منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٥٩٢

وقد (١) اعتبر في صحّتها إتيانها بقصد القربة.

وأما الثاني (٢) ، فالتحقيق (*) أن يقال : إنّ المقدّمة فيها بنفسها

______________________________________________________

والغيرية متضادّتان.

(١) يعني : والحال أنّه قد اعتبر في صحة المقدّمات العبادية إتيانها بنيّة القربة ، وضميرا ـ صحتها وإتيانها ـ راجعان إلى الطهارات.

(٢) وهو الدفع ، وحاصله : أنّ الإشكال الأوّل على ترتّب القرب والمثوبة على الأمر الغيري يندفع ب : أنّهما لا يترتّبان عليه ، بل على الأمر النّفسي الاستحبابي المتعلّق بالطهارات الثلاث ، حيث إنّها من المستحبّات النفسيّة العباديّة ، فالمقدّمة وهي الطهارة عبادة ، والثواب مترتّب على أمرها النّفسي الاستحبابي العبادي ، فلا مورد للإشكال على الطهارات بأنّه كيف يترتّب عليها القرب والثواب مع كون أوامرها غيريّة؟

__________________

(*) هذا الدفع مع الإشكال بكلتا جهتيه ممّا ذكر في التقريرات ، والبدائع ، وغيرهما. ثم إنّ هذا الجواب لا يفي بدفع الإشكال عن جميع الطهارات ، لما قيل :

من عدم ثبوت الاستحباب النفسيّ في التيمّم وإن أمكن استفادته من بعض الروايات ، إلّا أنّه ممّا لم يعتمد عليه أحد ظاهرا ، كما في التقريرات. بل استشكل بعضهم في استحباب الوضوء نفسيّا أيضا ، بمعنى : كون نفس الغسلتين والمسحتين ـ مع الغض عن قصد إحدى غاياته حتى الكون على الطهارة ـ من المستحبات النفسيّة ، فراجع.

لكن الحق كون التيمّم من العبادات ، ولا أظن صدور ما في التقريرات من : «أنّه مما لم يعتمد عليه أحد ظاهرا» عن الشيخ (قده) ، كيف؟ وقد قال في الجواهر في مبحث اعتبار النية في التيمم ما لفظه : «فالواجب في التيمم النيّة ، كغيره من العبادات إجماعا محصلا ومنقولا مستفيضا حدّ الاستفاضة إن لم يكن متواترا ، منّا ، ومن جميع علماء الإسلام إلّا من شذّ».

٢٦١

مستحبة وعبادة ، وغاياتها (١) إنّما تكون متوقفة على إحدى هذه العبادات ،

______________________________________________________

(١) أي : الطهارات ، وغرضه : دفع الجهة الثانية من الإشكال ، وهي : أنّ أمرها الغيريّ توصّليّ ، ولا يصحّ التقرّب به ، مع وضوح كون الطهارات من العبادات ، وهي تحتاج إلى ما يصحّح عباديّتها ، وهو الأمر النفسيّ المصحّح لأن يتقرّب بها ، وهو مفقود في الطهارات ، فأين الأمر العبادي المصحّح لعباديّتها؟

وحاصل الدفع : أنّ غايات الطهارات الثلاث كالصلاة ، والطواف ، وغيرهما لا تترتّب على تلك الطهارات إلّا أن يؤتى بها على وجه العبادة ، فلها الأمر النفسيّ أيضا ، فهي وإن كانت مقدّمات لغاياتها ، إلّا أنّها في الحقيقة عبادات ، بمعنى : كون أمرها النّفسي العبادي موضوعا للأمر الغيري المقدّمي ، فموضوع الأمر الغيري عبادة ، وليس هو ذوات الأفعال مطلقا حتى يستشكل في عباديّتها بعدم أمر عبادي مصحّح لعباديّتها.

__________________

ويدل عليه : ـ مضافا إلى ذلك ـ ما دلّ من الروايات على تنزيل الطهارة الترابيّة منزلة المائيّة ، وأنّ التيمم مصداق للطهور ، وفرد له كالوضوء ، والغسل ، كقوله عليه‌السلام في رواية (١) الحلبي تعليلا للنهي عن دخول الركيّة : «لأنّ ربّ الماء هو ربّ الأرض فليتيمّم» ، وقوله عليه‌السلام في رواية (٢) ابن أبي يعفور ، وعنبسة بن مصعب : «فتيمّم بالصعيد ، فإنّ ربّ الماء هو ربّ الصعيد» ، ونحو هذا التعبير منتشر في النصوص (٣). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ما رواه الصدوق رحمه‌الله : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» (٤)

فيندفع بذلك ما أورده المحقق النائيني (قده) على المتن من : «أنّ هذا

__________________

(١) الوسائل ، كتاب الطهارة ، الباب ٣ من أبواب التيمم ، الحديث ١.

(٢) الوسائل ، كتاب الطهارة ، الباب ٣ من أبواب التيمم ، الحديث ٢.

(٣) المصدر المتقدم ، الحديث ٤ وغيره.

(٤) الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب ٧ من أبواب التيمم ، الحديث ٢. وهذه الجملة بعينها مذكورة في الحديث ٣ من نفس الباب).

٢٦٢

فلا بدّ أن يؤتى بها عبادة ، وإلّا (١) فلم يؤت بما هو مقدّمة لها ، فقصد (٢) القربة

______________________________________________________

(١) أي : وإن لم يؤت بالطهارات على وجه العبادة ، فلم يؤت بما هو مقدّمة.

(٢) يعني : بعد أن صارت الطهارات في أنفسها عبادات ، فيندفع إشكال قصد القربة ، لأنّ المصحّح لعباديّتها حينئذ هو الأمر النفسيّ العبادي المتعلّق بالطهارات قبل تعلّق الأمر الغيري بها. ثم إنّ ضمير ـ لها ـ راجع إلى الغايات ، وضمائر ـ فيها وكونها ونفسها ـ راجعة إلى الطهارات.

وبالجملة : فاندفع الإشكال بكلتا جهتيه ، وهما : ترتّب القرب والثواب على الأمر الغيري ، وعدم صحّة التقرّب بالأمر الغيري.

__________________

الجواب لا يتم في التيمم ، لعدم ما يدلّ على كونه مأمورا به بالأمر النفسيّ».

كما يندفع أيضا إشكاله الثاني على المتن من : «تضادّ الأمر النفسيّ الاستحبابي مع الأمر الغيري ، إذ لا بد من اندكاك الأمر النّفسي في الغيري ، فلا يبقى أمر نفسيّ حتى يمكن تصحيح العباديّة به» ، وهذا الإشكال يظهر من تقريرات شيخنا الأعظم.

