منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٥٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وأما المقام الثاني ـ وهو ما يقتضيه الأصل العملي ـ فملخصه : أنّ المورد من موارد قاعدة الاشتغال ، لكون الشك في الامتثال ان كانت الاستطاعة من السنين السابقة ولم يكن فيها تقية ، أو كان الهلال فيها ثابتاً عند جميع المسلمين ولم يكن فيه شبهة ، لاستقرار الحج عليه حينئذٍ ، وتمحُّض الشك في فراغ ذمته عمّا اشتغلت به قطعاً بالحج الموافق لمذهب العامة. ومن موارد أصالة البراءة إن كانت الاستطاعة في هذه السنة التي ابتلي فيها بالتقية ، لكون الشك في أصل التكليف ، لا في سقوطه ، إذ المفروض عدم إحراز كون الحج المأتي به تقية مأموراً به كما هو واضح.

(وينبغي التنبيه على أمور :)

الأول : قد ظهر مما تقدم في بعض المقدمات من حكومة أدلة التقية على أدلة الأجزاء والشرائط عدم اندراج الحج مع العامة في فوات الحج بفوات الوقوفين ، وتوقف التحلل عن إحرامه بعمرة مفردة ، وذلك لأنّ ما دلّ على فوات الحج بعدم إدراك الوقوفين إنّما هو من أدلة الأجزاء ، فيكون محكوماً بأدلة التقية الدالة على إدراك الحج بالوقوف معهم ، لدلالتها على كونه مصداقاً للحج المأمور به ، فلم يفُت الوقوفان حتى يندرج المقام لأجله في فوات الحج ، فأدلة التقية تهدم الفوت الّذي هو موضوع أدلة فوات الحج ، ومن هنا يظهر تقريب حكومة أدلة التقية عليها.

كما أنّ المقام لا يندرج في مسألة الضّد أيضا ، لأنّ العدوَّ ينادي بأعلى صوته أنّ الحج الإسلامي الّذي جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو ما نأتي به ، دون ما يأتي به غيرنا ، فهو يبعث الناس على الحج ، لا أنّه يمنعهم عنه حتى يتحقق عنوان الضّد كما لا يخفى.

الثاني : أنّ ظاهر أدلة التقية المبدِّلة كون العمل المأتي به تقية مصداقاً للمأمور به ، وأداء له ، وامتثالا لأمره ، فالتقية تنزِّل الفاقد لجزء ، أو شرط منزلة واجده ، والمقترن بمانع منزلة فاقده ، فالإجزاء يدور مدار وجود عمل يؤتى به ناقصاً ، وعلى غير

٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

______________________________________________________

وجهه لأجل التقية كالصلاة بدون السورة ، أو الطمأنينة ، أو مع التكتف ، أو الصوم إلى سقوط الشمس عن دائرة الأُفق ، أو الوقوف في غير وقته المجعول له بحسب التشريع الأوّلي ، فترك العمل رأساً كالإفطار في شهر رمضان تقية خارج عن موضوع الاجزاء إذ ليس التقية في أداء الواجب ، بل في تركه.

فمرسلة (١) داود بن الحصين عن الصادق عليه‌السلام «والله أُفطر يوماً من شهر رمضان أحب إليَّ من أن يضرب عنقي» ونحوها غيرها (٢) ممّا يشتمل على وجوب قضاء الصوم أيضا تكون على طبق القاعدة ، فالتسوية بين القسمين كما عن بعض غير ظاهرة.

الثالث : انّ التقية تمتاز عن غيرها من أقسام الاضطرار بعدم اعتبار استيعابها للوقت في الإجزاء ، بخلاف غير التقيّة من سائر أنحاء الاضطرار ، فإنّ استيعابها للوقت شرط في الإجزاء على المشهور المنصور.

والوجه في الفرق ظاهر ، حيث إنّ ظاهر أدلة التقية خصوصاً صحيحة الكناني المتقدمة هو التوسعة ، وتسهيل الأمر على المكلفين ، لأنّه قضية إطلاق الأمر باستعمال التقية في الدين في بعض روايات الباب ، وكونها واسعة في بعضها الآخر. وأمّا سائر أنحاء الضرورة ، فالإجزاء فيها منوط بالاضطرار إلى صرف الوجود من الطبيعة المأمور بها بالأمر الأوَّلي في تمام الوقت المضروب لها ، ومن المعلوم توقف صدقه على استيعاب الاضطرار للوقت.

فقد ظهر من هذا التقريب أمران :

أحدهما : انّه لا يعتبر عدم المندوحة الطولية في التقية ، فلو عُلم بارتفاع التقية في أثناء الوقت جاز له المبادرة بالإتيان بالعمل الموافق لها ، كما لا يخفى.

__________________

(١) الوسائل ، كتاب الصوم ، الباب ٥٧ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ٤ وغيره.

(٢) الوسائل ، كتاب الصوم ، الباب ٥٧ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ٤ وغيره.

٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ثانيهما : أنّ لازم الأمر الأوّل افتراق التقية عن سائر أنحاء الاضطرار في الاجزاء ، حيث إنّه نلتزم به في العمل الاضطراري ولو مع ارتفاع الاضطرار في الوقت إذا كانت الضرورة تقية ، ونلتزم بعدم الاجزاء مع ارتفاع الاضطرار في الأثناء إذا كانت الضرورة غير التقية كما هو المشهور المنصور.

وبالجملة : فلا ملازمة في الاجزاء بين التقية وبين سائر الأعذار.

الرابع : أنّ المنساق من روايات التقية ، بل مورد جملة وافرة منها هو اعتبار كون التقية في المذهب سواء أكانت في نفس الحكم بلا واسطة كالمسح على الخفّين والإفطار عند سقوط الشمس عن دائرة الأُفق ، ونحو ذلك ، أم مع وساطة الموضوع ، مثل كون اليوم الفلاني أوّل الشهر ، أو يوم عرفة ، ونحو ذلك ، حيث إنّ ثبوت الهلال بحكم قضاتهم أيضا من مذهبهم ، فالتقية في الدين تصدق على كلتا الصورتين بوزان واحد.

