خريدة العجائب وفريدة الغرائب

سراج الدين بن الوردي

خريدة العجائب وفريدة الغرائب

المؤلف:

سراج الدين بن الوردي


المحقق: أنور محمود زناتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-358-6
الصفحات: ٥٠٣

قالت أنا الجساسة. قلنا : أخبرينا الخبر. قالت : إن أردتم الخبر فعليكم بهذا الدير ، فإن فيه رجلا هو بالأشواق إليكم. فأتيناه فأخبرناه فقال : ما فعلت بحيرة طبرية؟ قلنا : تدفق الماء من جانبيها. قال : ما فعل نخل عمان ويبسان. قلنا : يجنيها أهلها. قال : فما فعلت عين زغر؟ قلنا يشرب أهلها منها. قال : فلو يبست هذه نفذت من وثاقي ثم وطئت بقدمي كل منهل إلى مكة والمدينة.

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فقال : ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة فتنة أعظم من الدجال. وقال : إنه لم يكن نبي إلا أنذر قومه فتنة الدجال ووصفه ، وإنه قد بين لي ما لم يبين لأحد أنه أعور ، وكيت وكيت ، فإن خرج وأنا فيكم فأنا حجتكم ، وإن لم يخرج إلا بعدي فالله خليفتي عليكم ، فما اشتبه عليكم فاعلموا أن ربكم ليس بأعور.

والدجال تسميه اليهود مواطيح كوائيل ؛ ويزعمون أنه من نسل داود ؛ وإنه يملك الأرض ويردها إلى بني إسرائيل ؛ فيتهود أهل الأرض كلهم.

٤٤١

بقية من خبر عيسى عليه السلام

قال بعض المفسرين في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)(٥٨٢) إنه عند نزول عيسى ؛ وقال عز وجل : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)(٥٨٣) ثم قال : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ)(٥٨٤). ثم اختلف المتأولون له ؛ فقال أكثرهم وأحقهم بالتصديق : هو عيسى عليه السلام بعينه يرد إلى الدنيا ؛ وقالت فرقة : نزول عيسى خروج رجل يشبه عيسى في الفضل والشرف ؛ كما يقال للرجل الخير ملك وللشرير شيطان ، تشبيها بهما ، ولا يراد الأعيان. وقال قوم : ترد روحه في رجل اسمه عيسى ، والآخران ليسا بشيء. والله أعلم.

__________________

(٥٨٢) سورة النساء : آية ١٥٩.

(٥٨٣) سورة النساء : آية ١٥٧.

(٥٨٤) سورة النساء : آية ١٥٨.

٤٤٢

ذكر طلوع الشمس من مغربها

قال بعض المفسرين في قوله تعالى : («يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً)(٥٨٥) قيل : هو طلوع الشمس من مغربها. وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه : أنه قال : ثلاث إذا خرجت لا ينفع نفسا إيمانها : طلوع الشمس من مغربها ؛ والدابة والدجال. وقالوا في صفة طلوعها من مغربها : إنه إذا كانت الليلة التي تطلع الشمس في صبيحتها من مغربها حبست فتكون تلك الليلة قدر ثلاث ليال. قالوا : فيقرأ الرجل جزءه ثم ينام ، ويستيقظ والنجوم راكدة والليل كما هو. فيقول بعضهم لبعض : هل رأيتم مثل هذه الليلة قط؟ ثم تطلع من مغربها كأنها علم أسود حتى تتوسط السماء ، ثم تعود بعد ذلك فتجري في مجراها الذي كانت تجري فيه. وقد أغلق باب التوبة إلى يوم القيامة.

وروي عن علي أنه قال : تطلع بعد ذلك من مشرقها مائة وعشرين سنة ، لكنها سنون قصار ، السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة. وكان كثير من الصحابة يترصدون طلوع الشمس من مغربها ، منهم حذيفة بن اليمان وبلال وعائشة ، رضي الله عنهم.

__________________

(٥٨٥) سورة الأنعام : آية ١٥٨.

