منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٥٩٢

وفي وقوعه (١) في الشرعيات والعرفيات غنيّ وكفاية ، ولا تحتاج معه (٢) إلى مزيد بيان ، أو مئونة برهان (٣).

وقد عرفت (٤) سابقا : أنّ داعي إنشاء الطلب لا ينحصر بالبعث والتحريك جدّاً حقيقة ، بل قد يكون صوريّا امتحانا ، وربما يكون غير ذلك (٥).

ومنع (٦) كونه أمرا إذا لم يكن بداعي البعث جدّاً واقعا وإن كان في محله ،

______________________________________________________

(١) أي : الأمر الإنشائيّ غير البالغ إلى مرتبة الفعليّة ، لفقدان شرط فعليّته.

ثم إنّ وقوع الأمر الإنشائيّ في الشرعيّات ، كالأحكام الواقعيّة في موارد الطرق ، والأمارات ، والأصول القائمة على خلافها الّتي لا تصير فعليّة إلّا بحضور الإمام عليه‌السلام ، أو بقيام الحجّة على طبقها ، وكغالب الأحكام الصادرة في أوّل البعثة الّتي كانت إنشائيّة ، ثم صارت فعليّة بالتدريج يغنينا عن إقامة الدليل على إمكانه ، لأنّ الوقوع أقوى شاهد على الإمكان ، كما هو واضح ، ومعه لا حاجة إلى إقامة برهان.

(٢) أي : مع وقوع الأمر الإنشائيّ في الشرعيّات.

(٣) على إمكان الأمر الإنشائيّ.

(٤) أي : في المبحث الأوّل من مباحث الفصل الثاني من الفصول المتعلّقة بصيغة الأمر.

وغرضه من هذه العبارة : أنّ الأمر يستعمل دائما في الطلب الإنشائيّ والاختلاف إنّما يكون في دواعي الإنشاء ، فتارة يكون الداعي إلى ذلك الطلب الحقيقي الجدّي ، وأخرى امتحان العبد ، وثالثة التسخير ، ورابعة التعجيز ، إلى غير ذلك من دواعي الإنشاء.

(٥) كالتسخير ، والتعجيز ، كما عرفت.

(٦) هذا إشارة إلى ما يمكن أن يتوهّم في المقام : من الإشكال على تحرير محلّ النزاع على الوجه المزبور ، وهو : جعل الأمر إنشائيّا.

وحاصل التوهم : أنّ الأمر المنشأ بغير داعي البعث الجدّي ليس أمرا حقيقة ، فلا ينبغي جعل عنوان البحث في قولهم : «هل يجوز أمر الآمر ... إلخ» الأمر المنشأ بغير داعي البعث الجدّي.

٥٢١

إلّا أنّ إطلاق الأمر عليه إذا كانت هناك قرينة على أنّه بداع آخر غير البعث توسّعا ممّا لا بأس به أصلا ، كما لا يخفى.

وقد ظهر بذلك (١) حال ما ذكره الأعلام في المقام من النقض والإبرام ، وربما يقع به التّصالح بين الجانبين (٢) ، ويرتفع النزاع من البين ، فتأمّل جيّدا (٣).

فصل

الحق أن الأوامر والنواهي تكون متعلقة بالطبائع دون الأفراد (٤) (*)

ولا يخفى (٥) أنّ المراد : أن متعلق الطلب في الأوامر هو صرف الإيجاد ، كما

______________________________________________________

ومحصل دفعه : أنّ الأمر وإن كان كذلك ، إلّا أنّ إطلاق الأمر عليه توسّعا لا بأس به إذا دلّت قرينة على أنّ إنشاءه إنّما هو بداع غير البعث الجدّي.

(١) أي : بكون المراد من لفظ ـ الأمر ـ بعض مراتبه ... إلخ.

وغرضه (قده) من هذا الكلام : التنبيه على ما وقع في كلمات الأعلام من الخلط بين مراتب الأمر ، والاشتباه بين شرط المأمور به المسمّى بشرط الوجود ، وبين شرط الأمر المسمّى بشرط الوجوب.

(٢) القائل أحدهما بالجواز ، والآخر بعدمه ، وتقريب وجه التصالح : أنّ مراد القائل بالجواز هو الأمر الإنشائيّ ، إذ لا مانع من محض الإنشاء مع فقدان شرط فعليّته ، ومراد القائل بعدم الجواز : إنشاء الأمر الفعلي ، فإنّه لا يجوز مع فقدان شرط فعليّته ، وبهذا البيان يرتفع النزاع من البين.

(٣) لعلّه إشارة إلى : إباء بعض عبائرهم عن الحمل على الأمر الإنشائيّ ، لكون استدلالاتهم ناظرة إلى الأمر الفعلي ، فلاحظ وتأمّل ، والله سبحانه العالم.

تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع

(٤) المراد بها : وجود الطبيعة مع اللّوازم والمشخصات الوجوديّة ، كما أنّ المراد بالطبائع : نفس وجودها بدون لوازم الوجود.

(٥) غرضه : التنبيه على أمرين :

__________________

(*) ينبغي قبل التعرّض لشرح كلام المصنف (قده) تقديم أمور :

٥٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الأول : أنّه قد يتوهم التنافي بين النزاع في تعلّق الأوامر والنواهي بالطبائع أو الأفراد ، وبين ما ثبت في محله : من كون المصادر المجرّدة عن اللام والتنوين موضوعة للطبيعة اللابشرطية.

وجه المنافاة : أنّ التسالم على وضع تلك المصادر للطبيعة يستلزم كون متعلق الأوامر والنواهي نفس الطبائع ، حيث إنّ ذلك مقتضى وضع موادّها ـ وهي المصادر ـ للطبائع ، فلا وجه للترديد بين تعلّقها بالطبائع أو الأفراد ، هذا.

لكن يمكن دفع التنافي ب : أنّ إرادة الأفراد ـ على القول بتعلّق الأحكام بها ـ إنّما هي بالقرينة ، وهي : كون الأمر طلب إيجاد الطبيعة ، ومن المعلوم : امتناع إيجاد شيء بدون لوازم الوجود الّتي لا تنفك عن الفرد ، فإنّ الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، فإرادة الفرد إنّما تكون بهذه القرينة ، فتدبر.

