منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٥٩٢

عبارة عن طلب الفعل مع المنع عن الترك ، ويتخيّل منه : أنّه يذكر له حدّا ، فالمنع عن الترك ليس من أجزاء الوجوب ومقوّماته ، بل من خواصّه ولوازمه ، بمعنى : أنّه لو التفت الآمر إلى الترك لما كان راضيا به لا محالة ، وكان (*) يبغضه (١) البتّة.

ومن هنا (٢) انقدح : أنّه لا وجه لدعوى العينيّة ، ضرورة أنّ اللّزوم

______________________________________________________

(١) أي : الترك ، إلى هنا انتهى البحث عن اقتضاء الأمر للنهي عن الضّدّ تضمّنا.

(٢) هذا شروع في البحث عن الاقتضاء بنحو العينيّة المنسوب إلى القاضي وجماعة من المحقّقين.

وملخص تقريب العينيّة هو : أنّ الأمر بالشيء ـ كالإزالة ـ ، والنهي عن تركه عنوانان متّحدان عينا وإن كانا متغايرين مفهوما ، فإنّ قوله : «أزل النجاسة ، ولا تترك إزالة النجاسة» متغايران مفهوما ، لتغاير الأمر والنهي كذلك ، كما هو ظاهر.

فليس المراد العينيّة بحسب المفهوم ، بل العينيّة بحسب المصداق (**).

هذا ما يظهر من تقريرات شيخنا الأعظم (قده).

وقد ظهر ممّا ذكرنا : عدم صحّة دعوى العينيّة ، لأنّه ـ بناء على بساطة الوجوب ، وكون المنع من الترك من لوازمه ـ تمتنع العينيّة ، إذ من المعلوم : أنّ

__________________

(*) الظاهر : أنّه معطوف على المنفي ، وهو «كان» ، فيصير المعنى حينئذ :

لما كان راضيا به ، ولما كان يبغضه.

ومن المعلوم : أنّه ضدّ المقصود ، فالأولى أن يقال : «بل كان يبغضه البتة» إلّا أن يكون معطوفا على النفي ، وهو : «لما كان».

يعني : لو التفت الآمر إلى الترك لكان يبغضه.

(**) لكن العينيّة بهذا المعنى ـ وهو الاتّحاد بحسب المصداق ـ لا يلائمها جعلها في قبال الاقتضاء التضمّني ، لظهور هذه المقابلة في إرادة الدلالة المطابقيّة الظاهرة في الاتحاد بحسب المفهوم من العينيّة.

٤٦١

يقتضي الاثنينيّة (١) (*) ، لا الاتّحاد والعينيّة.

نعم (٢) : لا بأس بها بأن يكون المراد بها (٣) : أنّه يكون هناك طلب واحد ، وهو كما يكون حقيقة منسوبا إلى الوجود ، وبعثا إليه ، كذلك يصح أن ينسب إلى الترك (**) بالعرض والمجاز ،

______________________________________________________

اللّزوم إضافة متقوّمة بشيئين. أحدهما لازم ، والآخر ملزوم ، ويمتنع قيامه بشيء واحد يناط به العينيّة المنافية للاثنينيّة ، ومن البديهي : أنّ الأمر والنهي متضادّان ، فلا يعقل أن يكون الأمر عين النهي عن الضّد.

(١) الّتي هي قضيّة كون المنع من الترك من اللّوازم.

(٢) غرضه : توجيه دعوى العينيّة بما يرجع إلى العينيّة عناية ، لا حقيقة ، بأن يقال : إنّ قوله : «أزل النجاسة» مثلا وإن كان طلبا واحدا نحو الفعل حقيقة ، إلّا أنّه تصحّ نسبته إلى الترك أيضا مسامحة ، بحيث يصح التعبير عن طلب فعل الإزالة بقوله : «لا تترك الإزالة» مجازا ، إذ الطلب تعلّق حقيقة بالفعل ، فتعلّقه بالترك لا بد أن يكون بالعرض والمجاز.

(٣) أي : العينيّة ، وضمير ـ بها ـ في قوله : «لا بأس بها» راجع إلى دعوى العينيّة.

__________________

(*) اقتضاء اللّزوم للاثنينيّة بحسب المفهوم ممّا لا إشكال فيه ، وكذا بحسب الصدق إذا كان اللازم من لوازم الوجود ، لتخلّل الجعل حينئذ بينه وبين الملزوم.

وأما إذا كان اللازم لازما للماهيّة كالزوجيّة للأربعة ، فلمّا لم يكن اللازم قابلا للجعل ، بل كان جعل الملزوم جعلا له ، وكان اللازم منتزعا عنه ، فلا يقتضي اللّزوم حينئذ التعدّد والاثنينيّة ، فليس التعدّد لازما مساويا للّزوم ، بل يمكن اللّزوم مع الاتحاد والعينيّة أيضا.

(**) نسبة الطلب إلى الترك لا تخلو عن مسامحة ، لأنّ معناها : مطلوبيّة

٤٦٢

ويكون (١) زجرا وردعا عنه (٢) ، فافهم (٣).

الأمر الرابع (٤) : تظهر الثمرة في أنّ نتيجة المسألة ، وهي : النهي عن الضد

______________________________________________________

(١) معطوف على ـ ينسب ـ ، يعني : أنّ الطلب المنسوب إلى التّرك يراد به خلاف ظاهره ، لأنّ ظاهره كون المنسوب إليه نفس الترك ، بحيث يكون المطلوب ترك الإزالة في المثال المذكور ، وهو ينافي المقصود من كون المطلوب طلب المنع عن الترك ، والزجر عنه ، فلا بد من كون المراد طلب المنع من الترك.

(٢) أي : عن الترك.

