خريدة العجائب وفريدة الغرائب

سراج الدين بن الوردي

خريدة العجائب وفريدة الغرائب

المؤلف:

سراج الدين بن الوردي


المحقق: أنور محمود زناتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-358-6
الصفحات: ٥٠٣

البوادق ، فمن ذلك بلاغهم ومعاشهم وقد انضاف إليهم جماعة من العرب من ربيعة بن نزار وتزوجوا منهم

عيذاب (٢٣٩) : وما يتصل بها من الصحراء المنسوبة إلى عيذاب وليس لها طريق معروفة إلا رمال سيالة ، ولا يستدل عليها إلا بالحبال والكدي وربما أخطأها الدليل وهو ماهر. وعيذاب مدينة حسنة وهي مجمع التجار برا وبحرا ، وأهلها يتعاملون بالدراهم عددا ولا يعرفون الوزن ، وبها وال من قبل البجة ووال من قبل سلطان مصر ، يقسمان جباياتها نصفين ، وعلى عامل مصر القيام بطلب الأوراق وعلى عامل البجة حمايتها من الحبشة. واللبن والعسل والسمن بها كثير ، وبينها وبين الحجاز عرب البحر وبين النوبة قوم يقال لهم البليون أهل عزم وشجاعة يهابهم كل من حولهم من الأمم ويهادنونهم وهم نصارى خوارج على مذهب اليعقوبية.

__________________

(٢٣٩) عيذاب : تقع عيذاب علي الجزء الشمالي من ساحل البحر الأحمر السوداني علي بعد ٣٣ كيلو متر من ميناء بورتسودان وقد لعبت عيذاب دورا رئيسيا بالنسبة للسودان حيث كانت نقطة انطلاق الدعوة الإسلامية منذ خلافة ابي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وتواتر ورود المسلمين عليها وترتبط عيذاب بطرق مواضلات مباشرة بوسط السودان وشرقه وكانت مخرجا لمنتوجات منطقة مناجم الذهب وقد أشار إليها المقريزي بأنها أهم ميناء مزدهر تربط طريق عيذاب الدولي بمؤاني اليمن مع الهند والبحر المتوسط كما ظلت أهم ميناء الحجاج إلي مكة لمدة أربعة قرون تبدأ من القرن العاشر إلي القرن الرابع عشر الميلادي وخاصة بعد أن قفل الصليبيين الحج عن طريق الشام وتوجد بعيذاب مقابر كبيرة لا تتناسب وحجم المدينة وهذا يشير إلي زيادة قدوم الحجاج الموسميين إليها وقد اشتهرت عيذاب بالمباني الكبيرة فقد ذكر ابن بطوطة (جامع القسطلاني) كأحد المعالم المعروفة في العالم الإسلامي وقتها ، كما توجد بها خزانات حفرت في الأرض وغطيت جدرانها بالجبص لحفظ المياه ومما يؤكد طبيعة ميناء عيذاب التجارية وجود كميات كبيرة من قطع الخزف والزجاج والفخار وكلها من الأنواع الرفيعة الغالية الثمن وفيها الخزف الفاطمي المملوكي الشهير والذي يشبه انتاج الفسطاط

١٤١

أرض بربرة (٢٤٠) : وهي تتصل بأرض النوبة على البحر ، وهي مقابلة اليمن ، بها قرى عامرة متصلة وبها جبل يقال له قانوني وهو جبل له سبعة رؤوس خارجة وتمتد في البحر أربعة وأربعين ميلا ، وعلى رؤوس هذه الجبال بلاد صغيرة يقال لها الهاوية ، وبعض أهل بربرة يأكلون الضفادع والحشرات والقاذورات ويتصيدون في البحر عوما بشباك صغيرة.

ويلي هذه الأرض أرض الزنج وهي مقابل أرض السند وبينهما عرض بحر فارس ، وهم أشد السودان سوادا وكلهم يعبدون الأوثان ، وهل أهل بأس وقساوة ، ويحاربون راكبين على بقر ، وليس في بلادهم خيل ولا بغال ولا جمال.

قال المسعودي : ولقد رأيت هذه البقرة تبرك كما تبرك الجمال ويحملونها وتثور كالجمال ، ومساكنهم من حد الخليج المنصب إلى سفالة الذهب.

وواق الواق (٢٤١) : وأرضهم واسعة وقراهم عامرة وكل قرية على خور وهي أرض كثيرة الذهب والخصب والعجائب ، ولا يوجد البرد عندهم أصلا ولا المطر ، وكذلك غالب بلاد السودان ، وليس لهم مراكب بل تدخل إليهم المراكب من عمان ، والتجار يشترون أولادهم بالتمر ويبيعونهم في البلاد ، وأهل بلاد الزنج كثيرون في العدد قليلون في العدد ويقال إن ملكهم يركب في ثلثمائة ألف راكب ، كلهم على

__________________

(٢٤٠) بربر : هو الإقليم المعروف على ساحل الصومال ، المطل على خليج عدن ، وعده التجار العرب أول حدود بلاد الزنج ، واشتهر عندهم لوفرة العنبر على سواحله (رحلة السيرافي ، ص ١٠٣).

(٢٤١) واق الواق : إنها في بحر الصين وتتصل بجزائر زانج والمسير إليها بالنجوم قالوا : إنها ألف وستمائة جزيرة وإنما سميت بهذا الاسم لأن بها شجرة لها ثمرة على صور النساء معلقات من الشجرة بشعورها وإذا أدركت يسمعمنها صوت واق واق وأهل تلك البلاد يفهمون من هذا الصوت شيئا يتطيرون به. قال محمد بن زكرياء الرازي : هي بلاد كثيرة الذهب حتى ان أهلها يتخذون سلاسل كلابهم وأطواق قرودهم من الذهب ويأتون بالقمصان المنسوجة من الذهب.