الثاني : أنّ المراد بالطبيعة في هذا البحث ليس نفسها بما هي هي ، لأنّها لا تصلح لأن يتعلق بها أمر ولا نهي ، ضرورة أنّ الملاكات الداعية إلى التشريع لا تقوم بها حتى يتعلّق بها الأحكام التابعة للملاكات ، بل تقوم بوجود الطبائع ، فالمطلوب هو نفس الوجود السّعي للطبيعة بما هو وجود ، لا بما هو فرد ، فلوازم الوجود المقوّمة لفردية الفرد خارجة عن حيّز الطلب ، ولذا لا تصح نية القربة بها ، لعدم تعلّق الأمر بها وإن كانت من لوازم المطلوب.

ومن هنا يظهر : المراد بالفرد أيضا ، لأنّه لوازم الوجود الّتي تقع في حيّز الطلب ، ويصح قصد التقرب بها ، لوقوعها في حيّزه ، ولا يلزم من نيّة التقرب بها تشريع ، كما يلزم ذلك ـ بناء على القول بتعلّق الحكم بالطبيعة ـ ، كما لا يخفى.

الثالث : أنّ ثمرة هذه المسألة هي : صغرويّتها لكبرى التزاحم ـ بناء على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع ـ ، ولكبرى التعارض بناء على التعلّق بالأفراد.

إذ على الأوّل : يكون متعلّق الأمر والنهي متعدّدا ، كالصلاة في مكان مغصوب ،

٥٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فإنّ متعلّق الأمر طبيعة الصلاة المتوقّف وجودها على لوازمه من المكان والزمان وغيرهما من اللوازم التي يتوقّف وجود الصلاة عليها من دون سراية الأمر إليها ، ولذا يكون إيجادها بقصد الأمر تشريعا محرّما. ومتعلّق النهي أيضا طبيعة التصرّف في مال الغير المتوقّف وجودها على لوازمه من القيام ، والقعود ، والركوع ، والسجود ، ونحوها من اللوازم الّتي يتوقّف وجود التصرّف في مال الغير عليها من دون سراية النهي إليها.

وعلى هذا ، فالصلاة تكون من لوازم وجود التصرّف المحرّم من دون سراية حرمته إليها ، لما عرفت : من خروج لوازم الوجود عن حيّز الطلب. كما أنّ الغصب يكون من لوازم وجود الصلاة الواجبة من دون سراية وجوبها إليه ، لما قلناه.

فمتعلق الأمر والنهي متعدّد ، ولا ربط لأحدهما بالآخر.

وعلى هذا ، فمسألة اجتماع الأمر والنهي تندرج في كبرى التزاحم ، ولازمه صحّة الصلاة في المغصوب نسيانا وجهلا بكلّ من الحكم والموضوع ، لترتّب المانعية على التزاحم المنوط بالتنجّز الّذي يتوقّف على قيام الحجّة على الحكم ، فبدونها ـ كما هو المفروض ـ لا تزاحم ، فلا مانعية للغصب.

بل مقتضى التزاحم صحّة الصلاة في المغصوب في صورة العلم أيضا ، إلّا أن يقوم دليل على الفساد ، وذلك لتعدّد الصلاة والغصب ، وكون تركّبهما انضماميّا من طبيعتين متغايرتين ، فيكون باب اجتماع الأمر والنهي من صغريات التزاحم كالصلاة والإزالة.

وبالجملة : مقتضى قاعدة التزاحم صحّة الصلاة في المغصوب مطلقا حتى مع العلم بالغصب وحكمه ، فتدبّر.

وعلى الثاني ـ وهو : تعلّق الطلب بالأفراد ، بمعنى : وقوع لوازم الفرد تحت الطلب ، بحيث يصحّ قصد التقرّب بها ، ويخرج عن التشريع المحرّم ـ يكون باب

٥٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

اجتماع الأمر والنهي من صغريات التعارض ، لاتحاد متعلّقهما ، ومن صغريات النهي في العبادة ، ويترتّب عليه مانعية الغصب للصلاة واقعا ، إذ المفروض وقوع فرد الصلاة في حيّز النهي عن العبادة الموجب لبطلانها ، ولازم المانعية الواقعيّة بطلان الصلاة مطلقا حتى في حال الجهل بالموضوع ، إلّا إذا نهض دليل على صحتها تعبّدا.

وسيأتي في مسألة اجتماع الأمر والنهي مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى.

الرابع : لا يخفى أنّ النزاع على النحو المحرّر في المتن وغيره مما ظاهره تسالمهم على جواز تعلق الطلب بكلّ من الطبائع والأفراد بعيد عن علوّ مقام المحققين ، إذ بعد وضوح عدم دخل لوازم الوجود في الملاكات الداعية إلى الأحكام لا وجه للنزاع في أنّ تلك اللوازم هل يتعلق بها الطلب أم لا؟ مع أن دائرة الطلب سعة وضيقا تتبع دائرة الغرض الداعي إلى الطلب ، فلا معنى لتعلقه بما ليس فيه الملاك ، لكونه لغوا لا يصدر من الحكيم ، فلا ينبغي تحرير محل النزاع على هذا النحو.

فلعل مرادهم بتعلق الأمر بالطبيعة أو الفرد هو : ابتناء هذا البحث على مسألة إمكان وجود الطبيعي في الخارج وامتناعه ، فالقائل بالامتناع يرى تعلق التكليف بالفرد ، فرارا عن محذور تعلق التكليف بغير المقدور. فالتعبير بالفرد لأجل التنبيه على أنّ الموجود الخارجي هو الفرد ، لا الطبيعة ، لامتناع وجودها في الخارج ، لا لأجل دخل لوازم الوجود والتشخص في متعلق التكليف ، كما لا يخفى.

والقائل بالإمكان يرى تعلق التكليف بالطبيعة ، حيث إنّها كلية في الذهن وشخصية في الخارج ، لأنّ الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، فالطبيعي متشخص بالوجود فيصح تعلق الطلب به.

وبالجملة : فلوازم الوجود المقوّمة للفرد خارجة عن حيّز التكليف ، من غير فرق في ذلك بين تعلق الطلب بالطبيعة ، وتعلقه بالفرد.