(٣) لعلّه إشارة إلى : أنّ توجيه دعوى العينيّة بما ذكر : من نسبة الطلب إلى الترك بالعرض والمجاز لا يجدي القائلين بالعينيّة ، لأنّ مقصودهم بها ظاهرا هي الدلالة المطابقيّة الوضعيّة ، ومرجع التوجيه المزبور إلى الإطلاق المجازي الّذي هو أجنبيّ عن الدلالة الوضعيّة. أو إشارة إلى : أنّ هذا التوجيه يوجب الخروج عن موضوع كلامهم ، حيث إنّ مورد البحث ـ على القول بالاقتضاء بأيّ نحو من أنحاء الاقتضاء ـ هو تعدّد الحكم الموجب لتعدّد العقاب على تقدير المخالفة ، والتوجيه المزبور ينفي التعدّد ، لأنّ المفروض وحدة الطلب المنسوب إلى الفعل حقيقة ، وإلى الترك مجازا ، فلا تعدّد في الطلب حقيقة ، وإنّما الاختلاف في مجرّد اللفظ والتسمية.

ثمرة المسألة

(٤) الغرض من عقد هذا الأمر : بيان الثمرة المترتّبة على هذه المسألة.

وحاصل هذه الثمرة : فساد الضّد إذا كان عبادة ـ بناء على الاقتضاء ، وعلى كون النهي في العبادة مقتضيا للفساد ـ ، وصحّته ـ بناء على عدم الاقتضاء أو على عدم دلالة النهي على الفساد في العبادات ولو على القول بالاقتضاء ـ ، فإنّ هذه

__________________

الترك ، وهي ضدّ المقصود. بل المراد : نسبة الطلب إلى المنع ، والزجر عن الترك ، فمعنى قوله : «أزل النجاسة عن المسجد» طلب المنع عن ترك الإزالة ، فيضاف الطلب إلى المنع عن ترك الإزالة ، فهو بمنزلة قوله : «لا تترك الإزالة».

٤٦٣

ـ بناء على الاقتضاء (*) بضميمة أنّ النهي في العبادات يقتضي الفساد ـ ينتج فساده إذا كان عبادة. وعن البهائي (ره) (١) : أنّه أنكر الثمرة ، بدعوى : «أنّه

______________________________________________________

الثمرة ـ أي : فساد الضّدّ العبادي ـ مترتّبة على هذين الأمرين معا ، فانتفاء أحدهما يوجب انتفاء هذه الثمرة.

ثم إنّ الفساد مختص بالضّد العبادي ـ كالصلاة ـ دون التوصّلي ، لسقوط أمره بمجرّد حصوله في الخارج ولو في ضمن فرد محرّم ، ضرورة سقوط الغرض الدّاعي إلى الأمر بإيجاد الطبيعة ولو على وجه محرّم.

(١) محصّل ما أفاده شيخنا البهائي (قده) من إنكار الثمرة المزبورة هو : أنّ الضّد العبادي باطل مطلقا وإن لم نقل باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضّد ، وذلك لأنّ صحّة العبادة منوطة بالأمر ، فلا تصحّ بدونه ، والمفروض أنّ المزاحمة لو لم توجب النهي عن الضّد المزاحم كالصلاة ، فلا أقلّ من كونها رافعة لأمره ، لامتناع الأمر بالضدّين في آن واحد ، فإذا لم يكن الضّد مأمورا به يقع فاسدا ، لتوقّف صحّته على الأمر به ، ففساد الضّد العبادي لا يتوقّف على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه. فما ذكروه : من فساد الضّد إذا كان عبادة ليس ثمرة لهذه المسألة.

هذا ملخّص ما أفاده شيخنا البهائي (قده) من إنكار الثمرة المزبورة.

__________________

(*) لا يخفى : أنّ الاقتضاء إن كان بنحو التلازم ، فلا إشكال في اقتضاء النهي للفساد ، لكون النهي حينئذ نفسيّا كاشفا عن مفسدة موجبة للمبغوضيّة المضادّة للمحبوبيّة. وإن كان بنحو المقدّميّة ، ففي كون النهي مقتضيا للفساد إشكال ، لما تقرّر عندهم : من أنّ الأمر والنهي المقدّميّين لا يوجبان شيئا من القرب والبعد ، والمثوبة والعقوبة. فالضّد العبادي ـ كالصلاة ـ وإن تعلّق به نهي غيري نشأ عن الأمر المقدّمي المتعلّق بتركه الّذي هو مقدّمة لفعل الضّدّ الأهم ـ كالإزالة ـ ، لكن هذا النهي الغيري لا يوجب فساده ، وإلّا لزم نقض ما غزلوه من عدم ترتّب أثر على موافقة الأمر والنهي الغيريّين المقدميّين ومخالفتهما.

٤٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فالمتحصل : أنّ جعل فساد الضّد العبادي ثمرة لهذه المسألة ـ بناء على الاقتضاء التلازمي ـ متين ، لكون النهي عن الملازم نفسيّا كاشفا عن المبغوضيّة النفسيّة.

ومن المعلوم : أنّ هذا النهي يقتضي فساد العبادة.

وأما بناء على الاقتضاء المقدّمي ، فقد عرفت : أنّ فساد العبادة بالنهي المقدّمي والمبغوضيّة العرضيّة محل إشكال ، فجعله ثمرة لمسألة الضّد ـ بناء على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه مطلقا ـ مشكل جدّاً ، فتأمّل جيّدا.

ثم إنّهم ذكروا للمسألة ثمرات أخرى :

إحداها : حصول العصيان بفعل الضّد ، لأنّه ـ بناء على حرمته كالصلاة ـ يكون الإتيان به إثما ، وبناء على عدم حرمته لا يحصل العصيان.

ثانيتها : حصول الفسق ، وعدمه.

ثالثتها : لزوم الإتمام في السفر المفوّت للواجب.

