منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٥٩٢

مع الاعتراف (١) بأنّ قضية القواعد العربية (*) أنّه (٢) من قيود الهيئة ظاهرا (٣). أمّا امتناع كونه من قيود الهيئة فلأنّه (٤) لا إطلاق في الفرد الموجود من الطلب المتعلق بالفعل المنشأ (٥) بالهيئة حتى يصح القول بتقييده بشرط ونحوه (٦) ، فكل ما يحتمل رجوعه إلى الطلب الّذي يدل عليه الهيئة فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادة (٧) ، وأمّا لزوم كونه (٨) من قيود المادة لبّا ، فلأنّ العاقل إذا توجه إلى شيء والتفت إليه فإمّا أن يتعلق طلبه به ، أو لا يتعلق به طلبه

______________________________________________________

(١) يظهر هذا الاعتراف في غير موضع من كلام التقريرات في بحث المقدمة.

(٢) أي : الشرط ، فإنّ الظاهر من القضيّة الشرطية هو تقيد الهيئة به.

(٣) وإن كان ممتنعا ثبوتا ، لما مرّ من امتناع تقييد الهيئة.

(٤) الضمير للشأن ، وضمير ـ كونه ـ راجع إلى الشرط. وقد عرفت تقريب الامتناع في الدعوى الأولى السلبية بقولنا : ـ أما الأولى فمحصل وجهها ... إلخ ـ.

(٥) صفة ل ـ الطلب ـ.

(٦) من سائر القيود كالوصف والحال.

(٧) كما هو مذهب الشيخ (قده) ، فيكون الوجوب حينئذ مطلقا وحاليا ، والواجب مقيدا واستقباليا.

(٨) أي الشرط ، وقد تقدّم تقريب رجوعه إلى المادة في قولنا : ـ وأما الدعوى الثانية ... إلخ ـ.

__________________

(*) قد يستشكل في ذلك بالتنافي بين امتناع تقيّد الهيئة ، وبين كون تقييدها مقتضى القواعد العربية. لكنه مندفع بتعدد الجهة ، إذ امتناع التقيّد إنّما يكون لمانع ثبوتي ، وكون تقيّد الهيئة مقتضى القواعد العربية إنّما يكون ناظرا إلى الظهور اللفظي المستند إلى وضع أدوات الشرط ، لإناطة الجزاء بالشرط ، ولا منافاة بين هذه الإناطة ، وبين امتناع وجود الجزاء لجهة خارجية ، إذ المانع الخارجي لا يمنع عن ظهور اللفظ في الإناطة والتعليق ، فتدبّر.

١٦١

أصلا ، لا كلام على الثاني (١) ، وعلى الأول (٢) فإمّا أن يكون ذاك الشيء موردا لطلبه وأمره مطلقا على اختلاف طوارئه ، أو (٣) على تقدير خاص ، وذلك التقدير تارة يكون من الأمور الاختيارية (٤) ، وأخرى لا يكون كذلك (٥) ، وما كان من الأمور الاختيارية قد يكون مأخوذا فيه على نحو يكون موردا للتكليف (٦) ، وقد لا يكون كذلك (٧) على اختلاف الأغراض الداعية إلى طلبه والأمر به (٨) من غير فرق في

______________________________________________________

(١) لخروجه موضوعا عن حريم البحث.

(٢) وهو تعلق الطلب به.

(٣) معطوف على قوله ـ مطلقا ـ.

(٤) كالإفطار بالأكل والجماع الاختياريين الموجبين للكفارة.

(٥) أي : لا يكون من الأمور الاختيارية كالبلوغ ، والوقت ، كما مر آنفا.

(٦) كالصوم المقيّد بإقامة عشرة أيام للمسافر في محل لمن عليه قضاء الصوم وضاق وقته بإقبال شهر رمضان القابل ، فإنّ الإقامة بناء على تعين القضاء بضيق الوقت واجبة. وكالصلاة المقيدة بالطهارة ، واستقبال القبلة ، وغيرهما من القيود الاختيارية الواقعة في حيّز التكليف مع كون وجوب الصلاة مطلقا بالإضافة إليها.

(٧) يعني : وقد لا تكون الأمور الاختيارية موردا للتكليف كالاستطاعة لمن تمكن من تحصيلها ، وكذا تملّك النصب الزكوية ، ونحوهما من شرائط الوجوب ، فإنّها لم تقع موردا للتكليف ، بل أنشأ الوجوب منوطا بها ، ولذا لا يجب تحصيلها.

(٨) هذا الضمير ، وكذا ضمير ـ طلبه ـ راجعان إلى الشيء ، وحاصله : أن اختلاف وقوع شيء مطلقا أو مقيّدا على ما تقدم تفصيله ناش من اختلاف الأغراض الداعية إلى ذلك ، بداهة اختلاف الشيء إطلاقا وتقييدا بسبب اختلاف الأغراض كاختلافه كذلك باختلاف المصالح والمفاسد ، إذ قد تتعلّق بوجود الشيء مطلقا ، وقد تتعلق به مقيّدا.

١٦٢

ذلك (١) بين القول بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ، والقول بعدم التبعية ، كما لا يخفى» هذا موافق لما أفاده بعض الأفاضل (٢) المقرّر لبحثه بأدنى تفاوت (*).

______________________________________________________

(١) أي : في اختلاف كون الشيء من حيث الإطلاق والتقييد موردا للطلب.

وملخص وجه عدم الفرق فيه : أنّه على القول بتبعية الأحكام للمصالح يكون الاختلاف المزبور ناشئا من اختلاف المصالح ، وعلى القول بعدم التبعية يكون الاختلاف المذكور ناشئا من اختلاف الأغراض ، مثلا إن كان الغرض من طلب الماء إطفاء النار ، فلا إشكال في حصوله من مطلق الماء وإن كان حارّا ، وإن كان الغرض من طلبه تبريد كبده ، أو بدنه ، فلا يحصل إلّا بالماء البارد.

(٢) وهو العلامة الميرزا أبو القاسم النوري (ره) كما أشرنا إليه آنفا.