١٤٢

البقر. والنيل ينقسم فوق بلادهم عند جبل المقسم وأكثرهم يحددون أسنانهم ويبردونها حتى ترق ، ويبيعون أنياب الفيلة وجلود النمور والحديد ، ولهم خزائن يخرجون منها الودع ويتحلون به وبييعونه فيما بينهم بثمن له قيمة ، ولهم ممالك واسعة.

أرض الدمادم (٢٤٢) : وبلادهم على النيل مجاورة للزنج ، والدمادم هم تتر السودان ، يخرجون عليهم كل وقت فيقتلون ويأسرون وينهبون وهم مهملون في أمر أديانهم وفي بلادهم الزرافات كثيرة ، ومنهم يفترق النيل إلى أرض مصر إلى جهة الزنج.

أرض سفالة الذهب : وهي تجاور أرض الزنج من المشرق ، وهي أرض واسعة وبها جبال فيها معادن الحديد يستخرجه أهل تلك البلاد. والهنود تأتي إليهم ويشترون منهم بأوفر ثمن مع أن في بلاد الهنود معادن الحديد ، لكن معادن سفالة أطيب وأصح وأرطب ، والهنود يصفونه فيصير فولاذا قاطعا. وبهذه البلاد معادن لضرب السيوف الهندية وغيرها ومع ذلك لا يتحلون إلا بالنحاس ويفضلونه على الذهب. وأرض سفالة متصلة بأرض واق الواق. أرض الحجاز : وهي تقابل أرض الحبشة وبينهما عرض البحر. ومن مدنها المشهورة مكة (٢٤٣) المشرفة وهي مدينة

__________________

(٢٤٢) الدمادم : قال عنهم (عماد الدين ابو الوفا) في كتابه (تقويم البلدان) من أمم السودان (الدمادم) بلادهم علي النيل فوق بلاد الزنج ، وهم مهملون في أديانهم وفي بلادهم الزراف) إنتهي الإقتباس. بينما يري (المقريزي) أن بلاد الدمادم تقع في الواحات الغربية المتصلة ببلاد الزغاوة ، ويعتقد أن اصلاهما واحد إستنادا لمخطوطات النسابة ، حيث يقول أن (شفنا) ابو الزغاوة و (شنقا) ابو الدمادم إخوة ينتسبان الي (كوش (فانتيني ـ تاريخ المسيحية في الممالك النوبية القديمة ، الخرطوم ١٩٧٨ م ص ١٥٤).

(٢٤٣) بكة ـ مكة : Bakkah : البلد الحرام ، موضع الكعبة ، وزمزم ، والمقام ؛ سميت مكة لأنها تمكّ الجبارين ، أي تذهب نخوتهم ؛ وقيل : سميت مكة لازدحام الناس بها ؛ وقيل : سميت مكة لأن العرب في

١٤٣

قديمة. روى الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في كتاب البهجة قصة بناء البيت الحرام ، قال : وهو حرم مكة وكعبة الإسلام وقبلة المؤمنين ، والحج إليه أحد أركان الدين.

__________________

الجاهلية كانت تقول : لا يتم حجنا حتى نأتي مكان الكعبة ، ومن أسمائها : أم زحم ، وأم القرى ، ومعاد ، والحاطمة ، والبيت العتيق ، والرأس ، والحرم ، وصلاح ، والبلد الأمين ، والنسّاسة ، والناسّة ، والباسّة ، والقادس ، والعرش ، والمذهب ، وبكة ؛ وقال قوم : بكة ، موضع البيت ، ومكة : ما حول البيت ؛ وفي التنزيل ، قوله تعالى :) لتنذر أم القرى [(الشورى : ٧) وقوله سبحانه :] وهذا البلد الأمين (التين : ٣).

١٤٤

ابتداء البيت الحرام

واختلف العلماء في ابتداء بناء البيت الحرام على ثلاثة أقوال :

القول الأول : أن الله تعالى وضعه ، ليس ببناء أحد. ثم في زمان وضعه إياه قولان : أحدهما قبل خلق آدم عليه السلام. قال أبو هريرة (٢٤٤) رضي الله عنه : وكانت الكعبة (٢٤٥) خشفة على الماء وعليها ملكان يسبحان الله تعالى ، الليل والنهار ، قبل خلق الأرض بألفي عام. والخشفة الأكمة الحمراء

قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما كان عرش الرحمن على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض بعث الله ريحا فصفقت الماء فأبرزت عن خشفة في موضع البيت كأنها قبة ، فدحا الأرض من تحتها. وقال مجاهد : لقد خلق الله عز وجل موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي عام ، وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى. وقال كعب الأحبار رضي الله عنه : كانت الكعبة غشاء على الماء قبل أن يخلق الله الأرض والسموات بأربعين سنة. وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كان قبل هبوط آدم عليه السلام ياقوتة حمراء من

__________________

(٢٤٤) أبو هريرة (٢١ ق ه ٥٩ ه‍) هو عبد الرحمن بن صخر. من قبيلة دوس وقيل في اسمه غير ذلك.صحابي. رواية الأسلام. أكثر الصحابة رواية. أسلم ٧ ه‍ وهاجر الى المدينة. ولزم النبي صلي الله علية وسلم. فروى عنه أكثر من خمسة آلاف حديث. ولاه أمير المؤمنين عمر البحرين ، ث م عزله للين عريكته. وولي المدينة سنوات في خلافة بني أمية. [الأعلام للزرلكي ٤ / ٨٠ ؛ و (أبو هريرة) لعبد المنعم صالح العلي].