ثم إنّ حجية حكم القاضي عندهم ان كانت مختصة بحال الشك كحجية بحكم قضاتنا ، لكون حجيته من باب الطريقية كما هو شأن سائر الأمارات ، لا من باب الموضوعية ، فلا محاله تختص التقية المجزية بصورة الشك في مطابقة حكم حاكمهم للواقع ، لكون حكمه مع العلم بالخلاف غير نافذ عندهم ، ومخالفاً لمذهبهم ، فلا يصدق على موافقتهم حينئذٍ التقية في دينهم. وإن لم تكن مختصّة بحال الشك ، كما إذا كان بناؤهم على موضوعية حكم القاضي بمعنى كونه حجة ونافذاً في مذهبهم حتى مع العلم بالخلاف ، كما حُكي أنّ جماعة منهم ادّعوا الإجماع على ذلك كانت التقية مجزية في كلتا صورتي العلم بمخالفة حكم حاكمهم للواقع ، والشك فيها ، إذ المفروض نفوذ حكمه عندهم في الصورتين ، فموافقتهم فيهما تقية في الدين.

ومن هنا ظهر : أنّه إذا ثبت الهلال على الوجه غير المشروع عندهم ، كما إذا ادّعى

٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

السلطان مثلاً رؤية الهلال ، ولم تكن رؤيته بانفراده حجة عندهم ، ولكن مع ذلك أجبر الناس على متابعتهم له كانت الموافقة معهم خارجة عن مورد التقية المجزية ، لفرض خروجها عن التقية في المذهب ، ومندرجة في موارد الضرر ، فيجب دفع الضرر عن نفسه بموافقة السلطان من دون دليل على صحة العمل ، لقصور دليل الضرر عن إثبات الصحة ، إلّا إذا نهض دليل على موضوعية مجرد الخوف لتبدل الحكم وان كان ناشئاً عن إجبار السلطان ، فتدبر.

الخامس : إذا خالف التقية في مورد وجوبها ، وأتى بالمأمور به الأوّلي ، كما إذا مسح على البشرة دون الخفّين ، أو أتى بالصلاة بلا تكتف ، أو وقف في يوم عرفة تاركاً للوقوف يوم التروية الّذي هو يوم عرفة عندهم ، ففي الصحة وعدمها قولان :

أحدهما : البطلان ، والآخر الصحة.

أمّا الأول ، فوجهه إما اقتضاء أوامر التقية لكون العمل الموافق لها مأموراً به فعلاً ، فيصير المسح على الخفّين جزءاً من الوضوء ، والتكتف جزءاً من الصلاة ، والوقوف في غير يوم عرفة تقية جزءاً من الحج ، فترك التقية في العمل ترك للمأمور به ، فيبطل ، لعدم انطباقه عليه. وإما اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده كما عن الذخيرة ، فالمأمور به الأوّلي يبطل ، للنهي عنه.

لكن في كليهما ما لا يخفى :

إذ في الأوّل : أنّه مبنيٌّ على تبدل الحكم بالتقية ، وصيرورة المتّقي والمختار كالحاضر والمسافر موضوعين مستقلين عرضيين ، ليكون العمل الموافق للتقية والمأمور به الأوّلي وظيفتين متغايرتين لموضوعين متضادين ، كالقصر والإتمام للحاضر والمسافر ، وليس الأمر كذلك ، لأنّ غاية ما يستفاد من أدلة التقية هي بدليّة الفعل الناقص عن التام طوليّاً ، كسائر الأبدال الاضطرارية ، لا عرضياً كالقصر والإتمام ، حتى يخرج

٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المأمور به الأوّلي في حال التقية عن المصلحة رأساً ، ليبطل حينئذٍ ، كما يبطل القصر في حال الحضر ، فإنّ الالتزام بذلك في غاية البعد ، بل ينافي بعض ما تقدم من الروايات الدالة على أحبّية العبادة المأتي بها تقية ، حيث إنّ الأحبية تقتضي محبوبية المفضّل عليه وهي العبادة الواقعة على غير وجه التقية ، ومن المعلوم أنّ المحبوبية تستدعي بقاء المصلحة الواقعية على حالها.

وبعبارة أخرى : التقية ليست مشرِّعة في قبال الواقع ، بل هي موسِّعة لدائرة المفرِّغ ، ومرجع هذه التوسعة إلى جعل الفعل الناقص تقيةً مصداقاً ادعائيّاً للواقع الأوّلي وافياً بتمام مصلحته أو معظمها ، فمصلحة الطبيعي المأمور به قائمة بكل من مصداقيه الحقيقي والادّعائي ، إلّا أن ينطبق على الفرد الحقيقي ما يجعله مبغوضاً غير صالح للمقرِّبية ، كعنوان إذاعة السِّر ، كما سيأتي تقريبه إن شاء الله تعالى.

وفي الثاني ـ وهو اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده ـ فساد المبنى ، كما ثبت في محله.

وأما الثاني ـ وهو الصحة ـ فقد ظهر وجهه مما ذكرنا في ردّ دليل البطلان من عدم البدلية العرضية كالقصر والإتمام ، وأنّ البدليّة طوليّة ، ومن عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده ، فلاحظ.

وقد ظهر مما ذكرنا : غموض ما في رسالة شيخنا الأعظم الأنصاري (قده) المعمولة في التقية من «صيرورة السجود على ما يصح السجود عليه منهياً عنه ، لأجل التقية ، فيبطل ، وتبطل به الصلاة» ، وذلك لعدم صيرورة ما لا يصح السجود عليه اختياراً قيداً للسجود حتى يكون وضع الجبهة على غيره ممّا يصح السجود عليه مبطلاً للسجود والصلاة ، بل وضع الجبهة على ما يصح السجود عليه تقية واجب نفسي ، لا شرطي ، فالإخلال به لا يوجب إلّا استحقاق المؤاخذة على ترك الواجب النفسيّ ، ومن المعلوم

٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

______________________________________________________

أنّه لا يوجب البطلان ، ولو شك في أنّه واجب نفسي أو شرطي ، فالإطلاق كما قُرر في محله يقتضي النفسيّة ، كما لا يخفى.