__________________

(*) لكن ظاهر عبارة مكاسب الشيخ الأعظم (قده) في باب اعتبار التنجيز في العقود هو : عدم امتناع تقييد الهيئة بالشرط ، حيث قال بعد نقل جملة من العبارات والمناقشة فيها ما لفظه : «وبالجملة فإثبات هذا الشرط (أي التنجيز) في العقود مع عموم أدلتها ووقوع كثير منها في العرف على وجه التعليق بغير الإجماع محققا أو منقولا مشكل» ، فإنّ الظاهر منه : أنّ المانع عن التعليق هو الإجماع على بطلان العقد مع التعليق ، لا الامتناع المنسوب إليه في التقريرات ، فلو لا الإجماع كان التعليق في البيع جائزا.

وبعبارة أخرى : المانع عن التعليق إثباتيٌّ ، لا ثبوتي ، وقد نقل سيدنا الأستاذ مد ظله عن شيخه المحقق الميرزا النائيني : «أنّه حكى عن العلمين الميرزا الكبير الشيرازي والسيد حسين الكوه كمري قدس الله تعالى أسرارهم : إنكار نسبة امتناع تقييد الهيئة إلى الشيخ (قده) ، وعدم كون مراده (ره) من تقييد المادة ما هو ظاهر التقريرات من رجوع القيد إلى المادة مع فعلية الوجوب وإطلاقه حتى يرجع إلى الواجب المعلق الّذي اصطلح عليه صاحب الفصول ، وذلك لبطلانه بعد فرض كون القضية من القضايا الحقيقية التي يمتنع فيها فعليّة الحكم من دون فعليّة موضوعه.

١٦٣

ولا يخفى ما فيه ، أمّا حديث عدم الإطلاق في مفاد الهيئة (١) فقد حققناه سابقا

______________________________________________________

(١) هذا ردّ الوجه الّذي أفاده الشيخ (قده) للدعوى السلبية ، وهي : عدم كون الشرط قيدا للهيئة.

وحاصل الرد : قابلية الهيئة للتقييد ، لما حققه المصنف في المعاني الحرفية من كون المعنى الحرفي كالمعنى الاسمي كليّا قابلا للإطلاق والتقييد ، فكلّ من الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف عام ، والخصوصية تنشأ من ناحية الاستعمال ، فيمتنع دخلها في الموضوع له ، وعليه : فالمعنى الحرفي كلّي قابل للتقييد كالمعنى الاسمي ، فلا مانع حينئذ من رجوع القيد إلى الهيئة ، لكون معناها على هذا كلّيا ، لا جزئيا حقيقيا.

__________________

بل مراد الشيخ قدس‌سره : أنّ المنوط بالشرط هو المحمول المنتسب الّذي هو نتيجة الجملة الجزائية ، فقولنا مثلا : ـ ان استطعت فحجّ ـ يدل على أنّ المنوط بالشرط أعني الاستطاعة هو الحج المنسوب إلى الفاعل. وبعبارة أخرى : الحج الواجب معلّق على الاستطاعة ، فالحج الواجب معدوم عند عدم الاستطاعة ، ونتيجة هذه الإناطة هي الوجوب المشروط ، مع عدم تقييد الهيئة حتى يرد عليه : عدم معقولية تقييدها ، لكون مفاد الهيئة مغفولا عنه وغير ملتفت إليه ، حيث إنّ المقيّد هي المادة المنتسبة ، لا نفس النسبة الطلبية التي هي مفاد الهيئة.

وبالجملة : النزاع في أنّ القيد هل يرجع إلى المادة قبل الانتساب أم بعده؟ فإن كان قبله وجب تحصيله ، فإنّ تقييد الحج مثلا بالاستطاعة قبل الانتساب عبارة عن وقوع كل من المادة وقيدها في حيّز الوجوب ، كالصلاة المقيدة بالطهارة.

وإن كان بعده ، فلا يجب تحصيله ، لأنّ الحجّ الواجب منوط بالاستطاعة ، فإذا حصلت وجب الحج وإلّا فلا ، كما لا يخفى».

وكيف كان ، فما استدلّ ، أو يمكن أن يستدل به على امتناع رجوع القيد إلى الهيئة وجوه أربعة :

١٦٤

انّ كل واحد من الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف يكون عامّا كوضعها ، وإنّما الخصوصية من قبل الاستعمال كالأسماء (١) ، وإنّما الفرق بينهما (٢) أنّها وضعت

______________________________________________________

(١) أي : أسماء الأجناس ، لأنّ الوضع كالموضوع له فيها عام.

(٢) أي : بين الأسماء والحروف ، وتقدم هذا البحث مفصلا في المعاني الحرفية ، فلا نعيده.

__________________

الأول : ما أفاده الشيخ (قده) من كون الموضوع له في الحروف جزئيا حقيقيّا غير قابل للإطلاق والتقييد ، وقد أجاب عنه المصنف بما عرفته في الحاشية التوضيحية.

الثاني : انّ معاني الهيئات التي هي معان حرفية وان كانت كلية إلّا أنّها ملحوظة آليّا ، ومن الواضح : أنّ الإطلاق والتقييد من شئون المعاني الاستقلالية المختصة بالأسماء ، فيمتنع رجوع القيد إلى الهيئة ، هذا.

وفيه : ما تقدم في محله من : أنّ الآلية خارجة عن الموضوع له ، وإنّما هي ملحوظة في مقام الاستعمال ، فلا تمنع عن تقييد المعنى قبله.

الثالث : انّ المعاني الحرفية التي منها معاني الهيئات إيجادية ، ومن المعلوم :

أنّ الإطلاق والتقييد من شئون المعاني الإخطارية ، فيمتنع رجوع القيد إلى الهيئة.

وفيه : ما تقدم في المعاني الحرفية من ضعف الإيجادية.

الرابع : أنّ رجوع القيد إلى الهيئة يستلزم التفكيك بين الإيجاب والوجوب ، إذ الإيجاب فعليّ ، لتحققه بالإنشاء ، والوجوب مشروط بأمر استقبالي ، وليس هذا إلّا التفكيك بين الإيجاد والوجود ، وهو ممتنع ، لأنّ كل موجود خارجي إيجاد بملاحظة فاعله ، ووجود بملاحظة قابله ، فكما أنّ تخلّف الوجود عن الإيجاد محال ، فكذلك تخلّف الوجوب عن الإيجاب ، فالمتعيّن رجوع القيد إلى المادة.

وفيه : ما أفاده المصنّف (قده) بقوله : قلت : المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله ... إلخ ـ ، وقد مرّ تقريبه في التوضيح.

