منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٥٩٢

المحرّمة وعدمه أصلا ، فإنّه (١) يمكن التوصّل بها إن كانت توصليّة ولو لم نقل بجواز الاجتماع ، وعدم (٢) جواز التوصّل بها إن كانت تعبّديّة على القول بالامتناع ، قيل بوجوب المقدّمة أو بعدمه ، وجواز (٣) التوصّل بها على القول بالجواز كذلك أي : قيل بالوجوب أو بعدمه.

______________________________________________________

الاجتماع على القول بوجوبها ، أم قيل بالامتناع. فلا يترتّب على اندراج المقدمة المحرمة ـ بناء على الملازمة بين وجوبي المقدّمة وذيها ـ في مسألة الاجتماع أثر عملي ، وهو سقوط أمر ذيها بناء على امتناع الاجتماع.

وعلى الثاني ـ وهو : كون المقدّمة تعبّديّة ـ ففائدة المقدّمة ـ وهي التوصل بها إلى ذيها ـ لا تترتب عليها إذا كانت محرّمة سواء أكانت المقدّمة واجبة مع القول بامتناع الاجتماع ، أم لم تكن واجبة ، فإنّ الحرمة مانعة عن التعبّد بها ، فيمتنع التوصّل بها إلى ذي المقدّمة. كما أنّه يجوز التوصل بها إلى ذيها مع القول بجواز الاجتماع ، من دون فرق في ذلك بين القول بوجوب المقدّمة وعدمه.

وبالجملة : ففي المقدمة العباديّة أيضا لا مانع من التوصل بها ـ بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي ـ من غير فرق في ذلك بين وجوب المقدمة وعدمه. كما أنّه ـ بناء على امتناع الاجتماع ـ يمتنع التوصّل بها مطلقا سواء أقلنا بوجوب المقدمة أم لا ، فالملازمة وعدمها سيّان بالنسبة إلى التوصّل الّذي هو المهم من المقدمة.

(١) بيان لوجه قوله : ـ لا دخل له في التوصل ـ ، يعني : أن المهمّ من المقدمة ـ وهو التوصل ـ لا دخل للاجتماع وعدمه فيه ، بالتقريب المتقدم آنفا.

(٢) حق العبارة أن تكون كذلك : «كما لا يمكن التوصل بها إن كانت تعبديّة ... إلخ».

(٣) معطوف على قوله : ـ وعدم جواز التوصل ـ.

٣٨١

وبالجملة : لا يتفاوت الحال في جواز التوصّل (١) بها ، وعدم جوازه أصلا بين أن يقال بالوجوب ، أو يقال بعدمه (*) ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) الّذي هو الغرض المهم من المقدمة ، فلا يتفاوت الحال في ترتبه على المقدمة بين وجوبها وعدمه ، لعدم إناطة ترتّبه عليها بوجوبها.

__________________

(*) لا يخفى أنّه إن كان غرض الوحيد البهبهاني (قده) مجرد جعل المقدّمة المحرّمة ـ بناء على وجوبها ـ من صغريات كبرى اجتماع الأمر والنهي ، فلا يرد عليه هذا الإشكال الثالث ، بداهة إناطة صغرويّة المورد لتلك الكبرى بوجوب المقدّمة.

وإن كان غرضه (قده) من الثمرة المذكورة : تفريع الغرض من المقدّمة ـ وهو التوصّل بها إلى ذيها ـ على القول بوجوبها ، فإشكال المصنّف وارد عليه ، لوضوح عدم توقّف التوصّل بالمقدّمة المحرّمة على القول بوجوبها ، كما عرفت.

ولم أظفر إلى الآن بعبارة الوحيد ، ولكن حكي عنه : أنّ غرضه من الثمرة المذكورة هو الشق الثاني ، فإن كان كذلك ، فإشكال المصنّف عليه في محلّه.

إلّا أن يقال : بمقالة جماعة ـ بل المشهور ـ من جعل مناط المقرّبيّة في المقدّمات العباديّة كالطهارات الثلاث الوجوب الغيري ، فإنّه على هذا التقدير تترتّب الثمرة أيضا على القول بجواز الاجتماع ، ضرورة أنّ عباديّة المقدّمة منوطة بقصد الوجوب الغيري ، فلو لم تكن المقدّمة واجبة امتنع الإتيان بها بقصد القربة ، فظهرت الثمرة وهي : أنّ المقدّمة المحرّمة يمتنع إيجادها عبادة إلّا على القول بوجوبها ـ بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي ـ ، كما لا يخفى.

٣٨٢

في تأسيس الأصل في المسألة

اعلم : أنّه لا أصل (١) في محل البحث (٢) في المسألة ، فإنّ (٣) الملازمة

______________________________________________________

تأسيس الأصل

(١) كما في تقرير بحث شيخنا الأعظم (قده) ، قال المقرر : «ومن هنا تعرف : أنّه لا أصل في المسألة ، فإنّ العقل إمّا أن يكون حاكما بالملازمة بين الطلبين أولا. وعلى التقديرين لا وجه للاستناد إلى الأصل ، لارتفاع الشك على التقديرين ، كما لا يخفى» انتهى كلامه رفع مقامه.

(٢) وهو الملازمة بين وجوبي المقدمة وذيها ، وبه أشار إلى الجهة الأصوليّة المبحوث عنها في مسألة مقدمة الواجب.

(٣) تعليل لقوله : ـ لا أصل ـ. توضيحه : أنّ مجرى الأصل تارة يكون مسألة أصوليّة ، وهي الملازمة بين الوجوبين ، وأخرى يكون مسألة فقهيّة ، وهي وجوب المقدمة ، فالكلام يقع في مقامين :

الأوّل : في جريان الأصل في نفس الملازمة.

والثاني : في جريانه في وجوب المقدمة.

