منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٥٩٢

كون التكليف بالواقع فعليّاً في الوقت لا يُجدي (١) ، ولا يُثبت كون ما أتى به

______________________________________________________

على خلافه ، وبعد انكشاف الخلاف يشك في بقائه على عدم الفعلية ، فيستصحب ، وقضية هذا الاستصحاب عدم وجوب الإعادة.

(١) هذا خبر قوله : ـ واستصحاب ـ ، ودفع للتوهم المزبور ، وحاصله : أنّ استصحاب عدم فعلية التكليف لا يُثبت عدم وجوب الإعادة إلّا بناءً على حجية الأصول المثبتة.

توضيحه : أنّ سقوط الإعادة من آثار فعلية مؤدى الأمارة كما هو المفروض على السببية ، وليس من آثار عدم فعلية الواقع حتى يثبت باستصحابه ، وإنّما يكون من آثاره إذا كان الحكم الواقعي يسقط بقيام الأمارة على خلافه ، مع أنّه ليس كذلك ، لعدم سقوط الواقعيات بقيام الأمارة على خلافها ، فإثبات سقوط الإعادة باستصحاب عدم فعلية الواقع يكون من قبيل إثبات أثر أحد الضدّين باستصحاب عدم الآخر ، ومن المعلوم أنّه من الأُصول المثبتة.

وبالجملة : فما يمكن استصحابه وهو عدم فعليّة الواقع لا يترتب عليه سقوط الإعادة ، لعدم كونه من آثاره ، وما يترتب عليه سقوط الإعادة وهو عدم فعلية الواقع لا يستصحب ، لانتقاضه بانكشاف خطاء الأمارة.

بل لا مجال لاستصحاب عدم فعلية التكليف الواقعي في الوقت حتى يثبت به عدم وجوب الإعادة ، بل المرجع هنا قاعدة الاشتغال ، لكون الشك في فراغ الذّمّة بعد العلم باشتغالها بالتكليف.

__________________

لا من موارد الاستصحاب ، حيث إنّ موردها هو الشك في فراغ الذّمّة بحيث يكون الأثر مترتباً على نفس الشك ، ومورد الاستصحاب هو ما إذا كان الأثر مترتباً على الواقع.

ومن المعلوم : أنّ المقام من موارد القاعدة ، لكون لزوم الإتيان ثانياً مترتباً عقلاً على نفس الشك في الفراغ ، لا على عدم الإتيان بالواقع حتى نحتاج إلى إحرازه

٨١

مسقطاً إلّا على القول بالأصل المثبت ، وقد (١) علم باشتغال ذمته بما يشك في فراغها عنه بذلك (٢)

______________________________________________________

(١) يعني : والحال أنّه قد علم باشتغال الذّمّة ، وحاصله : أنّ الشك في المقام يكون في سقوط التكليف الّذي يُرجع فيه إلى قاعدة الاشتغال ، فمع العلم بالتكليف لا يُجدي الاستصحاب المزبور.

(٢) متعلق بقوله : ـ يشك ـ ، والباء للسببية ، يعني : أنّ منشأ الشك في الفراغ هو العمل بمؤدّى الأمارة ، مثلاً إذا قامت البينة على طهارة ماء ، فتوضأ به ، وصلّى ، ثم تبين خطاء البينة ، فيقال ـ : إنّ التكليف بالوضوء بالماء الطاهر الّذي

__________________

بالاستصحاب ، فإحرازه به يكون من صغريات تحصيل ما هو حاصل وجداناً بالتعبد وهو من أردإ وجوه تحصيل الحاصل المحال.

مضافاً إلى ما يرد على أصالة عدم الإتيان بالمسقط من المناقشات :

إحداها : عدم كون ترك الإتيان بالمسقط أثراً شرعياً ، ولا موضوعاً له ، مع وضوح اعتبار أحدهما في جريان الاستصحاب.

ثانيتها : أنّه مثبت ، لأنّ ترتب بقاء الطلب الموجب للإتيان ثانياً على عدم الإتيان بالمسقط عقليٌّ.

ثالثتها : عدم جريانه ، لتردد المسقط بين ما هو معلوم البقاء ، وما هو معلوم الارتفاع ، إذ المسقط لو كان هو الواقع ، فذلك معلوم البقاء ، لعدم الإتيان به على الفرض ، فيجب فعله ، ولو كان هو مؤدّى الأمارة ، فذلك معلوم الارتفاع ، فلا يجب الإتيان بالواقع ، وفي مثله لا يجري الاستصحاب ، للعلم بالبقاء أو الارتفاع فلا شك في البقاء على كل تقدير.

وهذه المناقشات وإن كانت ممكنة الدفع كما لا يخفى على المتأمل ، لكن العمدة ما عرفته من عدم كون المقام من موارد الاستصحاب ، بل من موارد القاعدة ، فتأمّل جيّداً.

٨٢

المأتي ، وهذا (١) بخلاف ما إذا علم انه مأمور به واقعاً ، وشك في أنّه يجزي عما هو المأمور به الواقعي الأوّلي ، كما في الأوامر الاضطرارية أو الظاهرية بناءً (٢) على أن يكون الحجية على نحو السببية ، فقضيّة (٣) الأصل فيها (٤) كما أشرنا إليه (٥)

______________________________________________________

هو حكم واقعي قد اشتغلت به الذّمّة قطعاً ، ويشك في سقوطه بالوضوء بالماء المتنجس واقعاً المحكوم لأجل البينة بالطهارة ظاهراً ، فقاعدة الاشتغال تقتضي وجوب الإعادة لكون الشك في سقوط التكليف ، لا ثبوته.

(١) المشار إليه هو الشك في الإجزاء ، لأجل الشك في الطريقية والموضوعية ، وغرضه : أنّ هذا الشك ليس مثل الشك في الإجزاء الناشئ عن الشك في وفاء المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري ـ بناءً على السببية ـ بمصلحة المأمور به الواقعي الأوّلي.