(٢٤٥) لمزيد من المعلومات ، أنظر : صحيح مسلم (٩ / ٨٨) ، وتاريخ الطبري (١ / ١٢٣) ، وسيرة ابن هشام (١ / ٢٠) والكعبة كل شيء علا وارتفع فهو كعب ، ومنه سميت الكعبة للبيت الحرام ؛ وقيل : سميت بذلك لتكعيبها ، أي : تربيعها ومن أسمائها : الباسّة ، والحمساء ، والقادس ، وسرة الأرض ، ووسط الدنيا ، وإلال ، والمذهب ، والدّوار وبكة وفي التنزيل قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) (آل عمران : ٩٦).

١٤٥

يواقيت الجنة فلما هبط آدم إلى الأرض أنزل الله عليه الحجر الأسود (٢٤٦) فأخذه فضمه إليه استئناسا به. وحج آدم فقالت له الملائكة : لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. فقال آدم : رب اجعل له عمارا من ذريتي. فأوحى الله تعالى إليه : إني معمره ببناء نبي من ذريتك اسمه إبراهيم.

القول الثاني : أن الملائكة بنته. قال أبو جعفر الباقر رضي الله عنه : لما قالت الملائكة : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها)(٢٤٧) غضب الرب عز وجل عليهم فلاذوا بالعرش مستجيرين يطوفون حوله ، يسترضون رب العالمين فرضي سبحانه وتعالى عنهم فقال عز وجل ابنوا لي بيتا في الأرض يعوذ به كل من سخطت عليه كما فعلتم أنتم بعرشي.

القول الثالث : أن آدم لما أهبط من الجنة أوحى الله إليه أن ابن لي بيتا واصنع حوله كما صنعت الملائكة حول عرشي ، وافعل كما رأيتهم يفعلون ، فبناه. أبو صالح عن ابن العباس ، وروى عطية عنه أيضا ، قال : بنى آدم البيت في خمسة أجبل : لبنان وطور سينا وطوزيتا والجردى وحراء. قال وهب ابن منبه : لما مات آدم بناه بنوه بالطين والحجارة فنسفه الغرق. قال مجاهد : وكان موضعه بعد الغرق أكمة حمراء لا تعلوها السيول ، وكان يأتيها المظلوم ويدعو عندها المكروب. وقال عز وجل : (وَإِذْ

__________________

(٢٤٦) الحجر الأسود : الحجر الأسود حجر مبارك عند المسلمين لونه أسود مائل للحمرة. يعتقد بعضهم بأنه نزل من الجنة أبيضا ولكن سودته ذنوب العباد. وضعه أبراهيم عليه السلام بأمر من الله في أحد أركان الكعبة المشرفة يوجد في الركن الجنوب الشرقي من الكعبة. ويبدأ بالطواف حول الكعبة من عنده. الحجر الأسود قطره ٣٠ سم ويحيط به إطار من الفضة. يستحب تقبيل الحجر الأسود أو لمسه اقتداء بالرسول الإسلام ويقال عند استلامه بسم الله ، والله أكبر. ويمكن أن يكتفي المعتمر أو الحاج بالإشارة إليه من بعيد.

(٢٤٧) سورة البقرة : آية ٣٠.

١٤٦

يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ)(٢٤٨) وهما أول من بنى البيت بعد الطوفان على القواعد الأزلية الأولية ، فنسب بناء البيت إلى إبراهيم الخليل وإسماعيل عليهما السلام ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(٢٤٨) سورة البقرة : آية ١٢٧.

١٤٧

١٤٨

الطيب والحلاوة. ولها مخاليف وحصون ، منها وادي العقيق. وبها نخل مزارع أيضا وقبائل من العرب ، والبقيع كذلك. ووادي القرى وهو حصين بين الجبال وبه بيوت منقورة في الصخور ، وتسمى تلك النواحي الأثالب وبها كانت ثمود ، وبها الآن بئر ثمود ودومة الجندل ، وهو حصن منيع. وتبوك (٢٤٩) وهي قرية حسنة ولها حصن من حجر. وفدك كانت خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومدين مقر شعيب عليه السلام.

أرض نجد (٢٥٠) : وهي أرض عظيمة واسعة كثيرة الخير ، وهي بين الحجاز واليمن ، وبها مياه جارية وثمار وأشجار في غاية الرخص.

وأما أرض اليمن (٢٥١) : فهي تقابل أرض البربر وأرض الزنج وبينهما عرض البحر. واليمن على ساحل بحر القلزم من الغرب ، وكان بين هذا البحر وأرض

__________________

(٢٤٩) تبوك : موضع بين وادي القرى من أرض الحجاز وبين الشام أنظر : (معجم البلدان : ج ٢ ، ص ١٤ ، وفتح الباري شرح صحيح البخاري في كتاب المغازي ٨ / ١١٠).

(٢٥٠) نجد : هي المنطقة الوسطى من الجزيرة العربية ومن الأقاليم الرئيسية التي تألفت منها المملكة العربية السعودية ، وتقع فيها العاصمة السعودية الرياض. ونجد هي الموطن القديم للكثير من القبائل العربية الكبيرة ، كما كانت موطن الكثير من كبار شعراء العصر الجاهلي وفترة صدر الإسلام. وشهدت نجد أيضا مولد الحركة الوهابية التي قامت على أساسها الدولة السعودية بمراحلها الثلاث. ومعظم ما كان يعرف بنجد مقسم حاليا بين عدة مناطق إدارية في المملكة ، أهمها منطقة الرياض ومنطقة القصيم ومنطقة حائل ، كما كانت تسمية نجد قديما تمتد شمالا حتى الحدود الجنوبية للعراق.