إلّا أن يقال : إنّ التقية كما تقتضي وجوب الفعل كالمسح على الخفّين ، والوقوف في غير يوم عرفة كذلك تقتضي حرمة الترك ، لكون كل من موافقة التقية ومخالفتها من الدين ، فتجب الأُولى وتحرم الثانية ، (لا) لاقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده ليرد عليه : أنّه مخالف للمبنى من عدم الاقتضاء ، كما تقدمت الإشارة إليه ، (بل) لأنّ مخالفتها إذاعة للسِّر ، وهي منهيٌّ عنها في جملة من الروايات ، فترك المسح على الخفّين ، وترك الوقوف في غير يوم عرفة من مصاديق الإذاعة المحرّمة ، فيحرم.

وبالجملة : كل ما ينطبق عليه عنوان الإذاعة وإفشاء السِّر حرام ، فالوقوف في يوم عرفة إذاعة للسِّر ، فيحرم ، والنهي في العبادة يوجب البطلان.

وبتقريب آخر : خوف الضرر المأخوذ في لسان الدليل موضوعاً لوجوب التقية كقول أبي جعفر عليه‌السلام : «كل شيء خاف المؤمن على نفسه فيه الضرر فله فيه التقية» (١) وغير ذلك من النصوص يوجب بطلان العمل المخالف للتقية سواءٌ أكان الخوف موضوعاً في قبال الواقع ، أم طريقاً إلى الضرر الواقعي.

أما على الأول فواضح ، لحرمة العبادة واقعاً الموجبة لفسادها.

واما على الثاني ، فلأنّ مخالفة الخوف الملحوظ طريقاً إلى الضرر الواقعي تكون من التجري الّذي يترتب عليه حكم العصيان في امتناع التعبد بالعمل ، وعدم صلاحيته للمقرِّبية.

فالمتحصل : أنّ صحة العمل المخالف للتقية محل الإشكال.

لا يقال : إنّ محبوبية المأمور به الواقعي الأوّلي حال التقية المستفادة من

__________________

(١) المستدرك ج ٣ ـ الباب ٨ ـ الحديث ـ ٧ ـ ص ٥١ ، رواه عن دعائم الإسلام.

٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أحبية المأمور به الاضطراري الثانوي منه ، كما يدل عليه جملة من النصوص ، للزوم اشتراك المفضّل والمفضّل عليه في المبدأ ، كما قرر في محله تقتضي صحة المأمور به الأوّلي ، إذ لا معنى للمحبوبية مع البطلان إلّا بناء على إناطة الصحة بالأمر ، وعدم كفاية المحبوبية فيها ، لكن هذا المبنى قد زُيّف في محله. وبالجملة : بطلان العمل الواقعي الأوّلي يُنافي محبوبيته التي تقتضيها أحبّية العمل الصادر تقية.

فانه يقال : المراد بالأحبية هو : أنّ المبادرة بالإتيان بالمأمور به على وجه التقية ، وعدم التأخير إلى زوال العذر حتى يتمكن من إتيانه على الوجه المأمور به أوّلاً أفضل وأحبّ من تأخيره ، ليأتي به على غير وجه التقية ، فمحبوبية العمل الواقعي الأوّلي إنّما تكون بعد ارتفاع التقية ، لا حين الابتلاء بها ، حيث إنّ التقية زاحمت المحبوبية في التأثير ، فلا محبوبية ولا أمر للواقع الأوّلي.

والوجه في هذا التوجيه الراجع إلى كون محبوبية المأمور به الواقعي الأوّلي في غير حال التقية هو : أنّ الإذاعة المنهي عنها تنطبق على المأمور به الأوّلي ، ومعه يمتنع اتصافه بالمحبوبية ، فالمراد من الرواية بهذه القرينة محبوبية في غير حال التقية ، لأنّه في هذا الحال منهيٌّ عنه.

فمعنى الرواية ـ والله العالم ـ هو : أنّ العمل الناقص الصادر تقية أحبّ من ترك التقية ، والإتيان بالمأمور به في وقت لا ينطبق عليه إذاعة السّر.

والحاصل : أنّ محبوبيته لا تكون في حال التقية ، لانطباق العنوان المنهي عنه عليه ، فلا منافاة بين ما ذكرناه هنا ، وبين ما تقدم في ذيل الإشكال على وجه بطلان العبادة المخالفة للتقية من : أنّ الأحبية تقتضي محبوبية المفضّل عليه ، وهي العبادة الواقعة على غير وجه التقية. تقريب عدم المنافاة : أنّ محبوبيّته مقيّدة بغير إذاعة السِّر ،

٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

______________________________________________________

فلو فرض عدم كون المأمور به الأوّلي إذاعة كان محبوباً وان كان العمل الصادر تقية أحب ، فالمفضّل عليه نفس المأمور به الأوّلي مقيّداً بعدم صدق الإذاعة عليه.

السادس : أنّه قد ظهر مما تقدم : أنّ التقية الخوفية عزيمة ، لا رخصة ، لظهور الأمر باستعمال التقية في جملة من النصوص ، كقول مولانا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام في رواية الاحتجاج : «وآمرك أن تستعمل التقية في دينك» (١) ، وقول مولانا أبي الحسن عليه‌السلام لعلي بن يقطين في رواية محمّد بن الفضل : «والّذي آمرك به في ذلك أن تتمضمض ثلاثاً» (٢) ، وقول أبي عبد الله عليه‌السلام في رواية عبد الله بن أبي يعفور : «اتّقوا على دينكم ، واحجبوه بالتقية ، فإنّه لا إيمان لمن لا تقية له» (٣) ، وغير ذلك من النصوص الآمرة بالتقية في الوجوب.

وأما التقية المدارية فليست بعزيمة ، لاحتفاف الأمر في نصوصها بما يصلح لصرفه عن الوجوب ـ مضافاً إلى التسالم على ذلك ـ وان كانت مجزية كالتقية الخوفية ، فلاحظ.