أمّا المقام الأوّل ، فتوضيحه يتوقف على تقديم أمر ، وهو : أنّ لوازم الماهيّة عبارة عن الأمور الّتي لا تنفك عن الماهيّة ولو مع الغض عن الوجودين : الذهني والعيني ، فتجتمع مع المواد الثلاث من الوجوب والإمكان والامتناع ، حيث إنّ تلك اللّوازم ثابتة للماهيّة في مرتبة شيئيّتها ، ولا تناط بوجودها أصلا ، كالزوجيّة ، فإنّها لا تنفك عن ماهيّة الأربعة في مرتبة شيئيّتها سواء أو أوجدت في العين ، أو الذهن ، أم لا. وهذا بخلاف لوازم الوجود ، فإنّها ليست في مرتبة الماهيّة ، بل هي مترتبة على وجودها الذهني ، كالكليّة العارضة لماهية الإنسان مثلا ، فإنّها تعرض الماهية الموجودة في الذهن. أو مترتبة على وجودها الخارجي ، كالحرارة والبرودة اللّتين

٣٨٣

بين وجوب المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة وعدمها ليست لها حالة سابقة ، بل تكون

______________________________________________________

هما من لوازم وجود ماهيّتي الماء والنار في العين.

وقد ظهر من هذا البيان فائدتان :

الأولى : أنّ لوازم الوجود من الحوادث المسبوقة بالعدم ، لأنّها قبل وجود الماهية عينا أو ذهنا معدومة. بخلاف لوازم الماهية ، فإنّها ـ كما عرفت ـ ثابتة مع شيئيّة الماهية المجتمعة مع الوجود والعدم ، وليست كلوازم الوجود من الموجودات المسبوقة بالعدم.

الثانية : أنّ اللّزوم في لوازم الماهيّة بمعنى التبعيّة ، حيث إنّ جعل نفس الماهية كاف في صحة انتزاع اللّوازم عنها ، ولذا لا وجود ولا جعل لها غير وجود الماهية وجعلها ، فالجعل الواحد يضاف إلى الماهية بالذات ، وإلى لوازمها بالعرض.

وأما اللّزوم في لوازم الوجود ، فهو بمعنى الاقتضاء والمنشئيّة من غير فرق في ذلك بين لوازم الوجود الذهني ، كالكليّة ، ولوازم الوجود الخارجي ، كالحرارة ، ضرورة أن المقتضي للاتصاف بالكلية مثلا ، وبالحرارة والبرودة هو الوجود العيني والذهني.

قال المحقق السبزواري (قده) في اللئالي في فصل العرض ص ٢٨ :

«هذان لازما وجود مقتضي

وليس لازم الوجوبين المضي»

أي : الّذي مضى ذكره قبلهما هو لازم الماهية ، لأنّه وإن كان معها أحد الوجودين ، إلّا أنّه على سبيل الحينيّة ، لا المشروطة ، فليس الوجود بمعتبر في لزوم لازم الماهية أصلا».

إذا عرفت هذه المقدمة ، فاعلم : أنّ استلزام وجوب الواجب لوجوب مقدّمته من قبيل استلزام الماهيّة للازمها في عدم الانفكاك ، فكما لا تكون الزوجية منفكّة عن ماهية الأربعة ، فكذلك وجوب المقدمة لا ينفك عن وجوب ذيها ، للملازمة بين الوجوبين وإن لم يكن وجوب فعليّ نفسيّ لشيء ذي مقدمة ، فإنّ القضيّة الشرطية صادقة وإن لم يكن طرفاها موجودين فعلا ، بل وإن كانا ممتنعين ، كقولنا : «لو كان

٣٨٤

الملازمة ، أو عدمها أزليّة (١). نعم (٢) : نفس وجوب المقدّمة يكون مسبوقا بالعدم (٣) ، حيث يكون حادثا بحدوث وجوب ذي المقدّمة ، فالأصل عدم وجوبها.

وتوهم (٤) عدم جريانه ، لكون وجوبها على الملازمة من قبيل لوازم

______________________________________________________

«شريك الباري موجودا ، لكان العالم فاسدا» ، فالملازمة بين وجوب الواجب ومقدّمته أو عدمها ثابتة عند العقل ، وليست مسبوقة بالعدم ، لأنّ وجوب الواجب إمّا وجد مع الملازمة ، أو وجد لا معها ، فليست لها حالة سابقة حتى تستصحب.

(١) لما عرفت : من عدم دورانها مدار وجود الطرفين ، ولا إمكانهما.

(٢) وأما المقام الثاني ، وهو الجهة الفقهيّة أعنى : وجوب المقدّمة الّذي أشار إليه بقوله : ـ نعم ـ ، فملخصه : أنّه وإن لم تكن الملازمة ممّا له حالة سابقة ، إلّا أنّ أثرها ـ وهو وجوب المقدّمة ـ ممّا يكون له حالة سابقة ، وهي : عدم الوجوب ، حيث إنّ السير لم يكن واجبا قبل وجوب الحج ، فإن وجب ، فإنّما يجب بوجوب الحج ، فإذا شككنا في وجوب السير بعد وجوب الحج ، فيجري فيه استصحاب عدم وجوبه.

والحاصل : أنّ الأصل لا يجري في الملازمة الّتي هي مسألة أصوليّة ، لكنها تجري في المسألة الفقهيّة.

(٣) أي : العدم النعتيّ ، لصحّة أن يقال : هذا السير لم يكن قبل وجوب الحج واجبا قطعا ، والآن يشكّ في وجوبه ، فالأصل عدمه.

(٤) هذا إشكال على جريان الاستصحاب في عدم وجوب المقدّمة.

وملخصه : اختلال بعض شرائط الاستصحاب الموجب لعدم جريانه في المقام.

توضيحه : أنّه يعتبر في الاستصحاب أن يكون مجراه مجعولا شرعيّا تكليفيّا ، كالوجوب ، والحرمة ، والاستحباب ، والكراهة ـ بناء على جريانه في الأحكام التكليفيّة ـ ، أو وضعيّا ، كالملكيّة ، والزوجيّة ، ونحوهما ، أو موضوعا لحكم شرعي ، كالعدالة ، والاجتهاد ، ونحوهما من الموضوعات الّتي يترتّب عليها أحكام شرعيّة ، فلا يجري الاستصحاب فيما لا يكون بنفسه مجعولا شرعيّا ، ولا موضوعا لأثر شرعيّ

٣٨٥

الماهية غير مجعولة (١) ، ولا أثر آخر (*) مجعول مترتّب عليه (٢) ، ولو كان (٣)

______________________________________________________

كالمقام ، حيث إنّ وجوب المقدّمة يكون من لوازم وجوب ذيها ، ومن المعلوم : أنّ لوازم الماهيّة غير مجعولة ، لأنّها ـ كما عرفت آنفا ـ أمور منتزعة عن نفس الماهيّة مع الغضّ عن وجودها عينا ، أو ذهنا ، فلا جعل حقيقة إلا لمنشإ انتزاعها ـ وهو الماهيّة ـ ، كما لا وجود لتلك اللوازم ، بل وجودها بوجود منشأ انتزاعها ، فالجعل واحد يضاف إلى الماهيّة بالذات ، وإلى لوازمها بالعرض والمجاز.