ووجه اندفاعه : أنّ الزائل بعد عروض الأمر الغيري الإيجابي ليس نفس المحبوبيّة ، والطلب ، بل الحدّ الّذي هو أمر عدميّ ، فنفس الطلب باق حتى بعد عروض الوجوب الغيري.

وبعبارة أخرى : لحوق المرتبة الشديدة ينافي المرتبة الضعيفة حدّا ، لا ذاتا ، وهذا المقدار من الطلب النفسيّ كاف في نشوء قصد القربة عنه ، هذا.

وأما إشكاله الثالث ، وهو : «أنّ تصحيح الطهارات بالأمر النفسيّ منوط بالالتفات إليه حين الامتثال ، لتكون عبادة من جهة ، ولا ريب في أنّ غالب المكلّفين لا يلتفتون إلى هذه الجهة ، بل يأتون بعنوان المقدّمية للصلاة ، فلا بد حينئذ من الالتزام ببطلان وضوء غالب المكلّفين ، مع أنّ أحدا لا يلتزم بذلك» ، فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

٢٦٣

فيها إنّما هو لأجل كونها في نفسها أمورا عباديّة ، ومستحبات نفسيّة ، لا لكونها مطلوبات غيرية.

والاكتفاء (١) بقصد أمرها الغيري فإنّما (٢) (*) هو لأجل أنّه يدعو إلى ما هو كذلك (٣)

______________________________________________________

(١) إشارة إلى إشكال تعرّض له في التقريرات ، وحاصله : أنّه بناء على كون الطهارات مطلوبات نفسيّة عباديّة ، فلا بد في الإتيان بها عبادة من قصد أمرها النفسيّ ولو في ضمن الطلب الوجوبيّ الغيري ، وهذا خلاف طريقة الفقهاء ، لبنائهم على الاكتفاء بإتيان الطهارات بداعي أمرها الغيري ، وعدم اعتبار قصد أمرها النفسيّ ، وهذا كاشف عن كون عباديّتها بالأمر الغيري ، فيعود المحذور ، وهو : أنّه كيف يصح التقرّب بالأمر الغيري التوصّلي وتصحيح العباديّة به؟.

(٢) هذا دفع الإشكال المذكور ، وحاصله : أنّ الاكتفاء بالأمر الغيري إنّما هو لأجل أنّه لا يدعو إلّا إلى ما هو مقدّمة واقعا ، والمفروض أنّ المقدّمة بما هي مقدّمة من المطلوبات النفسيّة ، فقصد الأمر الغيري قصد إجمالي للأمر النفسيّ المتقدّم عليه رتبة ، وهذا المقدار كاف في قصد الأمر النفسيّ الموجب للعباديّة والمثوبة.

وبالجملة : فالأمر الغيري يتعلّق بالعبادة ، فقصده يوجب قصد الأمر النفسيّ العبادي ضمنا ، وهو المصحّح للعباديّة ، لا الأمر الغيري.

(٣) يعني : عبادة ، وضمير ـ هو ـ في قوله : ـ فإنّما هو ـ راجع إلى الاكتفاء ، وضمير ـ انّه ـ راجع إلى الأمر الغيري ، وضمير ـ هو ـ في قوله : ـ إلى ما هو ـ راجع إلى الموصول الّذي أريد به المقدّمة العباديّة.

__________________

(*) الأولى إسقاط الفاء ، لأنّ قوله : ـ إنّما ـ خبر ـ والاكتفاء ـ ، والفاء لا تدخل على الخبر ، إلّا أن يقدّر كلمة ـ أمّا ـ قبل المبتدأ ، لكنّه خلاف الأصل ، ولا موجب لارتكابه.

٢٦٤

في نفسه ، حيث (١) إنّه لا يدعو إلّا إلى ما هو المقدّمة ، فافهم (٢).

وقد تفصّي عن الإشكال بوجهين آخرين (٣) :

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : ـ يدعو إلى ما هو كذلك ـ ، وحاصله : أنّ دعوة الأمر الغيري إلى ما هو عبادة في نفسه إنّما هي لأجل أنّ شأن الأمر الغيري هو الدّعوة إلى ما هو مقدّمة ، والمفروض أنّ المقدّمة من الطهارات ما يكون عبادة بنفسه ، فقصد أوامرها الغيريّة قصد إجمالي لأوامرها النفسيّة (*).

(٢) لعلّه إشارة إلى : أنّ الموجب لعباديّة شيء إذا كان دعوة أمره العبادي بحيث يكون منشأ عباديّته قصد ذلك الأمر تفصيلا أو إجمالا ، فهو مفقود في المقام ، إذ مع الجهل بعباديّته أو الغفلة عنها لا يكون الداعي إلى إتيانه إلّا الأمر الغيري المغاير للأمر العبادي ، فكيف يكون الداعي حينئذ ـ ولو إجمالا ـ الأمر العبادي ، مع عدم انطباق الأمر الغيري عليه ، لمغايرتهما بالتضاد. فالأمر النفسيّ ليس داعيا لا تفصيلا ولا إجمالا إلى عباديّة الشيء ، لأنّه مجهول أو مغفول عنه حسب الفرض ، فلا محيص حينئذ عن الالتزام ببطلان الطهارات.

(٣) مذكورين في التقريرات ، وحاصل الوجه الأوّل الدافع لإشكال عباديّة الطهارات الثلاث هو : أنّ المقدّمات العباديّة ليست مقدّميّتها بما هي حركات خاصة كغسل جميع البدن في الغسل ، والغسلتين والمسحتين في الوضوء ، بل بما لها من عنوان خاص ، وحيث إنّه لا طريق للمكلّف إلى إحرازه حتى يقصده تفصيلا ، فلا بد من قصده إجمالا ، وهذا القصد الإجمالي مترتّب على قصد الأمر الغيري الموجب لقصد عنوان المأمور به بالأمر الغيري ، إذ لا سبيل للمكلّف إلى قصد ذلك العنوان المجهول إلّا بقصد الأمر الغيري الّذي هو عنوان إجمالي لذلك. فالوجه في عباديّة الطهارات الثلاث هو ذلك العنوان المقصود إجمالا بقصد الأمر الغيري ، وليس الوجه في عباديّتها الأمر الغيري حتى يرد عليه : أنّه توصّلي ، فكيف يتقرّب به؟

__________________

(*) وبهذا يجاب عن ثالث إشكالات المحقّق النائيني (قده) الّذي تقدم

٢٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

آنفا بقولنا في التعليقة السابقة : ـ وأمّا إشكاله الثالث ... إلخ ـ.

ولا يخفى أنّ أصل الإشكال من التقريرات ، وقد عرفت جواب المصنف عنه بقوله : ـ فإنّما هو لأجل أنّه يدعو ... إلخ ـ.