٤٤٣

ذكر خروج الدابة

قال الله عز وجل : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ)(٥٨٦) قال كثير من أهل العلم بالاخبار : إنها ذات وبر وريش وزغب ، فيها من كل لون ولها أربع قوائم ، رأسها رأس ثور وآذانها آذان فيل ، وقرونها قرون أيل ، وعنقها عنق نعامة وصدرها صدر أسد ، وقوائمها قوائم بعير ، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان ، وترفع الأسماء فلا يعرف أحد باسمه وهي تجلو وجه المؤمن بالعصا فيبيض ، وتختم على أنف الكافر فيفشو السواد فيه ، فيقال : يا مؤمن يا كافر.

وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : هي الدابة التي أخبر تميم الداري عنها. وعن الحسن أنه قال : سأل موسى ربه أن يريه الدابة ، فخرجت ثلاثة أيام ولم يدر أي طرفيها خرج؟ فقال موسى : يا رب ، رد هذا المتاع النفيس إلى مكانه لا حاجة لنا فيه. ويقال إنها تخرج بأجنادين (٥٨٧) عقيب الحاج ، تسير بالنهار وتقف بالليل ، يراها كل قائم وقاعد ، وإنها لتدخل المسجد وقد عاذ به المنافقون فتقول : أترون المسجد ينجيكم مني؟ هلا كان هذا بالأمس؟ والله أعلم.

__________________

(٥٨٦) سورة النمل : آية ٨٢.

(٥٨٧) أجنادين : موضع معروف بالشام من فلسطين من الرملة وبه للمسلمين مع الروم يوم مشهور (مراصد الاطلاع ، ج ١ ، ص ٣٣).

٤٤٤

ذكر الدخان

قال الله عز وجل : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ)(٥٨٨). وروي عن الحسن رضي الله عنه أنه قال : يجيء دخان فيملأ ما بين السماء والأرض حتى لا يدرى شرق ولا غرب ، ويأخذ الكفار فيخرج من مسامعهم ويكون على المؤمن كهيئة الزكمة ، ثم يكشفه الله عز وجل بعد ثلاثة أيام ، وذلك بين يدي الساعة. وأكثر أهل التأويل على أنه الجوع الذي أصابهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

__________________

(٥٨٨) سورة الدخان : آية ١٠.

٤٤٥

ذكر خروج يأجوج ومأجوج

قال الله عز وجل : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ)(٥٨٩) يعني السد. وجاء في الأخبار من صفاتهم وعددهم ما الله به عليم ، ولا يختلفون في أنهم بين مشارق الأرض وشمالها.

وروي عن مكحول أنه قال : المسكون من الأرض مسيرة مائة عام ، ثمانون منها ليأجوج ومأجوج ، وعشرة للسودان ، وعشرة لبقية الأمم. ويأجوج ومأجوج أمتان ، كل أمة أربعمائة ألف أمة ، لا تشبه أمة أخرى ، وعن الزهري (٥٩٠) أنهما ثلاث أمم : منسك ، وتأويل ، وتدريس. فصننف منهم كأمثال الشجر الطوال من الأرز ، وصنف منهم عرض أحدهم وطوله بالسواء ، وصنف منهم يفترش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى.

وروي أن طول أحدهم شبر وأكبر. ويكون خروجهم بعد قتل عيسى الدجال. وإذا جاء الوقت جعل الله السد دكا ، كما ذكره عز وجل في كتابه ، فيخرجون وينتشرون في الأرض. وروي أنهم يكون أول مقدمتهم بالشام وساقتهم ببلخ. قال : ويأتي أو لهم البحيرة فيشربون ماءها ، ويأتي أوسطهم فيلحسون ما فيها من النداوة ، ويأتي آخرهم فيقولون : لقد كان هنا مرة ماء ويكون مكثهم في الأرض سبع سنين. ثم يقولون : قد قهرنا أهل الأرض فهلموا نقاتل سكان السماء ، فيرمون

__________________

(٥٨٩) سورة الكهف : آية ٩٨.

(٥٩٠) الزهري (٥٨ ـ ١٢٤ ه‍) هو محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب. من بني زهرة ، من قريش.تابعي من كبار الحفاظ والفقهاء مدني سكن الشام. هو اول من دون الأحاديث النبوية. ودون معها فقه الصحابة. قال أبو داود : جميع حديث الزهري (٢٢٠٠) حديث. أخذ عن بعض الصحابة. وأخذ عنه مالك بن أنس وطبقته. [تهذيب التهذيب ٩ / ٤٤٥ ـ ٤٥١ ؛ وتذكرة الحفاظ ١ / ١٠٢ ؛ والوفيات ١ / ٤٥١ ؛ والأعلام للزركلي ٧ / ٣١٧].