السابع : أنّ الإجزاء تابع لجريان التقية ، فإذا جرت في تمام العمل المركب سقط الأمر المتعلق بجميع ذلك العمل ، وإذا جرت في بعضه كان الساقط خصوص الأمر الضمني المتعلق بذلك البعض ، ولا وجه لسقوط سائر الأوامر الضمنيّة المتعلقة ببعضه الآخر ، لأنّ الضرورات تتقدر بقدرها ، فلو فرض جريان التقية في بعض أعمال الحج كالوقوفين ، وعدم جريانها في بعضها الآخر كمناسك منى ، أجزأ الوقوفان

__________________

(١) الوسائل كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، باب ٢٩ من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما الحديث ١١.

(٢) الوسائل ج ١ كتاب الطهارة الباب ٣٢ من أبواب الوضوء الحديث ـ ٣ ـ.

(٣) الوسائل كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، باب ٢٤ من أبواب الأمر والنهي وما يناسبها ، الحديث ٧.

٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

دونها ، لعدم الوجه في الاجزاء حينئذٍ ، فلا موجب لرفع اليد عما تقتضيه الأدلة الأوّلية من عدم الاجزاء كما هو ظاهر.

الثامن : أنّه قد ظهر ممّا تقدّم عدم الفرق في الحكم المرفوع بالتقية بين كونه نفسيّاً كحرمة الإفطار في شهر رمضان ، والكذب ، ونحوهما من المحرمات النفسيّة وبين كونه غيريّاً كالجزئية ، والشرطية ، والمانعية ، فتسقط السورة مثلاً عن الجزئية للصلاة ، لأجل التقية ، وكذا شرطية المسح على البشرة للوضوء ، ومانعية التكتف عن الصلاة.

وبالجملة : مقتضي إطلاق أدلة التقية عدم الفرق في الحكم المرفوع بها بين النفسيّ والغيري ، وبين التكليفي والوضعي ، كما لا يخفى.

التاسع : أنّ ظاهر أدلة التقية كون موضوعها هو الخوف من المخالف ، فإذا ارتفع أحدهما ، فلا تقية حتى يترتب عليها حكمها من الاجزاء ، فلو كان هناك عدوّ ولم يكن خوف منه ، كما إذا كان قاصر اليد ، لكونه في بلاد الشيعة ، وملتجأ بهم ، أو كان هناك خوف ، ولكن لم يكن من يخاف منه مخالفاً ، بل مؤمناً صالحاً من عباد الله المخلصين ، فلا تقية حقيقة.

وعليه ، فلو مسح على الخفين ، أو تكتف في الصلاة باعتقاد أنّ من يشاهده مخالف متعصّب ، ثم تبين أنّه مؤمن مخلص ، فلا يجزئ ، لما عرفت من تقوّم التقيّة بركنين يكون أحدهما مفقوداً ، فالموجود تخيّل التقية ، لا نفسها ، ومن المقرّر في محله وضع الألفاظ لمعانيها الواقعية ، لا الاعتقادية ، فالتقية المترتّبة عليها الأحكام الشرعية هي الخوف من العدّ والواقعي ، لا الاعتقادي وان لم يكن عدوّاً واقعاً ، كما هو واضح.

العاشر : الظاهر عدم الفرق في جريان أحكام التقية بين كون الفعل المتّقى به

٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

من العبادات ، وبين كونه من المعاملات بالمعنى الأعم الشامل للعقود والإيقاعات ، فلو باع داره ، أو طلّق زوجته بالصيغة الفارسية ، أو بصيغة المضارع تقية ، فقضية إطلاق مثل :

«كلّ شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله» ، و «كل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية ممّا لا يؤدّي إلى الفساد في الدين فهو جائز» هي النفوذ ، لما عرفت من كون الجواز أعم من الوضعي والتكليفي ، فالعقد والإيقاع الصادران تقية جائزان أي نافذان بحيث يترتب عليهما آثار الصحة.

كما أنّ الظاهر عدم الفرق في نفوذهما إذا صدرا تقية بين كون الدليل على التقية عامّاً مثل ما مرَّ آنفاً من عمومات التقية ، وبين كونه خاصاً كدليل غَسل الرجلين في الوضوء ، والتكتف في الصلاة.

فما أفاده شيخنا الأعظم (قده) في رسالة التقية من «الاجزاء فيما إذا كان الاذن في العمل المتّقى به خاصاً ، وعدمه فيما إذا كان الإذن فيه عامّاً» لا يخلو من غموض ، إذ لا فرق في الإجزاء بين الإذن الخاصّ والعام.

إلّا أن تمنع دلالة عمومات التقية على الاذن ، بتقريب : أنّها في مقام بيان الحكم التكليفي فقط وهو وجوب حفظ النّفس من دون دلالتها على الاذن المستلزم للوضع وهو صحة العمل ، فيعمل فيه بما تقتضيه أدلته الأوّلية من اعتبار الجزء ، أو الشرط ، أو مانعية المانع مطلقاً حتى في حال التقية.

لكنه في حيِّز المنع ، ضرورة أنّه لا فرق بين عمومات التقية وخصوصاتها إلّا في سعة دائرة المورد وضيقها ، وأمّا في دلالتهما على الأمر بالعمل تقية ، فلا فرق بينهما أصلاً ، لأنّ الإذن في استعمال التقية يستفاد من الأمر المشترك بين عموماتها وخصوصاتها ، فإن لم تصلح العمومات للدلالة على الاذن ، فلا بد من منعها في الخصوصات أيضا.

وبالجملة : فلم يظهر وجه وجيه للفرق بين الاذن العام والخاصّ من حيث

٧٠

المقام الثاني : في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري وعدمه ، والتحقيق : أنّ ما كان منه (١) في تنقيح ما هو موضوع التكليف ، وتحقيق (٢) متعلقه ،

______________________________________________________

(الأمر الظاهري)

(١) أي : من الأمر الظاهري ، اعلم أنّ للحكم الظاهري إطلاقين :

أحدهما : ما يستفاد من الأصول العملية التي موضوعها الشك في الحكم الواقعي في مقابل ما يدل عليه الأدلة الاجتهادية من الأحكام الواقعية التي لا تُناط بشيء من العلم والجهل.

ثانيهما : كل وظيفة مجعولة لغير العالم بالواقع ، فيشمل الأحكام الكلية المستفادة من الأدلة الاجتهادية ، والأُصول العملية ، والأحكام الجزئية الثابتة بالأُصول الجارية في الشبهات الموضوعية كأصالة الصحة ، واليد ، والسوق ، ونحوها ، والمراد بالحكم الظاهري هنا هو هذا المعنى الثاني.