لكن هذا الجواب لمّا لم يكن تامّا عند الميرزا (قده) ، لأنّ لازمه الحكم بصحة صلاة الظهر مقدّمة لصلاة العصر مع الغفلة عن وجوبها النفسيّ ، وهو واضح البطلان ، فعباديّة الطهارات الثلاث إذا كانت منحصرة في قصد أوامرها النفسيّة ، فلا بد من الحكم ببطلانها مع الجهل بتلك الأوامر ، أو الغفلة عنها ، فقد عدل الميرزا عنه ، واختار في دفع الإشكال مسلكا آخر ، وهو : منع حصر عباديّة الطهارات بالأمر الغيري والأمر النفسيّ الاستحبابي ليرد الإشكال على كل منهما. ودعوى : وجود صورة ثالثة يمكن تصحيح عباديّة الطهارات الثلاث بها من دون محذور في ذلك.

ومحصل تلك الدعوى : انحلال الأمر النفسيّ المتعلق بذي المقدّمة إلى :

أوامر نفسيّة ضمنيّة متعلّقة بالأجزاء والشرائط التي منها الطهارات الثلاث. فكما أنّ الأمر بمركّب ينحلّ إلى الأمر بكلّ جزء منه ، فكذلك الأمر بالمقيّد ينحلّ إلى الأمر بذات المقيّد ، وإلى الأمر بقيده ، فكلّ قيد متعلق لأمر نفسي.

وعليه : فالطهارات الثلاث متعلّقة للأمر النفسيّ الضمني الموجب لعباديّتها ، فالعباديّة نشأت من الأمر الضمني الانحلالي.

ولكن أورد عليه سيّدنا الأستاذ مدّ ظله في الدرس ب : أنّ لازم هذه المقالة كون القيد كالتقيّد داخلا في المتعلق ، فيصير وزان الطهارات الثلاث وغيرها من الشرائط وزان الأجزاء ، وهو كما ترى ، بداهة خروج الشرائط قيدا عن ماهية المركب ، ودخولها فيها تقيّدا ، ووضوح الفرق بين الأجزاء والشرائط ، وعليه : فيكون أمر الطهارات غيريّا تولديّا.

٢٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ويمكن أن يجاب عنه ب : أنّ ظاهر تعلق الأمر النفسيّ بكل شيء وإن كان ذلك ، ولذا قيل : بظهور الأمر بشيء في مركب في جزئيّة متعلّقه لذلك المركب ، إلّا أنّه لا مانع من رفع اليد عنه بدليل يدل على شرطيّة متعلّقه ، وأنّ الدخيل في المركب هو تقيّده فقط ، فمع هذا الدليل نرفع اليد عن ذلك الظهور ، وبدونه يبنى على حجيّته.

وبالجملة : فلا مانع من تعلّق الأمر النفسيّ بالأجزاء والشرائط معا وإن كانت المصلحة في الأمر بالجزء والشرط مختلفة جدا ، فمتعلّق الأمر النفسيّ بالجزء لمصلحة لا يمنع عن تعلّقه بالشرط لمصلحة أخرى ، كما لا يخفى.

وأورد على المحقق النائيني بعض أعاظم العصر مد ظله ـ على ما في تقرير بحثه الشريف ـ بما حاصله : «أنّه يلزم من تعلّق الأمر النّفسي الضمني الانحلالي بالطهارات الثلث اتّصافها حينئذ بالوجوب النفسيّ والغيري على القول باتصاف المقدّمة بالوجوب الغيري ، وهو غير صحيح».

أقول : لا بأس بالاجتماع المزبور ، لأنّه يرجع إلى التأكّد والاندكاك ، بل هنا أوامر ثلاثة :

أحدها : الأمر النفسيّ الاستقلالي الندبي المتعلّق بالطهارات الثلاث.

ثانيها : الأمر النفسيّ الضمني الّذي هو قطعة من الأمر النفسيّ المتعلق بالمركب كالصلاة.

ثالثها : الأمر الغيري المتعلّق بالطهارات ، ويندكّ الأمر الندبي في الأمر الضمني ، لا بمعنى انعدام الندبي ، بل بمعنى تبدّل حدّه بالحدّ الوجوبيّ ، لأنّه من قبيل اللبس فوق اللبس ، لا اللبس بعد الخلع ، وبعد الاندكاك يتولّد أمر نفسي وجوبي عبادي ، فيصير الوضوء مثلا واجبا نفسيا عباديا. وهذا نظير نذر المستحبّات النفسيّة ، كنذر صلاة الليل وغيرها من النوافل ، فإنّه بعد النذر يتولّد أمر وجوبي

٢٦٧

أحدهما : ما ملخصه : أنّ الحركات الخاصة ربما لا تكون محصّلة لما هو المقصود منها من العنوان الّذي يكون (١) بذاك العنوان مقدّمة وموقوفا (٢) عليها ، فلا بد في إتيانها بذاك العنوان من قصد أمرها ، لكونه (٣) لا يدعو إلّا إلى

______________________________________________________

(١) الصواب ـ تكون ـ لأنّ اسمها الضمير المؤنث المستتر الراجع إلى الحركات يعني : من العنوان الّذي تكون الحركات الخاصة بذلك العنوان مقدّمة.

(٢) معطوف على ـ مقدّمة ـ ، وضمائر ـ عليها وإتيانها وأمرها ـ راجعة إلى الحركات.

(٣) أي : الأمر ، وهو تعليل لقوله : ـ فلا بد في إتيانها ... إلخ ـ ، يعني : أنّ الوجه في قصد أمر تلك الحركات هو : كون الأمر الغيري عنوانا إجماليّا لذلك العنوان المقوّم لعباديّة الطهارات ، حيث إنّ الأمر الغيري لا يدعو إلّا إلى ما هو مقدّمة واقعا ، والمفروض أنّ المقدّمة هي الحركات المعنونة بعنوان خاص ، فقصد الأمر الغيري يوجب قصد ذلك العنوان إجمالا.

__________________

نفسيّ عباديّ متعلق بصلاة الليل.

وبالجملة : بعد التأكّد وتولّد أمر وجوبي نفسي متعلق بالطهارات يتعلّق بها أمر غيريّ ، فيكون الأمر الغيري في طول الأمر النفسيّ الضمني ومتأخرا عنه.

وهنا أبحاث شريفة علميّة أعرضنا عنها ، لمنافاتها للاختصار ، هذا.

ثم إنّه لا بأس بالإشارة إلى بعض الفروع المرتبطة بالمقام.

الأول : إذا أتى بالطهارات الثلاث قبل الوقت بقصد أوامرها النفسيّة ، فلا ينبغي الإشكال في صحّتها ، وجواز إتيان الواجب النفسيّ بها بعد دخول الوقت. نعم المنسوب إلى المشهور : «عدم صحة التيمم للصلاة قبل الوقت» ، والبحث فيه موكول إلى الفقه.