٤٤٦

بنشابهم (٥٩١) نحو السماء فيردها الله عليهم ملطخة بدم ، فيقولون : قد فرغنا من أهل السماء ، فيرسل الله عليهم النغف في رقابم فيصبحون موتى. ثم يرسل الله عليهم السماء فتجرفهم إلى البحر.

وفي رواية كعب أنهم ينقرون السد بمناقيرهم كل يوم ، فيعودون من الغد وقد عاد لما كان ، حتى إذا بلغ الأجل المعلوم ألقى الله على لسان أحدهم : إن شاء الله فيخرجون حينئذ. وروي أنهم يلحسون السد. وقيل إن فيهم طائفة ، لكل منهم أربعة أعين ، عينان في رأسه وعينان في صدره ، ومنهم من له رجل واحدة يقفز بها قفزا ، ومنهم من هو ملبس شعرا كالبهائم. ومن طوائفهم طائفة لا تأكل إلا لحوم الناس ولا تشرب إلا الدماء ، ولا يموت الواحد منهم حتى يرى لصلبه ألف عين تطرف. وفي التوراة مكتوب : إن يأجوج ومأجوج يخرجون في أيام المسيح ، ويقولون : إن بني إسرائيل أصحاب أموال وأوان كثيرة ، فيقصدون أورشليم وينتهبون نصفها ويسلم النصف الآخر ، ويرسل الله عليهم صيحة فيموتون عن آخرهم. وتصيب بنو إسرائيل من أدوات عسكرهم ما يستغنون به سبع سنين عن الحطب. وهذا المقدار من حديثهم في كتاب زكريا عليه السلام ، قيل : ويمكث الناس بعد هلاك يأجوج ومأجوج عشرين سنة يحجون ويعتمرون. والله أعلم.

__________________

(٥٩١) النشاب : النبل أو السهام ، واحدته نشابة ، ويجب أن تكون صحيحة الاعتدال والاستدارة والفتل والثقل والخفة (مبادئ اللغة ، ص ١٠١).

٤٤٧

ذكر خروج الحبشة

قال أصحاب هذا العلم : ويمكث الناس بعد هلاك يأجوج ومأجوج في الخصب والدعة ما شاء الله تعالى. ثم تخرج الحبشة وعليهم ذو السويقتين ، فيخربون مكة ويهدمون الكعبة ، ثم لا تعمر أبدا ، وهم الذين يستخرجون كنوز فرعون وقارون. قال : فيجتمع المسلمون ويقاتلونهم فيقتلونهم ويسبونهم ، حتى يباع الحبشي بعباءة ، ثم يبعث الله ريحا عقيما فتقبض روح كل مسلم. والله تعالى أعلم.

٤٤٨

ذكر فقدان مكة المكرمة

روي عن الحسن ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : حجوا قبل أن لا تحجوا فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، ليرفعن هذا البيت من بين أظهركم حتى لا يدري أحدكم أين كان مكانه بالأمس؟ وقال : كأني أنظر إلى أسود أحمش الساقين قد علاها ، ينقضها طوبة طوبة.

٤٤٩

ذكر خروج الريح التي تقبض أرواح أهل الإيمان

روي أن الله عز وجل يبعث ريحا يمانية ألين من الحرير وأطيب نفحة من المسك ، فلا تدع أحدا في قلبه مثقال ذرة من الإيمان إلا قبضته. ويبقى الناس بعد مائة عام لا يعرفون دينا ولا ديانة ، وهم شرار خلق الله ، وعليهم تقوم الساعة وهم في أسواقهم يتبايعون. وفي رواية عبد الله بن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تقوم الساعة حتى لا يعبد الله في الأرض مائة سنة. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : يؤمر صاحب الصور أن ينفخ في صوره ، فيسمع رجلا يقول : لا إله إلا الله ، فيؤخر مائة عام.