وعليه : فيكون وجوب المقدّمة كزوجيّة الأربعة في عدم المجعوليّة ، فليس وجوبها مجعولا شرعيّا حتى يكون عدمه أيضا شرعيّا ليجري فيه الأصل العملي.

كما أنّ وجوب المقدّمة ليس أيضا من الموضوع الّذي يترتّب عليه الأثر الشّرعي حتى يجري فيه الاستصحاب.

فالمتحصل : أنّ وجوب المقدّمة لا يجري فيه الاستصحاب أصلا ، لاختلال شرط جريانه وهو : كون مجراه مجعولا شرعيّا ، أو موضوعا ذا أثر شرعي.

(١) لما عرفت آنفا : من كون المجعول وجوب نفس الواجب ، لا مقدّمته.

(٢) أي : على وجوب المقدّمة ، وغرضه ما مر : من عدم كون وجوب المقدّمة ذا أثر شرعيّ حتى يجري فيه الاستصحاب بلحاظ ذلك الأثر ، كجريانه في سائر الموضوعات بلحاظ ما يترتّب عليها من الآثار الشرعيّة.

(٣) يعني : ولو كان أثر مجعول مترتّب على وجوب المقدّمة كحصول البرء في نذر واجب بإتيان مقدّمة الواجب ـ بناء على وجوبها ـ ، وعدم حصوله ـ بناء على عدم وجوبها ـ لم يكن ذلك الأثر بمهمّ في المسألة الأصوليّة الّتي هي مورد

__________________

(*) الأولى : إسقاط هذه الكلمة كما لا يخفى وكما أنّ حقّ العبارة أن تكون هكذا : «ولا ممّا يترتّب عليه أثر مجعول» ، ليتحصّل منها : أنّ وجوب المقدّمة من قبيل لوازم الماهيّة الّتي لا تكون مجعولة ، ولا موضوعا لمجعول شرعي ، فلا يجري فيه الاستصحاب.

٣٨٦

لم يكن بمهمّ هاهنا (١) ، مدفوع (٢) بأنّه (٣) وإن كان غير مجعول بالذات (٤) ، لا بالجعل البسيط الّذي هو مفاد كان التامّة ، ولا بالجعل التأليفي الّذي هو مفاد كان الناقصة ، إلّا أنّه (٥) مجعول بالعرض (*) وبتبع [ويتبع] جعل وجوب ذي

______________________________________________________

البحث ، بل المهم إثبات نفس وجوب المقدّمة ، أو عدمه ، لا الأثر الفقهي المترتّب عليهما ، فإنّ ذلك أجنبيّ عن محلّ البحث وهي المسألة الأصوليّة.

(١) أي : في المسألة الأصوليّة.

(٢) خبر ـ توهّم ـ ، ودفع له ، وحاصله : أن وجوب المقدّمة وإن كان من قبيل لوازم الماهيّة الّتي ليست مجعولة حقيقة لا بالجعل البسيط ، وهو وجود الشيء في نفسه ، كوجود زيد مثلا المسمّى تارة بالوجود المحمولي الّذي هو مفاد كان التامّة ، وأخرى بالوجود الرابط ـ على اصطلاح بعض ـ. ولا بالجعل التأليفي الّذي هو وجود شيء لا في نفسه ، كجعل القيام لزيد مثلا ، وهو مفاد كان الناقصة المسمّى بالوجود الرابطي والنعتيّ ، لكنه مع ذلك يمكن إجراء الأصل فيه ، لأنّ لوازم الماهيّة أيضا مجعولة بالعرض ، حيث إنّ جعل الماهية ينسب إلى لوازمها بالعرض والمجاز ، وهذا المقدار من الجعل كاف في صحّة جريان الأصل فيه.

(٣) أي : وجوب المقدّمة.

(٤) أي : حقيقة بقسميه من البسيط والتأليفي في مقابل العرض والمجاز.

(٥) أي : وجوب المقدّمة.

__________________

(*) لا يخفى : أن تسليم جعل وجوب المقدّمة بالنسبة إلى وجوب ذيها من قبيل لوازم الماهيّة ليكون وجوبها بالعرض والمجاز في حيز المنع ، وذلك لما عرفت من أنّ لازم الماهيّة لا وجود له غير وجودها ، ولذا لا جعل له أيضا غير جعلها.

بخلاف المقدّمة ، فإنّ إرادتها مغايرة وجودا لإرادة ذيها ، وليست إرادة المقدّمة من قبيل لازم ماهيّة إرادة ذيها ، لتعدّد الإرادة المتعلّقة بهما بالضرورة ، ومع تعدّد الوجود الّذي يشهد به علّيّة إحدى الإرادتين للأخرى لا بدّ من تعدّد الجعل.

٣٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

نعم جعل وجوب المقدّمة تبعيّ ، لأنّه تابع لوجوب ذيها. نظير الملكيّة للنتاج ، فإنّ مالك الأصول يملك النتاج تبعا لملكيّة الأصول.

وبالجملة ، فالحق : افتراق وجوب المقدّمة عن لوازم الماهيّة كزوجيّة الأربعة ، وعدم ارتباطه بها ، وعدم مجال للتوهّم المزبور حتى يحتاج إلى التكلّف في دفعه.

ولو بني على كون وجوب المقدّمة من قبيل لوازم الماهيّة ، فلا يجدي جواب المصنّف (قده) : «من كون وجوب المقدّمة مجعولا بالجعل العرضي» ضرورة أنّ الجعل العرضي الثابت للمقدّمة ليس جعلا حقيقة ، لصحّة سلبه عنه قطعا. والجعل الحقيقي لها منتف يقينا ، ولا شكّ فيه حتى يجري فيه الأصل الّذي موضوعه متقوّم بالشك ، إذ المفروض عدم قابليّة لوازم الماهيّة للجعل المستقل.

والحاصل : أنّ الجعل العرضيّ ليس جعلا ، والحقيقي منه مقطوع العدم ، لعدم قابليّة المورد له ، فلا مجرى لأصالة العدم. هذا بناء على كون وجوب المقدّمة لوجوب ذيها من قبيل لوازم الماهيّة.

