف ، فرأى دروع الحديد تحته وفوقه الجحف ، فأيقن بارتحاله ، فكتب كتابا إلى أمه بصورة حاله وأوصاها بأن تعمل له وليمة عجيبة الأسلوب ، وأن لا يحضرها إلا من لا أصيب بخليل ولا محبوب. فلما مات رحمه الله وضع في تابوت من ذهب ليحمل إلى أمه بالإسكندرية ، واجتمعت له هذه النعم وعمره ست وثلاثون سنة. وكان مدة ملكه تسع سنين. فقال حكيم الحكماء : ليتكلم كل منكم بكلام ليكون للخاصة معزيا وللعامة واعظا. فقام أحدهم وقال : لقد أصبح مستأسر الملوك أسيرا. وقال آخر : هذا الإسكندر كان يخبأ الذهب فصار الذهب يخبؤه. وقال آخر : العجب كل العجب أن القوي قد غلب والضعفاء مغترون. وقال آخر : قد كنت لنا واعظا ولا واعظ أبلغ من وفاتك. وقال آخر : رب هائب لك لا يقدر أن يذكرك سرا وهو الآن لا يخافك جهرا. وقال آخر : يا من ضاقت عليه الأرض في طولها والعرض ، ليت شعري كيف حالك في قدر طولك؟.وقال آخر : يا من كان غضبه الموت هلا غضبت على الموت؟ وقال آخر : سيلحق بك من سره موتك. وقال آخر : مالك لا تحرك عضوا من أعضائك وقد كنت تزلزل الأرض؟

٣٨٩

فلما ورد على أمه في التابوت شرعت في عمل الوليمة ، وهيأت المآكل والمطاعم ونادت : لا يحضر الوليمة إلا من لا فجع في الدنيا بمحبوب ولا خليل ؛ فلم يحضر الوليمة أحد. فقالت : ما بال الناس لا يحضرون الوليمة؟ قالوا : أنت منعتهم من الحضور. قالت : كيف ذلك؟ قيل لها : قد أمرت أن لا يحضرها من فقد محبوبا ولا من فجع بخليل ، وليس في الناس أحد إلا وقد أصيب بذلك مرارا. فلما سمعت بذلك خف ما بها من الحزن وتسلت بعض تسلية وقالت : رحم الله ولدي لقد عزاني بأحسن تعزية ، وسلاني بألطف تسلية. يا هذا أين القرون الأول والأخر؟ أين من ملك وقهر؟ أين من حشد وحشر؟ أين من أمر وزجر وخرب آخرته ، ودنياه عمر ، وأمن الموت المنتظر ، هل كان له من الموت مفر؟ فلما جاءه المنون (٥٤١) بالأمر الأمر حطه من القصور إلى الحفر ، وعوضه عن الحرير بالمدر ، وسلط عليه الدود إلى أن اضمحل واندثر ، ولم يبق منه عين ولا أثر إلا ذل وفتر ، ووهن وخور ، وعنف على ذنبه المحتقر ، ونبئ بما قدم وأخر من العجر والبجر.

تبني وتجمع والآثار تندرس

وتأمل اللّبث والأرواح تختلس

ذا اللب فكّر فما في الخلد من طمع

لا بد أن ينتهي أمر وينعكس

أين الملوك وملّاك الملوك ، وم ،

كانوا إذا الناس قاموا هيبة جلسوا

ومن سيوفهم في كل معركة

تخشى ، ودونهم الحجّاب والحرس

أصمّهم حدث وضمّهم جدث

باتوا وهم جثث في الرمس قد حبسوا

أضحوا بمهلكة في وسط معركة

صرعى ، وماشي الورى من فوقهم نطس

كأنهم قطّ ما كانوا وما خلقوا

ومات ذكرهم بين الورى ونسوا

والله لو شاهدت عيناك ما صنعت

يد البلاء بهم والدود تفترس

__________________

(٥٤١) المنون : الموت (لسان العرب ، مادة منن).

٣٩٠

لعاينت منظرا تشجى القلوب به

وعاينت منكرا من دونه البلس

من أوجه ناظرات حاز ناظرها

ورونق الحسن منها كيف ينطمس

وأعظم باليات ما بها رمق

وليس تبقى بهذا وهي تنتهس

وألسن ناطقات زانها أدب

ما شأنها؟ شانها بالآفة الخرس

تبسّهم ألسن للدهر فاغرة

فاها ، فآها لهم إذ بالردى وكسوا

عروا من الوشى لما ألبسوا حللا

من التراب على أجسامهم وكسوا

وعاد ترب المنايا من ملابسهم

جون الثياب ، وقدما زانها الورس

إلام يا ذا النّهى لا ترعوي أبدا

ودمع عينك لا يهمي وينبجس

هذا آخر الكلام عن أخبار الملوك الماضية. والله سبحانه وتعالى أعلم.