٥٢٥

أنّ متعلقه في النواهي هو محض الترك ، ومتعلقيهما (١) هو نفس الطبيعة المحدودة بحدود ، والمقيّدة بقيود تكون بها موافقة للغرض والمقصود ، من دون تعلّق غرض

______________________________________________________

أحدهما : أنّ مورد النزاع ليس متعلّق نفس الأوامر والنواهي ، إذ لا إشكال في كون متعلّقيهما نفس الطبيعة ، لدلالة الأمر والنهي على الوجود والعدم ، فمعنى «صلّ ، ولا تشرب الخمر» : أطلب منك وجود طبيعة الصلاة ، وأطلب منك ترك شرب الخمر. بل البحث في أنّ متعلّق الطلب الّذي هو جزء مدلول الأمر المركّب من طلب الوجود ، ومدلول النهي المركّب من طلب الترك هل هو الطبيعة ، أم الفرد؟

ثانيهما : أنّ المراد بالطبائع ليس هو الطبائع من حيث هي في قبالها من حيث الوجود ، لعدم كونها من حيث هي قابلة لتوجّه الطلب إليها ، بل المراد هي الطبائع من حيث الوجود ، بمعنى : لحاظ محض وجودها من دون نظر إلى شيء من لوازم الوجود وخصوصيّاته ، في قبال وجودها بتلك الخصوصيات ، فاعتبار أصل الوجود في متعلّق الطلب مسلّم.

إنّما الكلام في دخل تلك الخصوصيّات وعدمه في متعلّقه. فعلى القول بدخلها فيه يكون متعلّق الطلب الأفراد ، وعلى القول بعدمه يكون المتعلّق الطبائع.

(١) أي : الإيجاد والترك.

__________________

أمّا على الأول : فواضح ، لكون المطلوب نفس الطبيعة الموجودة في الخارج من غير نظر إلى لوازمها.

وأمّا على الثاني : فلأنّ المراد بالفرد هي ذات الماهية الموجودة بوجود فرد كالإنسانية الموجودة بوجود زيد ، في قبال الإنسانية الموجودة بوجود عمرو ، ولوازم الوجود ليست دخيلة في مطلوبيتها.

والحاصل : أنّ نزاع تعلق الأحكام بالطبائع أو الافراد على هذا الوجه معقول. وعلى الوجه المذكور الظاهر من عنوان المتن وغيره غير معقول ، كما مر.

٥٢٦

بإحدى الخصوصيّات اللازمة للوجودات ، بحيث لو كان الانفكاك عنها (١) بأسرها ممكنا لما كان ذلك ممّا يضرّ بالمقصود أصلا ، كما هو الحال في القضيّة الطبيعيّة في غير الأحكام (٢) ، بل في المحصورة (٣) على ما حقّق في غير المقام (٤).

وفي مراجعة الوجدان (٥) للإنسان غنيّ وكفاية عن إقامة البرهان على

______________________________________________________

(١) أي : الخصوصيّات اللازمة المقوّمة لفرديّة الفرد.

(٢) ك ـ الإنسان نوع ـ ، ونحوه من القضايا الطبيعيّة التي يكون الحكم فيها على نفس الطبيعة. فوجه المشابهة : عدم النّظر إلى الأفراد ، مع افتراقهما في أنّ الموضوع في الطبيعيّة هو الطبيعة الكلّيّة من حيث كونها كلّيّة ، بخلاف المقام ، فإنّ متعلّق الطلب فيه هو الطبيعة بما هي ، لا بما هي كلّيّة ، فلا يكون قولنا : «الصلاة واجبة» وزان قولنا : «الإنسان نوع» ، ولذا قال (قده) : «في غير الأحكام».

(٣) وهي الّتي تشتمل على السور ، مثل : «كل» ، كقوله تعالى : «كلّ من عليها فان» ، و «كلّما» ، كقوله عليه‌السلام : «كلّما مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو» ، والحكم فيها ثابت للأفراد ، فإنّ الفناء ووجوب المضيّ ثابتان للأفراد الخارجيّة من الموجودات في المثال الأوّل ، والصلوات والطهورات في المثال الثاني ، في قبال القضيّة الطبيعيّة التي حكم فيها على الطبيعة ، ك : «الإنسان كليّ» أو : «نوع» فإنّ معروض الكلّيّة والنوعيّة اللتين هما من المعقولات الثانية هو طبيعة الإنسان ، لا أفراده الخارجية ، لكون ظرف العروض والاتّصاف معا هو الذهن.

(٤) فإنّ المحقق في محله : كون الحكم في القضايا المحصورة أيضا ثابتا للطبيعة ، غاية الأمر : أنّ الفرق بين الطبيعيّة والمحصورة هو : أنّ الطبيعة ملحوظة بنفسها ومن حيث هي في الأولى ، ومن حيث كونها سارية في الأفراد في الثانية. فالموضوع في هاتين القضيّتين هي الطبيعة.

(٥) غرضه : إثبات تعلّق الطلب بالطبائع ـ لا الأفراد ـ بالوجدان ، وهو في غاية الوضوح ، فلا يحتاج إلى بيان.

٥٢٧

ذلك (١) ، حيث يرى إذا راجعه أنّه لا غرض له في مطلوباته إلّا نفس الطبائع ، ولا نظر له إلّا إليها من دون نظر إلى خصوصيّاتها الخارجيّة ، وعوارضها العينيّة (٢) وأنّ (٣) نفس وجودها السّعي (٤) بما هو وجودها تمام (٥) المطلوب وإن كان ذاك الوجود لا يكاد ينفك في الخارج عن الخصوصية (٦).

فانقدح بذلك (٧) : أنّ المراد بتعلّق الأوامر بالطبائع دون الأفراد : أنّها بوجودها السّعي (٨) بما هو وجودها قبالا لخصوص الوجود (٩) متعلّقة (١٠) للطلب ، لا أنّها (١١) بما هي هي كانت متعلّقة له كما ربما يتوهم ، فإنّها (١٢)

______________________________________________________

(١) أي : على كون المتعلّق نفس الطبيعة ، مع خروج لوازم الوجود بأسرها عن حيّز الطلب.

(٢) الّتي هي مقوّمة لفرديّة الفرد ، فإنّ العطشان يطلب الماء البارد من دون نظر إلى كونه في إناء خاصّ ، ولا من ماء نهر كذلك ، ولا غير ذلك من لوازم الوجود الّتي لا ينفكّ عنها وجود الطبيعة.

(٣) معطوف على ـ أنّه ـ.