الثاني : أن يأتي بالطهارات قبل الوقت ليأتي معها الواجب النفسيّ في وقته ، فان كان الداعي إلى الإتيان بها أوامرها النفسيّة الاستحبابية مع قصد الإتيان معها بالصلاة مثلا في وقتها ، فالظاهر أيضا عدم الإشكال في صحّتها. وإن كان الدّاعي مجرد التوصل إلى الواجب ، فصحّتها محل التأمل.

٢٦٨

ما هو الموقوف عليه ، فيكون (١) عنوانا إجماليّا ومرآة لها ، فإتيان الطهارات عبادة وإطاعة لأمرها ليس لأجل أنّ أمرها المقدّمي يقضي بالإتيان كذلك (٢) ، بل إنّما كان لأجل إحراز نفس العنوان الّذي يكون (٣) بذاك العنوان موقوفا عليها.

وفيه : ـ مضافا (٤) إلى أنّ ذلك (٥) لا يقتضي الإتيان بها كذلك (٦) ، لإمكان (٧) الإشارة إلى عناوينها الّتي تكون بتلك العناوين موقوفا عليها بنحو

______________________________________________________

(١) يعني : فيكون قصد الأمر الغيري عنوانا إجماليّا ، ومرآة لتلك الحركات.

(٢) أي : عبادة ، والضمير في كلّ من ـ لأمرها ـ و ـ أمرها ـ راجع إلى الطهارات.

(٣) الصواب ـ تكون ـ ، لرجوع الضمير المستتر فيه الّذي هو اسمه إلى الطهارات ، وقوله : ـ موقوفا ـ خبر ـ تكون ـ ، وضمير ـ عليها ـ راجع إلى الطهارات. ولو كان مرجع ضمير ـ يكون ـ الإتيان ، لكان اللازم أن يكون خبره : ـ موقوفا عليه ـ ، لا ـ موقوفا عليها ـ ، فتدبّر.

(٤) محصّله : أنّ قصد العنوان المقوّم لعباديّة الطهارات لا يتوقف على قصد أمرها الغيري غاية ، بل يمكن قصده بوجه آخر ، كتوصيف الطهارات بالوجوب الغيري بأن ينوي الوضوء الواجب ولو بداع آخر ، كالتبريد ونحوه ، فإنّ التّوصيف أيضا عنوان مشير إلى العنوان الواقعي المقوّم لعباديّتها ، فلا ينحصر قصد ذلك العنوان بقصد الأمر الغيري ، مع أنّهم قائلون باعتبار إتيانها بداعي الأمر بحيث لا تصح بدونه ، وهذا دليل على أنّ قصد الأمر ليس لأجل كونه عنوانا إجماليّا ، ومرآة للعنوان المقوّم لعباديّتها.

(٥) أي : كون الحركات الخاصة بعنوان خاص غير معلوم مقدّمة.

(٦) أي : بقصد أمرها غاية ، كما هو قضيّة قوله : ـ فلا بد في إتيانها بذاك العنوان من قصد أمرها ـ ، وضمير ـ بها ـ راجع إلى الطهارات.

(٧) تعليل لقوله : ـ لا يقتضي الإتيان ـ ، وذلك واضح ، لأنّه إذا كان قصد الأمر الغيري لأجل قصد ذلك العنوان ، فلا إشكال في تعدّد العناوين المشيرة إلى

٢٦٩

آخر (١) ولو بقصد أمرها وصفا (٢) ، لا غاية وداعيا (٣) ، بل كان الداعي إلى هذه الحركات الموصوفة بكونها مأمورا بها شيئا آخر غير أمرها (٤) ـ أنه (٥) غير واف بدفع إشكال ترتّب المثوبة عليها ، كما لا يخفى.

ثانيهما : ما محصله (٦) : أنّ لزوم وقوع الطهارات عبادة إنّما يكون لأجل

______________________________________________________

ذلك العنوان ، وعدم انحصارها في قصد الأمر الغيري غاية ، فيمكن قصد غيره ، لكنّها لا تتّصف حينئذ بكونها عبادات ، كما سيأتي مزيد توضيح له إن شاء الله تعالى. وضميرا ـ عناوينها وتكون ـ راجعان إلى الطهارات.

(١) يعني : غير قصد امتثال الأمر الغيري ، وضمير ـ أمرها ـ راجع إلى الطهارات.

(٢) كأن يقصد الوضوء الواجب لا بداعي الأمر الغيري ، بل لغرض التنظيف مثلا ، فإنّ ذلك العنوان حينئذ يكون مقصودا ، لكن لا تتصف الحركات بكونها عبادة ، مع أنّه لا إشكال في لزوم الإتيان بها على وجه العبادة.

(٣) كما يدّعيه المتفصّي.

(٤) كالتبريد ، والتنظيف ، ونحوهما ، وضمير ـ أمرها ـ راجع إلى الطهارات.

(٥) مبتدأ مؤخّر لقوله : ـ وفيه ـ ، وهذا هو الجواب الأصلي ، وحاصله :

أنّ الوجه المزبور بعد تسليمه والغضّ عمّا أوردناه عليه أوّلا بقولنا : ـ مضافا إلى أن ذلك ... إلخ ـ لا يفي بدفع الإشكال من ناحية ترتّب الثواب على الطهارات الثلاث لأنّ الأمر الغيري لا يترتّب عليه الثواب ، وإن كان وافيا بدفعه من ناحية قصد القربة ، لكون قصد الأمر الغيري عنوانا إجماليّا مشيرا إلى العنوان المقوّم لعباديّة الطهارات.

(٦) توضيحه : أنّ عباديّة الطهارات الثلاث ليست لأوامرها الغيريّة ، حتى يرد عليه : أنّ الأمر الغيري لا يصلح للعباديّة ، بل للأمر النفسيّ المتعلّق بغاياتها كالصلاة والطواف ، لكون الغرض من هذه الغايات موقوفا على الإتيان بمقدّماتها كنفسها على وجه قربيّ ، فالمصحّح لعباديّة الطهارات هو الأمر المتعلّق بغاياتها كالصلاة والطواف ونحوهما من المشروطات بالطهارة ، لا الأمر الغيري.

٢٧٠

أنّ الغرض من الأمر النفسيّ بغاياتها (١) كما لا يكاد يحصل بدون قصد التقرّب بموافقته (٢) ، كذلك لا يحصل ما لم يؤت بها (٣) كذلك ، لا (٤) باقتضاء أمرها الغيري.

وبالجملة : وجه لزوم إتيانها عبادة إنّما هو لأجل أنّ الغرض في الغايات لا يحصل إلّا بإتيان خصوص الطهارات من بين مقدّماتها أيضا (٥) بقصد الإطاعة.

وفيه أيضا : أنّه غير واف بدفع إشكال ترتّب المثوبة عليها (٦) (*).