وكذا الحال بناء على كونه من قبيل لوازم الوجود ، لأنّ وجوب المقدّمة على هذا تبعيّ ، فنقطع بوجوبها التبعي.

فالمتحصل : أنّه لا أصل يجري في الملازمة الّتي هي جهة أصوليّة ، ولا في وجوب المقدّمة الّذي هو جهة فقهيّة. هذا كلّه في أصالة العدم المراد بها الاستصحاب.

وإن أريد بها : أصالة البراءة ، فكذلك أيضا. أمّا البراءة العقليّة ، فلأنّها تجري لدفع العقاب المحتمل ، ومن المعلوم : أنّه في المقام معلوم العدم ، لاتّفاقهم على عدم ترتّب العقوبة على ترك المقدّمة ، كعدم ترتّب المثوبة على فعلها. وإنّما العقاب على ترك الواجب النفسيّ المؤدّي إليه ترك المقدّمة.

وأمّا البراءة النقليّة ، فلأنّها تجري في مقام الامتنان المستلزم لرفع استحقاق

٣٨٨

المقدّمة ، وهو (١) كاف (*) في جريان الأصل

ولزوم (٢) التفكيك بين الوجوبين مع الشك لا محالة (٣) ، لأصالة (٤) عدم

______________________________________________________

(١) أي : الجعل بالعرض كاف في جريان الأصل فيه.

(٢) هذا إشكال آخر على جريان استصحاب عدم وجوب المقدّمة ، وحاصله : لزوم التفكيك بين اللّازم والملزوم.

توضيحه : أنّ الملازمة ـ على تقدير ثبوتها ـ تقتضي عدم انفكاك وجوب المقدّمة عن وجوب ذيها ، وحيث إنّ الأصل لم يجر في نفس الملازمة كما تقدم عن المصنّف ، فلا بد أن لا يجري في المقدّمة ، لأنّه إذا جرى فيها ، وثبت بالأصل عدم وجوبها لزم التفكيك بين الملزوم ـ وهو الوجوب النفسيّ ـ ، وبين اللازم ـ وهو الوجوب الغيريّ المقدّمي ـ ، مثلا : إذا جرى استصحاب عدم وجوب السير إلى الحج مع وجوب نفس الحج الّذي هو ملزوم وجوب السير يلزم منه التفكيك بين الوجوبين ، وهما : وجوب الحج نفسيّا ، ووجوب السير غيريّا ، فلا بد من الالتزام بعدم إجراء استصحاب عدم الوجوب في السير.

(٣) هذا وقوله : ـ مع الشك ـ قيدان لقوله : ـ ولزوم التفكيك ـ.

يعني : يلزم لا محالة ـ مع الشك الموجب لجريان الأصل في وجوب المقدّمة ـ التفكيك بين وجوبي الواجب ومقدّمته.

(٤) اللام للتعليل ، وهو متعلق بقوله : ـ ولزوم ـ.

__________________

العقوبة. وبعبارة أخرى : شأن البراءة النقليّة المستفادة من حديث الرفع ونحوه : إثبات الترخيص والتوسعة ليكون المكلّف في سعة وأمان من العقاب ، وقد عرفت : القطع بعدم المؤاخذة على ترك المقدّمة ، فلا أثر عملا لأصالة البراءة في مسألة المقدّمة أصلا.

(*) بل غير كاف في جريانه ، كما عرفت.

٣٨٩

وجوب المقدّمة مع وجوب ذي المقدّمة لا ينافى (١) الملازمة بين الواقعيّين ،

وإنّما ينافى (٢) الملازمة بين الفعليّين. نعم (٣) لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتى في مرتبة الفعليّة لما صح التمسّك بالأصل (٤) ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) خبر قوله : ـ ولزوم ـ ، ودفع للإشكال. توضيحه : أنّ أصالة عدم وجوب المقدّمة ظاهرا لا تنافي الملازمة بين الوجوبين الواقعيّين ، لأنّ وعاء الملازمة هو الواقع ، ووعاء الأصل هو الشك المتأخّر عن الواقع ، فالأصل لا يمس كرامة الواقع الّذي هو ظرف الملازمة ، فعدم وجوب المقدّمة ظاهرا للأصل لا ينافي وجوبها واقعا لأجل الملازمة الواقعيّة بين الوجوبين.

وبالجملة : فلا يدلّ جريان الأصل في عدم وجوب المقدّمة على عدم الملازمة واقعا بين وجوب الواجب ووجوب مقدّمته ، كما توهم. نعم تتحقق المنافاة بينهما إذا كان المدّعى الملازمة المطلقة حتى في مرتبة الفعليّة ، فلا يصح حينئذ جريان الأصل في وجوب المقدّمة ، حيث إنّ مقتضى الملازمة المطلقة مع فرض وجوب ذي المقدّمة هو العلم بوجوب المقدّمة بطريق اللم ، فالشكّ البدويّ في وجوبها يرتفع بالعلم بوجوب ذيها ، ومع هذا العلم الموجب للعلم بوجوب المقدّمة لا مجال لجريان الأصل في عدم وجوبها.

(٢) يعني : وإنّما ينافي التفكيك بين الوجوبين الملازمة بين الوجوبين الفعليّين. توضيحه : أنّ جريان الأصل في المقدّمة حينئذ يستلزم التناقض ، حيث إنّ المفروض وجوب المقدّمة فعلا ، والأصل يقتضي عدمه كذلك ، فحينئذ يجتمع الوجوب الفعلي وعدمه على المقدّمة. أمّا الأوّل ، فللملازمة. وأمّا الثاني ، فللأصل ، وليس هذا إلّا التناقض.

(٣) استدراك على قوله : ـ لا ينافي الملازمة ـ وقد مرّ توضيحه آنفا بقولنا :

«نعم تتحقق المنافاة بينهما ... إلخ».

(٤) لوجهين : أحدهما : التناقض المتقدّم قريبا. والآخر : عدم الموضوع

٣٩٠

إذا عرفت ما ذكرنا ، فقد تصدّى غير واحد من الأفاضل لإقامة البرهان على الملازمة ، وما أتى منهم بواحد (١) خال عن الخلل ، والأولى إحالة ذلك إلى الوجدان (٢) حيث إنّه أقوى شاهد على أنّ الإنسان إذا أراد شيئا له مقدّمات أراد تلك المقدّمات لو التفت إليها (*) ، بحيث ربّما يجعلها في قالب الطلب مثله (٣) ، ويقول مولويّا :

______________________________________________________

للأصل ، حيث إنّ موضوعه هو الشكّ المعلوم انتفاؤه هنا ، لأنّه ـ بناء على الملازمة بين وجوب الواجب ومقدّمته ـ يعلم بوجوب المقدّمة لمّا بعد العلم بوجوب ذيها ، فلا شكّ في وجوب المقدّمة حتى يجري فيه الأصل.