(٢٥١) تعدد اسم اليمن في كتب التاريخ فهي عند قدماء الجغرافين" العربية السعيدة" وفي العهد القديم" التوراة" يذكر اليمن بمعناه الاشتقاقي اي الجنوب وملكة الجنوب (ملكة تيمنا) وقيل سميت اليمن باسم (ايمن بن يعرب بن قحطان). وفي الموروث العربي وعند اهل اليمن انفسهم ان اليمن اشتق من" اليمن" اي الخير والبركة وتتفق هذه مع التسمية القديمة" العربية السعيدة" وقال آخرون سمي اليمن يمنا لانه على يمين الكعبة والعرب يتيامنون والجهة اليمنى رمز الفأل الحسن ولا يزال بعض اهل اليمن يستعملون لفظة الشام بمعنى الشمال واليمن بمعنى الجنوب وتسمى اليمن اليوم" الجمهورية اليمنية"

١٤٩

اليمن جبل يحول بينهما وبين الماء ، وكان بين اليمن والبحر مسافة بعيدة فقطع بعض الملوك ذلك الجبل بالمعاول ليدخل منه خليجا فيهلك بعض أعدائه وأطلق البحر في أرض اليمن ، فاستولى على ممالك عظيمة ومدن كثيرة وأهلك أمما عظيمة لا تحصى ، وصار بحرا هائلا.

ومن مدنها المشهورة زبيد وهي مدينة كبيرة عامرة على نهر صغير ، وهي مجتمع التجار من أرض الحجاز والحبشة وأرض العراق ومصر ، ولها جبايات كثيرة على الصادر والوارد.

وصنعاء (٢٥٢) : وهي مدينة متصلة العمارات كثيرة الخيرات معتدلة الهواء والحر والبرد ، وليس في بلاد اليمن أقدم منها عهدا ولا أوسع قطرا ولا أكثر خلفا وبها قصر غمدان المشهور ، وهو على نهر صغير يأتي إليها من جبال هناك. وشمالي صنعاء جبل يقال له جبل المدخير وعلوه ستون ميلا ، وبه مياه جارية وأشجار وثمار ومزارع كثيرة وبها من الورس والزعفران كثير جدا.

__________________

تقع اليمن في جنوب غرب قارة آسيا في جنوب شبه الجزيرة العربية ويحدها من الشمال المملكة العربية السعودية ومن الجنوب البحر العربي وخليج عدن ومن الشرق سلطنة عمان ومن الغرب البحر الأحمر ، وتوجد لدى اليمن عدد من الجزر اليمنية تنتشر قبالة سواحلها على امتداد البحر الأحمر والبحر العربي وأكبر هذه الجزر جزيرة سقطرى والتي تبعد عن الساحل اليمني على البحر العربي مسافة ١٥٠ كيلو متر تقريبيا.

(٢٥٢) صنعاء : منسوبة الى جودة الصنعة ، والنسبة الى صنعاني ، وكان اسمها الأول أزال ، وحين دخلها الأحباش وجدوها مبنية بالحجارة أي حصينة ، فقالوا : هذه صنعة (أي حصينة) فسميت صنعاء ، وقيل سميت باسم بانيها.

١٥٠

عدن (٢٥٣) : وهي مدينة لطيفة ، وإنما اشتهر اسمها لأنها مرسى البحرين ، ومنها تسافر مراكب السند والهند والصين وإليها تجلب بضائع هذه الأقاليم من الحرير والسيوف ، والكيمخت والمسك والعود والسروج ، والأمتعة والأهليجات (٢٥٤) والحرارات والعطريات ، والطيب والعاج والأبنوس ، والحلل والثياب المتخذة من الحشيش الذي يفخر على الحرير والديباج والقصدير ، والرصاص واللؤلؤ والحجارة المثمنة والزباد والعنبر ، إلى ما لا نهاية لذكره. ويحيط بها من شمالها جبل دائر من البحر إلى البحر ، وفي طرفيه بابان يدخل منهما ويخرج ، وبينهما وبين اليابس مدينة الزنج مسيرة أربعة أيام.

تهامة (٢٥٥) : وهي قطعة من اليمن بين الحجاز واليمن ، وهي جبال مشتبكة ، حدها من الغرب بحر القلزم ، ومن الشرق جبال متصلة ، وكذا من الجنوب الشمالي وبأرض تهامة قبائل العرب. ومن مدنها المشهورة هجر.

أرض حضر موت (٢٥٦) : وهي شرقي اليمن وهي بلاد أصحاب الرس وكانت لهم مدينة اسمها الرس سميت بأسم نهرها. ومن أرض حضر موت المشهورة سبأ

__________________

(٢٥٣) عدن : وقيل : سميت عدن بعدن بن عدنان وذكر ابن حوقل أن عدن مدينة صغيرة وشهرتها لأنها فرضة على البحر ينزلها السائرون في البحر ، وباليمن مدن أكبر منها ليست كشهرتها (صورة الأرض ص ٤٤ ، وياقوت : معجم البلدان ٤ / ٨٩).

(٢٥٤) الإهليج Myrobalans : ثمرة ذات نواة ، من جنس البرقوق ومنه فجا ومنه حلوا.

(٢٥٥) تهامة : إلى البحر الأحمر من الشرق ، من العقبة ـ في الأردن ـ إلى المخا في اليمن.