وحاصل الفرق بين المقامين هو : العلم بكون المأمور به الاضطراري وكذا الظاهري بناءً على الموضوعية مأموراً به واقعاً ثانويّا ، والشك إنّما هو في وجوب الإتيان بالمأمور به الواقعي الأوّلي ، والأصل عدمه ، لكون الشك في التكليف ، بخلاف المقام ، لعدم العلم بكون المأتي به مأموراً به واقعاً ، حيث إنّ كونه كذلك منوط بحجية الأمارة على الموضوعية التي هي مشكوكة ، فيكون الشك حينئذٍ في المسقط ، وقاعدة الاشتغال تقتضي وجوب الإعادة.

(٢) قيد ل ـ الظاهرية ـ.

(٣) الأولى أن يقال : ـ فإنّ قضية الأصل ـ.

(٤) الأولى تثنية الضمير ، لرجوعه إلى ـ الأوامر الاضطرارية والظاهرية ـ.

ولا يُجدي في إفراده دعوى رجوعه إلى ـ الأوامر ـ ، وذلك لأنّ الملحوظ هو الأوامر الموصوفة بالاضطرارية والظاهريّة ، وبهذا اللحاظ لا بد من تثنية الضمير.

(٥) حيث قال قبل المقام الثاني بأسطر : ـ وإلّا فالأصل وهو يقتضي البراءة من إيجاب الإعادة ـ.

٨٣

عدم وجوب الإعادة ، للإتيان (١) بما اشتغلت به الذّمّة يقيناً (٢) وأصالة (٣) عدم فعلية التكليف الواقعي بعد رفع الاضطرار ، وكشف الخلاف.

وأمّا القضاء (٤) فلا يجب بناءً على أنّه بفرض جديد ، وكان (*) الفوت

______________________________________________________

(١) تعليل لعدم وجوب الإعادة.

(٢) وهو المأمور به الاضطراري أو الظاهري بناءً على الموضوعية.

(٣) معطوف على قوله : ـ للإتيان ـ ، حاصله : أنّ وجه عدم وجوب الإعادة هو الإتيان بالمأمور به الفعلي الاضطراري أو الظاهري ، وأصالة عدم فعلية التكليف الواقعي الأوّلي بعد ارتفاع الاضطرار في المأمور به الاضطراري ، وانكشاف الخلاف في المأمور به الظاهري ، فلا وجه حينئذٍ لوجوب الإعادة.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل المتكفل لوجوب الإعادة فيما إذا ثبتت جزئية شيء أو شرطيته لمتعلق التكليف بالأمارة مع الشك في كون حجيتها بنحو السببية ، أو الطريقية ، وكان انكشاف الخلاف في أثناء الوقت.

(٤) هذا هو المقام الثاني المتكفل لحكم انكشاف الخلاف بعد الوقت ، وحاصله : أنّه إذا انكشف الخلاف بعد الوقت ، ولم يُحرز كون حجيّة الأمارات بنحو السببية ، أو الطريقية ، ففي وجوب القضاء تفصيل ، وهو : أنّه بناءً على كون القضاء بفرض جديد ، وعدم إمكان إثبات الفوت الّذي هو موضوع وجوب القضاء باستصحاب عدم الإتيان ، لكونه مثبتاً ، حيث إنّ الفوت أمر وجودي ، وترتبه على عدم الإتيان بالفريضة في الوقت عقليٌّ لا يجب القضاء ، للشك في وجوبه المنفي بأصالة البراءة.

وبناءً على كون القضاء بالفرض الأوّل يجب ذلك ، لأنّه حينئذٍ بحكم الإعادة.

__________________

(*) الأولى أن يقال : «وعدم ثبوت الفوت المعلّق عليه وجوبه بأصالة عدم الإتيان ... إلخ» يعني : وبناءً على عدم ثبوت الفوت ... إلخ.

ثم إنّ الحق كون موضوع وجوب القضاء هو عدم الإتيان بالمأمور به على وجهه في الوقت سواء أكان عمداً ، أم عذراً كنسيان ، أو نوم ، فإنّ المنساق من نصوص

٨٤

المعلّق عليه وجوبه (١) لا يثبت بأصالة عدم الإتيان إلّا على القول بالأصل المثبت ، وإلّا (٢) فهو واجب كما لا يخفى على المتأمل ، فتأمّل جيداً (٣).

______________________________________________________

(١) أي : القضاء.

(٢) أي : وإن لم يكن بفرض جديد ، فالقضاءُ واجب ، لما مرّ آنفاً من كونه حينئذٍ بحكم الإعادة.

(٣) لعله إشارة إلى : عدم كفاية مجرد كون القضاء بالفرض الأوّل في وجوب القضاء ، بل لا بد من إحراز الفوت ، وحينئذٍ فإن كان الفوت أمراً عدمياً أمكن إحرازه بالأصل ، كما عرفت آنفاً ، فلا يجب القضاءُ. وإن كان وجودياً ، فإحرازه بالأصل مبنيٌّ على حجية الأصل المثبت ، وحيث لا نقول بها ، فلا يجب القضاء أيضا.

__________________

القضاء هو كون الموضوع ذلك ، لا عنوان الفوت ، فلا مانع حينئذٍ من جريان أصالة عدم الإتيان ، وإثبات وجوب القضاء بها من دون لزوم محذور المثبتية ، لكون عدم الإتيان بنفسه موضوعاً لوجوب القضاء.

ودعوى : كون الفوت عنواناً وجوديّاً ملازماً للترك في تمام الوقت المضروب للفعل ، فلا يثبت بأصالة عدم الإتيان إلّا على القول بالأصل المثبت غير مسموعة ، إذ لا شاهد عليها ، بل الشاهد على خلافه ، لأنّ قاعدة الحيلولة تنفي موضوع الاستصحاب وهو عدم الإتيان بالمأمور به على وجهه في تمام الوقت ، وتثبت وجوده في الوقت ، فلو لم تجرِ القاعدة جرى استصحاب عدم الإتيان المقتضي لوجوب القضاء ، فيظهر من هذا أنّ موضوع وجوب القضاء هو عدم الإتيان.

مضافا إلى : عدم تبادر الفوت إن كان عنواناً وجودياً ، وإلى : أنّ سقوط الأمر والغرض بالامتثال مترتب على وجود المتعلق في الوقت ، فبقاؤهما منوط بعد المتعلق ، فهو موضوع وجوب القضاء المقصود به الفوت.