(١) أي : ببرهان واحد خال عن الخلل ، وقوله : ـ أتى ـ ماض معلوم.

(٢) كما في تقريرات شيخنا الأعظم (قده) ، وقد عزاه في البدائع إلى جمع من الأعيان ، كالمحقق الدوّاني ، والمحقق الطوسي ، وظاهر كلام سيّد الحكماء والمتألهين المير محمّد باقر الداماد في بعض تحقيقاته : «وتلقّاه بالقبول مشايخنا العظام ، وأساتيذنا الكرام ، وسائر المتأخّرين الفخام ، وهو أقوى الأدلّة الّتي استدل بها في المقام ، وأسدّها» انتهى كلام البدائع.

(٣) أي : مثل نفس الشيء الّذي له مقدّمات. ومحصل هذا البرهان : أنّ الوجدان يحكم بالملازمة بين إرادة شيء وإرادة مقدّماته لو التفت المريد إلى تلك المقدّمات ، بل قد يأمر بها مولويّا ، كما يأمر بنفس ذلك الشيء ، فيقول مولويا : «ادخل السوق واشتر اللّحم» ، فالأمر بدخول السوق ـ الّذي هو مقدّمة ـ يكون مولويّا كالأمر بذي المقدّمة ، وهو شراء اللحم.

__________________

(*) لا يخفى : أن وجوب المقدّمة بمعنى اللّابديّة العقليّة ، وبمعنى الوجوب العرضي الّذي هو إسناد الوجوب النّفسي إلى ذي المقدّمة حقيقيّا أوّليّا ، وإلى المقدّمة عرضيا ثانويّا ، نظير إضافة الجعل إلى نفس الماهيّة حقيقة ، وإلى لوازمها مجازا ، ليس محلّ النزاع بين المحقّقين ، إذ الوجوب العقلي مقوّم للمقدّميّة ، فإنكاره مساوق لإنكار المقدّميّة. وكذا الوجوب العرضي ـ بناء على كون وجوب

٣٩١

ـ ادخل السوق واشتر اللحم ـ مثلا ، بداهة أنّ الطلب المنشأ بخطاب ـ ادخل ـ مثل المنشأ بخطاب ـ اشتر ـ في كونه (١) بعثا مولويّا (*) ، وأنّه حيث تعلّقت إرادته (٢)

______________________________________________________

(١) أي : الطلب المنشأ بخطاب : ـ ادخل ـ.

(٢) أي : الإنسان ، وقوله : ـ وانّه ـ معطوف على ـ أنّ الطلب ـ والضمير للشأن.

__________________

المقدّمة من قبيل لوازم الماهية ـ ، فإنّه أيضا خارج عن مورد النزاع ، لأنّ إنكاره يرجع إلى إنكار كونه من اللّوازم.

فالوجوب المبحوث عنه دائر بين نحوين :

أحدهما : الوجوب الشرعي الأصلي ـ كما في القوانين ـ حيث قال (قده) : «الوجوب المتنازع فيه هو الوجوب الشرعي» إلى أن قال : «والمراد من الوجوب الشرعي هو الأصلي الّذي حصل من اللّفظ ، وثبت من الخطاب قصدا. وبالجملة : النزاع في الخطاب بالكون على السطح هل هو تكليف واحد وخطاب بشيء واحد ، أو تكليفات وخطاب بأمور : أحدها : الكون ، والثاني : نصب السلم والتدرّج بكلّ درجة درجة ، وغيرهما» انتهى كلامه رفع مقامه.

وظاهره : إرادة الوجوب الاستقلالي في مقابل الوجوب الضمني الثابت لأجزاء المركّب ، كما لا يخفى ، وإن كان ظاهر عبارة الفصول خروجه أيضا عن محل النزاع ، حيث قال : «كذلك لا نزاع في عدم تعلّق الخطاب الأصلي بها ، بحيث يكون الخطاب بالشيء خطابا به وبمقدّمته ، لظهور أنّ معنى ـ افعل ـ ليس إلّا طلب الفعل فقط ، دون ذلك مع طلب مقدّماته».

ثانيهما : الوجوب التبعي المترشّح من وجوب ذي المقدّمة. والفرق بين هذا وما قبله هو : أنّ مختار المحقّق القمي (قده) موقوف على الالتفات إلى المقدّميّة ، كما لا يخفى وجهه. بخلاف الوجوب التبعي ، فإنّه لا يتوقّف على ذلك ، بل يجتمع مع القطع بعدم المقدّميّة أيضا.

(*) في كونه مولويّا غموض ، لأنّ كلّ حكم عقليّ يقع في سلسلة

٣٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

معلولات الأحكام الشرعيّة فاقد لجهة المولويّة ، لما تقرّر في محله : من كون حسن الإطاعة عقليّا محضا ليس فيه شائبة المولويّة ، لفقدان ملاكها ، ولو ورد أمر من الشارع في هذه السلسلة ، فيحمل لا محالة على الإرشاد إلى حكم العقل. وفي المقام لا إشكال في أنّ المقدّمة لا مطلوبيّة لها بالذات ، وإنّما هي مطلوبة لتوقّف امتثال أمر ذي المقدّمة على إيجادها ، فلا حسن لها ذاتا حتى يعرضها أمر مولوي.

وبعبارة أخرى : إنّما تتّصف المقدّمة بالحسن والمطلوبيّة بعد مطلوبيّة ذيها ، فحسنها معلول لحسن ذيها ، وكذا إرادتها والأمر بها ، فالمقدّمة في جميع هذه المراحل تابعة لذيها ، فوجوب المقدّمة لا محالة يكون من شئون وجوب الإطاعة عقلا.

ولا يمكن أن يكون مولويّا ، لا مستقلا ، ولا تبعا. ولو أمر به الشارع أحيانا كان إرشادا إلى حكم العقل ، كقوله تعالى : «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم».