٣٩١

مسائل عبد الله بن سلام للنبي

فصل في ذكر الكلام في مسائل عبد الله بن سلام لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام

وفيها فوائد كثيرة وعلوم غزيرة تزيد هذا الكتاب رونقا وبهجة وتفيد الناظر فيه استدلالا وحجة روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وأمر أن يكاتب ملوك الكفار وأن يدعوهم إلى عبادة الملك الجبار ، كتب كتابا إلى يهود خيبر (٥٤٢) ، حيث كانوا أقرب الكفار إليه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا جبريل ، ما الذي أكتبه إليهم؟ فأملاه جبريل فقال : أكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى يهود خيبر ، أما بعد : فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والدين الخالص لله والعاقبة للتقوى ، والسلام على من اتبع الهدى وأطاع الملك الأعلى ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فكتب ثم ختمه وأرسل به إلى يهود خيبر. فلما وصل إليهم أتوا به شيخهم وكبيرهم وحبرهم وعالمهم عبد الله بن سلام وكان اسمه قبل اسلامه أشماويل ، فقالوا : يا ابن سلام هذا كتاب محمد قد أتانا فاقرأه علينا. فقرأه عليهم ، ثم قال لهم : ما ترون؟ وقد علمتم أن في التوراة (٥٤٣) علامات تعرفونها وآيات لا تنكرونها ، تظهر على يد محمد الذي بشر به موسى بن عمران ؛ فإن

__________________

(٥٤٢) خيبر : مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على بعد تسعين ميلا تقريبا من المدينة في جهة الشمال (الحميري ، الروض ٢٢٨ ، ياقوت ، معجم ٢ / ٤٠٩) وفي غزوة خيبر أنظر : فتح الباري شرح صحيح البخاري ٧ / ٤٦٣ وما بعدها ، وصحيح مسلم في الجهاد والسير باب غزوة خيبر ، الواقدي : المغازي (٦ / ٣٨٩) ، وتاريخ الطبري (٢ / ٢٩٨) ، وابن الأثير : الكامل (٢ / ٢١٦).

(٥٤٣) التوراة : تعني كلمة" التوراة" بالعبرية التعليم أو التوجيه (الترئية بالمعنى الحرفي) وخصوصا فيما يتعلق بالتعليمات والتوجيهات القانونية ، وترمز التوراة للأسفار الخمسة الأولى من الكتاب المقدّس عند اليهود (للمزيد أنظر ، دائرة المعارف الاسلامية ، اللغة العبرية وآدابها (٢٩) ، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ، للدكتور عبد الوهاب المسيري).

٣٩٢

يك هذا أطعناه : فقالوا : إذا ينسخ كتابنا ويحرم ما هو محلل لنا. فقال ابن سلام : يا قوم لقد آثرتم الدنيا على الآخرة والعذاب على الرحمة. ثم قال لهم إن محمدا رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب وأنتم بين أظهركم التوراة وتكتبون وتقرؤون ، فأنا أستخرج من التوراة ألفا وأربعمائة مسألة وأربع مسائل من غوامضها ، وأتوجه بها إليه فإن عرفها وأجاب عنها وكشف الالتباس فهو الذي بشر به موسى بن عمران فنؤمن به حقيقة الايمان ، وإن تلكأ وعجز عن حلها فلا نرجع عن ديننا ولا نتبعه لحظة من زمان. فأجابه اليهود إلى ما قاله واستخرجوا من التوراة ما قدروا عليه من غوامض لا تصل إليها أفهامهم ، وجهزوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال : فلما وصل إلى المدينة ودخل من باب المسجد ورأى أنوار النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من حوله حن قلبه إلى الإسلام فقال : السلام عليك يا محمد ، أنا أشماويل بن سلام ، والسلام على أصحابك الأعلام. فقالوا : وعلى من اتبع الهدى السلام ورحمة الله وبركاته على الدوام ، ثم أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالجلوس فجلس ، فقال له : ما تريد يا بن سلام؟ فقال يا محمد أنا من علماء بني إسرائيل وممن قرأ التوراة وفهمها وعلمها ، وأنا رسول اليهود إليك ، وقد أرسلوا معي رسائل لا نفهمها عن يقين ، وقد سألوك أن تبينها لهم وأنت من المحسنين. فقال عليه الصلاة والسلام : قل ما بدا لك من المسائل يا بن سلام فقد أخبرني بها جبريل عن الملك العلام ، وإن شئت أخبرتك بها قبل أن تفوه بالكلام.