(٢) معطوف على ـ تنقيح ـ ومفسّر له ، وضميرا ـ شرطه وشطره ـ راجعان إلى ـ المأمور به ـ توضيح ما أفاده (قده) في التحقيق هو : أنّ الحكم الظاهري تارة يكون مؤدّى دليله جعل الحكم حقيقة. وبعبارة أخرى : يكون مفاد دليله إنشاءُ الحكم حقيقة ، كإنشاء الحلية والطهارة المستفادتين من مثل قوله عليه‌السلام : «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام» ، و «كل شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر» ، وهذا هو المراد بالأصل كقاعدتي الحل والطهارة.

وأُخرى يكون مؤدّى دليله ثبوت الحكم واقعاً ، والحكاية عن وجوده كذلك ، وهذا مفاد الأمارات الشرعية ، فإنّ البيِّنة القائمة على طهارة شيء ، أو كون

__________________

الاجزاء وعدمه.

ثم إنّ هنا أُموراً أُخر قد تعرضنا لها في رسالة التقية ، والحمد لله أوّلاً وآخراً والصلاة على نبينا وآله ظاهراً وباطناً ، واللعن الوبيل على أعدائهم عاجلاً وآجلاً.

٧١

وكان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره كقاعدة الطهارة أو الحلية ، بل واستصحابهما في وجه (١) قويٍّ ، ونحوها (٢) بالنسبة إلى كل ما اشترط (٣) بالطهارة أو الحلية يجزئ (٤) (*) ،

______________________________________________________

اللباس الكذائي مما يؤكل لحمه تحكي عن ثبوت الطهارة الواقعية ، أو كون اللباس من الحيوان المحلّل أكله واقعاً. ودليل حجية الأمارة يقتضي إمضاء مضمونها ، فيدل على صدق حكايتها الموجب لثبوت الطهارة واقعاً ، وكون اللباس من المحلل أكله كذلك.

فان كان الحكم الظاهري على الوجه الأول ، فمقتضاه الاجزاء ، لأنّ لسان الأُصول إنشاء شرط من الطهارة والحلية في ظرف الشك ، ولازم هذا الجعل هو كون الشرط أعم من الطهارة والحلية الواقعيتين والظاهريتين ، فتكون الأُصول حاكمة على أدلة الشرائط ، مثل : «لا صلاة إلّا بطهور» الظاهر في اعتبار الطهارة الواقعية في الصلاة ، لأنّ مثله لا يتكفل لصورة الشك في الطهارة ، بخلاف الأصل ، فإنّه متكفل لها ، فيكون ناظراً إلى دليل الشرطية ، هذا.

وإن كان الحكم الظاهري على الوجه الثاني ، فلا يقتضي الإجزاء ، لأنّ مفاد الأمارة ثبوت الواقع ، لا توسعة دائرة الشرط ، فإذا انكشف الخلاف فلا وجه للإجزاء.

(١) وهو كون الاستصحاب أصلاً ليتحد مفاده مع سائر الأُصول ، لا أمارة حاكية عن وجود ما هو الشرط. ثم إنّ الأولى تبديل قوله : ـ وكان بلسان تحقق ما هو شرط ـ هكذا : ـ وكان بلسان إنشاء ما هو شرط ـ.

(٢) كقاعدتي التجاوز والفراغ ، وغيرهما مِمّا يفيد جعل الحكم.

(٣) كالصلاة والطواف الواجب.

(٤) يعني : يجزئ الأمر الظاهري الّذي يكون بلسان تحقق الشرط.

__________________

(*) مشكل جدّاً ، لأنّ حكومة دليله ظاهريّة ، لا واقعيّة ، وذلك لتأخر موضوع الحكم الظاهري وهو الشك عن موضوع الحكم الواقعي ، بحيث لا يمسّ كرامة الواقع ، ومع هذا التأخر لا يصلح أن يكون دليل الحكم الظاهري مبيّناً

٧٢

فإنّ (١) دليله يكون حاكماً على دليل الاشتراط (٢) ومبيِّناً (٣)

______________________________________________________

(١) تعليل للاجزاء ، وقد عرفت تقريبه بقولنا : ـ لأنّ لسان الأصول إنشاء الشرط من الطهارة والحلية ... إلخ ـ ، ومحصله : حكومة دليل الأمر الظاهري على دليل الاشتراط.

(٢) مثل : «لا صلاة إلّا بطهور» وهذه الحكومة من الحكومات الموسِّعة.

(٣) معطوف على قوله : ـ حاكماً ـ ومفسِّر له ، وهذا من القيود التي ذكرها الشيخ (قده) في ضابط الحكومة ، فإنّ دليل الحكم الظاهري لَمّا دلّ على كون الطهارة المشكوكة طهارة فبيّن أنّ الطهارة المجعولة شرطاً للصلاة أعم من الواقعية والظاهرية ، وهذه الحكومة ظاهرية.

__________________

لدائرة الشرط ، ومفسِّراً لموضوعه ، فلا محيص عن كون الحكومة ظاهرية ، وهي لا تقتضي أزيد من ترتيب آثار الواقع ما دام الموضوع ـ وهو الشك ـ موجوداً ، فإذا انكشف الخلاف وجب عليه الإتيان بالواقع ، لارتفاع المانع عن فعليته ، وهذا من غير فرق (بين) كون لسان الأصل التعبد بوجود ما هو الشرط واقعاً المستلزم لجواز الدخول في المشروط ، كما هو قضية الأصل التنزيلي ، (وبين) كون لسانه التعبد بنفس الشرط ، بمعنى جعل الطهارة مثلاً وإنشائها المستلزم لجعل آثارها التكليفية والوضعيّة التي منها الشرطية ، والموجب لحكومته على دليل الشرطية ، وذلك لأنّ موضوع الأصل هو الشك ، ومقتضى تبعية الحكم لموضوعه هو بقاؤه ما دام الموضوع باقياً ، فيرتفع بارتفاع الشك ، فلا مانع حينئذٍ عن فعلية الحكم الواقعي ، فيجب موافقته.