(٢٥٦) حضر موت : كما ورد في دائرة المعارف للبستاني إنها نسبت إلى عامر بن قحطان الذي لقب بحضر موت لأنه كان إذا حضر حربا أكثر من القتل ، فأصبح يقال عند حضوره حضر موت ، ثم أطلق للأرض التي كانت بها قبيلته هذه أرض حضر موت ، ثم أطلق الأسم على البلاد نفسها. ويشير الحسن الهمداني أن نسبة الاسم تعود إلى حضر موت بن حمير الأصغر الذي غلب على اسم ساكنها على إسمها أو الغالب كما

١٥١

التي ذكرها الله تعالى في القرآن وكانت مدينة عظيمة ؛ وكان بها طوائف من أهل اليمن. وعمان تسمى مدينة مأرب ، وهو اسم ملك البلاد وبهذه المدينة كان السد الذي أرسل الله إليه سيل العرم. (٢٥٧)

وكان من حديثه أن أمرأة كاهنة رأت في منامها أن سحابة غشيت أرضهم فأرعدت وأبرقت ثم صعقت فأحرقت كل ما وقعت عليه ؛ فأخبرت زوجها بذلك وكان يسمى عمرا ، فذهب إلى سد مأرب فوجد الجرذ وهو الفأر يقلب برجليه حجرا لا يقلبه خمسون رجلا ؛ فراعه ما رأى وعلم أنه لا بد من كارثة تنزل بتلك الأرض ، فرجع وباع جميع ما كان له بأرض مأرب وخرج هو وأهله وولده. فأرسل الله تعالى الجرذ على أهل السد الذي يحول بينهم وبين الماء فأغرقهم ، وهو سيل العرم ، فهدم السد وخرج أهل تلك الأرض فأغرقها كلها.

وهذا السد بناه لقمان الأكبر بن عاد ، بناه بالصخر والرصاص ، فرسخا في فرسخ ، ليحول بينهم وبين الماء وجعل فيه أبوابا ليأخذوا من مائه بقدر ما يحتاجون إليه. وكانت أرض مأرب من بلاد اليمن مسيرة ستة أشهر متصلة العمائر والبساتين ، وكانوا يقتبسون النار بعضهم من بعض ، وإذا أرادت المرأة الثمار وضعت على رأسها مكتلها وخرجت تمشي بين تلك الأشجار وهي تغزل ، فما ترجع إلا والمكتل ملآن من الثمار التي بخاطرها ، من غير أن تمس شيئا بيدها البتة.

__________________

ذكر في العهد القديم نسبة لحضر موت بن قحطان بن عابر. ونتيجة للحالة الاقتصادية لأهل هذا الوادي فقد انتشر أهله في أرجاء العالم الإسلامي.

(٢٥٧) سيل العرم : أي السيل البالغ الشدة ، وقيل ان العرم اسم الوادي الذي اقيم عليه السد وقيل ان العرم المطر الشديد (القاموس ، ج ٣ ، ص ٦١٠ ، واللسان ٤ / ٢٩١٤).

١٥٢

وكانت أرضهم خالية من الهوام والحشرات وغيرها فلا توجد فيها حية ولا عقرب ولا بعوض ولا ذباب ولا قمل ولا براغيث. وإذا دخل الغريب في أرضهم وفي ثيابه شيء من القمل أو البراغيث هلك من الوقت والحين وذهب ما كان في ثيابه من ذلك بقدرة القادر.

وأذهب الله تعالى جميع ما كانوا فيه من النعيم الذي ذكره في كتابه ولم يبق بأرضهم إلا الخمظ والأثل (٢٥٨) وهو الطرفاء والأراك وشيء من سدر قليل وقد قال الله تعالى : (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ)(٢٥٩) وذلك بأنهم كفروا بنعمة الله تعالى وجحدوها فنزل بهم ما نزل من العذاب ، قال الله جل ذكره (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ)(٢٦٠). وسبأ الآن خراب وكان بها قصر سليمان بن داود عليهما السلام ، وقصر بلقيس (٢٦١) زوجته ، وهي ملكة تلك الأرض التي تزوجها سليمان ، وقصتها مشهورة ، وبأرضها جبل منيع صعب المرتقى لا يصعد إلى أعلاه إلا بالجهد العظيم ، وفي أعلاه قرى كثيرة عامرة وبساتين وفواكه

__________________

(٢٥٨) الأثل : شجر طويل مستقيم ، أغصانه كثيرة التعقد وورقه دقيق وثمره حب أحمر لا يؤكل.

(٢٥٩) سورة سبأ : آية ١٦ ، الخمط كل نبت أخذ طعما من المرارة أو الحموضة وتعافه النفس ، وقيل أنه ثمر كل شجر ذي شوك (النباتات ، ص ٢٩).

(٢٦٠) سورة سبأ : آية ١٧.

(٢٦١) بلقيس : هي ملكه سبأ ، يقال أن أمها من الجن أرسل لها النبي سليمان الهدهد برسالة يدعوها للتوحيد. وكانت بلقيس وشعبها يعبدون الشمس. وفكرت في أن أفضل حل هو إرسال هديه لسليمان ، فقررت إرسال رسلها بالهدايا العظيمة له ولكنه رفضها وتعجب رسل بلقيس من حجم مملكه سليمان وجنوده من الإنس والحيوانات والطيور المختلفة. وقررت بلقيس أن تذهب له إلى مملكته حتى تتوصل معه إلى حل سلمى ، وبعد وصولها تفاجأت بأن عرش ملكها عنده. وأعد لها سليمان عليه السلام مفاجأة أخرى وكانت قصرا من البلور فوق الماء وظهر كأنه لجه فلما قال لها ادخلي الصرح حسبت أنها ستخوض اللجة ، فكشفت عن ساقيها ، فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سرها ، قال : (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ)[النمل : ٤٤]. أعلنت الملكة بلقيس إسلامها وايمانها بالله وامن العديد من أبناء شعبها.