رابعتها : نذر عدم المعصية ، فإنّه ـ بناء على الاقتضاء ـ يصير الضّد للنهي عنه حراما ، فيحصل به الحنث. وأمّا بناء على عدم الاقتضاء ، فلا حرمة ، ولا حنث.

وأنت خبير بعدم ترتّب شيء من هذه الثمرات على المسألة ـ بناء على الاقتضاء بنحو المقدّميّة ـ ، لما عرفت في طيّ البحث : من عدم مقدّميّة ترك أحد الضدّين لفعل الآخر حتى يقال : إنّ وجوب الترك يقتضي النهي عن الفعل ، فيصير فعل الضد منهيّا عنه.

مضافا إلى : عدم وجوب المقدّمة مولويّا ، على ما تقدّم في بحث مقدّمة الواجب.

وإلى : أنّ الأمر المقدّمي ـ بعد تسليم وجوبها ـ لا يوجب قربا ، ولا بعدا ، ولا ثوابا ، ولا عقابا ، فينهدم أساس الثمرات المترتّبة على الاقتضاء المقدّمي.

نعم لا بأس بها بناء على الاقتضاء التلازمي ، لما عرفت من الفرق بين الاقتضائين.

٤٦٥

لا يحتاج في استنتاج الفساد إلى (١) النهي عن الضد ، بل يكفي عدم الأمر به ، لاحتياج (٢) العبادة إلى الأمر».

وفيه (٣) : أنّه يكفي مجرّد الرّجحان والمحبوبيّة للمولى كي يصحّ أن يتقرّب به (٤) منه ، كما لا يخفى. والضّدّ (٥)

______________________________________________________

(١) متعلّق بقوله : «يحتاج».

(٢) تعليل لكفاية عدم الأمر في فساد الضّد ، وضمير ـ به ـ راجع إلى الضّد.

(٣) هذا ردّ كلام الشيخ البهائي (قده) من إنكار الثمرة. ومحصله يرجع إلى تصحيح الثمرة المذكورة الّتي تسالم عليها الأصحاب ـ كما في البدائع ـ ، حيث إنّ القائلين بالبطلان كالقديمين ، والشيخين ، والسيّدين ، والحلبيّين ، والقاضي ، والحلّي ، وجماعة من المتأخّرين ـ على ما قيل ـ فرّعوا بطلان الحاضرة على فوريّة الفائتة ، ولا يصحّ هذا التفريع إلّا على القول بالاقتضاء. والقائلون بالصحّة منعوا المبنى ، وهو الفوريّة ، دون الاقتضاء.

وكيف كان ، فتوضيح ردّ إنكار الثمرة المزبورة : أنه لا منشأ لفساد الضّد العبادي إلّا كونه منهيّا عنه بالنهي الّذي اقتضاه الأمر بالضّدّ الأهمّ ، وإلّا فلا يكون مجرّد عدم الأمر بالضدّ العبادي موجبا لفساده ، إذ يمكن تصحيحه بالرّجحان والمحبوبيّة ـ بناء على عدم انحصار القربة في قصد الأمر ـ ، فإذا لم يكن الضّدّ منهيّا عنه صحّ الإتيان به بداعي رجحانه ، بخلاف ما إذا كان منهيّا عنه ، فإنّه لا رجحان فيه حتى يقصد ، فلا محالة يبطل.

فالمتحصل : أنّ وجه الفساد منحصر في النهي عن الضّد ، دون عدم الأمر به ، فالثمرة المزبورة صحيحة.

(٤) أي : بمجرّد الرجحان والمحبوبيّة ، وضمير ـ منه ـ راجع إلى المولى.

(٥) غرضه : إثبات الصغرى ، وهي : كون الضّدّ العبادي ـ بناء على عدم النهي عنه ـ راجحا ، بعد بيان الكبرى ، وهي : كفاية مجرّد الرّجحان في التقرّب.

٤٦٦

بناء على عدم حرمته (١) يكون كذلك (٢) ، فإنّ (٣) المزاحمة على هذا (٤) لا توجب إلّا ارتفاع الأمر المتعلّق به فعلا (٥) مع بقائه (٦) على ما هو عليه من (٧) ملاكه من المصلحة ، كما هو مذهب

______________________________________________________

وحاصل ما أفاده في إثبات صغرويّة الضّدّ العبادي لتلك الكبرى هو : أنّ مزاحمة الضّد الأهم ـ كالإزالة النجاسة عن المسجد ـ للضّد العبادي ـ كالصلاة ـ لا توجب ـ بناء على عدم حرمته ـ إلّا ارتفاع الأمر عن الضّدّ العبادي المهم ، وأمّا ملاكه فهو باق على حاله ، ويصح التقرّب به. فمجرّد عدم الأمر به لا يستلزم الفساد حتى لا يكون فساد الضّد العبادي ثمرة لمسألة الاقتضاء ، كما عن شيخنا البهائي (قده).

(١) يعني : بناء على عدم الاقتضاء.

(٢) يعني : يصح التقرّب بالضّدّ غير المنهيّ عنه ، لكونه راجحا ومحبوبا.

(٣) تعليل لبقاء الملاك في الضدّ المهم عند المزاحمة ، يعني : أن مزاحمة الأهم للضّد المهم ـ بناء على عدم اقتضاء أمر الأهم للنهي عن المهم ـ لا توجب إلّا ارتفاع أمر المهم. وأمّا ملاكه ، فهو باق على حاله ، وذلك كاف في صحّة التقرّب به ، إذ لا دليل على انحصار المقرّب بقصد الأمر ، كما عن القدماء.

(٤) أي : عدم حرمة الضّد العبادي.

(٥) قيد ل ـ الأمر ـ ، وضمير ـ به ـ راجع إلى الضّد ، يعني : أنّ المزاحمة لا ترفع إلّا الأمر الفعلي المتعلّق بالضد المهمّ ـ كالصلاة ـ ، فإنّ أمرها الفعلي يرتفع بمزاحمتها للأهمّ ، كإزالة النجاسة عن المسجد ، ولا توجب المزاحمة ارتفاع الملاك المصحّح للتقرّب.