(٤) وسعته إنّما هي باعتبار اتّحاده مع وجود كلّ فرد ، بخلاف وجود الفرد ، فإنّه لا سعة فيه ، لعدم اتّحاده مع فرد آخر.

(٥) خبر ـ وأنّ نفس ـ.

(٦) لتقوّم فرديّة الفرد بها ، فيمتنع انفكاك الفرد عمّا يقوّمه من الخصوصيّة.

(٧) أي : بمراجعة الوجدان المزبور الحاكم بكون المطلوب نفس وجود الطبيعة من دون لوازم الوجود المقوّمة لفرديّة الفرد.

(٨) وهو الوجود السّاري في جميع أفراد الطبيعة المعبّر عنه بالجامع الوجوديّ.

(٩) يعني : الخصوصيّة المقوّمة للفرد.

(١٠) خبر ـ أنّها ـ ، يعني : أنّ الطبائع بوجودها السّعي متعلّقة للطلب.

(١١) يعني : لا أنّ الطبائع باعتبار أنفسها ومن حيث هي هي متعلّقة للطلب.

(١٢) ردّ لتوهّم تعلّق الطلب بالطبائع من حيث هي.

٥٢٨

كذلك (١) ليست إلّا هي. نعم (٢) هي (٣) كذلك تكون متعلّقة للأمر ، فإنّه (٤) طلب الوجود ، فافهم (٥).

دفع وهم (٦) : لا يخفى أن كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلّقا للطلب إنما

______________________________________________________

وجه الرد : عدم قابلية نفس الطبائع لتعلّق الطلب بها ، إذ لا يترتّب عليها أثر ، ضرورة أنّ المصالح والمفاسد الداعية إلى تشريع الأحكام قائمة بوجودات الطبائع ، لا بأنفسها من حيث هي ، لأنّها من هذه الحيثيّة لا يترتّب عليها أثر أصلا ، فلا وجه لتعلّق حكم بها ، بل متعلّق الحكم ليس إلّا ما يقوم به الملاك ، وهو وجودات الطبيعة.

(١) أي : بما هي هي.

(٢) استدراك على عدم صحة تعلّق الطلب بالماهيّة من حيث هي هي ، وحاصله :

أنّ الطلب لا يصح أن يتعلّق بالطبيعة من حيث هي ، لكن يصح أن يتعلّق بها الأمر ، ضرورة أنّ الأمر هو طلب الإيجاد ، ولا إشكال في صحة تعلّق طلب الإيجاد بنفس الماهيّة المعرّاة عن الوجود. بخلاف الطلب ، فإنّ الإيجاد ليس داخلا في مفهومه كما هو داخل في مفهوم الأمر ، فلا يصح تعلّق الطلب بنفس الماهيّة.

(٣) أي : الماهيّة من حيث هي متعلّقة للأمر ليطلب به وجودها في الخارج.

(٤) يعني : فإنّ الأمر طلب الوجود ، فيصح تعلّقه بالماهيّة من حيث هي ، وقوله : «فإنّه» بمنزلة التعليل للاستدراك المذكور بقوله : «نعم».

(٥) لعلّه إشارة إلى : عدم صحّة التفكيك بين الأمر والطلب بما ذكر ، إذ لا معنى لمطلوبيّة الطبيعة إلّا كون إيجادها أو إعدامها مطلوبا ، فالإيجاد والإعدام داخلان في مفهوم كلّ من الأمر والطلب.

(٦) ملخّص تقريب الوهم : أنّ مقتضى تعلّق الطلب بالوجود عروضه على الوجود ، وحينئذ ، فإن كان عروض الطلب قبل الوجود لزم وجود العارض بدون المعروض. وإن كان عروضه بعد الوجود لزم تحصيل الحاصل ، وكلاهما محال.

فإذا قال المولى لعبده : «صلّ» لا يعقل أن يريد وجود الصلاة بحيث يكون بمنزلة

٥٢٩

يكون (١) بمعنى : أنّ الطالب يريد صدور الوجود من العبد ، وجعله بسيطا الّذي هو مفاد كان التّامة ، وإفاضته (٢). لا أنّه يريد ما هو صادر وثابت (*) في الخارج كي يلزم طلب الحاصل كما توهّم (٣).

______________________________________________________

قوله : «أريد منك وجود الصلاة الموجودة» أو «وجود الصلاة المعدومة» ، لكون الأوّل تحصيلا للحاصل ، والثاني وجود العارض بدون المعروض.

(١) هذا تمهيد لدفع التوهم المزبور ، وحاصله : أنّ معنى تعلّق الطلب بالطبيعة هو إيجادها ، فالمولى يتصوّر الطبيعة المحصّلة لغرضه ، ثمّ يطلب إيجادها على الوجه الوافي بغرضه.

وبعبارة أخرى : يتعلّق طلبه بنقض عدم الطبيعة بالوجود ، وإيجادها بمفاد كان التامّة ، لا أنّ الطلب يتعلّق بالطبيعة الموجودة حتى يلزم طلب الحاصل المحال ، فليس الطلب متعلّقا بالطبيعة بما هي هي ، ولا بالطبيعة الموجودة ، بل يتعلّق بإيجادها الّذي هو فعل المأمور ، فلا يلزم محذور طلب الحاصل.

(٢) هذا و ـ جعله ـ معطوفان على ـ صدور ـ.

(٣) المتوهّم صاحب الفصول (قده).

__________________

(*) حتى يكون الوجود نعتا للماهية ، لا محمولا لها كي يلزم طلب الحاصل.

لكن فيه : أنّ الصدور ، والوجود ، والفيض ، والإصدار ، والإيجاد ، والإفاضة متحددة ذاتا متعددة اعتبارا ، فمن حيث قيامها بالقابل ـ أعني الماهية ـ تسمى وجودا وصدورا وفيضا ، ومن حيث قيامها بالجاعل قيام الفعل بالفاعل تسمى إيجابا وجعلا وإفاضة. فكما تصح نسبة الشوق إلى الجعل والإيجاد ، فكذا إلى المجعول والوجود ، فلا يندفع شيء من جهتي الإشكال ـ وهما : طلب الحاصل ، ووجود العرض بلا معروض ـ بما أفاده في المتن.

فالّذي يحسم مادّة الإشكال هو : ما أفاده شيخنا المحقق العراقي (قده) : من عدم كون موضوع الطلب الوجود الحقيقي الخارجي حتى يلزم تقدّم العرض على المعروض ، وطلب الحاصل. بل موضوعه هو الوجود الذهني اللحاظي الّذي لا يلتفت

٥٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إلى ذهنيّته ، فيرى خارجيا.