نعم لازم جعل الأصل تدارك ما فات عن المكلف لأجل الاستناد إليه ، فإنْ انكشف الخلاف في الوقت ، فالفائت مصلحة أوّل الوقت ، وإن انكشف بعده ، فالفائت مصلحة نفس الوقت.

وأمّا عدم وجوب الإتيان بالواقع رأساً ، فليس مقتضى الحكم الظاهري أصلا ، إذ لو كان كذلك لزم منه تقييد الواقع بصورة العلم ، والمفروض تأخّره عنه كما مر ،

٧٣

لدائرة الشرط ، وأنّه (١) أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية ، فانكشاف الخلاف فيه (٢) لا يكون موجباً لانكشاف فقدان العمل لشرطه ، بل بالنسبة إليه (٣) يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل ، وهذا بخلاف ما كان منها (٤)

______________________________________________________

(١) معطوف على ـ دائرة ـ ، والضمير راجع إلى ـ الشرط ـ.

(٢) أي : الشرط ، وهذه نتيجة حكومة الأُصول على دليل الاشتراط ، توضيحه :

أنّ الطهارة بعد أن صارت أعم من الواقعية والظاهرية ، فلا محالة يكون ارتفاع الطهارة الظاهرية بانتفاء الجهل من ارتفاع الحكم بانتفاء موضوعه ، كارتفاع حكم المسافر بتبدُّل السفر بالحضر ، لا من ارتفاع الحكم عن موضوعه ، وعليه فالشرط حين الجهل كان موجوداً ، وكان العمل واجداً له حقيقة ، وهذا هو معنى الإجزاء.

(٣) هذا الضمير وضمير ـ ارتفاعه ـ راجعان إلى الشرط ، يعني : بل انكشاف الخلاف بالنسبة إلى الشرط من قبيل ارتفاع الشرط من زمان ارتفاع الجهل ، لا من قبيل عدم تحققه أصلاً ، فارتفاع الشرط يكون لارتفاع موضوعه.

(٤) أي : من الأوامر الظاهرية ، والأولى تبديل قوله : ـ وهذا بخلاف ما كان منها ـ بقوله : ـ وما كان منه ـ ، ليكون عدلاً لقوله : ـ ما كان منه ـ المذكور في كلامه : ـ

__________________

فلا يتصرف دليل الأصل في موضوع الحكم الواقعي أصلاً.

وإجزاء الحكم الظاهري عن الواقعي منوط بأحد أمرين : إمّا تقييد الواقع ، وإمّا استيفاء ملاكه ، بأن يكون ملاك الحكم الظاهري وافياً بكلّه ، أو جلّه ، بحيث لا يبقى منه ما يجب تداركه ليسقط الأمر الواقعي ، وهذا وإن كان ممكناً ثبوتاً ، لكنه لا دليل عليه إثباتاً.

فما أفاده المصنف (قده) من التفصيل بين الأحكام الظاهرية بالإجزاء في القسم الأول دون الثاني لم يظهر له وجه وجيه ، فالأقوى ما عن المشهور من عدم الإجزاء مطلقاً ، ووجوب الإتيان بالمأمور به الواقعي إعادة ان كان انكشاف الخلاف في الوقت ، وقضاء إن كان في خارجه.

٧٤

بلسان أنّه ما هو الشرط واقعاً كما هو لسان الأمارات ، فلا يجزئ ، فإنّ (١) دليل حجيته حيث كان بلسان أنّه واجدٌ لما هو الشرط الواقعي ، فبارتفاع الجهل ينكشف أنّه لم يكن كذلك (٢) ، بل كان لشرطه فاقداً ،

______________________________________________________

والتحقيق ان ما كان منه ـ ، والضمير في قوله : ـ انه واجد ـ و ـ انه لم يكن ـ راجع إلى ـ المأمور به ـ.

(١) تعليل لقوله : ـ فلا يجزئ ـ ، وضمير ـ حجيته ـ راجع إلى ـ ما ـ الموصولة في قوله : ـ ما كان منها ـ.

(٢) أي : واجداً للشرط ، وغرضه بيان حكم الأمارات من حيث الإجزاء وعدمه ، وقد مرّ بيانه إجمالاً بقولنا : ـ وان كان الحكم الظاهري على الوجه الثاني فلا يقتضي الاجزاء ـ.

وتفصيله : أنّ الأمارات تارة تكون حجة من باب الطريقية ، وأُخرى من باب السببية ، فان كانت من قبيل الأوّل ، فلا تجزئ ، لأنّ الأمارة إذا قامت على الطهارة مثلا ، فلمّا كان قضية دليل اعتبارها تصديق الأمارة ، ومعنى تصديقها هو البناء على وجود ما هو شرط واقعاً ، كالطهارة في المثال المتقدم ـ كان ـ المناسب لهذا البناء إنشاءُ أحكام الشرط الموجود حقيقة ، كجواز الدخول فيما تكون الطهارة شرطاً له ، كالصلاة والطواف ، لا إنشاءُ نفس الشرطية ، لعدم دلالة الأمارة إلّا على وجود الطهارة الثابتة شرطيتها واقعاً بدليلها ، حيث إنّ إنشاء نفس الشرطية منوط بجعل الطهارة ابتداء ، فإذا كان مفاد دليل الأمارة البناء على وجود الطهارة كان خطاء الأمارة كاشفاً عن عدم الطهارة واقعاً ، ووقوع الصلاة مثلاً بلا شرط ، فلا وجه للاجزاء أصلا.

وان كانت من قبيل الثاني فتجزئ إن كانت مصلحة الأمارة وافية بتمام مصلحة الواقع ، أو معظمها مع عدم إمكان تدارك الباقي ، أو عدم وجوبه ، وإلّا فلا تجزئ ، لأنّ مجرد تنزيل الفاقد منزلة الواجد لا يكفي في الإجزاء ما لم يكن الفاقد حال

٧٥

هذا (١) على ما هو الأظهر الأقوى في الطرق والأمارات من أنّ حجيتها ليست بنحو السببية (٢) ، وأمّا بناء عليها (٣) وأنّ العمل بسبب أداء أمارة إلى وجدان شرطه (٤) أو شطره يصير حقيقة صحيحاً كأنّه (٥) واجد له مع كونه فاقده ، فيجزئ (٦) لو كان الفاقد له (٧) في هذا الحال (٨)

______________________________________________________

قيام الأمارة كالواجد في الوفاء بالغرض ، وإلّا يلزم تفويت المصلحة الملزمة بلا تدارك ، وهو قبيح على الحكيم.