(٦) أي : الضّد ، يعني : مع بقاء الضّد على الملاك الّذي هو عليه ، لعدم التضاد بين الملاكين ، لا ذاتا ، ولا عرضا.

(٧) بيان للموصول.

٤٦٧

العدليّة (١) ، أو غيرها (٢) أيّ شيء كان ، كما هو مذهب الأشاعرة. وعدم (٣) حدوث ما يوجب مبغوضيّته ، وخروجه عن قابليّة التقرّب به (٤) ، كما حدث (٥) بناء على الاقتضاء.

ثم إنّه تصدّى جماعة من الأفاضل (٦) لتصحيح الأمر بالضّد بنحو الترتّب

______________________________________________________

(١) أي : مشهور العدليّة القائلين بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها.

(٢) معطوف على ـ المصلحة ـ ، يعني : سواء أكان الملاك المصلحة ـ كما عليه العدليّة ـ أو غير المصلحة ـ أيّ شيء كان ـ كما عليه الأشاعرة المنكرون للمصالح والمفاسد في متعلّقات الأحكام ، فإنّ الضّد باق على ما كان عليه قبل المزاحمة للأهم.

(٣) معطوف على ـ بقائه ـ ، يعني : مع بقاء الضّد على ملاكه ، وعدم حدوث ما يوجب مبغوضيّته المانعة عن التقرّب به ، كما حدث سبب المبغوضيّة ـ وهو النّهي عن الضّد ـ بناء على القول باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضد ـ ، لأنّ النّهي يوجب المبغوضيّة المانعة عن المقرّبيّة.

(٤) هذا الضمير ، وضميرا ـ مبغوضيّته ـ و ـ خروجه ـ راجعة إلى الضّد.

(٥) يعني : كما حدث ما يوجب المبغوضيّة والخروج عن قابليّة التقرّب ـ بناء على اقتضاء الأمر بالشيء للنّهي عن الضّد ـ ، حيث إنّ النهي يحدث في متعلّقه مبغوضيّة مانعة عن التقرّب به.

الترتب

(٦) منهم : المحقّق الثاني ، وكاشف الغطاء ، وسيد الأساطين الميرزا الكبير الشيرازي ، وتلميذاه : المحققان السيد محمّد الأصفهانيّ ، والميرزا النائيني ، وغيرهم.

خلافا لجماعة آخرين ، كشيخنا الأعظم ، وجمع ممّن تأخّر عنه.

وغرض الماتن من قوله : «ثم إنّه تصدّى جماعة ... إلخ» : تصحيح الضدّ العبادي

٤٦٨

على العصيان ، وعدم إطاعة الأمر بالشيء (١) بنحو (٢) الشرط المتأخّر (٣) (*) ،

______________________________________________________

حتى على مذهب القدماء القائلين يتوقّف صحة العبادة على الأمر ، بناء منهم على انحصار المقرّب فيه ، وعدم كفاية الملاك والمحبوبيّة في قصد التقرّب.

وحاصل ما أفيد في تصوير الأمر بالضّد بنحو الترتّب هو : أنّ عصيان الأمر بالأهم ـ كالإزالة ـ يكون موضوعا للأمر بالمهم ـ كالصلاة ـ ، فكأنّ المولى قال : «أزل النجاسة وإن عصيت وتركت الإزالة فصلّ» أو قال : «أنقذ المؤمن الغريق ، وإن تركت الإنقاذ ، فصلّ أو حجّ ، أو أزل» مثلا. وعليه : فالأمر بالضد المهم مترتّب على عصيان الأمر بالأهم ، ومتأخّر عنه ، وفي طوله ، لا في عرضه ، إذ المفروض : أنّ عصيانه موضوع للأمر بالمهم ، فلا يلزم من طلب الضدّين بهذا النحو طلب الجمع بينهما ، حتى يقال باستحالته ، كاستحالة الجمع بين الضّدين.

(١) وهو : الضّد الأهم كالإزالة ، أو الإنقاذ بالنسبة إلى الصلاة.

(٢) متعلّق بالعصيان ـ.

(٣) حيث إنّ عصيان الأمر بالأهم يتوقّف على الإتيان بالمهم ، فيكون عصيان

__________________

(*) لا الشرط المتقدّم ، ولا المقارن ، إذ على الأوّل يخرج عن مورد البحث وهو : اجتماع الأمر بالضّدين في زمان واحد مع اختلافهما رتبة.

توضيح وجه خروجه عن محلّ البحث هو : سقوط الأمر بالأهم بالعصيان المتحقّق قبل زمان الأمر بالمهم ، وبعد سقوطه ليس في البين إلّا أمر المهم ، فلا يجتمع حينئذ أمران بضدّين في زمان واحد ، بل هنا أمر واحد متعلّق بالضد المهم. وهذا غير الترتّب المبحوث عنه في المقام ، لأنّه ـ كما عرفت آنفا ـ عبارة عن اجتماع أمرين بضدّين في زمان واحد مع تعدّدهما رتبة ، هذا.

وعلى الثاني ـ وهو : كون العصيان شرطا مقارنا لأمر المهم ـ لا يلزم أيضا اجتماع الأمر بالضدين في زمان واحد ، إذ المفروض سقوط أمر الأهم بالعصيان المقارن للأمر

٤٦٩

أو البناء (١) على المعصية بنحو الشرط المتقدّم ،

______________________________________________________

أمر الأهم متأخّرا رتبة عن فعل المهم ، وشرطا متأخّرا لأمر المهم.

أما أنّه شرط له ، فلما عرفت : من كونه موضوعا للأمر بالمهم.