هذا كلّه مضافا إلى : إمكان أن يقال : إنّ الطلب الجزئي لمّا كان تشخصه بالطالب

١٦٥

لتستعمل ويقصد بها المعنى بما هو هو ، والحروف وضعت لتستعمل وتقصد بها معانيها بما هي آلة وحالة لمعاني المتعلقات ، فلحاظ الآلية كلحاظ الاستقلالية ليس من طوارئ المعنى ، بل من مشخّصات الاستعمال ، كما لا يخفى على أولى الدراية والنهي.

والطلب (*) المفاد من الهيئة المستعملة فيه مطلق قابل لأن يقيّد ، مع (١) أنّه لو سلم أنّه (٢) فرد ، فإنّما يمنع عن التقيد لو أنشأ أوّلا غير مقيّد ،

______________________________________________________

(١) هذا جواب آخر عمّا استدل به الشيخ على امتناع تقييد الهيئة ، وحاصله :

أنّه بعد تسليم وضع الهيئة لمعنى جزئي نقول : إنّ للتقييد معنيين :

أحدهما : إيجاد شيء مضيّقا ، نظير : ـ ضيّق فم الركية ـ.

والآخر : تضييق ما أوجد موسّعا. وبعبارة أخرى : تارة يكون لحاظ التقييد قبل الإنشاء ، كما إذا أنشأ الوجوب على الحج المقيّد بالاستطاعة ، وأخرى يكون لحاظه بعد الإنشاء ، كما إذا أنشأ وجوب الحج أوّلا ، ثم قيّده بالاستطاعة. والتقييد الممتنع هو الثاني ، لا الأوّل ، لأنّ التقييد من الخصوصيات المشخّصة للفرد ، فلا مانع من إنشاء الطلب بتلك الخصوصية.

فمحصل هذا الجواب : أنّ الطلب الخاصّ الّذي هو مفاد الهيئة لم يقيّد بشيء بعد إنشائه بالصيغة ، بل هو على حاله عند إنشائه من دون تغيّر وانقلاب.

نعم أنشأ ذلك مقيدا ، بمعنى : أنّ المتكلم تصوّر الطلب بجميع خصوصياته المقصودة له ، فأنشأه بالهيئة ، ودلّت القرينة على الخصوصية من باب تعدّد الدال والمدلول ، لا أنّه أنشأه مطلقا ، ثم قيده ، ولا محذور في هذا التقييد.

(٢) أي : الطلب المفاد من الهيئة ، والضمير في قوله : ـ مع أنه ـ للشأن.

__________________

والمطلوب ، والمطلوب منه ، وكانت الخصوصيات الزائدة من حالات الطلب ، وخارجة عمّا به تشخصه صحّ دعوى إطلاقه لحالاته ، كما هو الحال في الأعلام الشخصية ، فإنّ لفظ ـ زيد ـ مثلا وإن وضع لجزئيّ حقيقيّ ، لكنه مطلق بالنسبة إلى حالاته من العلم ، والعدالة ، وغيرهما.

(*) الأولى : تبديل الواو بالفاء ، لأنّه نتيجة ما أفاده ، كما لا يخفى.

١٦٦

لا ما إذا أنشأ من الأوّل مقيّدا ، غاية الأمر قد دلّ عليه بدالّين (١) وهو غير إنشائه أوّلا ثم تقييده ثانيا ، فافهم (٢).

فان قلت : على ذلك (٣) يلزم تفكيك الإنشاء عن المنشأ ، حيث لا طلب قبل حصول الشرط.

قلت : المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله (٤) ، فلا بد أن لا يكون

______________________________________________________

(١) أحدهما : الهيئة التي تدل على الطلب ، والآخر : الشرط الدال على التقيّد.

(٢) لعله إشارة إلى : أنّ المعنى الحرفي على مذهب الشيخ (قده) بذاته جزئيّ حقيقي ، لا أنّ جزئيّته من ناحية الإنشاء ، فلا إطلاق له في حد ذاته حتى يصح إنشاؤه مقيّدا.

(٣) أي : على تقدير كون الشرط قيدا للهيئة كما هو مذهب المصنف ، لا قيدا للمادة كما هو رأي الشيخ يلزم إشكال ، وهو : انفكاك الإنشاء زمانا عن المنشأ.

بيانه : أنّ الطلب لا يحصل إلّا بعد حصول شرطه حسب الفرض ، والمفروض أنّ الإنشاء حاليّ ، والمنشأ وهو الطلب استقبالي ، فينفكّ الإنشاء عن المنشأ ، وهو محال ، للزوم انفكاك المعلول عن علته ، حيث إنّ الإنشاء علة للمنشإ ، فلا محيص عن رجوع الشرط إلى المادة.

(٤) أي : الشرط ، وهذا جواب الإشكال ، وحاصله : أنّ الإنشاء ان كان علّة تامّة للمنشإ ، كإنشاء الوجوب للصلاة مثلا بلا قيد ، فلا يلزم انفكاك بينهما أصلاً. وان كان جزء العلّة ، كما إذا أنشأ الوجوب للحج بشرط الاستطاعة ، والملكية للموصى له بشرط موت الموصى ، فلا محذور في الانفكاك ، لورود الإنشاء على المقيّد ، فحصوله بمجرد الإنشاء مستلزم للخلف. فوزان الإنشاء وزان الإرادة في أنّه إذا تعلّقت بشيء متأخّر ، فلا يقع المراد قبله ، وإلّا يلزم الخلف ، وكذا الإنشاء ، فإذا تعلّق بشيء مقيد بأمر متأخر ، فلا يقع المنشأ قبله.

١٦٧

قبل حصوله (١) طلب وبعث ، وإلّا (٢) لتخلّف عن إنشائه ، وإنشاء أمر على تقدير كالاخبار به (٣) بمكان من الإمكان ، كما يشهد به (٤) الوجدان (*) فتأمل جيدا.

______________________________________________________

(١) أي : الشرط.

(٢) يعني : وإن كان قبل حصول الشرط طلب لتخلّف المنشأ عن الإنشاء ، إذ المفروض كون المنشأ هو الطلب المشروط ، فحصوله قبل شرطه يوجب تخلّف المنشأ عن الإنشاء.