وبالجملة : فالوجوه المتصورة في الأمر الاضطراري تجري في الأمر الظاهري الثابت بالأمارات بناء على السببية ، لكن المصنّف تبعاً للمشهور لمّا اختار القول بالطريقية بنى على عدم الاجزاء.

(١) أي : عدم الاجزاء فيما كان الأمر الظاهري بلسان أنّه ما هو الشرط واقعاً.

(٢) بل على نحو الطريقية التي لا يتغيّر معها الواقع عما هو عليه بقيام الطريق على خلافه ، إذ ليس أمر الطريق التعبدي بأعظم من الطريق الوجداني وهو القطع ، فكما لا يحكم بالاجزاء في موارد خطاء القطع ، فكذلك لا يحكم به في موارد خطاء الطريق التعبدي.

(٣) أي : السببية ، وقوله : ـ وان العمل ـ مفسر للسببية.

(٤) هذا الضمير وضمير ـ شطره ـ راجعان إلى ـ العمل ـ.

(٥) أي : العمل واجد للشرط مع كونه فاقداً له.

(٦) هذا جواب ـ أمّا ـ في قوله : ـ وأمّا بناءً عليها ـ يعني : فيجزي العمل بشرط كون الفاقد للشرط أو الشطر في حال قيام الأمارة على وجوده ، كالواجد له في الوفاء بتمام الغرض.

(٧) أي : للشرط أو الشطر.

(٨) أي : حال قيام الأمارة ، وضمير ـ كونه ـ يرجع إلى ـ الواجد ـ.

٧٦

كالواجد في كونه وافياً بتمام الغرض ، ولا يجزئ (١) لو لم يكن كذلك.

ويجب الإتيان بالواجد لاستيفاء الباقي (٢) إن وجب ، وإلّا (٣) لاستحب ، هذا (٤) مع إمكان استيفائه ، وإلّا (٥) فلا مجال لإتيانه (٦) كما عرفت في الأمر الاضطراري (٧).

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : ـ فيجزي ـ يعني : ولا يجزي العمل الفاقد للشطر أو الشرط لو لم يكن كالواجد له في الوفاء بتمام المصلحة.

(٢) أي : الباقي من الغرض إن وجب استيفاؤه.

(٣) أي : وإن لم يجب استيفاء الباقي استحب استيفاؤه.

(٤) أي : وجوب الإتيان بالواجد أو استحبابه ثانياً إعادة أو قضاء إنّما يكون مع إمكان استيفاء الباقي من الغرض ، وأمّا مع عدم إمكانه ، فلا مجال للإتيان به ثانياً ، لكونه لغواً وبلا ملاك ، فلا إعادة ولا قضاء.

(٥) أي : وإن لم يمكن استيفاؤه.

(٦) أي : الواجد للشرط أو الشرط.

(٧) غرضه : أنّ مجرد حجية الأمارات على السببية لا تقتضي الإجزاء ، بل الاجزاء منوط بأحد أُمور ثلاثة :

الأول : كون الفاقد للجزء أو الشرط وافياً بتمام الغرض القائم بالواجد.

الثاني : عدم إمكان استيفاء ما يبقي من المصلحة على تقدير عدم الوفاء بتمامها.

الثالث : عدم وجوب استيفائه مع إمكانه ، وفي غير هذه الصور الثلاث لا وجه للإجزاء ، فحال الأمر الظاهري الثابت بالأمارة بناءً على حجيتها من باب السببية حال الأمر الاضطراري في إناطة الاجزاء بأحد هذه الوجوه الثلاثة ، فمجرد تنزيل الفاقد منزلة الواجد الّذي هو مرجع إنشاء الطهارة الواقعية حال الشك ، لامتناع إرادة غير التنزيل من هذا الإنشاء لا يقتضي الإجزاء ، إلّا أن يقال : بإثبات دلالة الاقتضاء للاجزاء ، فتأمّل.

٧٧

ولا يخفى (١) أنّ قضية إطلاق دليل الحجية على هذا (٢) هو الاجتزاء بموافقته (٣) أيضا (٤).

______________________________________________________

(١) هذا تعرض لمقام الإثبات بعد الإشارة إلى مرحلة الثبوت ، وحاصله : أنّه بناءً على اعتبار الأمارات من باب السببية ـ إذا لم يعلم من الخارج وفاء الفاقد للجزء أو الشرط بتمام مصلحة الواجد أو بعضها ـ أمكن إثبات الإجزاء بإطلاق دليل حجية الأمارة ، بتقريب : أنّ حجيتها إن اختصت بصورة الوفاء بتمام الغرض ، أو بما لا يمكن ، أو لا يجب معه استيفاء الباقي لاحتاج ذلك إلى البيان ، فعدم التعرض له مع كونه بصدد البيان دليل على إطلاق الحجية ، وعدم تقيّدها بشيء من تلك الوجوه ، نظير إطلاق دليل البدلية في الأمر الاضطراري في اقتضائه للإجزاء.

فالمتحصل : أنّ دليل الأمر الظاهري إن كان بلسان تحقق ما هو شطر أو شرط للمأمور به كان الفاقد مجزياً ، وإن كان بلسان أنّه واجد لِما هو شرطه الواقعي ، فلا يجزي بناءً على حجية الأمارات من باب الطريقية ، ويجزي بناءً على السببية في صورتين : إحداهما كون الفاقد وافياً بتمام الغرض ، وثانيتهما : عدم كونه وافياً بتمامه مع عدم إمكان استيفاء الباقي ، ولا يجزي مع عدم الوفاء بتمام الغرض وإمكان استيفاء الباقي ، فإنّه يجب حينئذٍ الإتيان بالباقي ، فصور الإجزاء ثلاث ، وصور عدم الاجزاء اثنتان.