______________________________________________________

(١) أي : الطهارات ، والضمير المستتر في ـ يحصل ـ راجع إلى الغرض.

(٢) متعلق بقوله : ـ يحصل ـ ، والضمير راجع إلى الأمر النّفسي ، وحاصله :

أنّه كما لا يحصل الغرض من الأمر النفسيّ المتعلّق بالغايات كالصلاة ونحوها إلّا بقصد التقرّب ، كذلك لا يحصل الغرض ما لم يؤت بالطهارات الثلاث الّتي هي مقدّمة لتلك الغايات على وجه قربيّ أيضا.

(٣) أي : الطهارات ، وقوله : ـ كذلك ـ يعني : بقصد التقرّب.

(٤) يعني : ليس وجه لزوم إتيان الطهارات الثلاث على وجه التقرّب اقتضاء أمرها الغيري ، حتى يرد عليه : أنّه لا يصلح للمقرّبيّة ، بل لأجل الغرض من الأمر النفسيّ كما مر آنفا.

(٥) أي : كلزوم إتيان نفس الغايات على وجه العبادة ، وضمير ـ مقدّماتها ـ راجع إلى الغايات.

(٦) أي : الطهارات ، وحاصل الجواب : أنّ هذا الوجه لا يدفع الإشكال من الجهتين ، وهما : القربة والمثوبة ، بل يدفع إشكال قصد القربة فقط ، وذلك لأنّ الغرض الدّاعي إلى الأمر بالغايات لمّا كان بمثابة لا يحصل إلّا بإتيان خصوص الطهارات

__________________

(*) لا يخفى : أنّ غرض الشيخ الأعظم (قده) متمحّض في دفع إشكال القربة ، ولا نظر له إلى دفع إشكال المثوبة ، هذا. مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ القربة والثواب توأمان ، فالمصحّح لأحدهما مصحّح للآخر ، فالغرض من الغايات إن كان مصحّحا للقربة لكان مصحّحا للمثوبة أيضا ، لأنّ المثبت لأحد المتلازمين مثبت للآخر.

٢٧١

وأما ما ربما قيل (١) في تصحيح اعتبار قصد الإطاعة في العبادات : «من

______________________________________________________

الثلاث من المقدّمات الخارجيّة بقصد الإطاعة ، كإتيان نفس الغايات ، فلا بدّ في سقوط الأمر بالغايات من إتيان الطهارات على وجه العبادة ، فالغرض موجب لعباديّة الطهارات ، لا أمرها الغيري ، فيندفع إشكال عدم صلاحية الأمر الغيري للمقرّبيّة.

وأما إشكال ترتّب الثواب على الأمر الغيري ، فهو باق على حاله. بخلاف الوجه الّذي أفاده المصنّف في التفصي عن الإشكال ، فإنّه دافع له بكلا شقّيه ، لكون الأمر النفسيّ الندبي العبادي المتعلق بالطهارات دافعا للإشكال من كلتا الجهتين : القربة والمثوبة.

ثم إنّ الفرق بين هذه الوجوه الثلاثة الدافعة لإشكال قصد القربة ظاهر ، إذ الأوّل ناظر إلى نشوء العباديّة عن الأمر النفسيّ الندبي العبادي المتعلّق بالطهارات الثلاث مع الغض عن أمرها الغيري.

والثاني ناظر إلى نشوء العبادية عن رجحان الطهارات ذاتا ، وكون الأمر الغيري عنوانا مشيرا إلى ذلك العنوان الراجح.

والثالث ناظر إلى : كون الغرض المترتّب على ذي المقدّمة ممّا يتوقّف حصوله على إتيان الواجب وبعض مقدّماته عبادة ، فالعباديّة ناشئة عن ذلك الغرض ، فلاحظ.

(١) هذا وجه آخر لتصحيح عباديّة الطهارات الثلاث ، وقد تقدّم في مبحث التعبّدي والتوصّلي : حيث قال : «وتوهم إمكان تعلّق الأمر بفعل الصلاة بداعي الأمر وإمكان الإتيان بها بهذا الداعي ... إلخ».

بيانه : أنّ شيخنا الأعظم (قده) استشكل في كتاب الطهارة في أوّل تنبيهات الوضوء في اعتبار قصد القربة في المقدّمة بما حاصله : أنّ الأمر الغيري لا يتعلّق إلّا بما هو مقدّمة بالحمل الشائع ، والمفروض أنّ الوضوء بما هو عبادة مقدّمة ، فعباديّة الوضوء تكون متقدّمة على الأمر الغيري تقدّم الموضوع على الحكم ، فلو توقفت مقدّميّته على الأمر لزم الدور ، ضرورة توقّف مقدّميّته على الأمر ، وتوقّفه على

٢٧٢

الالتزام بأمرين : أحدهما كان متعلّقا بذات العمل ، والثاني بإتيانه بداعي امتثال

______________________________________________________

المقدّمية ، لتوقّف كلّ حكم على موضوعه.

قال في البدائع : «ويسري هذا الإشكال في ساير المقدّمات التعبّديّة أيضا ، بل وجميع التعبديات».

وقد أجاب الشيخ (قده) عنه في طهارته بوجهين :

أحدهما : ما ملخّصه : أنّ عباديّة الوضوء إنّما هي لأجل عنوان واقعي راجح في نفسه ، وقصد ذلك العنوان كاف في عباديّته ، والأمر الغيري يتعلّق بذلك ، ولمّا كان ذلك العنوان مجهولا ، فيكفي قصده إجمالا.

وثانيهما : ما لفظه : «أنّ الفعل في نفسه ليس مقدّمة فعليّة ، وإنّما هو يصير مقدّمة إذا أتى به على وجه العبادة ، فإذا أراد الشارع الصلاة المتوقّفة على تلك المقدّمة الموقوفة مقدّميّتها على الأمر وجب الأمر به ، مع نصب الدلالة على وجوب الإتيان به على وجه العبادة بناء على أنّ وجوب قصد التعبّد في الأوامر إنّما فهم من الخارج ، لا من نفس الأمر ، فهذا الأمر محقّق لمقدّميّته مغن عن أمر آخر بعد صيرورته مقدّمة ، والمسألة محتاجة إلى التأمل» انتهى كلامه علا مقامه.