١٥٣

ونخل مثمر وخصب كثير ، وبهذا الجبل أحجار العقيق وأحجار الحمشت وأحجار الجزع وهي مغشاة بأغشية ترابية لا يعرفها إلا طالبها والعارف بها ، ولهم في معرفتها علامات فتصقل فيظهر حسنها.

الأحقاف (٢٦٢) : هي التلال من الرمل التي بين حضر موت وعمان ، وهي قرى متفرقة. وروي عن عبد الله بن قلابة (٢٦٣) رضي الله عنه أنه خرج في طلب ابل له شردت فبينما هو في صحارى بلاد اليمن وأرض سبأ إذ وقع على مدينة عظيمة بوسطها حصن عظيم ، وحوله قصور شاهقة في الجو ، فلما دنا منها ظن أن بها سكانا أو أناسا يسألهم عن إبله ، فإذا هي قفر ليس بها أنيس ولا جليس ، قال : فنزلت عن ناقتي وعقلتها ثم استللت سيفي ودخلت المدينة ودنوت من الحصن ، فإذا ببابين عظيمين لم ير في الدنيا مثلهما في العظم والارتفاع ، وفيهما نجوم مرصعة من ياقوت أبيض وأصفر يضيء بها ما بين الحصن والمدينة ، فلما رأيت ذلك تعجبت منه وتعاظمني الأمر فدخلت الحصن وأنا مرعوب ذاهب اللب ، وإذا الحصن كمدينة في السعة ، وبه قصور شاهقة وكل قصر منها معقود على عمد من زبرجد وياقوت ، وفوق كل قصر منها غرف ، وفوق الغرف غرف أيضا وكلها مبنية بالذهب والفضة مرصعة باليواقيت الملونة والزبرجد واللؤلؤ ، ومصاريع تلك القصور كمصاريع

__________________

(٢٦٢) الاحقاف : هي المنطقة الواقعة بين عمان من جهة الشمال وحضر موت من جهة الجنوب وبحر العرب من جهة الشرق وصحراء الربع الخالي من جهة الغرب ، وهي حاليا تتضمن الاجزاء الشرقية من حضر موت ومحافظة المهرة ومحافظة ظفار. وبلاد الاحقاف هي موطن قبيلة عاد العربية المذكورة في القران ، وتقع فيها مدينة ارم ذات العماد المذكورة في القران. وتسكن حاليا بلاد الاحقاف القبائل القحطانية العربية العاربة ومن هذه القبائل قبائل المهرة وقبائل القرا (الحكلي) وقبائل الكثير وقبائل اليافع وقبائل الصيعر وقبائل الحموم وقبائل ال تميم وبني ظنه والقبائل المنتمية إلى حضر موت.

(٢٦٣) عبد الله بن قلابة : من عباد أهل البصرة وزهادهم يروى عن أنس بن مالك ومالك بن الحويرث روى عنه أيوب وخالد مات بالشام سنة أربع ومائة في ولاية يزيد بن عبد الملك.

١٥٤

الحصن في الحسن والترصيع. وقد فرشت أراضيها باللؤلؤ الكبار وبنادق المسك والعنبر والزعفران. فلما عاينت ما عاينت من ذلك ولم أر مخلوقا كدت أن أصعق فنظرت من أعالي الغرف فإذا بأشجار على حافات أنهار تخرق أزقتها وشوارعها ، منها ما أثمرت ومنها ما لم تثمر ، وحافات الأنهار مبنية بلبن من فضة وذهب. فقلت : لا شك أن هذه الجنة الموعود بها في الآخرة ، فحملت من تلك البنادق واللؤلؤ ما أمكن وعدت إلى بلادي وأعلمت الناس بذلك.

فبلغ الخبر معاوية بن أبي سفيان وهو الخليفة يومئذ بالشام فكتب إلى عامله بصنعاء أن يجهزني إليه فوفدت عليه فاستخبرني عما سمع من أمري فأخبرته فأنكر معاوية إخباري فدفعت له من ذلك اللؤلؤ وقد اصفر وتغير ، وكذلك بنادق العنبر والزعفران والمسك ، ففتحها فإذا فيها بعض رائحة ، فبعث معاوية رضي الله عنه إلى كعب الأخبار فلما حضر قال له : يا كعب إني دعوتك لأمر أنا من تحقيقه على قلق ورجوت أن يكون علمه عندك. فقال : ماذا يا أمير المؤمنين؟ قال معاوية : هل بلغك أن في الدنيا مدينة مبنية من ذهب وفضة عمدها من زبرجد وياقوت وحصباؤها لؤلؤ وبنادق مسك وعنبر وزعفران؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، هي إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ، بناها شداد بن عاد الأكبر (٢٦٤).

__________________

(٢٦٤) شداد بن ارم بن عاد : ملك جميع الدنيا في زمانه وكان قومه قوم عاد الأولى زادهم الله فخامة وقوة في الأجسام .. حتى قالوا : من اشد منا قوة فبعث إليهم النبي هود ـ عليه السلام ـ فدعاهم إلى عبادة الخالق وطاعته.