٤٥٠

ذكر ارتفاع القران

روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : القرآن أشد نقصيا على قلوب الرجال من النعم في عقلها قيل : يا أبا عبد الرحمن ، كيف؟ وقد أثبتناه في صدورها ومصاحفنا قال : يسرى عليه ليلا فلا يذكر ولا يقرأ.

٤٥١

ذكر النار التي تخرج من قعر عدن فتسوق الناس إلي المحشر

روى حذيفة بن أسيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عشر بين يدي الساعة ، هذه إحداهن وفي رواية أخرى : لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى (٥٩٢). وفي رواية أخرى : لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من حضر موت ، مع اختلاف كثير في الروايات.

__________________

(٥٩٢) بصرى : مدينة من أعمال دمشق ، وهي قصبة كورة حوران (ياقوت : معجم البلدان : ج ١ ، ص ٤٤١ ، لسترنج : بلدان الخلافة الشرقية : ص ٧٢).

٤٥٢

ذكر نفخات الصور

وهي ثلاث مرات ، اثنتان منها في آخر الدنيا ، وواحدة في أول الآخرة ؛ قال الله عز وجل : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ)(٥٩٣).

وروي عن الحسن بن شيبان ، عن قتادة عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : تهيج الساعة والرجلان يتبايعان ، قد نشرا أثوابهما فلا يطويانها ، والرجل يلوط حوضه فلا يستقي منه ، والرجل قد انصرف بلبن نعجته فلا يطعمه ، والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يأكلها ، ثم تلا : (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ)(٥٩٤) ، (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً)(٥٩٥).

__________________

(٥٩٣) سورة يس : آية ٤٩ ـ ٥٠.

(٥٩٤) سورة يس : آية ٤٩.

(٥٩٥) سورة الأعراف : آية ١٨٧.

٤٥٣

ذكر النفخة الأولي

صاحب الصور هو السيد إسرافيل عليه السلام ، وهو أقرب الخلق إلى الله عز وجل وله جناح بالمشرق وجناح بالمغرب ، والعرش على كاهله ، وإن قدميه قد مرقتا من الأرض السفلى حتى بعدتا عنها مسيرة مائة عام ، على ما رواه وهب. ومثل هذا مما يزيد في يقين العامي ويبلغ في تخويفه وتعظيمه لأمر الله تعالى. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كيف أنتم وصاحب الصور قد التقمه ، ينتظر متى يؤمر له فينفخ؟

٤٥٤

ذكر ما جاء في الصور وهيئته

روي أنه كهيئة قرن ، فيه بعدد كل روح ثقب. وله ثلاث شعب : شعبة تحت الثرى تخرج منها الأرواح وترجع إلى أجسادها ، وشعبة تحت العرش منها يرسل الله الأرواح إلى الموتى ، وشعبة في فم الملك ينفخ فيها. فإذا مضت الآيات والعلامات التي ذكرناها أمر صاحب الصور أن ينفخ نفخة الفزع ويديمها ويطولها ، فلا يبرح كذا عاما. وهي المذكورة في قوله تعالى : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ). وكذلك في قوله تعالى : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ). وفي قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ).

وإذا بدت الصيحة فزعت الخلائق وتحيرت وتاهت ، والصيحة تزداد كل يوم مضاعفة وشدة وشناعة. فينحاز أهل البوادي والقبائل إلى القرى والمدن ، ثم تزداد الصيحة وتشتد حتى تتجاوز إلى أمهات الأمصار ، وتعطل الرعاة السوائم وتفارقها ، وتأتي الوحوش والسباع وهي مذعورة من هول الصيحة ، فتختلط بالناس وتستأنس بهم ، وذلك قوله تعالى : (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ)(٥٩٦). ثم تزداد الصيحة هولا وشدة حتى تسير الجبال على وجه الأرض وتصير سرابا جاريا ، وذلك قوله تعالى : (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ)(٥٩٧) وقوله تعالى : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ)(٥٩٨)

__________________

(٥٩٦) سورة التكوير : آية ٤ ـ ٥.

(٥٩٧) سورة التكوير : آية ٣.

(٥٩٨) سورة القارعة : آية ٥.

٤٥٥

وزلزلت الأرض وارتجت وانتفضت ، وذلك قوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها)(٥٩٩) وقوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ)(٦٠٠).