وقد أوضحه في البدائع بقوله : «وتوضيحه على وجه يرتفع به غبار الإشكال عن وجه المقال : أنّ لزوم الدور إنّما هو فيما إذا توقّف كون الوضوء عبادة على الأمر الّذي تعلّق به ، وهو ممنوع ، لأنّ الوضوء العبادي يتوقّف على الوضوء وقصد القربة معا ، فلا بدّ هنا من أمرين : أحدهما يكون متعلّقا بذات الوضوء ، والثاني يكون متعلّقا به مقيّدا بقصد القربة ، أي قصد امتثال الأمر ، فالأمر المتعلّق بالوضوء متعلّق به من غير اعتبار قصد القربة في متعلّقه ، للزوم الدور ، وهنا أمر آخر من الخارج ثبت بالإجماع أو غيره متعلّق به مقيّدا بقصد القربة ، أي امتثال الأمر الّذي تعلّق به أوّلا ، فالأمر الأوّل المتعلّق بالوضوء توصّلي محض ، أي لم يرد منه سوى إيجاد أفعاله في الخارج ، والأمر الآخر تعلّق بالتعبّد وقصد القربة فيه ، لأنّه بدونه لا يكفي في تحقّق الصلاة ، فنفس الوضوء والتعبّد به كلاهما مقدّمتان وشرطان للصلاة لا تصحّ

٢٧٣

الأوّل» لا يكاد (١) يجدي [يجري] في تصحيح اعتبارها في الطهارات ، إذ (٢) لو لم تكن بنفسها مقدّمة لغاياتها لا يكاد يتعلّق بها (٣) أمر من قبل الأمر بالغايات ، فمن أين (*)

______________________________________________________

إلّا بهما ، فلا بد للمصلّي من الوضوء ، ومن قصد القربة فيه ، فأمر الشارع أوّلا بذات الوضوء من غير اعتبار شيء ليتمكن من قصد القربة فيه ، ثم أمر به متقرّبا إلى الله تعالى. وإن شئت قلت : إنّ الأمر الأوّل متعلّق بالوضوء ، والأمر الثاني متعلق بالتعبد به ، فهاهنا أمران مقدّميان يستفاد ويتحقق منهما حقيقة الحال ، وهو إيجاد الوضوء قربة إلى الله».

ومحصله : أنّ المركّب من ذات الوضوء ودعوة أمره مقدّمة ، فلا بد هنا من أمرين متعلّق أحدهما بذات الوضوء ، إذ المفروض دخل ذاته في المقدّمية ، والآخر بوصفه وهو إتيانه بدعوة الأمر ، فالمجموع من ذات الوضوء ووصفه مقدّمة يتعلّق ببعضه أمر ، وببعضه أمر آخر ، لامتناع تعلّق أمر واحد بالمجموع.

(١) جواب ـ أمّا ـ ، وحاصله : أنّ الأمر الغيري لا يترشّح من ذي المقدّمة إلّا على ما هو مقدّمة بالحمل الشائع ، ومن المعلوم : أنّ الطهارات بدون قصد القربة ليست مقدّمة ، فلا يترشّح عليها أمر غيري ، وعلى وصفها أمر غيريّ آخر حتى يصحّح به اعتبار قصد القربة فيها.

(٢) تعليل لقوله : ـ لا يكاد يجدي ـ.

(٣) أي : الطهارات ، ووجه عدم التعلّق ما عرفته آنفا من : أنّ الأمر الغيري لا يترشّح إلّا على المقدّمة ، والمفروض أنّ الطهارات بذواتها ليست مقدّمة ، فلا يترشح عليها أمر ليكون ذلك الأمر موضوعا لأمر آخر يتعلّق بالوصف أعني القربة.

__________________

(*) لا يخفى أنّ الأمر الغيري كالأمر النفسيّ في أنّه إذا لم يمكن استيفاء الغرض بأمر واحد ، فلا بد من أمر آخر وهو المسمّى بمتمّم الجعل ، فالمقدّمة ـ وهي : ما يلزم من عدمه العدم ـ تنطبق على ذوات الطهارات الثلاث ، فيترشّح عليها

٢٧٤

يجيء طلب آخر من سنخ الطلب الغيري متعلّق (١) بذاتها ليتمكن به من المقدّمة في الخارج ، هذا. مع (٢) أنّ في هذا الالتزام ما في تصحيح اعتبار قصد الطاعة في العبادة على ما عرفته مفصّلا سابقا ، فتذكّر.

الثاني (٣) : أنّه قد انقدح ممّا هو التحقيق في وجه اعتبار قصد القربة في

______________________________________________________

(١) صفة لقوله : ـ طلب ـ ، وضمير ـ بذاتها ـ راجع إلى الطهارات ، وضمير ـ به ـ راجع إلى ـ طلب ـ.

(٢) هذا إشكال آخر على ما أفاده الشيخ (قده) من تصحيح اعتبار القربة في الطهارات بتعدّد الأمر ، وهذا هو الإشكال المتقدّم في بحث التعبّدي والتوصّلي ، فلا نعيده.

(٣) هذا هو التذنيب الثاني ، وحاصله : أنّه ـ بناء على المختار في دفع إشكال

__________________

أمر غيري ، ولمّا لم يكن وافيا بالغرض ، وهو اعتبار الدعوة في الطهارات ، فلا بد من أمر آخر يتعلق بإتيان متعلق الأمر الأوّل بدعوة أمره.

وبالجملة : الأمر الثاني الغيري يترشح على ما هو جزء المقدّمة ، فالمحوج إلى الأمر الثاني هو الدخل في المقدّميّة ، وهذا ممّا لا ينبغي الإشكال فيه.

فما أفاده المصنّف (قده) بقوله : ـ فمن أين يجيء طلب آخر ... إلخ ـ ممّا لا يمكن المساعدة عليه.

نعم الإشكال كلّه في كون تعدّد الأمر الغيري مجديا ، وذلك لأنّ الأمر الثاني الغيري توصّلي ، وهو لا يصلح للمقرّبية ، فلا يوجب عباديّة متعلّقه حتى يتمكن المكلّف بسبب الأمر الثاني من المقدّمة.

فالمتحصل : أنّ تصحيح عباديّة الطهارات بتعدّد الأمر ـ كما أفاده الشيخ ـ ممّا لا يخلو من الغموض.

ثم إنّ ظاهر المصنف تسليم كون تعدّد الأمر مجديا في المقرّبية ، لكنّه ينكر التعدّد. وقد عرفت : أنّ التعدّد ممكن ، إلّا أنّه غير مجد.

٢٧٥

الطهارات صحّتها (١) ولو لم يؤت بها (٢) بقصد التوصّل بها إلى غاية من غاياتها. نعم لو كان المصحّح لاعتبار قصد القربة فيها أمرها الغيري (*) لكان قصد الغاية

______________________________________________________

عباديّة الطهارات من كونها مستحبات نفسيّة ، وأنّ الموجب لعباديّتها هو أمرها الاستحبابي النفسيّ ـ لا حاجة إلى قصد غاياتها ، بل هي صحيحة بدون قصدها ، وذلك لعدم نشوء عباديّتها عن الأمر الغيري حتى تتوقّف صحّتها على قصد ذلك الغير أعني غاياتها ، فلو توضّأ بداعي استحبابه النّفسي صحّ ، ويجوز حينئذ إتيان المشروط بالطهارة به ، لأنّ المقدّمة هي الطهارات المستحبة النفسيّة العباديّة المتوقّفة على قصد أو امرها النفسيّة الندبيّة العباديّة.