نعم لا يطلق الفوت على مطلق الترك ، وعدم الإتيان ، بل على الشيء المستعد للوجود ، لكونه ذا مصلحة ، أو بعث فعليٍّ ، أو غيرهما من الجهات المقرِّبة له إلى الوجود ، وذلك غير قادح في كون موضوع وجوب القضاء عدم الإتيان ، كما لا يخفى.

٨٥

ثم إنّ هذا (١) كله فيما يجري في متعلق التكاليف من الأمارات الشرعية والأصول العملية.

وأمّا ما يجري في إثبات أصل التكليف ، كما إذا قام الطريق أو الأصل على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة ، فانكشف بعد أدائها وجوب صلاة الظهر في زمانها ، فلا وجه لإجزائها (٢) مطلقاً (٣) ، غاية الأمر أنّ تصير صلاة الجمعة

______________________________________________________

(١) أي : ما ذكرناه كان راجعاً إلى الأوامر الظاهرية المتعلقة بالموضوعات بعد الفراغ عن ثبوت أصل التكليف.

وأمّا ما يجري من الأمارات والأُصول العملية في نفس الأحكام الشرعية ، كما إذا قامت أمارة كخبر الثقة ، أو أصل كالاستصحاب على وجوب صلاة الجمعة ، وبعد الإتيان بها انكشف وجوب صلاة الظهر في زمان صلاة الجمعة ، فلا وجه للإجزاء مطلقاً سواء أقلنا بطريقية الأمارات أم موضوعيتها.

أمّا على الأول فواضح ، وأمّا على الثاني ، فلأنّ غاية ما تقتضيه الموضوعية هي اشتمال صلاة الجمعة على المصلحة الناشئة من قيام الأمارة أو الأصل على وجوبها ، ومن الواضح عدم المنافاة بين وجوب صلاة الجمعة بهذا العنوان ، وبين وجوب صلاة الظهر ، لتعدد متعلق الوجوبين ، إلّا إذا قام دليل خاص من إجماع أو غيره على عدم وجوب صلاتين يوم الجمعة ، وأنّ الواجب فيه واحد ، فلا بد حينئذٍ من الإتيان بصلاة الظهر ، لعدم وجوب غيرها بناءً على الطريقية ، والاكتفاء بصلاة الجمعة بناءً على الموضوعية ، إذ المفروض وجوب إحدى الصلاتين وقد أتى بها.

(٢) هذا الضمير وضمير ـ أدائها ـ راجعان إلى ـ صلاة الجمعة ـ ، وضمير ـ زمانها ـ إلى ـ الغيبة ـ.

(٣) يعني : سواء أقلنا بالطريقية أم الموضوعية ، وسواء أكان دليل الوجوب أمارة أم أصلاً ، وقد عرفت وجه هذا الإطلاق.

٨٦

فيها (١) أيضا (٢) ذات مصلحة لذلك (٣) ، ولا ينافي هذا (٤) بقاء صلاة الظهر على ما هي عليه من (٥) المصلحة كما لا يخفى ، إلّا (٦) أن يقوم دليل بالخصوص (*)

______________________________________________________

(١) أي : في زمان الغيبة.

(٢) يعني : كصلاة الظهر.

(٣) أي : لأجل قيام الأمارة أو الأصل على وجوبها.

(٤) يعني : ولا يُنافي كون صلاة الجمعة ـ لأجل قيام أمارة أو أصل على وجوبها ـ ذات مصلحة بقاء صلاة الظهر على المصلحة ، وذلك لتعدد المتعلق ، وعدم تعرض مستند وجوب صلاة الجمعة لنفي وجوب صلاة الظهر ليدل على انقلاب الحكم الواقعي ، فلا مانع من وجوبهما معاً.

(٥) بيان ل ـ ما ـ الموصولة.

(٦) استثناءٌ من عدم المنافاة ، وحاصله : أنّه مع قيام دليل على عدم وجوب

__________________

(*) غير خفيٍّ أنّ مجرد نهوض دليل على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد ليس مناطاً للإجزاء ، بل مناطه دلالته على عدم الوجوبين على الإطلاق ، أو على عدم وجوب ظاهري مع وجوب واقعي مع أهمية مؤدّى الأمارة أو الأصل ، فلو دلّ الدليل على عدم الوجوبين الواقعيين ، أو الظاهريين لم يكن منافياً لوجوب الإعادة ، لكون المأتي به واجباً بوجوب ظاهري ، والآخر واجباً بوجوب واقعي.

بل يمكن أن يقال : إنّ الإجزاء منوط بدلالة الدليل على أنّ مؤدّى الأمارة أو الأصل هو الحكم الواقعي ليدل على بدلية مصلحته عن مصلحة الواقع ، ووفائها بها ، وقيامها مقامها ، وإلّا فلا وجه للاجزاء مع مغايرة المصلحتين ، وعدم السنخيّة بينهما.

وبالجملة : فمجرد القول بالسببية ، ونهوض دليل على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد لا يقتضيان الإجزاء وعدم وجوب الإعادة ، بعد إمكان استقلال كلِّ من المصلحتين ، وإمكان اجتماعهما ، وعدم بدلية إحداهما عن الأُخرى.

٨٧

على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد.

تذنيبان : الأول (١) : لا ينبغي توهم الاجزاء في القطع بالأمر في صورة الخطاء ، فإنّه لا يكون موافقة للأمر فيها (٢) ، وبقي الأمر بلا موافقة أصلا (٣) ، وهو أوضح من أن يخفى.

نعم (٤) ربما يكون ما قطع بكونه مأموراً به مشتملاً على المصلحة في هذا

______________________________________________________

صلاتين في يوم واحد إذا ثبت وجوب إحداهما بأمارة أو أصل ثبت عدم وجوب الأُخرى ، لكون وجوب إحداهما ملازماً لعدم وجوب الأُخرى.