ثم تكور الشمس وتنكدر النجوم وتسجر البحار ، والناس حيارى كالوالهين ينظرون إليها. وعند ذلك تذهل المراضع عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ، ويشيب الولدان ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ، من الفزع ، ولكن عذاب الله شديد.

حكى أبو جعفر الرازي عن ربيع ، عن أبي العيالة عن أبي بن كعب قال : بينما الناس في أسواقهم إذ ذهبت الشمس ، وبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم ، وبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض ، وبينما هم كذلك إذ تحركت الأرض فاضطربت لأن الله تعالى جعل الجبال أوتادها ؛ ففزعت الجن إلى الإنس ، والإنس إلى الجن ، واضطربت الدواب والطيور والوحوش فماج بعضهم في بعض ؛ فقال الجن : نأتيكم بالخبر اليقين.

فانطلقوا فإذا هي نار تتأجج. فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأهلكتهم. وهذه من نص القرآن ظاهرة ، لا يسع لأحد مؤمن ردها والتكذيب بها. وفي هذه الصيحة تكون السماء كالمهل ، وتكون الجبال كالعهن ، ولا يسأل حميم حميما ، وفيها تنشق السماء فتصير أبوابا ، وفيها يحيط سرادق من نار بحافات الأرض فتطير الشياطين هاربة من الفزع ، حتى تأتي أقطار السماء والأرض فتتلقاهم الملائكة يضربون وجوههم حتى يرجعوا. وذلك قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ

__________________

(٥٩٩) سورة الزلزلة : آية ١.

(٦٠٠) سورة المزمل : آية ١٤.

٤٥٦

تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا ، لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ»)(٦٠١) ، والموتى في القبور لا يشعرون بهذه.

__________________

(٦٠١) سورة الرحمن : آية ٣٣.

٤٥٧

ذكر النفخة الثانية في الصور

وذلك قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ)(٦٠٢) ، فيموتون في هذه النفخة إلا من تناوله الاستثناء في قوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ).

__________________

(٦٠٢) سورة الزمر : آية ٦٨.

٤٥٨

ذكر ما بين النفختين من المدة

يقال : إن ما بين النفختين أربعون سنة ، تبقى الأرض على حالها مستريحة بعد ما مر بها من الأهوال العظام والزلازل ، وتمطر سماؤها ، وتجري مياهها وتطعم أشجارها ، ولا حي على ظهرها من سائر المخلوقات.

٤٥٩

ذكر ما ورد في قوله تعالي : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ)

قال الله عز وجل : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ)(٦٠٣) وقال سبحانه : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ)(٦٠٤). وقال عز من قائل : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)(٦٠٥) وقال جل وعلا: (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ)(٦٠٦). فدلت هذه الآيات على هلاك كل شيء دونه. قال جل وعز : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ)(٦٠٧) دل على أن الصعقة لا تعم جميع الخلائق. فالتمسنا التوفيق بين الآيات بعد أن أمكن أن تكون آية الاستثناء مفسرة لتلك الآي ، فقلنا : الاستثناء عند نفخة الصعق ، وعموم الفناء بين النفختين ، كما جاء في الخبر ، لئلا يظن ظان أن القرآن متناقض.

وروى الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) قال : كل شيء وجب عليه الفناء إلا الجنة والنار والعرش والكرسي والحور العين والأعمال الصالحة. وقيل في قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) الشهداء حول العرش سيوفهم بأعناقهم ؛ وقيل : الحور العين ؛ وقيل : موسى عليه السلام لأنه صعق مرة ؛ وقيل : جبريل وميكائيل وإسرافيل ، صلوات الله عليهم أجمعين. وقيل : ملك الموت عليه السلام ، وقيل : حملة العرش عليهم السلام. قالوا : فيأمر الله تعالى ملك الموت فيقبض أرواحهم ، ثم يقول له : مت ، فيموت فلا

__________________

(٦٠٣) سورة الأنبياء : آية ١٠٤.

(٦٠٤) سورة الرحمن : آية ٢٦.

(٦٠٥) سورة القصص : آية ٨٨.

(٦٠٦) سورة العنكبوت : آية ٥٧.

(٦٠٧) سورة الزمر : آية ٦٨.

٤٦٠