فالمتحصل : أنّ المقدّمة ـ لكون الغرض منها التوصّل بها إلى الواجب النفسيّ ـ يندرج طلبها والأمر بها في سلسلة معلولات الأحكام الّتي لا تقبل المولويّة.

ومن هنا يظهر : ما في الوجدان المزبور من الإشكال ، لأنّ مجرّد إرادة المولى للمقدّمات ، بل والأمر بها لا تدلّ على وجوب المقدّمة مولويّا ، بل الأمر والإرادة تابعان لإرادة الواجب النفسيّ ، ومترتّبان عليها. وكلّما يقع في سلسلة معلولات الأحكام لا يكون فيه مجال للمولويّة ، بل هو مسرح حكم العقل.

فعدم المولويّة إنّما هو لعدم قابليّة المورد لها ، لا لأجل اللّغويّة ـ كما في بعض التقريرات ـ إذ يمكن دفع اللّغويّة بصحّة التقرّب به ، وبترتّب الثواب والعقاب عليه ، وبصيرورة تارك المقدّمات فاسقا. وبظهور الثمرة في النذر ، ونحو ذلك ، هذا.

وقد ظهر ممّا ذكرنا من عدم قابليّة المقدّمة للأمر المولي : أن ما في بعض تقريرات شيخنا المحقق العراقي (قده) من : «أنّ حكم العقل بالإتيان من

٣٩٣

بإيجاد عبده الاشتراء ترشّحت منها (١) له إرادة أخرى بدخول السوق بعد الالتفات إليه ، وأنّه (٢) يكون مقدّمة له (٣) كما لا يخفى.

ويؤيد (٤) الوجدان ، بل يكون من أوضح البرهان : وجود الأوامر الغيريّة

______________________________________________________

(١) يعني : ترشّحت من إرادة الإنسان ـ المتعلقة بالاشتراء ـ إرادة أخرى بمقدّمته ، وهي : دخول السوق. والوجدان لا يفرّق بين الأمر بشراء اللّحم ، وبين الأمر بدخول السوق بجعل أحدهما مولويّا ، والآخر إرشاديّا ، بل الأمر في كلّ منهما مولوي.

(٢) معطوف على الضمير المجرور في ـ إليه ـ ، وكلا الضميرين راجعان إلى دخول السوق.

يعني : بعد الالتفات إلى دخول السوق ، وإلى : أنّه يكون مقدّمة للاشتراء الّذي هو الشيء المراد والواجب النفسيّ.

(٣) أي : للاشتراء.

(٤) هذا المؤيّد منسوب إلى سيّد الأساطين الميرزا الكبير الشيرازي (قده).

ومحصله : أنّ وجود الأوامر الغيريّة المتعلّقة ببعض مقدّمات بعض الواجبات الشرعيّة ، كالوضوء ، والغسل ، والطهارة الخبثيّة ، وغيرها للصلاة ، والطواف مثلا ، وببعض مقدّمات بعض الواجبات العرفيّة ، كالأمر بدخول السوق لاشتراء اللحم ، أقوى شاهد على وجود الملازمة بين وجوب كلّ واجب نفسيّ ، ووجوب كلّ مقدّمة من

__________________

باب اللابديّة لا يوجب اضمحلال ذلك الوجوب الغيري المترشّح من ذي المقدّمة ، فإنّه بذلك يزداد توسعة في كيفيّة التقرّب ، فلو أتى به العبد بدعوة ذلك الأمر يحصل له التقرّب في مقام الإطاعة ، فلم يكن تعلّقه بالمقدّمة خاليا عن الفائدة» لا يخلو من الغموض ، إذ ليس الإشكال في وجوب المقدّمة مولويّا من ناحية اللّغويّة ، وعدم الفائدة حتى يدفع ذلك بما أفاده ، بل الإشكال إنّما هو من ناحية عدم قابليّة المورد للأمر المولوي ، كما عرفت.

٣٩٤

في الشرعيّات ، والعرفيّات (١) ، لوضوح أنّه (٢) لا يكاد يتعلّق بمقدّمة أمر غيريّ إلّا إذا كان فيها (٣) مناطه ، وإذا كان فيها كان في مثلها ، فيصح (٤) تعلّقه به أيضا (٥)

______________________________________________________

مقدّماته ، وذلك لأنّ مناط الوجوب الغيري ـ وهو التوصّل إلى الواجب النفسيّ ـ موجود في كلّ مقدّمة ، فلا بد من الحكم بوجوب جميع المقدّمات ، لاتّحاد حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز ، فيستكشف من وجود أوامر غيريّة بالنسبة إلى جملة من المقدّمات وجوب غيرها من المقدّمات الّتي لم يرد فيها أمر غيريّ أيضا.

(١) الأوّل : كالأمر بالوضوء ، والغسل ، والثاني : كالأمر بدخول السوق.

(٢) الضمير للشأن ، وقوله : ـ لوضوح ـ تعليل ل ـ ويؤيد ـ ، وقد عرفت توضيحه.

(٣) أي : في تلك المقدّمة مناط الأمر الغيري. والمقصود : أنّه إذا كان مناط الأمر الغيري ـ وهو التوصّل إلى ذي المقدّمة ـ ثابتا في بعض المقدّمات الشرعيّة ، أو العرفيّة الّتي تعلّق الأمر الغيري بها ، كان هذا المناط ثابتا في مثلها من المقدمات الّتي لم يتعلّق بها أمر غيريّ شرعيّ أو عرفي ظاهرا ، وحيث ثبت فيها المناط كان ذلك كاشفا عن وجوبها ، فإنّ تعلّق الأمر بتلك المقدّمات يكشف عن تعلّقه بهذه المقدمات أيضا ، لوجود المناط ـ وهو التوقّف ـ في الجميع على نهج واحد.

فتلخص : أنّ علّة الوجوب الغيري مشتركة بين جميع المقدّمات ، فلا بد من الالتزام بوجوب جميعها غيريّا من دون فرق في ذلك بين المقدّمات الّتي تعلّق بها الأمر الغيري ، وبين المقدّمات الّتي لم يتعلّق بها ذلك.

(٤) هذا متفرّع على : مماثلة المقدّمات الّتي لم يتعلق بها أمر غيريّ للمقدّمات الّتي تعلق بها أمر غيري في مناط الوجوب.