(٣) أي : بأمر على تقدير كالإخبار بعزم زيد على إكرام عمرو في الغد على تقدير مجيئه ، فكما لا يوجب تعليق المخبر به تعليقا في الاخبار ، فكذلك تعليق المنشأ لا يوجب تعليقا في الإنشاء (**). فتوهم كون المنشأ والإنشاء كالإيجاد والوجود التكوينيين غير قابلين للتعليق ، وأنّ تعليق المنشأ يسري إلى الإنشاء فاسد ، بأنّ الإنشاء نظير الاخبار ، لا الإيجاد التكويني.

(٤) أي : بإمكان إنشاء أمر على تقدير ، كإنشاء تمليك معلّق على الموت ، وو كشرط خيار في عقد بعد مضيّ زمان ، كأن يبيع داره من زيد بشرط أن يكون له أو لغيره الخيار بعد سنة ، وكالتدبير ، والنذر المعلّقين على شرط غير حاصل حال إنشائهما.

__________________

(*) لعل الأولى تبديل ـ الوجدان ـ بالدليل ، لأنّ ترتّب الأثر في موارد تخلّف المنشأ عن الإنشاء زمانا إنّما هو بالدليل الشرعي ، لا الوجدان. إلّا أن يريد بالوجدان حكم العرف والعقلاء بذلك ، غاية الأمر : أنّ الشرع أمضاه ، لكن التعبير بالوجدان أيضا غير مناسب ، كما هو واضح.

(**) لا يخفى : أنّ قياس الإنشاء بالإخبار مع الفارق ، لأنّ الإخبار حاك محض عن المخبر به ، وليس مؤثرا فيه ، كالعلم الّذي لا يؤثر في المعلوم ، بل كاشف صرف عنه ، بخلاف الإنشاء ، فإنّه يؤثّر في وجود المنشأ ، فتعليقه يسري إلى الإنشاء.

١٦٨

وأما (١) حديث لزوم رجوع الشرط إلى المادّة لبّا ، ففيه : أنّ الشيء إذا توجه إليه ، وكان موافقا للغرض بحسب ما فيه من المصلحة أو غيرها (٢) كما (*) يمكن أن يبعث فعلا إليه ويطلبه حالا ، لعدم مانع عن طلبه كذلك ، يمكن أن يبعث إليه معلّقا ويطلبه (٣) استقبالا على تقدير شرط متوقع الحصول ، لأجل (٤)

______________________________________________________

(١) هذه هي الدعوى الإيجابية التي ادعاها الشيخ (قده) من رجوع الشرط إلى المادة لبّا.

وملخّص إشكال المصنف عليها هو : صحة رجوع القيد إلى الهيئة ، وعدم امتناعه من غير فرق في ذلك بين القول بتبعية الأحكام لما في أنفسها من المصالح والمفاسد ، كما عليه البعض ، وبين القول بتبعيتها لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد ، كما عليه الجل.

أما على الأول ، فواضح ، لأنّه بعد الالتفات إلى شيء إن كانت المصلحة في طلبه مطلقا ، فيطلبه فعلا غير معلّق على شيء ، وإلّا فيطلبه معلّقا عليه ، ولا يصح أن يطلبه مطلقا. وعلى كل فالهيئة هي التي يرد عليها الإطلاق والتقييد ، فلا يرجع القيد حينئذ إلى المادة ، كما ذهب إليه الشيخ (قده).

وأما على الثاني ، فسيأتي الكلام فيه عند تعرّض المصنف له إن شاء الله تعالى.

(٢) أي : غير المصلحة ممّا يوجب الطلب ، كما يراه الأشعري.

(٣) مرجع هذا الضمير وما قبله من الضمائر الأربعة هو ـ الشيء ـ.

(٤) هذا ، و ـ على تقدير ـ متعلقان بقوله : ـ معلّقا ـ.

__________________

نعم بناء على كون الإنشاء إخبارا عن الترجّحات النفسانيّة كان القياس في محله ، بل ليس قياسا حقيقة ، لكون الإنشاء حينئذ عين الاخبار ، لكن قد زيّف هذا المبنى في محله ، فلا وجه للمقايسة المزبورة أصلا.

(*) الصواب أن يقال : ـ فكما ـ بالفاء ، لأنّه جواب الشرط ، وهو قوله : «إذا توجّه» فإنّه من موارد لزوم اقتران جواب الشرط بالفاء.

١٦٩

مانع عن الطلب والبعث فعلا قبل حصوله (١) ، فلا يصح منه (٢) إلّا الطلب والبعث معلّقا بحصوله (٣) ، لا مطلقا (٤) ولو (٥) متعلقا بذاك (٦) على التقدير (٧) فيصح منه طلب الإكرام بعد (٨) مجيء زيد ، ولا يصح منه الطلب المطلق الحالي للإكرام المقيّد بالمجيء ، هذا (٩) بناء على تبعية الأحكام لمصالح فيها في غاية الوضوح.

______________________________________________________

(١) أي : ذلك الشرط المتوقع الحصول.

(٢) أي : من المتوجه إلى الشيء والطالب له.

(٣) أي : الشرط ، يعني : لا يصح الطلب إلّا معلّقا على حصول الشرط.

(٤) معطوف على قوله : ـ معلّقا ـ ، يعنى : لا يصح أن يكون طلبه مطلقا ، بل لا بد أن يكون معلّقا سواء أكان متعلّقه ـ أعني الفعل ـ مقيّدا بتقدير الشرط ، أم لم يكن مقيّدا به.

(٥) هذا بيان لإطلاق المنفي وهو الطلب المطلق ، يعني : لا يصح الطلب المطلق ولو كان متعلّقه مقيدا بأن تعلّق بالفعل المقيّد بذلك التقدير ، بل لا بد من تقييد نفس الطلب ، إذ المفروض قيام المصلحة بذلك ، لا بالفعل المقيّد.

(٦) أي : بذلك الشيء الّذي توجّه إليه وكان موافقا للغرض.

(٧) يعني : على تقدير حصول الشرط.

(٨) يعني : على أن يكون الظرف قيدا لنفس الطلب.

(٩) يعني : أنّ ما ذكرناه من رجوع القيد إلى الطلب المفاد من الهيئة ـ بناء على تبعية الأحكام لمصالح فيها ، لا في متعلقاتها ـ في غاية الوضوح كما مرّ آنفا.