وأما أنّه متأخّر عنه ، فلما عرفت أيضا : من كونه متوقّفا على الإتيان بالمهم ، وهو يتوقّف على الأمر به ، فيكون عصيان الأمر بالأهم متأخّرا عن الأمر بالمهم.

والمتحصل : أنّ حقيقة الترتّب المبحوث عنه في الضّدين هي : جعل خطاب المهمّ مشروطا بعد أن كان مطلقا ، فيجتمع طلبا الضّدين زمانا مع اختلافهما رتبة ، لتأخّر أمر المهم رتبة عن أمر الأهم ، كما عرفت. فالطلب المتعلّق بالأهم فعليّ لكونه غير مشروط بشيء ، والطلب المتعلّق بالمهم لمّا كان شرطه ـ وهو : عصيان أمر الأهم ـ حاصلا صار فعليّا أيضا ، فكلا الطلبين فعليّ ، لكنّ أحدهما مطلق ، والآخر مشروط بشرط حاصل ، فاجتمع الطلبان الفعليّان في زمان واحد مع اختلافهما في الرتبة ، كما سيتضح إن شاء الله تعالى.

(١) معطوف على ـ العصيان ـ ، يعني : أنّ شرط أمر المهم تارة يكون نفس العصيان الّذي هو شرط متأخّر عنه ، كما عرفت آنفا. وأخرى العزم والبناء على المعصية ، كأن يقول المولى : «إذا بنيت على عصيان أمر إنقاذ المؤمن الغريق ، أو الحريق ، فصلّ» ، والعزم على المعصية شرط لأمر المهم متقدّم عليه إذا كان الشرط وجود العزم على العصيان آناً ما ، فإنّ العزم بهذا النحو يكون شرطا متقدّما على الأمر بالمهم.

أمّا أنّه شرط له ، فلأنّ العزم على العصيان موضوع له ، وقد مرّ وجهه في تقريب موضوعية نفس العصيان.

__________________

بالمهم ، فلا يجتمع الأمران بالضّدين في زمان واحد ، بل في زمان الأمر بالمهم يسقط الأمر بالأهم ، وهذا أيضا خارج عن الترتّب المبحوث عنه في المقام من اجتماع أمرين بضدّين في زمان واحد مع تعدّدهما رتبة.

٤٧٠

أو المقارن (١) ، بدعوى (٢) : «أنّه لا مانع عقلا عن تعلّق الأمر بالضّدين كذلك ، أي : بأن يكون الأمر بالأهم مطلقا ، والأمر بغيره معلّقا على عصيان ذاك الأمر (٣) ، أو البناء والعزم عليه ، بل (٤)

______________________________________________________

وأمّا أنّه متقدّم عليه ، فلعدم توقّف العزم على العصيان على الإتيان بالمهم المتوقّف على الأمر به ، حتى يكون متأخّرا عنه ، كما كان كذلك في نفس العصيان ، بل يتحقّق العزم على العصيان مع عدم الإتيان بالمهم ، وحيث فرضنا كون الشرط وجود العزم عليه آناً ما ، وقد تحقّق هذا الوجود سابقا على الإتيان بالمهم ، فهو متقدّم عليه ، كما أنّ وجود العزم على العصيان بقاء مقارنا لوجود المهم يكون شرطا مقارنا له.

وقد اتضح ممّا ذكرنا ـ في وجه كون وجود العزم عليه آناً ما شرطا متقدّما ـ وجه كون وجود العزم عليه بقاء شرطا مقارنا للأمر بالمهم ، فإن أخذ نفس العصيان شرطا للأمر بالمهم ، كان من الشرط المتأخّر. وإن أخذ البناء عليه شرطا له ، كان قابلا لكلّ من الشرط المتقدّم والمقارن ، على ما عرفت تفصيله آنفا.

(١) معطوف على : ـ المتقدّم ـ ، فالمتقدّم والمقارن قسمان من شرطية البناء على المعصية.

(٢) هذا تقريب الترتّب ، وقد عرفته مفصلا.

(٣) أي : الأمر بالضّد الأهم.

(٤) يعني : بل الترتّب واقع كثيرا في الأمثلة العرفيّة. وهذا إشارة إلى الدليل الإنّي ، كما أنّ قوله : «بدعوى أنّه لا مانع عقلا ... إلخ» إشارة إلى الدليل اللمي.

أمّا الإنّي ، فسيأتي عند شرح كلام المصنف المتعلق بذلك.

وأمّا اللمي ، فبيانه : أنّ تماميّة الملاك في كلّ واحد من الضّدين تقتضي جعل الحكم له ، وإلّا يلزم خلاف الحكمة ، والمقدار المزاحم هو جعل الخطاب لهما مطلقا ، لأنّ هذا الإطلاق يوجب طلب الجمع بين الضّدين ، وهو محال ، كنفس الجمع بين الضّدين. مثلا : إذا وجبت الصلاة مطلقا ، يعني : سواء أوجبت

٤٧١

هو واقع كثيرا عرفا (١)».

قلت (٢) : ما هو ملاك استحالة طلب الضّدين في عرض واحد آت في طلبهما (٣) كذلك ، فإنّه (٤) وإن لم يكن في مرتبة (٥) طلب الأهمّ اجتماع طلبهما ،

______________________________________________________

الإزالة ، أم لا ، وبالعكس ، فمقتضى هذين الإطلاقين وجوب الصلاة والإزالة معا ، والمفروض أنّهما ضدّان يمتنع اجتماعهما ، فوجوبهما كذلك طلب للجمع بينهما ، وهو محال. وهذا المحذور ـ أعني طلب الجمع ـ يرتفع بتقييد أحد الإطلاقين ، ومن المعلوم : أنّ العقل يقيّد إطلاق المهمّ بعصيان الأهم ، فيصير خطاب المهم مشروطا بعد أن كان مطلقا قبل مزاحمته للأهم ، ويبقى إطلاق خطاب الأهم على حاله ، ولا مزاحمة بين الخطاب المطلق والمشروط.