وإن شئت ، فقل : إنّ المقوّم للطلب حال تعلقه هو الوجود الحقيقي بوجوده الفرضي ، لا التحقيقي ، فليس قيام الطلب به كقيام البياض والسواد بالجسم كي يتوقف على وجود متعلقه حال تعلقه به.

وطلب الحاصل إنّما يلزم لو قيل بحدوث الشوق أو بقائه بعد وجود متعلقه خارجا.

كما أنه لا يلزم وجود العرض ـ وهو الطلب ـ بلا معروض ، إذ المفروض قيام الطلب بالموجود الذهني اللحاظي الّذي هو عنوان الوجود الحقيقي.

فاندفع الإشكال من كلتا الناحيتين.

ثم إنّه قد ظهر مما تقدّم : ما يترتب على هذا البحث من الثمرات.

الأولى : كونه موجبا لاندراج مسألة اجتماع الأمر والنهي في كبرى التزاحم ـ بناء على تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع ـ ، وفي كبرى التعارض ـ بناء على تعلقهما بالأفراد ـ كما لا يخفى.

الثانية : صحة قصد التقرّب بلوازم الوجود ، لوقوعها في حيّز الأمر ـ بناء على تعلق الأحكام بالأفراد ـ ، وعدمها ، لعدم وقوعها في حيّزه ـ بناء على تعلقها بالطبائع ـ ، لكونه تشريعا محرّما حينئذ.

الثالثة : لزوم قصد القربة بلوازم الوجود إذا كان الأمر عباديا ، وعدم سقوطه بدون قصد القربة ـ بناء على تعلق الأوامر بالأفراد ، وعلى كون قصد القربة عبارة عن قصد الأمر كما عن الجواهر ـ ، وسقوط الأمر بدون قصد القربة بلوازم الوجود بناء على تعلقها بالطبائع.

الرابعة : جريان الأصل في بعض لوازم الوجود إذا شكّ في وجوبه ، لكونه شكّا في التكليف ـ بناء على تعلق الأحكام بالأفراد ـ ، فإنّ أصل البراءة يجري فيه حينئذ ، ولا يجري فيه ـ بناء على تعلقها بالطبائع ـ ، لكون الشك حينئذ في المحصّل الّذي تجري

٥٣١

ولا جعل (١) الطلب متعلقا بنفس الطبيعة ، وقد (٢) جعل وجودها غاية لطلبها.

وقد عرفت (٣) أنّ الطبيعة بما هي هي ليست إلّا هي لا يعقل أن يتعلق

______________________________________________________

(١) معطوف على ـ ما ـ في قوله : «ما هو صادر» ، يعني : ولا يريد جعل الطلب متعلّقا بنفس الطبيعة لأجل أن توجد حتى يكون وجودها غاية لطلبها ، وقد ارتكب المتوهّم هذا التكلّف ، لدفع محذور طلب الحاصل.

(٢) الواو للحاليّة ، يعني : والحال أنّ الطالب قد جعل الوجود غاية لطلبها.

(٣) غرضه من ذلك : ما ذكره قبيل هذا بقوله : «لا أنّها بما هي هي كانت متعلّقة له» ، وقد أشار بقوله : «وقد عرفت» إلى : دفع توهّم جعل الطلب متعلّقا بالطبيعة على أن يكون وجودها غاية لطلبها.

ومحصل الدفع : أنّ الطبيعة من حيث هي لا تصلح لأن يتعلّق بها الطلب ، لأنّ الغرض الداعي إلى الطلب قائم بوجود الطبيعة ، لا بنفسها ، فلا بدّ من تعلّق الطلب بوجودها ، لا جعل الوجود علّة غائيّة لطلبها ، بل يطلب المولى وجود الطبيعة لحصول الملاك في الخارج ، فالطلب يتعلّق بوجود الطبيعة ، وحصول الملاك في الخارج غاية لهذا الطلب ، فيعود ـ على هذا ـ محذور طلب الحاصل.

__________________

فيه قاعدة الاشتغال ، حيث إنّ الفرد مقدّمة لوجود الطبيعة المأمور بها ، وليس بنفسه مأمورا به.

الخامسة : حصول الفسق بترك واجب ـ بناء على تعلّق الأوامر بالأفراد ـ وتحقق الإصرار بترك واجبات ضمنيّة ، وعدم اختصاصه بترك واجبات استقلاليّة ، حيث إنّه يصدق الإصرار حينئذ على ترك واجب ، لكون المفروض وجوب لوازم الوجود ، فتركها ترك لواجبات ضمنيّة.

السادسة : حصول البرء بإتيان واجب ـ كالصلاة ـ فيما إذا نذر الإتيان بواجبات مطلقا وإن كانت ضمنيّة ، فإنّه يحصل الوفاء بالنذر بالإتيان بواجب ، ضرورة حصول واجبات ـ بناء على تعلق الأوامر بالأفراد ـ. بخلاف البناء على تعلّقها بالطبائع ، فإنّ الواجب واحد ، وهو نفس الطبيعة بوجودها السّعي ، فلا يحصل بها البرء.

٥٣٢

بها الطلب لتوجد (١) ، أو تترك (٢) ، وأنّه (٣) لا بدّ في تعلّق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم (٤) معها ، فيلاحظ وجودها (٥) ، فيطلبه ، ويبعث إليه (٦) كي يكون (٧) ويصدر منه.

هذا (٨) بناء على أصالة الوجود. وأمّا بناء على أصالة الماهية ، فمتعلّق

______________________________________________________

(١) يعني : لتوجد الطبيعة في الأوامر.

(٢) أي : تترك الطبيعة في النواهي.

(٣) معطوف على ـ أنّ الطبيعة ـ.

(٤) أي : لحاظهما بنحو يتعلّق بهما الطلب ، لا لحاظهما غاية لطلب الطبيعة.

(٥) هذا الضمير ، وضمير ـ معها ـ راجعان إلى الطبيعة.

(٦) هذا الضمير ، وضمير ـ فيطلبه ـ راجعان إلى وجود الطبيعة.

(٧) يعني : كي يوجد وجودا محموليّا.