نعم لو كان المصحّح لاعتبار قصد القربة في الطهارات أمرها الغيري ، فلا بد من قصد الغاية حتى تقع الطهارات صحيحة ، إذ الداعي حينئذ في الحقيقة هو الأمر النفسيّ العباديّ المتعلّق بالغاية ، فما لم يقصد لا تتصف المقدّمة بكونها عبادة.

وأما قصد الأمر الغيري الداعي إلى متعلّقه ، فهو تبعيّ توصليّ ، وليس مناطا للعباديّة ، فجعله مناطا لها لا يخلو عن مسامحة ، إذ الأمر الغيري بعنوان كونه غيريّا لا يدعو إلّا إلى متعلّقه وهو المقدّمة ، كما أنّ الأمر النفسيّ لا يدعو إلّا إلى متعلّقه ، فالمقوّم لعباديّة المقدّمة هو قصد التوصّل إلى ذي المقدّمة وإن لم يقصد الأمر الغيري.

(١) أي : الطهارات ، وهي المرجع للضمائر من قوله : ـ ولو لم يؤت بها ـ إلى قوله : ـ وقوعها ـ.

(٢) لعدم ارتباط الأمر الاستحبابي النّفسي الموجب لعباديّتها بغاياتها حتى يكون لقصد التوصّل إلى الغايات دخل في امتثال الأمر الاستحبابي النفسيّ.

__________________

(*) يعني : بما أنّه مشير إلى الأمر النفسيّ المتعلّق بالغاية ، وإلّا فليس الأمر الغيري مصحّحا للعباديّة ، لكونه توصّليّا ، كما تقدم سابقا. وقوله : ـ لكان قصد الغاية ... إلخ ـ قرينة على أنّ قصد الأمر الغيري للإشارة إلى قصد الغاية ، لا لموضوعيّته ، لأنّه لا يدعو إلّا إلى موضوعه وهو المقدّمة ، والمفروض أنّها بنفسها ليست عبادة ، فالمصحّح لعباديّتها هو قصد نفس الغاية ، أو أمرها.

٢٧٦

ممّا لا بدّ منه في وقوعها صحيحة ، فإنّ (١) الأمر الغيري لا يكاد يمتثل إلّا إذا قصد التوصّل إلى الغير ، حيث لا يكاد يصير داعيا إلّا مع هذا القصد (٢) ، بل (٣) في الحقيقة يكون هو الملاك لوقوع المقدّمة عبادة ولو لم يقصد أمرها ، بل ولو لم نقل بتعلّق الطلب بها (٤) أصلا.

وهذا (٥) هو السّر في اعتبار قصد التوصّل في وقوع المقدّمة عبادة.

______________________________________________________

(١) تعليل لاعتبار قصد الغاية في وقوع الطهارات صحيحة ، ومحصله : أنّ عباديّة الطهارات لمّا كانت بسبب أمرها الغيري ، فلا بد في وقوعها عبادة صحيحة من قصد التوصّل إلى الغاية المشروطة بالطهارة كالصلاة ، فإنّ امتثال الأمر الغيري منوط بقصد تلك الغاية ، لأنّ الأمر الغيريّ لمّا كان تابعا للأمر النفسيّ ، لتولّده منه ، فامتثاله أيضا تابع لامتثاله ، فالوضوء بقصد التوصّل به إلى الصلاة يكون امتثالا للأمر الغيري المحقّق لعباديّة الوضوء ، وبدون هذا القصد لا يتحقّق امتثال للأمر الغيري.

وبالجملة : فعلى القول بكون عباديّة الطهارات لأجل الأمر الغيري لا محيص عن قصد الغاية ، لتوقّف امتثال الأمر الغيري عليه.

(٢) يعني : قصد التوصّل إلى الغير ، أعني : الغاية المشروطة بالطهارة ، فداعويّة الأمر الغيري منوطة بهذا القصد ، لأنّها قضية تبعيّة الأمر الغيري للنفسي ، فإنّ مقتضى تبعيّته له هو أن يكون في مقام الامتثال أيضا كذلك ، فامتثال الأمر الغيري منوط بقصد امتثال الأمر النفسيّ.

(٣) غرضه : الإضراب عن إناطة العباديّة بقصد امتثال الأمر الغيري ، ودعوى :

كون الملاك في عباديّة الطهارات هو قصد التوصّل بها إلى الغايات من الصلاة ، والطواف ، وغيرهما وإن لم يقصد الأمر الغيري المتعلّق بالطهارات ، بل وإن لم نقل بتعلّق الأمر الغيري بها ، فضمير ـ يكون ـ راجع إلى قصد التوصّل.

(٤) هذا الضمير وضمير ـ أمرها ـ راجعان إلى الطهارات.

(٥) يعني : وكون التوصّل إلى الغير ملاك عباديّة الطهارات هو السّر في

٢٧٧

لا (١) ما توهم من : «أنّ المقدّمة إنّما تكون مأمورا بها بعنوان المقدّمية ، فلا بدّ (٢) عند إرادة الامتثال بالمقدّمة من قصد هذا العنوان (٣) ، وقصدها كذلك لا يكاد يكون بدون قصد التوصّل إلى ذي المقدّمة بها» ، فإنّه (٤) فاسد جدّاً ، ضرورة

______________________________________________________

اعتبار قصد التوصّل إلى الغير في وقوع الطهارات عبادة. لا ما نسب إلى تقريرات شيخنا الأعظم (قده) ـ وإن كان في النسبة تأمّل ـ من : أنّ اعتبار قصد التوصّل إنّما هو لكون عنوان المقدّمة مأمورا به ، بحيث يكون موضوع الأمر الغيري عنوان المقدّمة ، فالوضوء مثلا بما هو مقدّمة متعلّق للأمر الغيري ، لا بما هو هو. وامتثال الأمر بعنوان منوط بقصد ذلك العنوان ، كالظهريّة ، والعصريّة ، فالأمر بالوضوء بما أنّه مقدّمة لا يمتثل إلّا بقصد عنوان مقدّميّته ، وهذا يتوقف على قصد الغاية ، كالصلاة.

فقصد التوصل يكون لأجل إحراز عنوان المقدّمية الّذي هو موضوع الأمر الغيري.

وبالجملة : فليس ذات الوضوء مقدّمة ، بل المقدّمة هي الوضوء بعنوان المقدّمية ، وإحراز هذا العنوان في مقام امتثال الأمر الغيري منوط بقصد التوصّل.

فالمتحصل : أنّ اعتبار قصد التوصّل في المقدّمة إنّما هو لتحقّق عباديّتها.