(١) الغرض من عقد هذا التذنيب : دفع توهم التلازم في الإجزاء بين الأوامر الظاهرية الشرعية الثابتة بالأمارات والأُصول ، وبين الأمر الظاهري العقلي الثابت بالعلم ، وحاصله : أنّ الإجزاء في الأوامر الظاهرية الشرعية على القول به لا يلازم الإجزاء في الأمر الظاهري العقلي مع انكشاف الخلاف ، ضرورة أنّ منشأ توهم الإجزاء هو الأمر الشرعي ، وذلك مفقود في موارد القطع ، إذ ليس فيها إلّا العذر العقلي في ترك الواقع ما دام قاطعاً ، وبعد ارتفاع القطع يرتفع العذر ، فتجب الإعادة أو القضاء ، لعدم الإتيان بنفس المأمور به الواقعي ، ولا بما جعله الشارع بمنزلته ، فلا وجه للاجزاء.

(٢) أي في صورة خطاء القطع ، وقوله : ـ فانه لا يكون ... إلخ ـ تعليل لقوله :

ـ لا ينبغي توهم الاجزاء ـ ، وقد عرفت توضيحه.

(٣) يعني : لا حقيقة ولا تنزيلاً ، كما في الأمر الظاهري الشرعي.

(٤) استدراك من عدم الاجزاء ، وحاصله : أنّه قد يكون ما قطع بكونه مأموراً به مجزياً عن المأمور به الواقعي ، وهو فيما إذا كان مشتملاً على تمام مصلحة الواقع ، أو معظمها مع امتناع استيفاء الباقي ، فحينئذٍ لا يبقى مجال للإعادة والقضاء ، لسقوط الأمر الواقعي بحصول غرضه كُلًّا أو جُلًّا.

٨٨

الحال (١) ، أو على مقدار منها (٢) ولو في غير الحال غير (٣) ممكن مع

______________________________________________________

(١) أي : حال القطع ، لا مطلقاً ، إذ لو كان مشتملاً على المصلحة في كل حال لزم أن يكون عِدلاً للواجب الواقعي ، وأحد فرديه ، وأن يخرج عن موضوع البحث ، وهو إجزاء غير الواقع عن الواقع ، إذ المفروض حينئذٍ كون المأتي به أحد فردي الواجب الواقعي (*).

(٢) أي : من المصلحة ولو في غير حال القطع.

(٣) قيد ل ـ مقدار ـ ، وحاصله : أن يكون المأتي به واجداً لمقدار من المصلحة يمتنع مع استيفائه استيفاء الباقي منها ، فيكون المأتي به مفوِّتاً لبعض المصلحة ، ولذا لم يَصِر واجباً في عرض الواقع ، فضمير ـ استيفائه ـ راجع إلى ـ مقدار ـ ، و ـ استيفاء ـ فاعل ـ ممكن ـ ، وضمير ـ منه ـ راجع إلى المصلحة ، فالأولى تأنيثه ، والأمر سهل.

__________________

(*) يجري هذا الإشكال بعينه فيما إذا اختص اشتمال المأتيّ به على المصلحة بحال القطع ، لصيرورته حينئذٍ أيضا عدلاً للواجب الواقعي.

إلّا أن يقال : بامتناع دخل القطع في موضوع متعلقه كما قرر في مبحث القطع ، فالعلم بوجوب الإتمام على المسافر مع كون وظيفته واقعاً هي القصر ليس دخيلاً في وجوب الإتمام عليه ، بل الدخيل هو الجهل بوجوب القصر عليه ، ومن المعلوم حصوله في ظرف العلم بوجوب التمام.

نعم يرد هنا إشكال آخر وهو : أنّ الجهل بعنوانه لا يمكن أن يقع موضوعاً للخطاب ، للزوم الانقلاب ، لكن يمكن دفعه بتوجيه الخطاب إلى عنوان ملازم للجهل ، كما ذكروا مثله في توجيه الخطاب إلى الناسي ، فتدبر.

وقد ظهر مما ذكرنا : أنّ الأولى سقوط قول المصنف (قد) : ـ في هذا الحال ـ عن العبارة ، لظهوره في دخل القطع في اشتماله على المصلحة ، مع أنّ الدخيل فيها هو سترة الواقع والجهل به.

٨٩

استيفاؤه استيفاء الباقي منه ، ومعه (١) لا يبقى مجال لامتثال الأمر الواقعي ، وهكذا الحال (٢) في الطرق ، فالاجزاء ليس لأجل اقتضاء امتثال الأمر القطعي ، أو الطريقي (٣) للإجزاء ، بل إنّما هو (٤) لخصوصية اتفاقية (*) في متعلقهما ، كما

______________________________________________________

(١) أي : مع كون ما قطع بأنّه مأمور به مشتملاً على المصلحة كُلًّا أو جُلًّا كما مر لا يبقى مجال لامتثال الأمر الواقعي ، فلا بدّ من الإجزاء كما لا يخفى.

(٢) يعني : أنّ ما ذكرناه في القطع المخطئ من عدم الاجزاء جار في الأمارة المخطئة أيضا ، فإذا قطعنا بحجية أمارة كخبر العدل الواحد ، ثم انكشف عدم اعتبارها ، فإنّ العمل المطابق لها لا يجزي أصلاً ، إلّا إذا كان المأتي به وافياً بالمصلحة ، أو بمقدار منها مع امتناع تدارك الباقي.

فالاجزاء ليس لأجل اقتضاء الأمر القطعي أو الطريقي له ، بل لوفاء المأتي به بمصلحة الواقع ، أو معظمها.

(٣) الأوّل في القطع ، والثاني في الأمارة غير العلمية ، وقوله : ـ للاجزاء ـ متعلق باقتضاء ـ (٤) أي : الاجزاء إنّما هو لخصوصية في متعلق الأمر القطعي والطريقي ، وهي الوفاء بالمصلحة ، كما مرّ آنفاً.

__________________

(*) قد يستشكل في الاجزاء ب : أنّه في صورة انكشاف خطاء القطع يكون المأتيُّ به مضاداً للمأمور به الواقعي ، فيحرم ، لكونه مقدمة لترك الواجب ، ومعه كيف يصير محبوباً ومقرِّباً.

لكنه يندفع : أنّ وجود أحد الضدين ليس مقدمة لترك الآخر ، كما أنّ ترك أحدهما ليس مقدمة لوجود الآخر ، فحرمة المأتيّ به لأجل المقدمية ممنوعة ، كمنع حرمته الناشئة من اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضده من باب التلازم على ما سيأتي في مبحث الضد إن شاء الله.