فقال : يا محمد أعلمني بها لكي أزداد يقينا. فقال : يا بن سلام لقد جئتني بألف مسألة وأربعمائة مسألة وأربع مسائل ، استخرجتموها من التوراة ونسختها بخطك. قال : فنكس عبد الله بن سلام رأسه وبكى وقال : صدقت يا محمد ، وأنت الصادق الأمين ، يا محمد أنت نبي أم رسول الله؟ فقال : إن الله جل وعلا بعثني نبيا ورسولا وخاتم النبيين ، أما قرأت في التوراة : محمد رسول الله والذين معه أشداء على

٣٩٣

الكفار رحماء بينهم ، تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا قال : صدقت يا محمد أمكلم أم موحى إليك؟ قال : يا بن سلام إن هو إلا وحي يوحى ، ينزل به جبريل الأمين عن رب العالمين. قال : صدقت يا محمد ، كم خلق الله من نبي؟ قال : مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا ، قال : صدقت يا محمد ، فكم من مرسل فيهم؟ قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر. قال : صدقت يا محمد ، فمن كان أول الأنبياء؟ قال : آدم عليه السلام ، قال : فمن كان أول المرسلين؟ قال : آدم أيضا ، كان نبيا مرسلا.

قال : صدقت يا محمد. فأخبرني عن رسل العرب كم كانوا ، قال : سبعة : إبراهيم ، وإسماعيل ، ولوط ، وصالح ، وشعيب ، ومحمد. قال : صدقت يا محمد. فأخبرني كم كان بين موسى وعيسى من نبي؟ قال : ألف نبي. قال : صدقت يا محمد فعلى أي دين كانوا؟ فقال : على دين الله الخالص ودين ملائكته ودين الإسلام قال : صدقت يا محمد ، ما الاسلام وما الإيمان؟ قال : الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم شهر رمضان والحج إلى بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلا ، والايمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره حلوه ومره

قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني كم دينا لله تعالى؟ قال : يا بن سلام دين واحد وهو الإسلام. قال : صدقت يا محمد ، كم كانت الشرائع؟ قال : كانت مختلفة في الأمم الماضية. قال : صدقت يا محمد ، فأهل الجنة يدخلون الجنة بالإسلام أم بالإيمان أم بأعمالهم؟ قال : يا بن سلام استوجبوا الجنة بالإيمان ، ويدخلونها برحمة الله ويقتسمونها بأعمالهم. قال : صدقت يا محمد فأخبرني كم كتابا أنزل الله تعالى؟ قال : يا بن سلام أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب. قال : صدقت يا محمد ، فعلى من أنزلت هذه الكتب؟ قال : أنزل الله عز وجل على شيث بن آدم خمسين صحيفة ، وأنزل على

٣٩٤

إدريس (٥٤٤) ثلاثين صحيفة ، وأنزل على إبراهيم عشرين صحيفة ، وأنزل الزبور على داود ، والتوراة على موسى ، والانجيل (٥٤٥) على عيسى ، والفرقان على محمد.

قال : صدقت يا محمد ، لم سمي الفرقان فرقانا؟ قال : لأن آياته وسوره مفرقة لا كالصحف والتوراة والإنجيل. قال : صدقت يا محمد ، فهل في القرآن شيء من الصحف؟ قال : نعم. قال : وما هو يا محمد؟ فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى ، إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى)(٥٤٦) قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني ما ابتداء القرآن وما ختمه؟ قال : ابتداؤه بسم الله الرحمن الرحيم ، وختمه صدق الله العظيم.