(٢) أي : على السببية (*).

(٣) أي : الأمر الظاهري.

(٤) يعني : كاقتضاء إطلاق دليل بدلية المأمور به الاضطراري للاجزاء كما تقدم.

__________________

(*) لا يخفى أنّ السببية على وجوه :

الأول : ما نُسب إلى الأشاعرة من نفي حكم واقعيٍّ في الشريعة ، ودورانه مدار رأي المجتهد ، فمتى أدّى نظره إلى شيء بسبب أمارة ، أو أصل كان ذلك هو الحكم الواقعي ، فتبدل الرّأي حينئذٍ يندرج في تبدّل الموضوع ، وهذا النحو من

٧٨

هذا (١) فيما إذا أُحرز أنّ الحجية بنحو الكشف والطريقية ، أو بنحو

______________________________________________________

(١) يعني : ما ذكرناه من الإجزاء بناءً على السببية ، وعدمه بناءً على الطريقية واضح إذا كانت كيفية الحجية من حيث السببية والطريقية معلومة ، وأمّا إذا شك ولم يُحرز أنّ الحجية بنحو السببية أو الطريقية ، فيقع الكلام في مقامين : الأوّل في الإعادة ، والثاني في القضاء.

أمّا المقام الأوّل ، وهو الّذي أشار إليه المصنف بقوله : ـ فأصالة عدم الإتيان ـ فحاصله : أنّ المرجع فيه قاعدة الاشتغال ، لكون الشك في الفراغ بعد العلم بشغل الذّمّة

__________________

السببيّة أجنبي عن الحكم الواقعي والظاهري ، لعدم حكمين حتّى يكون أحدهما واقعياً والآخر ظاهرياً ، ويبحث عن إجزاء الثاني عن الأوّل ، بل الحكم واحد ومجزٍ قطعاً.

الثاني : ما نُسب إلى المعتزلة من الاعتراف بوجود الحكم الواقعي قبل تأدّي نظر المجتهد إلى شيءٍ ، فإنْ أدّى نظره إليه صار منجزاً عليه ، وإن لم يؤدِّ نظره إليه يتبدل الواقع ، وينقلب إلى ما أدّى إليه نظر المجتهد ، فليس في صورة المخالفة واقع حتى يبحث عن إجزاء الأمر الظاهري عنه ، بل المقام حينئذٍ يكون من قبيل الأمر الاضطراري ، والحكم الواقعي الثانوي.

الثالث : ما عن بعض الإمامية من الالتزام بالمصلحة السلوكية مع بقاء الواقع على حاله في صورتي الإصابة والخطاء ، غاية الأمر : أنّه في صورة الخطاء يتدارك ما يفوت من مصلحة الواقع بسبب سلوك الأمارة بقدر ما فاته منها بسبب مخالفتها للواقع ، ويجب عليه تدارك ما بقي من مصلحة الواقع بعد انكشاف الخلاف إذا فرض بقاءُ شيءٍ منها بعده ، فيكون العامل بالأمارة مستوفياً لتمام المصلحة.

مثلاً إذا أفتى المجتهد بوجوب القصر في مورد يجب فيه الإتمام واقعاً استناداً إلى رواية تدل على وجوب القصر ، ثم انكشف الخلاف ، لانكشاف عدم حجيتها ، لضعف السند ، أو إعراض المشهور عنها ، أو غيرهما من موانع الحجية ، فإن كان

٧٩

الموضوعية والسببية. وأمّا إذا شكَّ ، ولم يحرز أنّها على أيِّ الوجهين ، فأصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف مقتضية للإعادة في الوقت ، واستصحاب (١) عدم

______________________________________________________

وعدم إحراز مسقطية المأتي به لما اشتغلت به الذّمّة من التكليف الفعلي.

وجه عدم إحراز مفرغيته هو : عدم العلم بوفائه بتمام المصلحة أو معظمها ، إذ المفروض عدم إحراز كون الحجية على نحو السببية حتى يكون المأتي به مجزياً عن الواقع.

وبالجملة : فلمّا كان الشك في وادي الفراغ ، فلا محيص عن الالتزام بعدم الاجزاء لو كان انكشاف الخلاف في الوقت ، فتجب الإعادة (*).

(١) إشارة إلى توهم ، وهو عدم وجوب الإعادة تشبثاً باستصحاب عدم فعلية التكليف الواقعي في الوقت ، حيث إنّه يعلم حين الجهل به بعدم فعليته مع قيام حجة

__________________

الانكشاف في الوقت ، وجب الإعادة تداركاً للمصلحة الوقتية وإن كانت مصلحة أوّل الوقت متداركة بسلوك الأمارة ، فلا فرق في وجوب الإعادة بين السببية بهذا المعنى وبين الطريقية ، هذا في الإعادة.

وأمّا القضاء ، فيمكن فيه القول بالاجزاء ، وعدم وجوبه ، لأنّ سلوك الأمارة في مجموع الوقت إذا فرض وفاؤه بمصلحة الصلاة في الوقت ، كما هو مقتضى القول بالسببية كان ذلك موجباً للإجزاءِ لا محالة ، كما أنّه لو لم ينكشف الخلاف أصلاً كانت مصلحة أصل الصلاة الفائتة متداركة بسبب سلوك الأمارة ، ولا شيء على المكلف ، هذا.

ولكن لا وجه للمصير إلى القول بالسببية بهذا المعنى أيضا ، لاستلزامها التصويب ، وانقلاب الوجوب التعييني الواقعي إلى التخييري ، ضرورة أنّ مصلحة صلاة الظهر في وقتها تقوم بأحد شيئين : صلاة الظهر ، وصلاة الجمعة التي دل علي وجوبها الأمارة لمن لم ينكشف عنده خطاؤها في الوقت ، وانقلاب الوجوب التعييني إلى التخييري نوع من التصويب ، والتفصيل في محله.

(*) لا يخفى أنّ تقريب الأصل بما ذكرناه من قاعدة الاشتغال أولى من جعله استصحاب عدم الإتيان بالمسقط كما في المتن ، وذلك لأنّ المورد من موارد القاعدة ،

٨٠