وبالجملة : فكل من الضدين باقٍ على حكمه الشرعي ، فلا بد حينئذٍ من مراعاة الأهمية بينهما.

٩٠

في الإتمام والقصر ، والإخفات والجهر (١).

الثاني (٢) : لا يذهب عليك أنّ الإجزاء في بعض موارد الأُصول والطرق والأمارات (٣) على ما عرفت تفصيله لا يوجب التصويب المجمع على بطلانه في تلك الموارد ، فإنّ (٤)

______________________________________________________

(١) فإنّ المنسوب إلى المشهور صحة التمام في موضع القصر ، والإخفات في مورد الجهر ، وبالعكس جهلاً بالحكم ، واستحقاق العقوبة إن كان الجهل عن تقصير.

ويدل على الأوّل : النصوص الدالة على تمامية الصلاة في تلك الموارد وإجزائها.

وعلى الثاني : الروايات الدالة على عقاب الجاهل المقصّر ، فالصحة إنّما تكون لكشف النصوص عن وفاء المأتي به بجلِّ المصلحة ، والعقوبة إنّما هي لتفويت مقدار من المصلحة عن تقصير ، وذلك يوجب صحة المؤاخذة ، ويأتي الإشكال المعروف في ذلك في شرائط الأُصول إن شاء الله تعالى.

(٢) إشارة إلى ما عن الشهيد (قده) في تمهيد القواعد ، وبعض من تبعه من المحققين من : «أنّ الاجزاء في موارد الطرق والأُصول مساوق للتصويب» حيث إنّ مقتضى بقاء الحكم الواقعي مع خطاء الأمارة أو الأصل عدم الاجزاء ، فالإجزاء كاشف عن التصويب ، وخلوِّ الواقعة عن الحكم الواقعي.

(٣) وهو ما إذا كان اعتبارها بنحو الموضوعية مع وفاء مؤدّى الأمارة أو الأصل بمصلحة الواقع ، أو معظمها وامتناع تدارك الباقي.

(٤) هذا دفع إشكال كشف الاجزاء عن التصويب ، وحاصله : منع إيجاب الاجزاء له ، لأجنبية كلٍّ من الإجزاء والتصويب عن الآخر ، وذلك لأنّ الإجزاء عبارة عن سقوط الحكم الواقعي (إمّا) لحصول الغرض الداعي إلى تشريعه ، كبعض صور الأوامر الاضطرارية والظاهرية بناءً على الموضوعية ، (وإمّا) لعدم إمكان تحصيله ، كما في بعض صورهما الآخر وهي الوفاء بمقدار من المصلحة وفوات الباقي ، وعدم إمكان

٩١

الحكم الواقعي بمرتبة (١) محفوظ فيها ، فإنّ الحكم المشترك بين العالم والجاهل ، والملتفت والغافل ليس إلّا الحكم الإنشائيّ (٢) المدلول عليه بالخطابات المشتملة

______________________________________________________

تداركه.

وأمّا التصويب ، فهو عبارة عن خلوِّ الواقعة عن الحكم ، وانحصار حكمها في مؤدى الأمارة ، ومن المعلوم : أنّ التصويب بهذا المعني يضادّ الإجزاء الّذي هو فرع الثبوت ، إذ لا معنى لسقوط التكليف بدون ثبوته ، فالإجزاء يقتضي ثبوت التكليف ، والتّصويب يقتضي عدمه ، وعلى هذا فكيف يكون الاجزاء لازماً مساوياً للتصويب كما قيل؟

غاية الأمر أنّ الحكم الواقعي المشترك بين الكل يصير فعليّاً مع إصابة الأمارة ، ويبقى على إنشائيته مع خطائها إلى أن ينكشف الخلاف ، وحينئذٍ ان كان مؤدي الأمارة وافياً بتمام المصلحة ، أو بجلّها ـ مع عدم إمكان تدارك الباقي ـ لا يصير الحكم الواقعي فعليّاً ، بل يسقط ، وإن لم يكن مؤدى الأمارة كذلك لم يسقط بل يصير فعلياً ، ولذا يجب الإعادة أو القضاء.

(١) وهي الإنشائية ، ومرجع ضمير ـ فيها ـ هو موارد الأصول والطرق والأمارات.

(٢) يعني : أنّ الحكم الواقعي المشترك بين الكل ليس فعليّاً حتى يقال بلزوم التصويب ، إذ المفروض فعليّة مؤدى الأمارات والأُصول قطعاً دون حكم آخر ، وإلّا لزم اجتماع حكمين فعليّين على موضوع واحد ، وهو محال ، فينحصر حكم الواقعة في مؤدّى الأمارة أو الأصل ، وهو عين التصويب.

بل الحكم الواقعي المشترك بين الكل إنشائي ، وهو قد يصير فعلياً ، وقد يبقى على إنشائيته ، فلا يخلو الواقع عن الحكم حتى يلزم التصويب ، غاية الأمر أنّه حكم إنشائي ، وفعليّته منوطة بإصابة الأمارة له.

٩٢

على بيان الأحكام للموضوعات بعناوينها الأولية بحسب (١) ما يكون فيها من المقتضيات (٢) ، وهو (٣) ثابت في تلك الموارد (٤) ، كسائر موارد الأمارات (٥) ، وإنّما المنفيّ فيها (٦) ليس إلّا الحكم الفعلي البعثي ، وهو

______________________________________________________

(١) قيد للأحكام ، يعني : أنّ الخطابات تشتمل على بيان الأحكام للموضوعات بعناوينها الأوّلية ، كالصلاة ، والصوم ، والحج ، وغيرها بحسب ما في تلك الموضوعات من الملاكات المقتضية لتشريع الأحكام.

(٢) بيان ل ـ ما ـ الموصولة في قوله : ـ ما يكون ـ ، وضمير ـ فيها ـ راجع إلى ـ الموضوعات ـ.

(٣) يعني : وذلك الحكم الإنشائيّ ثابت (*).