يعني : فيصح تعلق الأمر الغيري بمثل المقدمات التي تعلق بها أمر غيري من المقدمات التي لم يتعلق بها ذلك ، فضمير ـ تعلقه ـ راجع إلى الأمر الغيري ، وضمير ـ به ـ إلى مثلها.

(٥) يعني : كما صحّ تعلق الأمر بالمقدّمات الواقعة في حيّز الأمر الغيري.

٣٩٥

لتحقّق (١) ملاكه ، ومناطه (*).

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : ـ فيصح ـ ، وضميرا ـ ملاكه ومناطه ـ راجعان إلى الأمر الغيري.

__________________

(*) لا يخفى : أنّ جعل هذا الوجه مؤيّدا أولى من جعله برهانا فضلا عن كونه من أوضح البرهان ، وذلك لأنّه مبنيّ على مقدّمات ظنيّة ، مع أنّ المسألة عقليّة.

إحداها : كون الأمر بالمقدّمات الواقعة في حيّزه مولويّا ، وهذا ظهور لا يفيد القطع.

ثانيتها : كون تمام الملاك في المولويّة هو المقدّميّة ، دون غيرها.

ثالثتها : خلوّ المقدّمات الّتي لم يتعلّق بها أمر غيريّ عن موانع تعلّق الأمر المولوي بها حتى يؤثّر ملاك المقدّميّة في جعل الأمر المولوي لها.

ولا سبيل إلى القطع بعدم المانع. كما أنّه لا طريق إلى العلم بمولويّة الأمر المتعلّق بالمقدّمات ، ضرورة أنّ الظهور لا يوجب القطع.

كما أنّ المقدّمة الثانية غير قطعيّة أيضا ، لاحتمال وجود ملاك آخر مع مناط المقدّميّة أوجب ذلك الملاك مولويّته. فالعلم بكون المقدّميّة والتوقّف علّة تامّة لمولويّة الأمر الغيري غير حاصل ، لكون المقدّمات جلّها بل كلّها ظنيّة ، هذا.

ولا يصغى إلى ما في حاشية العلامة الأراكي (قده) على المتن من : «أنّ حصول القطع بهذه المقدّمات الثلاث خفيف المئونة لمن مارس مواقع الأوامر الصادرة عن الموالي العرفيّة ، وراجع ما يصدر من نفسه من الأوامر الغيريّة ، ولو حصل الشك في واحد ضمّ إليه واحدا بعد واحد حتى يحصل له القطع بالمولويّة وبملاكه ، وباطراده في جميع الموارد. وليس هذا من باب الاستقراء الناقص المفيد للظن ، بل من باب إحراز المناط التام الساري ولو كان حاصلا من الاستقراء ، وليس ذلك بعزيز ، فإنّ إحراز الطبائع والغرائز في العلم الطبيعي كالميل بالطبع ، والميل بالقسر ، ونحوهما إنّما يكون طريقه مقصورا على الاستقراء ، كما لا يخفى على المتدرّب».

٣٩٦

والتفصيل بين السبب وغيره (١) ، والشرط الشرعي وغيره (٢) سيأتي

______________________________________________________

(١) بالوجوب في الأوّل ، وعدمه في الثاني ، وهو مختار المعالم ، والمنسوب إلى الواقفيّة ، وإلى السيد ـ على ما عن العلّامة ـ ، لكن النسبة غير ثابتة.

(٢) وهو المنسوب إلى الحاجبي والعضدي.

__________________

وذلك لأنّ ظهور الأوامر في المولويّة وإن كان ممّا لا ينكر ، كما أنّ بناء العقلاء على حجيّة الظواهر أيضا ممّا لا يقبل الإنكار ، لكن لا ينبغي الارتياب في عدم كون الظاهر كاشفا قطعيّا عن الواقع حتى يكون مجديا في المسألة العقليّة.

هذا في المقدّمة الأولى.

وكذا الحال في الثانية والثالثة ، فإنّ دعوى القطع بالعلّيّة التامّة في الأوامر المولويّة الشرعيّة دون إثباتها خرط القتاد ، لعدم إحاطتنا بملاكات الأحكام التعبّديّة إلّا ببيان العالم بها. ولو أدرك العقل أحيانا شيئا من ملاكاتها كان مدركا لما له دخل في الحكم الشرعي. وأمّا كون ذلك المدرك علّة تامّة له ، فممّا لا سبيل للعقل إلى إحرازه. فدعوى ذلك ليست إلّا تخرّصا بالغيب وفرية بلا ريب.

ومن هنا يظهر : ضعف قياس المقام بالأوامر الغيريّة الصادرة من الموالي العرفيّة ، وبمسائل سائر العلوم ممّا يمكن إحراز مناطه بالبرهان المؤلّف من اليقينيات ، وذلك لأنّ الأحكام الشرعيّة مبنيّة على ملاكات خفيّة لا تنالها أيدي العقول ، ولا تحرز إلّا ببيان العالمين بها من آل الرسول صلوات الله عليهم أجمعين. فكيف يحصل من ضمّ واحد بعد واحد القطع بالمولويّة ، وبملاكه ، مع الاطّراد في الموارد المشكوكة وهل هذا إلّا القياس المسدود بابه في مذهبنا؟ فالمقايسة المزبورة كما ترى.

فقد اتّضح من جميع ما ذكرنا : أنّ التعبير عمّا أفاده الميرزا الكبير بالتأييد أولى من عدّه من أوضح البراهين.

٣٩٧

بطلانه (١) ، وأنّه (٢) لا تفاوت [لا يتفاوت] في باب الملازمة بين مقدّمة ومقدّمة.

ولا بأس بذكر الاستدلال الّذي هو كالأصل (٣) لغيره (٤) ممّا ذكره الأفاضل

______________________________________________________

(١) أي : بطلان التفصيل.

(٢) معطوف على ـ بطلانه ـ ، ومفسّر له ، والضمير للشأن. وحاصله : أنّه ـ بناء على الملازمة بين وجوب الواجب ووجوب مقدّمته ـ لا يفرّق في الوجوب بين المقدّمات من السبب ، والشرط ، وغيرهما.