وأما بناء علي تبعيتها لما في متعلّقاتها من المصالح والمفاسد ، فربما يتراءى بحسب النّظر البدوي كون الشرط قيدا للمادة ، كما ذهب إليه الشيخ (قده) ، إذ المفروض دخل الشرط في المصلحة القائمة بالمادة المتعلقة للطلب. لكنّ النّظر الثانوي يقتضي خلاف ذلك ، لأنّ التبعية على هذا المسلك إنّما تكون في الأحكام الواقعية بما هي واقعية ، لا بما هي فعلية.

وبعبارة أخرى : الأحكام الإنشائية تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، فإن

١٧٠

وأما بناء على تبعيّتها للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها ، فكذلك (١) ضرورة أنّ التبعية كذلك (٢) إنّما تكون في الأحكام الواقعية بما هي واقعية لا بما هي فعلية ، فإنّ المنع (٣) عن فعلية تلك الأحكام غير عزيز ، كما في موارد

______________________________________________________

لم يمنع عن فعليّتها مانع ولو من ناحية المكلّف ، لعدم استعداده ، أو لتسهيل الأمر عليه ، أو غيرهما كانت الأحكام في الفعلية أيضا تابعة لتلك المصالح والمفاسد ، وإلّا اختصت التبعية بالأحكام الإنشائية ، ولا يصير الطلب حينئذ فعليّا.

وبالجملة : فمجرد تبعية الأحكام لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد لا يوجب رجوع الشرط إلى المادة.

(١) أي : في غاية الوضوح.

(٢) يعني : تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد الثابتة في متعلقاتها.

(٣) غرضه : إثبات عدم التلازم بين الإنشائية والفعلية ، وجواز انفكاكهما استنادا إلى وجوه :

الأول : مخالفة الأحكام الفعلية في موارد الأصول ، حيث إنّها تجري مع العلم الإجمالي بمخالفتها للأحكام المجعولة في مواردها ، فتلك الأحكام تبقى على إنشائيّتها ، ولا تصير فعليّة مع قيام الأصول على خلافها.

الثاني : الأمارات القائمة على خلاف الأحكام الواقعية المانعة عن فعليتها ، فتبقى الأحكام على إنشائيّتها في موارد قيام الأمارات على خلافها.

الثالث : عدم بيان بعض الأحكام في أوّل البعثة تسهيلا لهم حتى يرغبوا في الدين ، فتلك الأحكام في أوّل البعثة لم تصر فعليّة.

الرابع : بقاء بعض الأحكام على الإنشائية إلى زمان حضور خاتم الأوصياء عجل الله تعالى فرجه وصلّى عليه وجعلنا فداه.

وبالجملة : فالأحكام الواقعية في هذه الموارد لم تصر فعلية ، فالوجوب المشروط حينئذ هو الفعليّ ، دون الإنشائي. فالشرط يرجع إلى الهيئة حتى على المبنى المشهور

١٧١

الأصول والأمارات على خلافها ، وفي بعض الأحكام في أول البعثة ، بل إلى يوم قيام القائم عجل الله فرجه مع أنّ : «حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم

______________________________________________________

من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، ولذا يحمل ما دلّ على بقاء الحلال والحرام إلى يوم القيامة على الأحكام الإنشائية ليصح بقاؤها مع فرض عدم فعليّتها ، لأنّ فعليَّتها مشروطة بارتفاع موانعها ، وهذا المقدار من إناطة فعليّة الطلب كاف في إثبات جواز رجوع الشرط إلى الهيئة في مقابل دعوى امتناع رجوعه إليها (*).

__________________

(*) الظاهر : أنّ مصب كلام الشيخ (قده) هو مفاد الهيئة أعني نفس الحكم ، ومن المعلوم : أنّه بناء على تبعية الأحكام لما في متعلقاتها يكون الشرط قيدا للمادة ، إذ المفروض قيام المصلحة بها ، وللشرط نحو تأثير في تلك المصلحة ، فالمشروط هو المادة ، والطلب الواقعي مطلق غير معلّق ، ومع العلم به يصير فعليا ، فكلام الشيخ (قده) بناء على تبعية الأحكام لما في متعلقاتها متين ، ولا يرجع الشرط إلى الهيئة أصلا.

نعم يتوجه على الشيخ (ره) : أنّ لازم ما أفاده من رجوع الشرائط طرّا إلى المادة عدم الفرق بين شرط الوجوب ، وبين شرط الواجب في صحة أخذ كل منهما قيدا للواجب مع عدم صحته ، لوضوح الفرق بينهما.

وتقريبه على ما أفاده شيخنا المحقق العراقي (قده) في الدرس وأشار إليه في المقالات بتوضيح منّا هو : أنّ الشرط تارة يكون علة لاتصاف شيء بالمصلحة ، وأخرى يكون علة لوجود هذه المصلحة في الخارج ، والأوّل شرط الوجوب ، والثاني شرط الواجب.

وإن شئت توضيح الفرق بينهما ، فلاحظ المرض مثلا ، فإنّه شرط لاتصاف شرب المسهل بالمصلحة بحيث لولاه لم يكن لشربه صلاح ، بل كان فيه فساد ، فالمرض سبب للاحتياج إلى شرب المسهل ، ولكن أثره المحتاج إليه موقوف على استعمال المنضج قبله ، فكم فرق بين المرض الّذي هو سبب الاحتياج إلى المسهل ، وبين المنضج الّذي هو سبب وجود المحتاج إليه ، فإنّ الأوّل الّذي هو شرط الوجوب علّة للاحتياج

١٧٢

القيامة» ، ومع ذلك ربما يكون المانع عن فعلية بعض الأحكام باقيا مرّ الليالي والأيّام إلى أن تطلع شمس الهداية ويرتفع الظلام ، كما يظهر من الأخبار المروية عن الأئمة عليهم‌السلام.

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الموجب لإرادة شرب المسهل ، والثاني علة لوجود المراد الّذي هو الأثر المترتب على شربه ، فشرط الوجوب علّة للإرادة بحيث لا تحصل إلّا بعد وجوده وشرط الواجب علّة للمراد ومعلول للإرادة ، لأنّه بالمرض المحوج إلى المسهل تحصل إرادة إيجاد استعمال المنضج الدخيل في وجود الأثر المحتاج إليه المترتب على شرب المسهل ، فالإرادة علة لاستعمال المنضج ، والمرض علة لهذه الإرادة.