(١) وشرعا ، كما سيأتي عند تقريب الدليل الإنّي على وقوع الترتّب.

(٢) هذا أوّل الإشكالات الّتي أوردوها على الترتّب ، وحاصله : لزوم المحال وهو : طلب الضّدين في عرض واحد ، وذلك لأنّ طلب المهم بعد حصول شرطه ـ وهو عصيان أمر الأهم ، أو العزم عليه ـ يصير فعليّا ، والمفروض فعليّة طلب الأهم أيضا ، فيجتمع الطلبان الفعليان مع تضادّ متعلّقهما ، فيلزم وجوب تسوية جسم مثلا ، وتبيضه في آن واحد ، وهو محال ، فيصير الترتب ممتنعا ، لترتب المحال عليه.

(٣) أي : الضّدّين كذلك ، أي بنحو الترتّب.

(٤) الضمير للشأن ، وهذا تقريب الإشكال ، وحاصله : أنّه وإن لم يلزم في مرتبة طلب الأهم اجتماع الطلبين ، لتأخّر رتبة طلب المهم عن رتبة طلب الأهم ، لكنّه يلزم اجتماع طلبهما في رتبة المهم ، وذلك لأنّ الأهمّ لإطلاقه يجتمع مع المهمّ ، ففي رتبة طلب المهم يجتمع الطلبان الفعليّان بالضدّين في آن واحد ، وقد عرفت : امتناع اجتماعهما في رتبة واحدة.

(٥) لتأخّر طلب المهمّ عن طلب الأهم برتبتين ، لأنّ طلب المهم متأخّر عن موضوعه ـ وهو عصيان الأمر بالأهم ـ برتبة ، وعصيانه كإطاعته متأخّر عن أمره برتبة ،

٤٧٢

إلّا أنّه (١) كان في مرتبة الأمر بغيره (٢) اجتماعهما ، بداهة (٣) فعليّة الأمر بالأهمّ في هذه المرتبة (٤) ، وعدم (٥) سقوطه بعد بمجرّد المعصية فيما بعد ما لم يعص (٦) ، أو العزم (٧) عليها مع فعليّة الأمر بغيره (٨) أيضا (٩) ، لتحقّق ما هو شرط فعليّته (١٠) فرضا.

______________________________________________________

فطلب المهم متأخّر عن طلب الأهم بهاتين الرتبتين ، ومع هذا التأخّر كيف يعقل أن يكون في رتبة طلب الأهم؟ (١) الضمير للشأن ، وضمير ـ طلبهما ـ راجع إلى ـ الضّدين ـ.

(٢) أي : غير الأهم ، وهو المهم ، وضمير ـ اجتماعهما ـ راجع إلى الطلبين.

(٣) هذا تقريب اجتماع الطلبين ، وقد عرفت توضيحه.

(٤) أي : مرتبة فعليّة طلب المهم.

(٥) معطوف على ـ فعليّة ـ ، والضمير راجع إلى ـ الأمر بالأهم ـ.

(٦) غرضه : إثبات فعليّة الأهم حين الإتيان بالمهم حتى تندرج في الترتب الممتنع الّذي هو عبارة عن فعليّة طلبين متعلّقين بالضّدّين في آن واحد. وإحراز فعليّة أمر الأهم إنّما هو بعدم حدوث ما يسقطه من العصيان ، أو الامتثال ، وكلاهما مفقود ، ففعليّته ثابتة ، كثبوت فعليّة الأمر بالمهم.

(٧) معطوف على ـ المعصية ـ.

(٨) أي : غير الأهم ، وهو المهم.

(٩) يعني : كفعليّة طلب الأهم.

والحاصل : أنّ الترتب ممتنع ، لاستلزامه المحال ، وهو : طلب الضّدين الموجب لطلب الجمع بينهما ، وهو مستحيل كاجتماع نفس الضّدين.

هذا توضيح أوّل الإشكالات الواردة على الترتّب.

(١٠) أي : فعليّة أمر المهم ، والمراد ب ـ شرط فعليّته ـ : عصيان أمر الأهم أو العزم عليه ، كما مر.

٤٧٣

لا يقال (١) : نعم (٢) ، ولكنّه بسوء اختيار المكلّف ، حيث يعصي فيما بعد بالاختيار (*) ، فلولاه (٣) لما كان متوجّها إليه إلّا الطلب بالأهم ، ولا برهان على امتناع الاجتماع (٤) إذا كان بسوء الاختيار.

فانّه يقال (٥) : استحالة طلب الضدّين ليس إلّا لأجل استحالة طلب المحال ،

______________________________________________________

(١) الغرض منه : تصحيح الترتّب ، ودفع إشكال اجتماع طلب الضدّين عنه ، بتقريب : أنّا نسلّم لزوم طلب الضّدين في مرتبة المهم ، لكنّه غير مستحيل إذا كان اجتماع الطلبين بسوء اختيار المكلّف ـ كما في المقام ـ ، فإنّه لمّا خالف أمر الأهم وعصى اختيارا ، جاز اجتماع الطلبين الفعليّين عليه في آن واحد.

والحاصل : أنّ اجتماع الطلبين إذا كان ناشئا عن سوء الاختيار ، فلا محذور فيه ، فالترتّب صحيح لا غبار عليه.

(٢) هذا تسليم للإشكال ، وهو : لزوم اجتماع طلب الضدّين في الترتّب ، لكن هذا الاجتماع إنّما هو بسوء الاختيار ، فلا مانع منه ، لعدم برهان على استحالته في هذه الصورة.

(٣) أي : فلو لا سوء الاختيار لما كان طلب متوجّها إليه إلّا طلب الأهم.