(٨) المشار إليه ما ذكره : من لحاظ الوجود في الطبيعة المتعلّقة للأمر.

توضيحه : أنّ المراد بأصالة الوجود هو : أن يكون لمفهوم الوجود ما يحاذيه في الخارج ، بحيث يندرج في وصف الشيء باعتبار نفسه ، لا متعلّقه.

وعلى هذا : يكون قولنا : «الوجود موجود» من وصف الشيء باعتبار نفسه ، لثبوت الموجوديّة للوجود بنفس ذاته.

وإن شئت عبّر عن أصالة الوجود بأنّ الأصل في التحقّق هو الوجود ، بمعنى : أنّ المجعول بالجعل البسيط أوّلا وبالذات هو الوجود ، والماهيّة مجعولة بتبعه ، فهي أمر اعتباري بالنسبة إلى الوجود. وعليه : فيكون توصيف الماهيّة بالوجود في قولنا : «الماهيّة موجودة» من الوصف باعتبار المتعلّق ، لأنّ موجوديّتها لا تكون بنفسها ، بل بالوجود ، كاتّصاف جالس السفينة بالحركة مع قيامها بالسفينة.

والمراد بأصالة الماهيّة : أنّ الأصل في التحقّق هو الماهيّة ، بمعنى : أنّها المجعولة بالجعل البسيط أوّلا وبالذات ، والوجود مجعول بتبع جعلها ، ومن عوارضها ذهنا ، فيكون قولنا : «الماهيّة موجودة» من الوصف باعتبار نفس الموصوف ، لا المتعلّق.

٥٣٣

الطلب ليس هو الطبيعة بما هي (١) أيضا (٢) ، بل بما هي بنفسها في الخارج ، فيطلبها كذلك (٣) لكي يجعلها (٤) بنفسها من الخارجيّات ، والأعيان الثابتات.

لا (٥) بوجودها ، كما كان الأمر بالعكس (٦) على أصالة الوجود.

وكيف كان (٧) فيلحظ الآمر ما هو المقصود من الماهيّة الخارجيّة (٨) ،

______________________________________________________

إذا عرفت هذا ، فنقول : بناء على أصالة الوجود ، واعتباريّة الماهيّة ـ كما هو المنسوب إلى المحقّقين من المشّائين ـ يكون الصادر حقيقة هو الوجود ، فيصح تعلّق الطلب به من دون إشكال فيه ، إذ المطلوب هو الطبيعة باعتبار وجودها.

وبناء على أصالة الماهيّة ـ وأنّها هي الصادرة حقيقة ، وأنّ الوجود أمر اعتباري ، كما هو مذهب شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي ، وغيره ـ يكون المطلوب خارجيّة الطبيعة المتحققة بنفس جعلها التكويني.

(١) كما توهّم ، فقوله : «فمتعلق الطلب ... إلخ» إشارة إلى دفع هذا التوهم.

(٢) يعني : كما لا تكون الطبيعة بما هي مطلوبة ـ بناء على أصالة الوجود ـ.

(٣) أي : بما هي بنفسها في الخارج.

(٤) المراد به : الجعل البسيط ، لاستحالة الجعل التأليفي بين الماهيّة وتحصّلها.

(٥) هذا في قبال قوله : «بنفسها» ، أي : ليجعل الماهيّة بنفسها من الخارجيات كما هو مقتضى أصالة الماهيّة ، لا بوجودها كما هو قضيّة أصالة الوجود.

(٦) حيث إنّه على أصالة الوجود يكون إسناد الوجود إلى الماهيّة إسنادا إلى غير ما هو له. وبناء على أصالة الماهيّة يكون إسناد الخارجيّة إليها إسنادا إلى ما هو له ، لكونها بنفسها من الخارجيّات ، لا بالوجود الخارج عنها ، فيكون الموضوع حقيقة للطلب هو الماهيّة الذهنيّة الحاكية عن الخارجيّة.

(٧) يعني : سواء أكانت الأحكام متعلّقة بالأفراد أم الطبائع ، لا يكون متعلّق الطلب الطبائع من حيث هي ، بل متعلّقه ـ على القول بأصالة الوجود ـ هو وجود الطبيعة ، وعلى القول بأصالة الماهيّة هو الماهيّة الخارجيّة.

فعلى التقديرين لا يكون متعلّق الطلب الماهيّة من حيث هي.

(٨) بناء على أصالة الماهيّة.

٥٣٤

أو الوجود (١) ، فيطلبه ، ويبعث نحوه (٢) ، ليصدر منه ، ويكون ما لم يكن ، فافهم (٣) وتأمّل جيّدا.

فصل

إذا نسخ الوجوب ، فلا دلالة لدليل الناسخ ولا المنسوخ على بقاء الجواز بالمعنى الأعم ، ولا بالمعنى الأخصّ (٤) ، كما لا دلالة لهما (٥) على ثبوت غيره من

______________________________________________________

(١) بناء على أصالة الوجود.

(٢) هذا الضمير وضمير ـ فيطلبه ـ راجعان إلى ـ ما ـ في قوله : «ما هو المقصود».

(٣) الظاهر : أنّ الأمر بالفهم ـ أينما وقع ـ إذا كان ملحوقا بالأمر بالتأمّل مطلقا أو مقيّدا بالجودة ، فإنّما هو إشارة إلى دقّة المطلب ، لا ضعفه ، وليس تمريضيّا.

نسخ الوجوب

(٤) أمّا عدم دلالة دليل الناسخ على بقاء الجواز بالمعنى الأعم ـ الّذي هو جنس لما عدا الحرمة من الأحكام الأربعة ـ ولا على بقائه بالمعنى الأخص ـ وهو الإباحة الّتي هي من الأحكام الخمسة التكليفيّة ـ فواضح ، إذ لا يدل على أزيد من نفى الوجوب ، فلا منشأ لدلالته على غير ذلك.

وأمّا عدم دلالة دليل المنسوخ ، فأمّا بالنسبة إلى الجواز بالمعنى الأخص فظاهر ، إذ لا منشأ له بعد فرض عدم دلالته على بقاء الجواز بالمعنى الأعم.

وأمّا بالنسبة إلى بقاء الجواز الجنسي ، فلأنّه وإن كان دالا عليه قبل النسخ ، لكنّه لا يدل عليه بعده ، ضرورة أنّه كان قبل النسخ متحصّلا بالوجوب ، والمفروض ارتفاعه ، فهو على تقدير ثبوته متحصّل بغير الوجوب ، ولا يدل عليه دليل المنسوخ.