وبعبارة أخرى : استعمال المنضج معلول لإرادة شرب المسهل ، وهذه الإرادة معلولة للمرض.

فالمتحصل : أنّ شرط الوجوب من مبادئ الإرادة وعللها ، ولذا لا يتعلق به الإرادة حتى يجب تحصيله ، كالاستطاعة التي هي شرط وجوب الحج ، بل في ظرف تحققه توجد الإرادة ، بخلاف شرط الواجب ، فإنّه معلول الإرادة. ولذا يجب تحصيله.

فقد ظهر مما ذكرنا : أنّ شرط الوجوب لا يمكن أخذه قيدا للمادة ، لأنّه علة للإرادة ، فلا يتعلق به الإرادة ، وأخذه من قيود المادة أعني الواجب يقتضي كونه معلولا للإرادة ، فيلزم اجتماع النقيضين ، وهما : تعلّق الإرادة به ، حيث إنّه من شرائط الواجب وقيوده ، وعدم تعلقها به ، لكونه من شرائط الوجوب التي هي من مقدمات الإرادة.

ويرشد إلى الفرق الواضح بينهما : عقد الفقهاء رضوان الله عليهم شرائط الوجوب ممتازة عن شرائط الواجب في العبادات من الصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والحج فقالوا : «شرائط الوجوب : البلوغ ، والعقل ، والحريّة مثلا في بعض الموارد ، وشرائط الصحة : الإيمان ، والطهارة ، والاستقبال ، والحضر مثلا وغير ذلك» ، ولو كان شرط الوجوب راجعا إلى شرط الواجب لم يكن داع إلى عقد عنواني لهما.

١٧٣

فان قلت (١) : فما فائدة الإنشاء إذا لم يكن المنشأ به طلبا فعليا وبعثا حاليا.

______________________________________________________

(١) بعد أن أثبت المصنف (قده) جواز رجوع الشرط إلى الهيئة ، وأبطل لزوم رجوعه إلى المادة استشكل على نفسه بأنّه يلزم حينئذ لغويّة الإنشاء ، وعدم فائدة فيه ، إذ المفروض ترتب المنشأ ، وهو مفاد الهيئة على الشرط الّذي لم يحصل بعد ، فالوجوب حينئذ ليس فعليّا.

__________________

ولا بأس بتوضيح كلام الشيخ (قده) حتى يظهر حقيقة الحال ، فنقول :

ان كان مراده بالطلب الصفة النفسانيّة المعبّر عنها بالشوق المؤكّد ، فهو كسائر الأمور التكوينية لا تتّصف بالإناطة والفعليّة ، بل بالوجود والعدم ، فالقيود لا بدّ وأن ترجع إلى المشتاق إليه ، فالشوق موجود فعلا وإن كان المشتاق إليه مقيّدا بقية اختياري ، أو غيره ، كاشتياقه إلى الحجّ مع توقّفه على المال الّذي يقدر على تحصيله ، أو لا يقدر عليه. فالإرادة موجودة بناء على أنّها هي الشوق المؤكد ، كما يظهر من السبزواري في منظومته ، حيث قال : «عقيب داع دركنا الملائما ، شوقا مؤكّدا إرادة سما».

وإن كان مراده بالطلب ما يترتب على الشوق من التصدي لتحصيل مراده بإعمال قدرته للوصول إليه ، فكذلك ، لأنّه مترتب على ذلك الشوق النفسانيّ التكويني الّذي هو بالحمل الشائع إمّا موجود وإمّا معدوم ، ضرورة أنّ اختيار الفعل من آثار ذلك الشوق ، فبدونه لا اختيار.

وإن كان مراده بالطلب اعتبار شيء ، وجعله على عهدة المكلف المعبّر عنه بالوجوب تارة ، وبالإلزام أخرى ، فلا محذور في إناطته بشيء غير حاصل فعلا إن كان حسن الفعل المتعلّق به الطلب منوطا بشيء لم يحصل بعد ، كما لا محذور في جعل الوجوب فعليّا إن كان الفعل حسنا فعلا.

والظاهر أنّ هذا الوجه هو مراد الشيخ (ره) ، لأنّ الكلام في الحكم الشرعي ، لا في مقدماته المستحيلة في حق الباري تعالى إن كان هو الشارع ، وقد عرفت إمكان تقييده ، وعدم امتناعه.

١٧٤

قلت (١) : كفى فائدة له أنّه يصير بعثا فعليا بعد حصول الشرط بلا حاجة إلى خطاب آخر بحيث لولاه (٢) لما كان فعلا (٣) متمكنا من الخطاب (٤) ، هذا مع (٥) شمول الخطاب كذلك (٦) للإيجاب فعلا بالنسبة إلى الواجد للشرط ، فيكون (٧) بعثا فعليا بالإضافة إليه ، وتقديريا (٨) بالنسبة إلى الفاقد له ، فافهم وتأمل جيّدا.

ثم الظاهر (٩) دخول المقدمات الوجودية للواجب المشروط في محلّ النزاع

______________________________________________________

(١) هذا دفع الإشكال ، وحاصله : أنّ لهذا الإنشاء فائدتين : إحداهما : عدم الحاجة إلى إنشاء جديد بعد حصول الشرط ، والثانية ما سيأتي.

(٢) أي : الإنشاء قبل الشرط.

(٣) وهو بعد حصول الشرط.

(٤) أي : الخطاب المطلق الّذي هو خطاب ثان.

(٥) إشارة إلى الفائدة الثانية للخطاب المشروط ، وحاصلها : فعليّة هذا الخطاب بالإضافة إلى واجد الشرط ، وكونه مشروطا لفاقد الشرط فقط ، فقوله : ـ حجّوا إن استطعتم ـ فعليّ لواجد الاستطاعة ، وإنشائيّ لفاقدها ، فيكتفي بهذا الإنشاء على كلا تقديري وجود الاستطاعة وعدمها.

(٦) أي : الخطاب المشروط.

(٧) أي : الخطاب المشروط يكون بعثا فعليّا بالإضافة إلى واجد الشرط ، وتقديريا بالنسبة إلى فاقده.

(٨) معطوف على قوله : ـ فعليّا ـ ، ثم إنّه لا يلزم من شمول الخطاب المشروط للإيجاب الفعلي والتقديري استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، كما لا يخفى.