(٤) أي : التي قيل فيها بالإجزاء وهي صورة وفاءِ مؤدّى الأمارات والأُصول بتمام مصلحة الواقع ، أو معظمها ، مع عدم إمكان تدارك الباقي.

(٥) يعني : غير موارد الإصابة ، فإنّ الحكم الإنشائيّ في موارد الإجزاء وغيرها من موارد الأمارات ثابت.

(٦) أي : في موارد الاجزاء ، هذا إشارة إلى منشأ توهم التصويب في موارد الاجزاء ، وحاصله : أنّ الإجزاء فيها يوهم خلوّ الواقعة عن الحكم ، وهذا هو التصويب.

ودفع هذا التوهم ب : أنّ الواقعة لا تخلو عن الحكم حتى يلزم التصويب ، بل الحكم موجود وهو الإنشائي ، والمنفي هو الحكم الفعلي البعثي في غير موارد الإصابة ، والثابت في موارد الإصابة هو الفعلي البعثي.

__________________

(*) وهذا الحكم الإنشائي يجدي في مقامين :

الأول : في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي على ما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

والثاني : في نفي الملازمة بين إجزاء الأمر الظاهري والتصويب ، لكن في وجود الحكم الإنشائيّ تأمّلا سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

٩٣

منفيٌّ (*) في غير موارد الإصابة وان (١) لم نقل بالاجزاء.

فلا فرق بين الاجزاء وعدمه إلّا في سقوط التكليف بالواقع بموافقة الأمر الظاهري ، وعدم سقوطه بعد انكشاف عدم الإصابة ، وسقوط (٢) التكليف بحصول غرضه (٣) ، أو لعدم إمكان تحصيله (٤) غير التصويب المجمع على بطلانه ، وهو

______________________________________________________

(١) كلمة ـ وان ـ وصلية ، يعني : أنّ القول بالاجزاء لا يوجب فعلية الحكم الواقعي ، بل هو باقٍ على إنشائيته كبقائه عليها بناءً على الاجزاء ، فالفرق بين صورتي الاجزاء وعدمه إنّما هو في سقوط الحكم الإنشائي في الصورة الأُولى ، وبقائه على حاله في الصورة الثانية.

(٢) مبتدأ ، وهذا ما يناسب المقام من عدم كون الاجزاء مساوقاً للتصويب ، وذلك لأنّ سقوط التكليف لجهة من الجهات غير التصويب الّذي هو خُلوّ الواقعة عن الحكم غير ما أدت إليه الأمارة.

(٣) كما في موارد الأُصول بناءً على جعل الحكم الظاهري ، وكما في موارد الطرق بناءً على السببية ـ مع كون الحاصل منه وافياً بملاك الواقع أو بمقدار يكون الفائت منه غير لازم التدارك ـ ، وكما في موارد الطرق بناءً على الطريقية إذا كان في متعلقها صلاح.

(٤) كما في موارد الطرق مطلقاً ، أو في موارد الأمر التخيّلي إذا كان الفائت بحدِّ الإلزام وامتنع استيفاؤه ، وقوله : ـ غير التصويب ـ خبر ـ وسقوط ـ.

__________________

(*) لا وجه لنفي الحكم الفعلي في غير موارد الإصابة ، إذ لو كان الداعي إلى ذلك عدم صحة العقوبة على الواقع ، ففيه : أنّه لا ملازمة بين مجرد الفعلية وبين صحة المؤاخذة ، بل الملازمة إنّما تكون بينها وبين الفعلية المنجزة المعبر عنها بالحتمية.

وبالجملة : فلا مانع من الالتزام بالحكم الفعلي البعثي في غير موارد الإصابة.

مضافاً إلى : أنّ نفي الحكم الفعلي مخالف لما اختاره في إمكان التعبد بالأمارات غير العلمية من عدم منافاة الطريقية لفعليّة الواقع.

٩٤

خلوُّ الواقعة عن الحكم غير ما أدت إليه الأمارة ، كيف (١) وكان الجهل بخصوصيتها أو بحكمها مأخوذاً في موضوعها (٢) ، فلا بد من أن يكون الحكم الواقعي بمرتبة محفوظاً فيها (٣) ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) غرضه : توضيح الفرق بين الاجزاء والتصويب ، وحاصله : أنّه كيف يكون الإجزاء تصويباً مع أنّ نفس

دليل اعتبار الأمارة والأصل يدلّ على ثبوت الحكم الواقعي الّذي هو ضد التصويب المساوق لخلوّ الواقعة عن الحكم.

أمّا دلالة دليل اعتبار الأمارة والأصل على وجود الحكم الواقعي ، فلأنّ الشك في الحكم الواقعي موضوع في الأُصول ، وظرف في الأمارات ، فالشك في الحكم الواقعي دخيل موضوعاً أو ظرفاً في ثبوت حكم الأمارة أو الأصل ، فنفس دليل اعتبار الأمارة والأصل ينفي التصويب ، وهو خلوّ الواقعة عن الحكم.

وببيان آخر : انّ الإجزاء غير التصويب ، لأنّ الجهل بخصوصية الواقعة مع العلم بحكمها ـ كما هو شأن الشبهة الموضوعية ، كالمائع المردد بين الخلّ والخمر مع العلم بحكمهما ـ ، والجهل بالحكم مع العلم بخصوصية الواقعة ـ كما هو شأن الشبهة الحكمية كالجهل بحرمة شرب التتن ـ يدلّان على ثبوت الحكم الواقعي ، ومع هذه الدلالة كيف يمكن التفوّه بكون الاجزاء تصويباً؟

(٢) مرجع هذا الضمير ـ الأمارات ـ ، وضميري ـ بخصوصيتها وبحكمها ـ هو ـ الواقعة ـ ، والجهل بخصوصية الواقعة إشارة إلى الشبهة الموضوعية كما مر آنفاً ، والجهل بحكم الواقعة إشارة إلى الشبهة الحكمية كما عرفت أيضا.

(٣) أي : في الأمارات ، والمراد بالمرتبة هي الإنشائية ، ومن المعلوم : أنّ وجود الحكم الإنشائي المشترك بين العالم والجاهل في موارد الأمارات والأُصول يضادّ التصويب الّذي هو خلوُّ الواقعة عن الحكم ، وانحصار الحكم فيها في مؤدى الأمارة أو الأصل.