١٥٥

قال معاوية : حدثنا من حديثها ، قال كعب : إن عادا (٢٦٥) الأول كان له ولدان شديد وشداد ، فلما هلك ملكا بعده البلاد ، ولم يبق أحد من ملوك الأرض إلا دخل في طاعتهما. فمات شديد بن عاد ، فملك شداد الملك بعده على الانفراد ، وكان مولعا بقراءة الكتب القديمة ، وكلما مر به ذكر الجنة وما فيها من القصور والأشجار والثمار ، وغيرها مما في الجنة ، دعته نفسه أن يبني مثلها في الدنيا عتوا على الله عز وجل فأصر على ابتنائها ، ووضع مائة ملك تحت يد كل ملك ألف قهرمان. ثم قال : انطلقوا إلى أطيب فلاة في الأرض وأوسعها فابنوا لي مدينة من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت ولؤلؤ ، واجعلوا تحت عقود تلك المدينة أعمدة من زبرجد وأعاليها قصورا وفوق القصور غرفا مبنية من الذهب والفضة ، واغرسوا تحت تلك القصور في أزقتها وشوارعها أصناف الأشجار المختلفة والثمار وأجروا تحتها الأنهار في قنوات من الذهب والفضة النضار ، فإني أسمع في الكتب القديمة والأسفار صفة الجنة في الآخرة والعقبى وأنا أحب أن أجعل لي مثلها في الدنيا. فقالوا بأجمعهم : كيف نقدر على ما وصفت؟ وكيف لنا بالزبرجد والياقوت الذي ذكرت؟ فقال لهم ، ألستم تعلمون أن ملك الدنيا كلها لي وبيدي وكل من فيها طوع أمري؟ قالوا : نعم ، نعلم ذلك ، قال : فانطلقوا إلى معادن الزبرجد والياقوت واللؤلؤ والفضة والذهب فاستخرجوها واحتفروا ما بها ولا تبقوا مجهودا في ذلك ، ومع ذلك فخذوا ما في أيدي العالم من أصناف ذلك ولا تبقوا ولا تذروا واحذروا وأنذروا.

__________________

(٢٦٥) عاد : هو عاد بن عوص بن إرم بن سام ، وعاد إرم هم عاد الأولى ، وهم قبل ثمود ، وكان قومه أول من عبدوا الأصنام بعد الطوفان ، وكانوا يقطنون منطقة الشحر على ساحل اليمن ، أعطاهم الله قوة ومالا لكنهم جحدوا بآيات الله فحق عليهم العذاب بريح عاتية (تاريخ الطبري (١ / ٢١٦) ، البداية والنهاية (١ / ٢٠) أخبار الزمان (ص ١٠٤).

١٥٦

وكتب كتبه إلى كل ملك في الدنيا وجهاتها وأقطارها يأمرهم فيها أن يجمعوا ما في بلادهم من أصناف ما ذكر ، وأن يحتفروا معادنها ويستخرجوها من التراب والصخور والمعادن والأحجار وقعور البحار ، فجمعوا ذلك في عشر سنين وكان عدد الملوك المبتلين بجمع ذلك ثلثمائة وستين ملكا وخرج المهندسون والفعلة والحكماء والصناع من سائر البلاد والبقاع والبراري ، وتبددوا في البراري والقفار والجهات والأقطار حتى وقفوا على صحراء عظيمة فيحاء نقية خالية من الآكام والجبال والأودية والتلال ، وإذا بها عيون مطردة وأنهار متجعدة ، فقالوا : هذه صفة الأرض التي أمرنا بها ونبذنا إليها. فاختطوا بفنائها بقدر ما أمرهم به شداد ملك الأرض من الطول والعرض ، وأجروا فيها قنوات الأنهار ووضعوا أساسات على المقدار ، وأرسلت إليهم ملوك الأقطار بالجواهر والأحجار واللؤلؤ الكبار والعقيان النضار على الجمال في البراري والقفار وفي البحر أوسقوا بها السفن الكبار ووصل إليها من تلك الأصناف ما لا يوصف ولا يعد ولا يحصى ولا يكيف.

فأقاموا في عمل ذلك ثلثمائة سنة جدا من غير تعطيل أبدا ؛ وكان شداد قد عمر في العمر تسعمائة سنة. فلما فرغوا من عمل ذلك أتوه وأخبروه بالإتمام ، فقال لهم شداد انطلقوا فاجعلوا عليها حصنا منيعا شاهقا رفيعا واجعلوا حول الحصن قصورا ، عند كل قصر ألف غلام ليكون في كل قصر منها وزير (٢٦٦) من وزرائي. فمضوا وفعلوا ذلك في عشر سنين ثم حضروا بين يدي شداد وأخبروه بحصول القصد والمراد فأمر وزراءه وهم ألف وزير ، وأمر خاصته ومن يثق بهم من

__________________

(٢٦٦) الوزير : من المؤازرة والمعاضدة والوقوف بجوار الحاكم ومعاونته في أمر من أمور الدولة الحيوية وهي فارسية الأصل ومهمة الوزير يحددها ابن خلدون" النظر الى أمور جباية الأموال وإنفاقه وضبط ذلك من جميع وجوهه" وأول من لقي بالوزير في الاسلام هو" أبو سلمة الخلال أيام الخليفة العباسي أبا العباس السفاح.

١٥٧

الجنود وغيرهم ، أن يستعدوا للرحلة ويتهيئوا للنقلة إلى إرم ذات العماد تحت ركاب ملك الدنيا شداد ، وأمر من أراد من نسائه وحرمه وجواريه وخدمه أن يأخذوا في الجهاد. فأقاموا في أخذ الأهبة لذلك عشرين سنة. ثم سار شداد بمن معه من الأحشاد مسرورا ببلوغ المراد حتى إذا بقي بينه وبين إرم ذات العماد مرحلة واحدة أرسل الله عليه وعلى من معه من الأمة الكافرة الجاحدة صيحة من سماء قدرته ، فأهلكتهم جميعا بسوط عظمته وسطوته. ولم يدخل شداد ومن معه إليها ولا رأوها ولا أشرفوا عليها. ومحا الله آثار طرقها ومحجتها ، فهي مكانها حتى الساعة على هيئتها.