(٩) توضيحه : أنّ المقدمات الوجودية للواجب المطلق داخلة في محلّ نزاع وجوب المقدمة شرعا بلا شبهة ، كما لا ريب في خروج المقدمات الوجوبية للواجب المشروط عن حريم النزاع ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

١٧٥

أيضا (١) ، فلا وجه لتخصيصه (٢) بمقدمات الواجب المطلق ، غاية الأمر تكون (٣) في الإطلاق (*) والاشتراط تابعة لذي المقدمة كأصل الوجوب (٤) بناء على

______________________________________________________

وأما المقدمات الوجودية للواجب المشروط ، ففيها خلاف ، فعن المشهور خروجها عن مورد النزاع ، ولذا جعل غير واحد من الأُصوليّين عنوان الباب مقدمات الواجب المطلق ، وبعضهم أطلق كصاحب البدائع ، حيث قال : «اختلفوا في وجوب مقدمة الواجب» ، ومن المعلوم : ظهور المطلق في الواجب غير المشروط.

لكن المصنف (قده) خالف المشهور ، وذهب إلى : أنّ وزان المقدمات الوجودية للواجب المشروط وزان المقدمات الوجودية للواجب المطلق في اندراجها في نزاع وجوب المقدمة ، مستظهرا ذلك من إطلاق عنوان المبحث في كلام بعض (**) ومن مساواتها لمقدمات الواجب المطلق في المقدّمية للواجب.

(١) يعني : كالمقدمات الوجودية للواجب المطلق.

(٢) أي : محل النزاع.

(٣) أي : المقدمات الوجودية تكون في وجوبها الغيري مطلقا أو مشروطا تابعة لذي المقدمة في الإطلاق والاشتراط ، والحاصل : أنّ الوجوب الغيري المقدمي تابع للوجوب النفسيّ فيهما.

(٤) أي : الوجوب النفسيّ لذي المقدمة.

__________________

(*) الظاهر : استدراك هذا القيد ، إذ مورد البحث هو مقدمات وجود الواجب المشروط ، ومن المعلوم : أنّه لا إطلاق لوجوب ذي المقدمة حتى يتبعه وجوب مقدمته ، فالتبعية منحصرة في الاشتراط ، كالتبعية في أصل الوجود على ما هو قضية العلّية.

(**) فيه أولا : أنّه لا ظهور لإطلاق العنوان في عموم النزاع لمقدمات الواجب المطلق والمشروط معا ، بل الأمر بالعكس ، لظهور إطلاق العنوان ولو انصرافا في خصوص الواجب المطلق.

١٧٦

وجوبها (١) من باب الملازمة.

وأما (٢) الشرط المعلّق عليه الإيجاب في ظاهر الخطاب ، فخروجه مما لا شبهة فيه ، ولا ارتياب.

أما على ما هو ظاهر المشهور (٣) والمنصور ، فلكونه (٤) مقدمة وجوبية (٥).

______________________________________________________

(١) أي المقدّمة ، محصله : أنّ وجوب المقدمة بناء على القول به للملازمة بين وجوبي الواجب ومقدمته تابع لوجوب ذيها إطلاقا واشتراطا.

(٢) هذا شروع في حكم المقدمات الوجوبية المعبّر عنها بالشرائط الوجوبية.

وحاصل ما أفاده في وجه خروجها عن حريم النزاع ـ بناء على مذهب المشهور من رجوع الشرط إلى الهيئة ـ هو : كونها من أجزاء علّة الوجوب ، ومن البديهي امتناع ترشّح الوجوب من المعلول على علّته ، فيمتنع ترشّح الوجوب من وجوب الحج مثلا على الاستطاعة التي هي شرط وجوبه ، لأنّه قبل تحقق الاستطاعة لا وجوب للحج حتى يترشّح على الاستطاعة ، وبعد تحققها لا معنى لوجوب تحصيلها ، لكونه من طلب الحاصل المحال ، فيمتنع اتصاف المقدمة الوجوبية مطلقا بالوجوب.

(٣) وهو رجوع الشرط إلى الهيئة ، وكونه قيدا للطلب.

(٤) أي : الشرط المعلّق عليه الإيجاب.

(٥) يعني : أنّ لازم كون الشرط مقدمة للوجوب هو : تأخّر وجود الوجوب عن وجود الشرط تأخّر المعلول عن علته ، ومع هذا التأخّر يكون تحصيل الشرط بعد

__________________

وثانيا : عدم حجيّة هذا الظهور بعد تسليمه ، لفقدان شرائط الحجيّة فيه ، كما لا يخفى.

وأما المساواة المزبورة ، فلا تقتضي أيضا جريان النزاع في المقدمات الوجوبية ، إذ ليست المقدّمية بمجردها علّة تامة لجريان النزاع ، لأنّ مصبّ الملازمة هو وجوب المقدمة وذيها ، فلا بد أوّلا من تحقق وجوب ذي المقدمة حتى يبحث عن ترشحه على المقدمة ، إذ المفروض علّية وجوب ذي المقدمة لوجوبها.

١٧٧

وأما على المختار لشيخنا العلامة أعلى الله مقامه ، فلأنّه (١) وإن كان من المقدمات الوجودية للواجب إلّا أنّه أخذ على نحو لا يكاد يترشح عليه الوجوب منه (٢) فإنّه (٣) جعل الشيء واجبا على تقدير حصول ذاك الشرط (*) فمعه (٤)

______________________________________________________

حصوله من تحصيل الحاصل المحال ، هذا بناء على مذهب المشهور.

وأما على مختار الشيخ الأعظم (قده) من رجوع الشرط إلى المادة ، فلأنّ الشرط وإن كان حينئذ من المقدمات الوجودية التي يجب تحصيلها بناء على الملازمة ، إلّا أنّ هذا الشرط ليس واجب التحصيل ، لأنّه أخذ في الواجب على نحو لا يجب تحصيله ، بل وجوده الاتفاقي دخيل في الواجب ومصلحته ، فلا موجب للزوم تحصيله.

(١) أي : الشرط المعلّق عليه الإيجاب في ظاهر الخطاب.

(٢) أي : الواجب ، وضميرا ـ أنّه وعليه ـ راجعان إلى الشرط.