فالمتحصل مما ذكره المصنف (قده) : أنّ توهم استلزام الاجزاء في الأوامر الظاهرية

٩٥

فصل في مقدمة الواجب

وقبل الخوض في المقصود ينبغي رسم أُمور :

الأول : الظاهر أنّ المهم المبحوث عنه في هذه المسألة (١) البحث عن

______________________________________________________

للتصويب بالمعنى المزبور فاسد ، نعم استلزام الاجزاء للتصويب بمعنى آخر أعني فعليّة الحكم الواقعي في صورة إصابة الأمارة ، وعدم فعليته في صورة خطائها.

وبعبارة أُخرى : دوران فعلية الحكم وعدمها مدار إصابة الأمارة وعدمها في محله.

مقدمة الواجب

(١) أي : مسألة مقدمة الواجب ، والغرض من عقد هذا الأمر إثبات كون هذه المسألة من المسائل الأُصولية لا الفقهية ، ولا الكلامية ، ولا من المبادي الأحكامية ، ولا التصديقية (*) ، وذلك لانطباق ضابط المسألة الأصولية ـ وهو وقوعها في طريق استنباط

__________________

(*) أمّا تقريب كونها مسألة فقهيّة فهو : أنّ البحث عن حكم فعل المكلف من حيث الاقتضاء والتخيير كوجوب الصلاة والزكاة ونحوهما ، وحرمة شرب الخمر ، وأكل مال الغير ظلماً ونحوهما ، واستحباب شيء ، أو كراهته ، أو إباحته يكون من المباحث الفقهية ، ومن المعلوم : أنّ المقدمة من أفعال المكلف ، فالبحث عن وجوبها فقهيٌّ كالبحث عن ساير الأحكام التي يبحث عنها في علم الفقه.

ولا يرد عليه : مناقشة شيخ مشايخنا المحقق النائيني (قده) في ذلك ب : أنّ الفقه إنّما يبحث فيه عن أحكام موضوعات خاصة ، كالصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والخمس ، والحج ونحوها ، ومن المعلوم عدم كون المقدمة كذلك ، لأنّها عنوان عام ينطبق على موضوعات مختلفة ، فلا يندرج البحث عن وجوب المقدمة في مسائل الفقه.

وذلك لأنّه لا دليل عقلاً ولا نقلاً على انحصار البحث الفقهي بما أفاده (قده)

٩٦

الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، فتكون المسألة أُصولية ، لا عن نفس

______________________________________________________

الحكم الكلّي الفرعي بحيث تكون جزءاً أخيراً لعلة الاستنباط ـ عليها ، فإنّ البحث في مسألة وجوب المقدمة إنّما يكون بحثاً عن الملازمة بين إرادة شيء وإرادة مقدماته ، فيصح أن يقال : الحج مثلاً واجب ، وكل واجب تجب مقدماته ، فالحج تجب مقدماته ، ولا نعني بالمسألة الأُصولية إلّا ما يصح أن يقع كبرى لقياس ينتج حكماً كلياً فرعيّاً ، كما عرفت في هذا المثال.

ومع انطباق ضابط المسألة الأُصولية على مبحث مقدمة الواجب لا وجه للالتزام بكون البحث فيها استطرادياً ، وجعلها فقهية أو غيرها وان كانت فيها جهاتها ، لما مرّ في أول الكتاب من إمكان تداخل علمين أو أزيد في بعض المسائل.

__________________

فإنّ البحث عن وجوب الوفاء بالنذر وأخويه والإجارة من مسائل الفقه مع اختلاف الموضوع فيها ، لتعلق النذر تارة بالصلاة ، وأُخرى بالصوم ، وثالثة بالحج ، ورابعة بالزيارة ، وخامسة بالإطعام ، وهكذا. وكذا العهد ، واليمين ، والإجارة ، وحرمة الضرر ، وما يضمن بصحيحة يضمن بفاسده ، إلى غير ذلك مما لا يخفى.

نعم قد جرى اصطلاحهم فيما إذا كان الموضوع عنواناً خاصاً على تسميته بالمسألة الفقهية ، وفيما إذا كان الموضوع عامّاً على تسميته بالقاعدة الفقهية ، لكن الاصطلاح غير قادح في الجهة المبحوث عنها وهي كون البحث فقهيّاً ، هذا.

والأولى في تقريب عدم كون هذه المسألة فقهية أن يقال : إنّ البحث هنا في الملازمة التي هي من عوارض نفس الطلب ، لا من عوارض فعل المكلف ، كما هو شأن البحث الفقهي وإن كان العلم بالملازمة مستلزماً للعلم بحكم فعل المكلف وهو وجوب الإتيان بالمقدمة.

وأما تقريب كون المسألة كلامية فهو : أنّ علم الكلام ان كان ـ هو ما يبحث فيه عن أحوال المبدأ والمعاد ، أو ما يرجع إليهما من الثواب والعقاب والتحسين والتقبيح العقليّين ، فلا محالة تنتهي الملازمة إلى ذلك. وان كان هو ما يبحث فيه

٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عن أحوال أعيان الموجودات بقدر الطاقة البشرية ، فيكون البحث عن الملازمة بحثاً عن عوارض الإرادات والوجوبات المتعلقة بأفعال العباد.

لكن يشكل اندراج هذه المسألة في المسائل الكلامية على كلا التقديرين :

أمّا على الأول ، فبأنّ الثواب انما يترتب على قصد إطاعة امر ذي المقدمة مطلقا وان لم نقل بالملازمة ، إلّا ان يقال : بترتّب الثواب على المقدمة ان كانت مأموراً بها ، وأتى بها بقصد أمرها ، لا أمر ذيها ، وعدم ترتبه عليها ان لم تكن مأموراً بها ، فتدبر ، واما استحقاق العقوبة ، فلا يترتب على وجوب المقدمة ، وانما هو مترتب على مخالفة امر ذيها.

وأمّا على الثاني ، فبأنّ المراد بأعيان الموجودات هي الموجودات العينية.