(٤) أي : اجتماع الطلبين إذا نشأ من سوء اختيار العبد ، وإنّما الممتنع هو : توجيه الطلب بالضدّين بدون اختيار العبد. وأمّا مع اختياره وقدرته على فعل الأهم حتى لا يتوجّه إليه طلبان بالضدّين ، فلا برهان على امتناع الاجتماع حينئذ.

(٥) هذا دفع الإشكال ، وإثبات امتناع طلب الضدّين مطلقا وإن كان بسوء الاختيار ، ومرجعه إلى استحالة الترتّب.

توضيحه : أنّ منشأ الاستحالة ـ وهو : كون المطلوب محالا ـ موجود في كلتا صورتي الاختيار وعدمه ، فإنّ طلب الجمع بين الضدّين قبيح على الحكيم ،

__________________

(*) هذا مستدرك ، للاستغناء عنه بقوله : «يعصى» ، حيث إنّ العصيان مخالفة التكليف المنجّز لا عن عذر ، كما لا يخفى.

٤٧٤

واستحالة طلبه (١) من الحكيم الملتفت إلى محاليّته لا تختصّ بحال دون حال ، وإلّا (٢) لصحّ فيما علّق على أمر اختياريّ في عرض واحد (٣) بلا حاجة (٤) في تصحيحه إلى الترتّب ، مع أنّه (٥) محال بلا ريب ولا إشكال.

______________________________________________________

لكونه طلبا للمحال ، حيث إنّ الجمع بين الضدّين ـ كالجمع بين النقيضين ـ محال. بل مرجع طلب الضدّين إلى طلب الجمع بين النقيضين ، لأنّ طلب كلّ واحد من الضّدين يلازم عدم طلب الضّد الآخر ، فطلب الإزالة مثلا يلازم عدم طلب الصلاة ، لما مرّ سابقا : من أنّ المزاحمة لو لم توجب النهي عن الضّد ، فلا أقلّ من اقتضائها عدم الأمر به ، وكذا طلب الصلاة يلازم عدم طلب الإزالة ، ولازم ذلك : مطلوبيّة وجود الإزالة وعدمها ، ووجود الصلاة وعدمها ، وليس هذا إلّا طلب الجمع بين النقيضين ، واستحالة هذا الطلب لا تختص بحال دون حال ، بل هي ثابتة في كلّ حال من الاختيار وعدمه.

(١) أي : المحال الّذي هو في المقام طلب الضدّين.

(٢) أي : وإن اختصّت الاستحالة بغير حال الاختيار ، وكان التعليق على سوء الاختيار مصحّحا لطلب الضدّين ، لزم أيضا صحّة تعليق طلب الضدّين على فعل اختياري غير عصيان الأمر بالأهم ، كأن يقول : «إذا شتمت مؤمنا ، فصلّ وأزل في آن واحد» ، أو يقول : «إذا ضربت زيدا ، فقم واقعد كذلك» ، مع وضوح قبح هذا التكليف ، وأنّ تعليقه على فعل اختياري لا يرفع قبحه.

ففيما نحن فيه : لا يكون عصيان أمر الأهم بسوء الاختيار رافعا لقبح طلب الضّدين ، فلا مصحّح للترتّب أصلا.

(٣) كالمثال المزبور ، وهو : «إذا ضربت زيدا ، فقم واقعد في آن واحد».

(٤) لوحدة المناط ، وهو الاختيار في كلّ من الترتّب ، والتعليق على فعل اختياري.

(٥) أي : تعليق طلب الضدّين في عرض واحد على أمر اختياري غير عصيان الأهم محال بلا ريب.

٤٧٥

ان قلت (١) : فرق بين الاجتماع في عرض واحد ، والاجتماع كذلك (٢) ، فإنّ (٣) الطلب في كلّ منهما في الأوّل (٤) يطارد الآخر ، بخلافه (٥) في الثاني ، فإنّ (٦) الطلب بغير الأهمّ لا يطارد طلب الأهمّ ، فإنّه (٧) يكون على تقدير عدم الإتيان بالأهم ، فلا يكاد يريد غيره (٨) على تقدير إتيانه ، وعدم عصيان أمره.

______________________________________________________

(١) غرض هذا القائل : إبداء الفرق بين اجتماع الطلبين في عرض واحد ، مثل : «إذا ضربت زيدا فقم واقعد» ، وبين اجتماعهما بنحو الترتّب في استحالة الأوّل ، دون الثاني.

وملخص الفرق بينهما : أنّ الطلب في كلّ من الضدين طارد للآخر إذا كانا عرضيّين ، بخلاف ما إذا كانا طوليّين ، كما في الترتّب المبحوث عنه ، فإنّ كلّا من الضدين حينئذ لا يطارد الآخر ، لأنّ مطلوبيّة المهم منوطة بعصيان أمر الأهم ، فمقتضى الترتّب : وقوع مطلوبيّة كلّ من الضّدين في طول مطلوبيّة الآخر ، وامتناع وقوعهما معا على صفة المطلوبيّة عرضا ، فلو فرض محالا إيجادهما معا لا يتّصف بالمطلوبيّة إلّا خصوص الأهم ، لأنّ مطلوبيّة المهم موقوفة على عصيان أمر الأهم ، والمفروض امتثاله.

(٢) أي : على نحو الترتّب.

(٣) هذا بيان الفرق بين الاجتماع بنحو العرضيّة ، والاجتماع بنحو الترتّب والطوليّة ، وقد مرّ توضيحه آنفا.

(٤) وهو : الاجتماع العرضي. وضمير ـ منهما ـ راجع إلى ـ الضدين ـ.

(٥) أي : الطلب في الثاني ، وهو : الاجتماع بنحو الترتّب والطوليّة.

(٦) هذا تقريب عدم المطاردة في اجتماع الطلبين بنحو الترتّب والطوليّة.

(٧) يعني : فإنّ طلب المهم لا يطارد طلب الأهم ولا يزاحمه ، لأنّ موضوعه عدم الإتيان بالأهم ، فلا مطلوبيّة له إلّا في ظرف عدم إيجاد الأهم.