(١) يعني : وهذا هو السّر ... إلخ ، لا ما توهم من أنّ المقدّمة ... إلخ.

(٢) وجه اللابديّة : أنّ الأمر المتعلّق بعنوان كالظهريّة ، والعصريّة ، والغسل ، والوضوء لا يتحقق امتثاله عقلا إلّا بقصد ذلك العنوان ، لتوقّف حصول المأمور به على القصد المزبور.

(٣) يعني : عنوان المقدّمية ، وضمير ـ قصدها ـ راجع إلى المقدّمة ، وقوله : ـ كذلك ـ أي : بعنوان المقدّمية ، يعني : وقصد المقدّمة بعنوان المقدّمية لا بعنوان ذاتها لا يكاد يكون بدون قصد التوصّل إلى ذي المقدّمة ، فضمير ـ بها ـ راجع إلى المقدّمة.

(٤) هذا دفع التوهّم المنسوب إلى الشيخ الأعظم (قده) ، وحاصل الدفع : منع الصغرى ـ وهي : كون عنوان المقدّمة متعلّقا للأمر الغيري ـ وذلك لأنّ ما يتوقّف عليه ذو المقدّمة هو ذات المقدّمة ، لا عنوانها ، ضرورة أنّ الصلاة مثلا تتوقف على نفس

٢٧٨

أنّ عنوان المقدّمية ليس بموقوف عليه الواجب (١) ، ولا بالحمل الشائع مقدّمة له ، وإنّما كان المقدّمة هو نفس المعنونات بعناوينها الأوّليّة (٢) ، والمقدّمية إنّما تكون علّة لوجوبها (٣).

الأمر الرابع (٤)

______________________________________________________

الوضوء ، لا عنوان مقدّميّته. نعم المقدّميّة جهة تعليليّة خارجة عن حيّز متعلّق الأمر كما ذكره أيضا في ردّ المقدّمات الداخليّة بقوله : «ضرورة أنّ الواجب بهذا الوجوب ما كان بالحمل الشائع مقدّمة ، لأنّه المتوقف عليها ، لا عنوانها ... إلخ» ، فلا يعتبر حينئذ قصدها في امتثال الأمر الغيري ، وإنّما يعتبر قصدها إذا كانت من الجهات التقييديّة كالظهريّة ، والعصرية ، ونحوهما ممّا له دخل في متعلّقات التكاليف ، كما لا يخفى ، فإنّ الفرق بين الجهات التقييديّة التي ترد عليها الأحكام ، وبين الجهات التعليليّة التي هي ملاكات التشريع لا موضوعاتها في غاية الوضوح.

(١) يعني : أنّ ما يتوقف على الواجب كالصلاة هو ذات الوضوء ، لا عنوان مقدّميّته ، فما يحمل عليه المقدّمة بالحمل الشائع هو ذات الوضوء.

(٢) المراد بالأوّلية هنا ما يعم الأوّلية الحقيقيّة والإضافيّة ، مثلا : الوضوء بعنوانه الأوّلي غسل ـ بالفتح ـ ، وبعنوانه الثانوي القصدي وضوء ، وبعنوانه الثالثي مقدّمة لما يشترط فيه الطهارة ، فالمراد بالعنوان الأوّلي ما يكون متقدّما على عنوان المقدّمية ، ومعروضا للأمر الغيري وإن كان بالنسبة إلى غيره من العناوين الثانويّة.

(٣) أي : المقدّمة ، فليس موضوع الأمر الغيري ومعروضه عنوان المقدّمية ، بل موضوعه ذات المقدّمة التي هي بالحمل الشائع مقدّمة.

(٤) الغرض من عقد هذا الأمر الّذي هو من الأمور التي رسمها قبل الخوض في المقصود : التنبيه على خلاف بعض الأعلام كصاحبي المعالم ، والفصول ، وشيخنا الأعظم.

ومحصل ما أفاده المصنّف (قده) قبل التّعرض للخلاف المزبور : أنّه لا شبهة في كون وجوب المقدّمة ـ بناء على القول بالملازمة بينه وبين وجوب ذيها ـ

٢٧٩

لا شبهة في أنّ وجوب المقدّمة بناء (١) على الملازمة يتبع (٢) في الإطلاق والاشتراط وجوب ذي المقدّمة ، كما أشرنا إليه (٣) في مطاوي كلماتنا ، ولا يكون مشروطا بإرادته (٤) ، كما يوهمه (٥) ظاهر عبارة

______________________________________________________

تابعا في الإطلاق والاشتراط لوجوب ذي المقدّمة ، وأنّ كلّ ما هو شرط وقيد للوجوب النفسيّ الثابت لذيها ، فهو شرط وقيد للوجوب الغيري أعني وجوب المقدّمة.

والوجه في هذه التبعيّة واضح ، لأنّ وجوب المقدّمة معلول لوجوب ذيها ومسبّب عنه ، فكلّ ما يكون شرطا وقيدا للوجوب النفسيّ ، فهو شرط للوجوب الغيري ، فالوجوب المعلولي تابع للوجوب العلّي في الإطلاق والاشتراط.

(١) قيد ل ـ وجوب ـ ، لأنّه مبني على الملازمة.

(٢) لأنّه معلول لوجوب ذي المقدّمة ، كما عرفت.

(٣) يعني : إلى هذه التبعيّة ، وقوله : ـ في مطاوي كلماتنا ـ إشارة إلى : ما ذكره في أوائل الأمر الثالث عند تعميم النزاع للمقدّمات الوجوديّة للواجب المشروط من قوله : «ثم الظاهر دخول المقدّمات الوجوديّة للواجب المشروط في محل النزاع أيضا ... إلخ».

(٤) أي : ذي المقدّمة ، وهذا إشارة إلى خلاف صاحب المعالم ، ومن تبعه ، وحاصله : أنّه بعد البناء على الملازمة بين وجوب المقدّمة وذيها يكون وجوب المقدّمة مشروطا بإرادة ذيها.

بيانه ـ كما في التقريرات ـ : أنّ وجوب المقدّمة إنّما هو لأجل التوصّل إلى ذي المقدّمة ، بحيث تنحصر مصلحة وجوبها في التوصّل بها إلى ذيها ، فإن لم يكن الداعي إلى إيجاد المقدّمة التوصّل بها إلى ذيها ، فالحكمة المقتضية لوجوبها مفقودة ، فلا دليل حينئذ على وجوبها. وعليه : فوجوبها دائما مشروط بشرط ، ولا أقلّ من كونه إرادة ذيها ، بخلاف وجوب ذيها ، فإنّه قد يكون مشروطا ، وقد يكون مطلقا ، فلم تتحقّق التبعيّة بين وجوبها ووجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط.

(٥) يعني : يوهم كون وجوب المقدّمة مشروطا بإرادة ذيها ، لكن في هذه

٢٨٠