ومن المعلوم : ان الوجوب كغيره من الأحكام تكليفية كانت أم وضعية من الموجودات الاعتبارية ، إذ لا موطن لها إلّا وعاء الاعتبار ، فلا يكون البحث عن الملازمة بين الوجوبين بحثا عن أحوال أعيان الموجودات ليندرج في المسائل الكلامية.

وأما تقريب كون المسألة من المبادئ الأحكاميّة كما صنعها العضدي تبعاً للحاجبي وشيخُنا البهائي (قده) فهو : ان تلك المبادئ عبارة عن حالات الأحكام الشرعية من حيث تنويعها إلى التكليفية والوضعيّة ، وكون التكليفية بأسرها متضادة ، واستلزام بعضها لحكم آخر ، كوجوب ذي المقدمة المستلزم لوجوب مقدمته ، إلى غير ذلك من الحالات العارضة للأحكام ، وعلى هذا فتندرج هذه المسألة في المبادئ الأحكامية ولا وجه لإنكاره ، كما لا يخفى.

وأما تقريب كونها من المبادئ التصديقية فهو : ان موضوع علم الأصول على ما اشتهر هي الأدلة الأربعة ، والبحث في هذه المسألة يرجع إلى وجود الموضوع أعني حكم العقل وعدمه ، فتكون من المبادئ التصديقية ، هذا.

٩٨

وجوبها (١) كما هو المتوهم من بعض العناوين (٢)

______________________________________________________

(١) أي : المقدمة بحيث يكون المبحوث عنه نفس وجوبها ، لا حكم العقل بوجود الملازمة ، فإنّ الأول بحث عن عوارض الفعل المتصف بكونه مقدمة ، ويكون ذلك شأن المسألة الفقهيّة ، والثاني بحث عن عوارض نفس الوجوب العارض للمقدمة ، ومرجعه إلى وجود الملازمة بين وجوب الواجب ومقدمته ، وهذا شأن المسألة الأُصولية.

(٢) كما في حاشية السيد القزويني (قده) على القوانين حيث قال : «اختلف القوم في وجوب ما لا يتم الواجب إلّا به وهو المعبر عنه بمقدمة الواجب على أربعة أقوال» ، فإنّ هذه العبارة ظاهرة في كون المسألة فقهية ، كالاختلاف في وجوب الوفاء بالعقد تكليفاً.

وأمّا القوانين والفصول فقد جَعل العنوان في أوّلهما : «أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي إيجاب مقدماته أم لا؟ على أقوال» ، وفي ثانيهما «الحق أنّ الأمر بالشيء مطلقاً يقتضي إيجاب ما لا يتم بدونه من المقدمات الجائزة وفاقاً لأكثر المحققين» ، وفي عدة الشيخ (قده) : «فصل في أنّ الأمر بالشيء هل هي ـ كذا في النسخة لكن الظاهر هو ـ أمر بما لا يتم إلّا به أم لا؟» ، وعبارة تقريرات بحث شيخنا الأعظم (قده) ، وعنوان الدرر ، وغيرهما مما ظفرنا عليه في كتب أصحابنا الأُصوليين ظاهرة في أنّ النزاع إنّما هو في اقتضاء إيجاب الشيء لإيجاب مقدماته ، لا موهمة لكون النزاع في وجوب المقدمة ليندرج في المسألة الفقهية.

__________________

لكن فيه : أنّه مبنيٌّ على كون موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة ، وقد تقدم في صدر الكتاب منعه.

ثم إنّ جهات المسألة الأُصولية والكلامية على وجه ، والمبادئ التصديقية والأحكامية منطبقة على عنوان واحد وهو : أنّ الملازمة هل هي ثابتة أم لا؟ كما يظهر ذلك من تقريب تلك الجهات ، نعم تختلف جهتا أُصوليتها وفقهيتها في العنوان ، كما يظهر أيضا مما تقدم.

٩٩

كي تكون فرعية ، وذلك (١) لوضوح أنّ البحث كذلك (٢) لا يُناسب الأُصولي ، والاستطراد لا وجه له بعد إمكان أن يكون البحث على وجه تكون من المسائل الأصولية.

ثم الظاهر أيضا (٣) أنّ المسألة عقلية ، والكلام (٤) في استقلال العقل

______________________________________________________

وبعبارة أُخرى : عناوينهم ظاهرة في كون المبحوث عنه من عوارض نفس الوجوب على ما تقدم توضيحه في التعليقة ، لا من عوارض متعلّق الوجوب ، ولا بد من مزيد التتبع ، لإمكان الظفر بعبارة توهم كون النزاع في نفس الوجوب ليندرج هذا المبحث في الأبحاث الفقهية.

وكيف كان فالحق ما عنونه أكثر الأُصوليّين من جعل مركز البحث الملازمة بين وجوب الواجب ومقدمته كما مر.

نعم ربما يوهم عنوان البدائع كون المسألة فقهية ، حيث قال : «اختلفوا في وجوب مقدمة الواجب» ، لكنه فسّره بقوله : «وأنّ وجوب الشيء هل يقتضى إيجاب ما لا يتم إلّا به ، أم لا؟».

(١) هذا تقريب عدم كونه مسألة فقهية ، وحاصله : أنّ البحث عن نفس وجوب المقدمة بحث فقهيّ ، لكون المبحوث عنه من عوارض فعل المكلّف ، وهو ممّا لا يُناسب الأصولي ، بخلاف البحث عن الملازمة بين الوجوبين ، فإنّه بحث أُصولي يناسب التعرض له في الأصول.

(٢) يعني : عن نفس وجوب المقدمة.

(٣) أي : كظهور كون المسألة أُصولية. لا يخفى أنّه بعد إثبات أُصولية المسألة نبّه على أنّها من المسائل الأصولية العقلية ، إذ الكلام في حكومة العقل بالملازمة بين إرادة شيءٍ وبين إرادة مقدماته ، ولا مساس لذلك باللفظ حتى يستدل على النفي بانتفاء الدلالات الثلاث اللفظية ، كما في المعالم والقوانين وغيرهما.

(٤) معطوف على قوله : ـ المسألة ـ ومفسِّر لكون المسألة عقلية.

١٠٠