(٥) أي : لدليلي الناسخ والمنسوخ ، ووجه عدم دلالتهما على حكم آخر من الأحكام الباقية هو : أنّ كلّ واحد من تلك الأحكام للمورد ممكن الثبوت ، وقد عرفت : عدم دلالة شيء من دليلي الناسخ والمنسوخ بإحدى الدلالات على

٥٣٥

الأحكام ، ضرورة (١) أنّ ثبوت كلّ واحد من الأحكام الأربعة الباقية بعد ارتفاع الوجوب واقعا (٢) ممكن ، ولا دلالة لواحد من دليلي الناسخ أو المنسوخ بإحدى الدلالات على تعيين واحد منها (٣) كما هو أوضح من أن يخفى (٤) ، فلا بد للتعيين من دليل آخر (٥). ولا مجال (٦) لاستصحاب الجواز إلّا بناء على جريانه في القسم

______________________________________________________

خصوص واحد من تلك الأحكام ، ومن المعلوم : عدم إمكان الحكم بلا دليل ، فلا بدّ لتعيين حكم للمورد من دليل آخر غير دليلي الناسخ والمنسوخ.

(١) هذا تقريب عدم دلالة دليلي الناسخ والمنسوخ على أحد الأحكام الباقية بعد ارتفاع الوجوب ، وقد عرفت آنفا توضيحه.

(٢) قيد لقوله : «ثبوت كل واحد ... إلخ».

(٣) أي : من الأحكام الأربعة الباقية.

(٤) لما مرّ : من وجه عدم تعرّض شيء من دليلي الناسخ والمنسوخ لتعيين واحد من تلك الأحكام الباقية.

(٥) غير دليلي الناسخ والمنسوخ.

فالمتحصل : عدم دلالة دليل اجتهادي علي تعيين أحد الأحكام الأربعة الباقية ، فما قيل : من رجوع الحكم السابق بالأمر في غاية الغموض ، لعدم دليل عليه.

(٦) هذا شروع في التمسّك بالأصل بعد فقد الدليل الاجتهادي ، وحاصله : أنّه يمكن إثبات الجواز بعد نسخ الوجوب بالاستصحاب ، بأن يقال : إنّ الجواز الّذي كان قبل النسخ ثابتا ، وصار مشكوك البقاء بعد النسخ يستصحب ، فيحكم ببقاء الجواز بعد ارتفاع الوجوب. فدليل كلّ من الناسخ والمنسوخ وإن كان قاصرا عن إثبات الجواز بعد النسخ ، لكن يمكن إبقاؤه بعده بالاستصحاب ، هذا.

ولكن أورد عليه المصنف (قده) بما حاصله : أنّ هذا الاستصحاب لا يجري ، لكونه من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، حيث إنّ الجواز لمّا كان تحصّله بما عدا الحرمة من الأحكام الأربعة الباقية ، فإذا علم بارتفاع محصّله

٥٣٦

الثالث (*) من أقسام استصحاب الكلي ، وهو : ما (١) إذا شك في حدوث فرد كليّ مقارنا لارتفاع فرده الآخر ، وقد حقّقنا في محلّه (٢) : أنّه لا يجري الاستصحاب فيه ما (٣)

______________________________________________________

ـ كالوجوب ـ علم بارتفاع الجواز أيضا ، وشك في وجود جواز آخر مقارنا لارتفاعه ، وهذا هو القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي الّذي اختار المصنّف عدم جريانه فيه ، إذ مع تعدّد الوجود ينتفي الشك في البقاء الّذي هو أحد ركني الاستصحاب.

قال السلطان (ره) في منع جريان الاستصحاب ـ على ما حكي عنه ـ ما لفظه : «الجنس لا يتحقق إلّا بتحقق الفصل ، فإذا رفع الفصل المعلوم تحقّق الجنس في ضمنه ، يرفع ذلك التحقق المعلوم قطعا ، وما لم يتحقق وجود فصل آخر لم يحصل العلم بوجود الجنس ، ولو حصل العلم بوجود فصل آخر لم يكن هذا استصحابا لذلك الوجود ، بل يكون علما جديدا بالوجود اللاحق. وحينئذ نقول فيما نحن فيه : إذا رفع بالنسخ المنع من الترك الّذي بمنزلة الفصل فيما نحن فيه ، رفع تحقّق الجواز المعلوم تحقّقه ، فيبطل استصحابه قطعا ما لم يعلم تجدد فصل آخر».

والمتحصل : أنّ البقاء معتبر في الاستصحاب ، ووجود الجنس في فصل آخر ليس وجودا بقائيّا للجنس الموجود في فصل آخر ، فلا يصدق البقاء المقوّم للاستصحاب.

(١) هذا تفسير القسم الثالث.

(٢) وهو : التنبيه الثالث من تنبيهات الاستصحاب.

(٣) غرضه : صحّة جريان الاستصحاب في بعض صور القسم الثالث ، والمقصود من ذلك البعض : هو ما إذا كان المشكوك ـ على تقدير بقائه ـ من مراتب المتيقن حتى يصدق عليه الشك في بقائه عرفا.

__________________

(*) حقّ العبارة أن تكون هكذا : «في بعض صور القسم الثالث من استصحاب الكلي» ، لوضوح عدم انحصار القسم الثالث فيما أفاده المصنّف من الشك في حدوث فرد مقارنا لارتفاع فرد آخر ، كما سيأتي في الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

٥٣٧

لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القويّة (١) أو الضعيفة (٢) المتّصلة بالمرتفع بحيث عدّ عرفا (*) [لو كان] أنّه باق ، لا أنّه أمر حادث غيره.

ومن المعلوم (٣) أنّ كلّ

______________________________________________________

(١) كما إذا كان لشيء سواد ضعيف ، ثم طرأ عليه ما أوجب الشك في زوال سواده رأسا ، أو اشتداده ، فلا بأس حينئذ باستصحاب السواد في الجملة.

(٢) كما إذا كان لشيء سواد شديد ، فطرأ عليه ما أوجب الشك في زواله رأسا أو بقاء مرتبة ضعيفة منه ، فالاستصحاب يجري فيه ، لصدق الشك في البقاء حينئذ عرفا.