فتعجب معاوية من إخبار كعب بهذا الخبر ، وقال : هل يصل إلى تلك المدينة أحد من البشر؟ فقال : نعم ، رجل من أصحاب محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، وهو بصفة هذا الرجل الجالس بلا شك ولا إبهام.

وروى الشعبي عن علماء حمير (٢٦٧) من اليمن أنه لما هلك شداد ومن معه من الصيحة ، ملك بعده ابنه شداد الأصغر ، وكان أبوه شداد الأكبر استخلفه على ملكه بأرض حضر موت وسبأ ، فأمر بحمل أبيه من تلك المفازة إلى حضر موت ، وأمر فحفرت له حفيرة في مفازة فاستودعه فيها على سرير من ذهب ، وألقى سبعين حلة منسوجة بقضبان الذهب ووضع عند رأسه لوحا عظيما من ذهب ، وكتب فيه هذا الشعر :

اعتبر بي أيها المغ

رور بالعمر المديد

__________________

(٢٦٧) حمير : قبيلة يمنية معروفة منذ أيام السبئيين ، اشتد نفوذها في أواخر السبئيين ، ثم كونت لنفسها دولة عاصمتها ظفار قبل الديانة المسيحية ، واستمر نفوذها حتى ظهور الاسلام ، وكان لها لغة خاصة هي الحميرية وانقرضت ، مؤسس القبيلة هو حمير بن سبأ بن يشجب ابن يعرب ، ويقال أنه سمي حمير لأنه كان يلبس حلة حمراء (الأنساب للصحاري (١ / ٧٦) ، الموسوعة الميسرة (مادة : حمير).

١٥٨

أنا شدّاد بن عاد

صاحب الحصن العميد

وأخو القوّة والقد

رة والملك الحشيد

دان أهل الأرض لي من

خوف قهري ووعيدي

وملكت الشرق والغر

ب بسلطان شديد

وبفضل الملك والعدّ

ة أيضا والعديد

فأتى هود وكنّا

في ضلال قبل هود

فدعانا لو قبلنا

منه للأمر السديد

فعصيناه ونادينا

ألا هل من محيد

فأتتنا صيحة تد

وي من الأفق البعيد

فترامينا كزرع

وسط بيداء حصيد

قال الثعلبي : ولقد وقع على هذه المفازة أيضا رجل من حضر موت يقال له بسطام ، ومعه رجل آخر ذكرا أنهما دخلا هذه المفازة فوجدا في صدرها درجا فنزلا فيه فإذا هي مقدار مائة درجة ، كل درجة قامة ، وأسفلها أزج معقود في الجبل طوله مائة ذراع وعرضه أربعون ذراعا وارتفاعه مائة ذراع ، وفي صدر الأزج سرير من ذهب وعليه رجل عظيم الجسد قد أخذ طول السرير وعرضه ، وعليه الحلى والحلل المنسوجة بقضبان الذهب والفضة ، وعلى رأسه لوح من ذهب وعليه كتابة فأخذا ذلك اللوح وحملا ما أطاقا من قضبان الذهب ونظرا إلى طاقة في أسفل الأزج يدخل منها ضوء ، فقصداها وخرجا منها فإذا هما على ساحل البحر ، فقعدا هناك إلى أن عبر بهما مركب فأشارا إليه ولوحا لأهله ، فأتوا إليهما وسألوهما عن أمرهما فأخبرا بالحال ، فحملوهما حتى قربوا من أرضهما ، فوصلا وأخبرا بما اتفق لهما فتعجبوا منه.

١٥٩

عمان : وأرضها مجاورة لأرض الشمال ، وهي أرض عامرة كثيرة الخلائق والبساتين والفواكه ، إلا أنها بلاد حارة جدا. وببلاد عمان حية تسمى العربد ، وتسمى الكرام ، تنفخ ولا تؤذي ، فإذا أخذت وجعلت في إناء وثيق ، وأوثقت رأس ذلك الإناء وسد سدا محكما ، ووضعت في إناء آخر ثان ، وأخرجت من بلاد عمان ، عدمت من الإناء ولا توجد فيه ولا يعرف كيف ذهبت. وهذا من أعجب العجب. وبهذه الأرض دويبه صغيرة تسمى القراد ، إذا عضت الإنسان انتفخ مكانها ودود ، ولا يزال الدود يسعى في باطن الإنسان المعضوض حتى يموت. وبجبال أرض عمان قرود كثيرة تضر بأهلها ضررا كثيرا وربما لا تندفع في بعض الأوقات إلا بالسلاح والعدد الكثيرة لكثرتها ؛ وفي أرض عمان مغاص اللؤلؤ الجيد ؛ وفي بحر عمان جزيرة قيس طولها اثنا عشر ميلا في مثلها. وصاحب هذه الجزيرة تصل مراكبه إلى بلاد الهند ويغزوهم في غالب الأوقات ويغير على كفار الهند.

ويحكى أن عنده في الجزيرة المذكورة على مرسى البحر من المراكب التي تسمى السفينات مائتي مركب ، وهذه المراكب من عجائب الدنيا وليس على وجه الأرض ومتن البحور مثلها أبدا ؛ وهي أن المركب الواحد منها منحوت من خشبة واحدة ؛ قطعة واحدة ، والمركب الواحد منها يسع مائة رجل وخمسين ، وبهذه الجزيرة دواب ومواشي وأشجار وفواكه.

١٦٠