(٣) الضمير للشأن ، وهذا بيان لقوله : ـ إلّا انه أخذ على نحو ... إلخ ـ.

وحاصله : أنّ الشيء ـ كالحج ـ على تقدير حصول الشرط ـ كالاستطاعة ـ واجب ، لا أنّ الحج المقيّد بالاستطاعة واجب حتى يجب تحصيل الشرط كسائر المقدمات الوجودية التي يجب تحصيلها.

(٤) أي مع حصول الشرط كيف يترشّح عليه الوجوب الغيري ، لأنّ وجوب تحصيله بعد حصوله ليس إلّا طلب الحاصل المحال.

__________________

(*) لا يقال : إنّه بعد البناء على تقيّد الواجب به يصير الشرط واجبا غيريا فلا محيص عن الالتزام بتعلق الوجوب الغيري به ، فيجب تحصيله.

فانه يقال : إنّه إنّما يتم بناء على كون الشرط وجوده المطلق ، وأمّا بناء على كونه وجوده اتفاقا من دون نشوه عن دعوة الأمر ، فيمتنع تعلّق الأمر الغيري به ، للزوم الخلف ، إذ المفروض كون الشرط غير الوجود الناشئ عن الأمر ، فالوجود الناشئ عنه ليس ما فرض شرطا.

١٧٨

كيف يترشّح عليه الوجوب ، ويتعلّق به (١) الطلب ، وهل هو (٢) إلّا طلب الحاصل؟

نعم (٣) على مختاره قدس‌سره لو كانت له مقدمات وجودية غير معلّق عليها وجوبه لتعلّق بها الطلب في الحال (٤) على تقدير اتّفاق وجود الشرط في الاستقبال ، وذلك (٥) لأنّ إيجاب ذي المقدمة على ذلك (٦) حاليّ والواجب إنّما هو استقبالي كما يأتي في الواجب المعلّق ، فإنّ الواجب المشروط على مختاره (٧) هو بعينه ما

______________________________________________________

(١) هذا الضمير وضمير ـ عليه ـ راجعان إلى الشرط.

(٢) أي : الوجوب ، يعني : وليس الوجوب الغيري للشرط إلّا طلبا للحاصل.

فالمتحصل : عدم وجوب تحصيل المقدمات الوجوبية مطلقا ، أما على مسلك المشهور ، فلعدم وجوب فعلي لذي المقدمة حتى يتولّد منه وجوب للمقدمة ، وأما على مذهب الشيخ (قده) من رجوع الشرط إلى المادة ، فلكونه مأخوذا في الواجب على نحو لا يجب تحصيله.

(٣) استدراك على مسلك الشيخ (ره) ، وحاصله : أنّ عدم وجوب تحصيل الشرط يختص بما أخذ في الواجب على نحو لا يجب تحصيله بأن كان الشرط وجوده الاتفاقي ، كما عرفت توضيحه. وأما سائر مقدّماته الوجودية التي لم تؤخذ بهذا النحو في الواجب ، فيسري الوجوب إليها ، إذ المفروض كون الوجوب حاليّا ، والواجب استقباليا ، فيجب إيجادها فعلا ، نعم إذا لم يتحقق الشرط الّذي أخذ بوجوده الاتفاقي شرطا في ظرفه انكشف عدم الوجوب.

(٤) لفعلية وجوب ذي المقدمة بعد رجوع الشرائط طرّا إلى المادة.

(٥) تعليل لوجوب المقدمات الوجودية التي لم يعلّق عليها الوجوب ، وقد عرفت توضيحه.

(٦) يعني : على مختار الشيخ (قده) ، وذلك لرجوع الشرط إلى المادّة.

(٧) أي : الشيخ (ره) ، وجه كون الواجب المشروط على مذهب الشيخ عين الواجب المعلق الّذي اصطلح عليه صاحب الفصول هو : أنّ القيد على مذهب كليهما يرجع إلى المادة ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

١٧٩

اصطلاح عليه صاحب الفصول من المعلّق ، فلا تغفل. هذا (١) في غير المعرفة والتعلّم

______________________________________________________

(١) إشارة إلى : أنّ ما ذكره من وجوب مقدمات الواجب المشروط بناء على القول بوجوب المقدمة يجري في جميع المقدمات إلّا المعرفة والتعلم.

وأما التعلّم ، فلا يبعد القول بوجوبه مطلقا حتى في الواجب المشروط على مسلك المشهور ، وهو كون الشرط قيدا للوجوب ، لا الواجب قبل حصول الشرط.

وليس الوجه في وجوبه : الملازمة بين وجوبي المقدمة وذيها ، إذ فيه :

أوّلا : عدم كون التعلّم من المقدّمات الوجودية التي هي مورد الملازمة ، لوضوح عدم كون التعلّم من علل وجود الواجب ليكون من المقدّمات الوجودية التي يتوقف عليها وجوده ، وذلك لإمكان الإتيان بالعبادات في حال الجهل احتياطا ، فوجود الصلاة مع السورة المشكوكة جزئيّتها لا يتوقف على العلم بجزئيّتها ، لجواز الإتيان بالصلاة المشتملة علي السورة رجاء ، نعم الامتثال العلمي التفصيليّ منوط بالعلم.

وبالجملة : فلا يتوقف وجود الواجب على التعلم إلّا على القول باعتبار التمييز في العبادات ، لصيرورة التعلّم حينئذ مقدمة وجودية للعبادة المعتبر فيها قصد التمييز ، كما لا يخفى ، لكنه ضعيف على ما ثبت في محله.

وثانيا : عدم وجوب ذي المقدمة فعلا ، لعدم حصول شرطه ، فلا وجوب حتى يترشّح علي المقدمة.

بل الوجه في وجوب التعلّم هو : حكم العقل بذلك ، للعلم الإجمالي بالأحكام الموجب للفحص عنها ، وتحصيل المؤمّن من تبعاتها ، فمجرد احتمال التكليف المنجز بالعلم الإجمالي يوجب الفحص عن الدليل ، فإن لم يظفر به يسقط الاحتمال عن المنجزية ، فتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، هذا.

مضافا إلى : روايات آمرة بتعلم الأحكام (١) ، ولذا احتمل بعضهم وجوب التعلم نفسيّا.

__________________

(١) الكافي ج ١ ، كتاب فضل العلم ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه.

١٨٠