(٣) غرضه : أنّ المقام ليس من الصورة الّتي يجري فيها استصحاب الكلّي من صور القسم الثالث ، لمباينة الأحكام عقلا وعرفا ، حيث إنّ وجود طبيعي الجواز في ضمن حكم مغاير لوجوده في ضمن حكم آخر ، فلا يكون وجوده في ضمن الوجوب المنسوخ من مراتب الجواز الموجود في ضمن حكم آخر حتى يصحّ استصحابه.

نعم الاستحباب يكون من مراتب الوجوب عقلا ، لكن لا يجري فيه الاستصحاب أيضا ، لعدم صدق الشك في البقاء عرفا ، لتضادّ الوجوب والاستحباب بنظره الّذي هو المدار في جريان الاستصحاب.

فالمتحصل : عدم جريان الاستصحاب لإثبات جواز الفعل المنسوخ وجوبه (**)

__________________

(*) بل حقيقة أيضا ، لعدم مباينة الضعيف للقوي وجودا ، حيث إنّ الضعيف من مراتبه. نعم يباينه حدّا ، لكنّه لا يقدح في صدق الشك في البقاء حقيقة ، فلا ينبغي عدّ هذا من القسم الثالث ، كما صنعه كثير من الأكابر.

(**) وربما يقال : ببقاء الجواز ، لاستصحاب الرضا بالفعل الثابت حال وجوبه ، ولا يكون الرضا المستصحب مغايرا وجودا للرضا الثابت حال الوجوب ، وإذا ثبت الرضا ـ ولو بالاستصحاب ـ كان جائزا عقلا.

لكنّه مشكل ، لتبدّل الحال فيه ، إذ الرضا كان مقيّدا بعدم الترخيص في الترك ، وانتفاء القيد يوجب انتفاء المقيّد ، كما أنّ ارتفاع الفصل يستلزم ارتفاع الجنس.

٥٣٨

واحد من الأحكام مع الآخر عقلا وعرفا من المباينات والمتضادات غير الوجوب والاستحباب ، فإنّه (١) وإن كان بينهما التفاوت بالمرتبة ، والشدة والضعف عقلا ، إلّا أنّهما متباينان عرفا ، فلا مجال للاستصحاب إذا شكّ في تبدّل أحدهما بالآخر ، فإنّ حكم العرف ونظره يكون متّبعا في هذا الباب (٢).

فصل

إذا تعلّق الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء ، ففي وجوب كلّ واحد على التخيير ، بمعنى (٣) : عدم جواز تركه إلّا إلى بدل ، أو وجوب الواحد لا بعينه (٤) ،

______________________________________________________

(١) الضمير للشأن ، وغرضه : أنّ التضاد عقلا وعرفا مختص بغير الوجوب والاستحباب. وأمّا هما ، فتضادّهما يكون بنظر العرف فقط ، وأمّا بنظر العقل فلا تضاد بينهما ، وإنّما هما متفاوتان بالمرتبة ، وأنّ الوجوب هو المرتبة الشديدة من الطلب ، والاستحباب مرتبة ضعيفة منه. لكن لمّا كانا بنظر العرف متضادّين ، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه ، ضرورة أنّ صدق الشك في البقاء منوط بنظر العرف.

(٢) أي : الاستصحاب.

الوجوب التخييري

(٣) هذا تفسير للوجوب التخييري ، وحاصله : أنّ عدم جواز الترك مطلقا ولو مع البدل هو الوجوب التعييني كالصلوات اليوميّة ، فإنّه لا يجوز تركها مطلقا ولو مع الإتيان بغيرها. وعدم جواز الترك إلّا إلى بدل هو الوجوب التخييري كخصال الكفّارة ، فإنّ عدم جواز ترك كل واحد من الأبدال مقيّد بعدم الإتيان بالآخر ، وإلّا فيجوز الترك ، وهذا سنخ من الوجوب.

(٤) الفرق بين هذا وسابقه : أنّ الواجب على الأوّل : كلّ واحد من الأبدال

٥٣٩

أو وجوب كلّ منهما (*) مع السقوط (١) بفعل أحدهما (٢) ، أو وجوب المعيّن عند الله (٣) ، أقوال (**).

______________________________________________________

تخييرا. وعلى الثاني : أحدها لا بعينه ، فالواجب واحد لا متعدّد.

(١) فالواجب على هذا القول كلّ واحد من الشيئين أو الأشياء تعيينا ، غاية الأمر : أنّ امتثال واحد منهما أو منها مسقط لغيره من الأبدال ، كما قد يسقط الواجب بغيره ، مثل سقوط قراءة المأموم بقراءة الإمام على أحد الاحتمالين.

(٢) أي : مع سقوط الباقي.

(٣) المستكشف باختيار المكلّف أحدهما أو أحدها.

__________________

(*) الأولى : إضافة «منها» إلى قوله : «منهما» ليرجع إلى الأشياء.

(**) مصب هذه الأقوال مرحلة الثبوت ، إذ لا إشكال في الوجوب التخييري في مقام الإثبات ، ضرورة وقوعه في الشرعيّات والعرفيّات ، فالإشكال إنّما هو في تصوره.

وملخص الإشكال : أنّ الإرادة الّتي هي من الصفات النفسانيّة لا بد وأن تتعلّق بأمر معيّن ، ولا يمكن أن تتعلّق بأمر مردّد بين أمرين.

وقد تفصّي عنه بوجوه :

الأول : ما أفاده شيخ مشايخنا المحق النائيني قدس سرّه : «من أنّه لا مانع من تعلّق الإرادة التشريعيّة بالمردّد بين أمرين ، أو أمور ، نظير تطليق إحدى الزوجات مع عدم إرادة واحدة معيّنة منهن ، فإنّ الطلاق صحيح ، وتعيّن المطلقة بالقرعة.

والسّر في ذلك : أنّ التشريع من الاعتباريات ، فأمره بيد معتبره ، فقد يعتبره بين فعل مبهم وفاعل معيّن كالواجب التخييري ، وقد يعتبره بين فاعل مبهم وفعل معين كالواجب الكفائي ، وكاعتبار الملكيّة لمالك مبهم كملكيّة الزكاة للفقراء ، والخمس للسّادة.

والحاصل : أنّه لا فرق في صحّة تعلّق الحكم الشرعي بالمبهم بين التكليفي ،

٥٤٠