قال : صدقت يا محمد. فأخبرني عن خمسة خلقها الله بيده. قال : جنة عدن خلقها الله بيده ، وشجرة طوبى غرسها الله بيده ، وصور آدم بيده ، وبنى السماء بيده ، وكتب الألواح لموسى بيده. قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني من أخبرك بما أخبرت؟ قال. أخبرني جبريل ؛ قال : صدقت يا محمد ، عمن؟ قال : عن ميكائيل. قال : عمن؟ قال :

__________________

(٥٤٤) كان ادريس عليه السلام نبيا يوحى اليه وكان صادق الوعد ، ويذكر أن اسمه ادريس لغزارة علمه بما نزل اليه من الوحي والدرس الكثير ، وقال أنه أول من خط بالقلم ، وأول من عرف حساب الأيام والسنين ، وبرع في الطب واتصف بثلاث صفات (التعمير ، والورع ، والرفع الى السماء ، وفي الرابعة قبضه ملك الموت ، ويجعله البعض الخضر أو الياس (تفسير الطبري (١٦ / ٧٢).

(٥٤٥) يطلق على الإنجيل" العهد الجديد" أما التوراة فيطلق عليها" العهد القديم" (للمزيد ، أنظر ، قاموس الكتاب المقدس ، كتاب الألفاظ (٣١٧) ، والانجيل وهو الكتاب الذي أنزله الله على عيسى بن مريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى بني إسرائيل ، متمما لما جاء في التوراة من تعاليم ، فيه أحكام ووصايا ومواعظ (القاموس الاسلامي ، ج ١ ، ص ١٩٤).

(٥٤٦) سورة الأعلى : آية ١٤ ـ ١٩.

٣٩٥

عن إسرافيل (٥٤٧) ، قال : عمن؟ قال : عن اللوح المحفوظ. قال : عمن؟ قال : عن القلم ، قال : عمن؟ قال : عن رب العالمين ، قال : وكيف ذلك؟ قال : يأمر الله فيكتب على اللوح ، وينزل اللوح على إسرافيل ، ويبلغ ميكائيل جبريل. قال : صدقت يا محمد. فأخبرني عن جبريل في زي الذكران هو أم في زي الإناث؟ قال : في زي الذكران. قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني ما طعامه وشرابه؟ قال : يا بن سلام ، طعامه التسبيح وشرابه التهليل. قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني ما طوله وما عرضه ، وما صفته وما لباسه؟ قال : يا بن سلام ، الملائكة لا توصف بالطول والعرض لأنهم أرواح نورانية لا أجسام جثمانية ، ضوءه كضوء النهار في ظلمة الليل ، له أربعة وعشرون جناحا خضراء مشبكة بالدر والياقوت ، مختومة بالدر واللؤلؤ والمرجان ، عليه وشاح ، بطانته من استبرق (٥٤٨) وهي تأخذ بالبصر ، وطهارته الوقار وإزاره الكرامة ووجهه كالزعفران ، لا يأكل ولا يشرب ولا يسهو ولا يمل ولا ينسى ، وهو قائم بأمر وحي الله تعالى إلى يوم القيامة. قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني عن بدء خلق الدنيا ، وأخبرني عن بدء خلق آدم. قال : نعم ، إن الله سبحانه وتعالى تقدست أسماؤه ، وجل ثناؤه ولا إله غيره ، خلق آدم من طين بيده وخلق الطين من الزبد ، وخلق الزبد من الموج ، وخلق الموج من الماء.

قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني عن آدم لم سمي آدم؟ قال : لأنه خلق من طين الأرض وأديمها. قال : صدقت يا محمد ، قال : فآدم خلق من طينة واحدة أم من الطين كله قال : يا بن سلام : بل خلق من الطين كله ، ولو خلق من طينة واحدة لما عرف الناس بعضهم بعضا ولكانوا على صورة واحدة قال : صدقت يا محمد ، فهل

__________________

(٥٤٧) إسرافيل : الملك الموكل بالنفح في الصور.

(٥٤٨) الاستبرق : ما غلظ من الديباج فهو البطائن والسندس الظهائر (كلمات القرآن ، عبد المنعم ابراهيم ، ص ٤٣٤).

٣٩٦

لذلك مثل في الدنيا؟ قال : نعم ، أما تنظر إلى الدنيا محشوة من تراب أبيض وأحمر وأصفر وأغبر وأسود وأزرق ، وفيه عذب وملح ولين وخشن ومتغير ومنتن ، وكذلك بنو آدم. قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني لما خلق الله آدم ، من أين دخلت فيه الروح؟ قال : دخلت من فيه قال : صدقت يا محمد ، أدخلت فيه رضا أو كرها؟ قال : بل أدخلها الله كرها وأخرجها كرها.

قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني ما قال الله لآدم؟ قال يا بن سلام ، قال الله لآدم : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني كم حبة أكل من الشجرة؟ قال : حبتين. قال : وكم أكلت حواء؟ قال حبتين. قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني ما صفة الشجرة وكم غصنا كان لها ، وكم كان طول السنبلة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان للشجرة ثلاثة أغصان ، وكان طول كل سنبلة ثلاثة أشبار. قال : وكم حبة كان في السنبلة؟ قال : خمس حبات. قال : صدقت يا محمد ، وكم سنبلة فرك. قال فرك سنبلة واحدة. قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني عن صفة الحبة كيف كانت؟ قال : يا بن سلام كانت بمنزلة البيض الكبار. قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني عن الحبة التي بقيت مع آدم ، ما صنع بها؟ قال : نزلت مع آدم من الجنة فزرعها في الأرض ، فتناسل منها الحب في الأرض وبورك فيها. قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني عن آدم ، أين حواء؟ قال : بجدة. قال : صدقت يا محمد ، فأين أهبطت ال. قال : ص حبة؟ قال : بأصبهان. قال : صدقت يا محمد ، فأين أهبط إبليس؟ قال : ببيسان (٥٤٩) دقت يا محمد ، ما أغزر علمك أهبط من الأرض قال : أهبط بأرض الهند. قال : صدقت يا محمد ، فأين أهبطت وما أصدق لسانك ، فأخبرني ما كان لباس آدم لما أهبط من الجنة؟ قال :

__________________

(٥٤٩) بيسان : مدينة تقع بأرض اليمامة ، مشهورة بكثرة النخيل (معجم البلدان ، مادة بيسان).

٣٩٧

ثلاث ورقات ومن ورق الجنة ، وكان متشحا بالواحدة متزرا بالأخرى معتما بالثالثة.قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني في أي مكان اجتمعا؟ قال : بعرفات. قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني عن أول بيت وضع للناس؟ قال : بيت الله الحرام.

قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني عن آدم ، خلق من حواء أم حواء خلقت من آدم؟ قال : يا بن سلام ، بل حواء خلقت من آدم ، ولو خلق آدم من حواء لكان الطلاق بأيدي النساء. قال : صدقت يا محمد.

قال ابن سلام : فمن كله خلقت أم من بعضه ؛ قال عليه الصلاة والسلام : خلقت من بعضه ، ولو خلقت من كله لكان القضاء في النساء ولم يكن في الرجال ، قال : صدقت يا محمد ، فمن باطنه خلقت أم من ظاهره ، قال : من باطنه ، ولو خلقت من ظاهره لكشفت النساء عن وجوهن كالرجال وما استترن. قال : صدقت يا محمد ، فمن يمينه خلقت أم من شماله؟ قال صلى الله عليه وسلم. من شماله ، ولو خلقت من يمينه لكان حظ الأنثى مثل حظ الذكر ، وشهادتها كشهادته. قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني من أي موضع خلقت منه؟ قال : من ضلعه الأيسر.

قال : صدقت يا محمد. فأخبرني من كان يسكن الأرض قبل آدم؟ قال : الجن. قال : فبعد الجن؟ قال : الملائكة. قال : فبعد الملائكة؟ قال : آدم وذريته. قال : صدقت يا محمد ، كم بين الجن والملائكة؟ قال : سبعة آلاف سنة. قال : صدقت يا محمد ، كم بين الملائكة وآدم؟ قال : سبعة آلاف سنة. قال صدقت : يا محمد ، هل حج آدم بيت الله الحرام؟ قال : نعم. قال : يا محمد من كور رأس آدم؟ قال : جبريل كوره. قال : صدقت يا محمد ، هل اختتن آدم؟ قال : نعم ختن نفسه بيده. قال : فأخبرني يا محمد ، لم سميت الدنيا دنيا؟ قال : لأنها خلقت دون الآخرة ، ولو خلقت مع الآخرة لم تفن كما لا تفنى الآخرة. قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني عن القيامة لم سيمت قيامة؟ قال :

٣٩٨

لأن فيها قيام الخلائق للحساب. قال : صدقت يا محمد ؛ فالآخرة لم سميت آخرة؟ قال : لأنها متأخرة بعد الدنيا لا توصف سنينها ولا تحصى أيامها ولا ينقضي أمدها.

قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني عن أول يوم بدأ الله فيه خلق الدنيا قال : يوم الأحد. قال : لم سمي أحدا؟ قال : لأنه خلق الواحد الأحد وأول الأيام. قال : صدقت يا محمد ، فالاثنين لم سمي اثنين؟ قال : لأنه ثاني يوم من أيام الدنيا ، وكذلك الثلاثاء والأربعاء والخميس. قال : صدقت يا محمد ، فلم سميت الجمعة جمعة؟ قال : لأنه يوم مجموع فيه الخلق ، وهو سادس يوم من أيام الدنيا. قال : صدقت يا محمد فالبست لم سمي سبتا؟ قال : يوم وكل فيه مع كل من المخلوقين ملكان عن يمينه وشماله يكتبان الحسنات والسيئات ، فالذي عن يمينه يكتب الحسنات ، والذي عن شماله يكتب السيئات

قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني أين مقعد الملكين من العبد؟ وما قلمهما وما دواتهما وما لوحهما وما مدادهما؟ قال صلى الله عليه وسلم : يا بن سلام مقعدهما بين كتفيه ، وقلمهما لسانه ، ودواتهما ريقه ، ولوحهما فؤاده ، يكتبان أعماله إلى مماته. قال : صدقت يا محمد ، قال : أخبرني كم طول القلم؟ وكم عرضه ، وكم أسنانه وما مداده وما أثر مجراه؟ قال : طول القلم خمسمائة عام ، وله ثمانون سنا يخرج المداد من بين أسنانه ، ويجري في اللوح المحفوظ بما هو كائن إلى يوم القيامة بأمر الله عز وجل.

قال : صدقت يا محمد ، فاخبرني كم لله من نظرة في خلقه في كل يوم وليلة قال : ثلاثمائة وستون نظرة ، في كل نظرة يحيي ويميت ، ويمضي ويقضي ، ويرفع ويضع ، ويسعد ويشقي ، ويذل ويقهر ، ويغني ويفقر. قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني ما خلق الله بعد ذلك؟ قال : خلق السماء السابعة مما يلي العرش وأمرها أن ترتفع إلى مكانها فارتفعت ، ثم خلق السادسة ثم الخامسة ثم الرابعة ثم الثالثة ثم الثانية ثم سماء الدنيا

٣٩٩

كذلك ، وأمر كلا منها فاستقرت بمكانها دون الآخرى. قال : صدقت يا محمد ، فما بال لون سماء الدنيا اخضر؟ قال : اخضرت من لون جبل قاف. قال : صدقت يا محمد ، فمم خلقت سماء الدنيا؟ قال : خلقت من موج مكفوف. قال : يا محمد وما الموج المكفوف؟ قال : يا بن سلام ماء قائم لا اضطراب له. قال : صدقت يا محمد ، فلم سميت سماء؟ قال : لأنها خلقت من دخان.

قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني عن السموات ألها أبواب؟ قال : نعم وهي مقفلة ولها مفاتيح وهي مخزونة. قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني عن أبواب السماء ما هي؟ قال : من ذهب. قال : فما أقفالها؟ قال : من نور. قال : فما مفاتيحها؟ قال : اسم الله الأعظم. قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني عن طول كل سماء وعرضها وسمكها وارتفاعها وما سكانها؟ قال : طول كل سماء خمسمائة عام ، وعرضها كذلك ، وسمكها كذلك ، وبين كل سماء إلى سماء كذلك ، وسكان كل سماء جند وصنوف من الملائكة لا يعلم عددها إلا الله تعالى. قال : صدقت يا محمد. قال : فأخبرني عن السماء الثانية التي فوق سماء الدنيا مم خلقت؟ قال : خلقت من الغمام. قال : فالثالثة مم خلقت؟ قال : من زبرجدة خضراء. قال : فالرابعة. قال : من ذهب أحمر. قال : فالخامسة. قال : من ياقوتة حمراء. قال فالسادسة : قال : من فضة بيضاء. قال : فالسابعة. قال : من نور ساطع. قال : صدقت يا محمد ، فما فوق السماء السابعة؟ قال : بحر الحيوان ؛ قال : فما فوقه؟ قال : بحر الظلمة قال : فما فوقه؟ قال : بحر النور. قال : فما فوقه يا محمد؟ قال صلى الله عليه وسلم : فوقه الحجب قال : فما فوق الحجب؟ قال : سدرة المنتهى. قال فما فوق سدرة المنتهى؟ قال : جنة الماوى. قال : صدقت يا محمد فما فوق جنة الماوى؟ قال : حجاب المجد قال : فما فوق حجاب المجد؟ قال :حجاب الجيروت. قال : فما فوق حجاب الجبروت قال : حجاب العزة. قال : فما فوق

٤٠٠