(٣) لأنّ سائر الأدلّة مشتقّة منه كاشتقاق المشتقات من المصدر ـ بناء على القول به ـ ، حيث إنّ تلك الأدلّة مشتملة على بعض ما تضمنه دليل أبي الحسن البصري ، كالمحكيّ عن المحقق الدوّاني : «من أنّه لو لم تجب المقدّمة لجاز التصريح بجواز تركها». وكالمحكي عن السبزواري من : «أنه لو لم تكن واجبة بإيجابه يلزم أن لا يكون تارك الواجب المطلق عاصيا». وكقول أبي الحسين البصري (*) من : «أنّه لو لم تجب لجاز تصريح الآمر بتركها ، والتالي باطل : فالمقدم مثله» ، إلى غير ذلك.

(٤) أي : لغير هذا الاستدلال من الاستدلالات الّتي ذكرها الأفاضل.

__________________

(*) قال في الكنى والألقاب ص ٥٠ : «أبو الحسين البصري محمّد بن علي الطيب البصري المتكلم على مذهب المعتزلة ، وهو أحد أئمّتهم الأعلام المشار إليه في هذا الفن ، له تصانيف منها المعتمد في الفقه ، وهو كتاب كبير. أخذ منه فخر الدّين الرّازي كتاب المحصول. توفّي ببغداد سنة ٤٣٦ (تلو). قال ابن خلكان : ولفظة «المتكلّم» تطلق على من يعرف علم الكلام ، وهو أصول الدين ، وإنّما قيل له علم الكلام ، لأنّ أوّل خلاف وقع في الدين كان في كلام الله عزوجل أمخلوق هو ، أم غير مخلوق ، فتكلم الناس فيه ، فسمي هذا النوع من العلم كلاما».

٣٩٨

من الاستدلالات ، وهو ما ذكره أبو الحسن البصري (١) (*) ، وهو (٢) : «أنّه

______________________________________________________

(١) والفخر الرازي ، واستدلّ به العلامة (قده) في محكي التهذيب ، والنهاية ، وقرّره في المعالم.

(٢) هذا الضمير وما قبله راجعان إلى الاستدلال الّذي هو كالأصل.

ومحصل هذا الدليل : أنّه لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها ، ضرورة أنّ عدم وجوبها يستلزم جواز تركها ، وبعد فرض جواز الترك فإن لم يبق ذو المقدّمة على وجوبه لزم خروج الواجب النفسيّ المطلق عن وجوبه. وإن بقي على وجوبه لزم التكليف بما لا يطاق ، بداهة أنّ ترك المقدّمة المفروض جوازه يوجب امتناع وجود الواجب في الخارج ، فالتكليف بإيجاد ذي المقدّمة يصير حينئذ من التكليف بغير مقدور ، وهو قبيح على العاقل فضلا على الحكيم.

والحاصل : أنّه يلزم من جواز ترك المقدّمة أحد محذورين : إمّا التكليف بما لا يطاق لو بقي ذو المقدّمة على وجوبه. وإمّا الخلف لو خرج عن وجوبه.

أمّا الأوّل ، فواضح.

وأمّا الثاني ، فلأنّ المفروض إطلاق وجوب الواجب بالنسبة إلى مقدّمته ، وعدم اشتراط وجوبه بوجودها ، ففرض عدم وجوبه حين ترك مقدّمته يرجع إلى

__________________

(*) قال في الكنى والألقاب ص ٤٥ : «أبو الحسن الأشعري عليّ بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن موسى الأشعري ، تقدّم ذكر جدّه أبي بردة. ويأتي ذكر أبي موسى بعد ذلك ، كان مولده بالبصرة ومنشؤه ببغداد وهو إمام الأشاعرة ، وإليه تنسب الطائفة الأشعريّة توفي سنة ٣٣٤ ، ودفن بين الكرخ وباب البصرة. قال ابن شحنة في روضة الناظر : في سنة ٣٢٩ توفّي أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري ، ودفن ببغداد بشرعة الزوايا ، ثم طمس قبره خوفا أن تنبشه الحنابلة ، فإنّهم كانوا يعتقدون كفره ، ويبيحون دمه ، وذكر : أنّ أبا علي الجبّائي كان زوج أمّه».

٣٩٩

لو لم يجب المقدّمة ، لجاز تركها ، وحينئذ (١) فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق (٢) ، وإلّا (٣) خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا».

وفيه : ـ بعد إصلاحه (٤)

______________________________________________________

اشتراط وجوبه بوجودها ، وهو خلاف ما فرضناه من إطلاق الوجوب.

ومن البديهي : بطلان كلا المحذورين. فعدم وجوب المقدّمة الّذي هو منشأ هذين المحذورين أيضا واضح البطلان ، لكشف فساد اللّازم ـ وهو عدم وجوب ذي المقدّمة ـ عن بطلان الملزوم ، وهو عدم وجوب المقدّمة.

(١) يعني : وحين تحقّق الترك المفروض جوازه فإن بقي الواجب ... إلخ.

(٢) هذا هو المحذور الأوّل الّذي عرفته آنفا.

(٣) أي : وإن لم يبق الواجب على وجوبه يلزم خروج الواجب ـ وهو ذو المقدّمة ـ عن الوجوب ، وهذا خلف ، وقد مرّ توضيحه. وهذا هو المحذور الثاني.

(٤) غرضه (قده) : إصلاح هذا البرهان بنحو يندرج في البراهين التي لها صورة ، ثمّ التعرض لما يرد عليه من الإشكال ، فينبغي التكلّم في مقامين :

الأوّل : في إصلاح الدليل المزبور. والثاني : في إفساده.

أمّا المقام الأوّل ، فملخص الكلام فيه : أنّ ظاهر قول المستدل : «لجاز تركها» لما كان واضح البطلان ، إذ لا ملازمة بين الشرط ـ وهو : عدم وجوب المقدّمة شرعا ـ وبين الجزاء ـ وهو جواز الترك بمعنى إباحته شرعا ـ ، ضرورة أنّ انتفاء الوجوب لا يقتضي خصوص الإباحة الشرعيّة ، بل ـ بناء على عدم خلوّها عن الحكم الشرعي ـ يتردّد بين الأحكام الأربعة الباقية. وبناء على إمكان خلوّها عن الحكم لا مانع من عدم الحكم الشرعي ، فإيجاب ذي المقدّمة لا يجتمع مع الحكم على المقدّمة بما يضاد إيجاب ذيها ، فلا حكم للمقدّمة شرعا ، بل لا بدّ من الرجوع إلى حكم العقل بلزوم الإتيان بها.

وإن شئت فقل : إن عدم وجوب المقدّمة شرعا لا يقتضي إباحتها شرعا ، وإلّا

٤٠٠