(٨) أي : غير الأهم ، يعني : لا يكاد يريد الآمر غير الضّد الأهم ـ وهو

٤٧٦

قلت (١) : ليت شعري كيف لا يطارده الأمر بغير الأهمّ؟ وهل يكون (٢) طرده (٣) له إلّا من جهة فعليّته ، ومضادّة متعلّقه للأهمّ؟ والمفروض فعليّته (٤) ومضادّة متعلّقه له.

______________________________________________________

المهم ـ على فرض الإتيان بالأهمّ ، وإطاعة أمره.

فالمتحصل : أنّ الترتّب ممكن ، وقياسه على اجتماع طلب الضدين على نحو العرضيّة قياس مع الفارق ، لوجود المطاردة الموجبة للاستحالة في الاجتماع العرضي ، حيث إنّ طلب كلّ منهما ينفي مطلوبيّة الآخر ، فكلّ منهما طارد للآخر. وعدم المطاردة في الترتّب ، لأنّ طلب المهم لا يطرد الأهم ، إذ ليس موجودا في رتبته حتى يطرده ، كما كان كذلك في الاجتماع العرضي. فالطرد يكون من طرف واحد ـ وهو الأهمّ ـ وذلك غير المطاردة الموجبة للاستحالة.

(١) هذا دفع الإشكال ، والغرض منه : إثبات استحالة الترتّب ، وعدم الفرق في الامتناع الناشئ عن مطاردة طلب الضدين بين الاجتماع العرضي والترتّبي.

توضيحه : أنّ المطاردة الناشئة من فعليّة الطلب وتضادّ المتعلّقين ـ كالصلاة والإزالة ـ موجودة في الترتّب ، كوجودها في اجتماع طلب الضّدين عرضيّا ، حيث إنّ أمر الأهم فعلي ، وأمر المهم ـ لعصيان أمر الأهم ـ أيضا صار فعليّا ، فيجتمع الطلبان الفعليّان بالضدين في آن واحد ، فكلّ منهما يطرد الآخر ، فأمر الأهم ينفي مطلوبيّة المهم ، وبالعكس ، فتحصل المطاردة من الطرفين في الترتّب ، كحصولها منهما في اجتماع الطلبين عرضيّا.

فالمتحصل : أنّ الترتّب محال ، لوجود المطاردة فيه.

(٢) يعني : كيف لا يطارد المهم الأهمّ؟ والحال أنّ طرده لا يكون إلّا من جهة فعليّته ، ومضادّة متعلّقه للأهم ، وهاتان الجهتان موجودتان فيه.

(٣) يعني : طرد المهم للأهم.

(٤) يعني : فعليّة أمر المهم ومضادة متعلقه للأهم ، وهما توجبان المطاردة.

٤٧٧

وعدم (١) إرادة غير الأهمّ على تقدير الإتيان به (٢) لا يوجب (٣) عدم طرده لطلبه مع تحقّقه (٤) على تقدير عدم الإتيان به ، وعصيان أمره ، فيلزم اجتماعهما (٥) على هذا التقدير (٦) مع ما هما عليه من (٧) المطاردة من (٨) جهة المضادة بين المتعلّقين.

______________________________________________________

(١) مبتدأ ، وهذا إشارة إلى توهم ، وهو : أنّه لا يلزم المطاردة على كلّ تقدير ، ضرورة أنّه على تقدير الإتيان بالأهم لا يتعلق الطلب بالمهم حتى يكون طاردا لطلب الأهم ، فلا تتحقق المطاردة من الطرفين حتى يستحيل الترتّب.

(٢) أي : بالأهم.

(٣) خبر قوله : «وعدم» ، ودفع للتوهم المزبور ، وإثبات للمطاردة الموجبة لاستحالة الترتّب ، ببيان : أنّ مجرّد عدم إرادة المهم في صورة الإتيان بالأهم لا يمنع عن طرد طلب المهم لطلب الأهم مع فرض فعليّة أمر المهم ، لعدم الإتيان بالأهم ، ضرورة تحقق ملاك المطاردة ـ وهو فعليّة طلب المهم ـ حينئذ ، فالمطاردة الموقوفة على ضدّيّة المتعلّقين ، وفعليّة الطلبين موجودة في الترتّب.

(٤) أي : مع تحقّق طلب غير الأهم ، وضمير ـ طرده ـ راجع إلى ـ أمر غير الأهم ـ ، وضمائر ـ لطلبه ـ و ـ به ـ و ـ أمره ـ راجعة إلى الأهم.

(٥) أي : الطلبين المتعلقين بالضّدّين الأهم والمهم ، لما مرّ : من أنّه ـ مع عدم الإتيان بالأهم ـ يصير أمر المهمّ فعليّا ، والمفروض فعليّة أمر الأهم أيضا ، فيجتمع الأمران الفعليّان الطارد كل منهما للآخر.

(٦) يعني : تقدير عدم الإتيان بالأهم.

(٧) بيان للموصول ، وضمير ـ عليه ـ راجع إلى الموصول ، ومرجع ضمير ـ هما ـ حكميّ ، أعني : الطلبين.

(٨) يعني : أنّ هذه المطاردة ناشئة من تضاد المتعلّقين.

٤٧٨

مع (١) أنّه (٢) يكفي الطرد من طرف الأمر بالأهم ، فإنّه (٣) على هذا الحال يكون طاردا لطلب الضّدّ ، كما كان في غير هذا الحال ، فلا يكون (٤) له معه أصلا بمجال.

إن قلت (٥) :

______________________________________________________

(١) غرضه : إثبات استحالة الترتّب حتى بناء على عدم كون أمر المهم طاردا لأمر الأهم. توضيحه : أنّا نسلّم عدم المطاردة من الطرفين ، ونلتزم بطرد أمر الأهم فقط للمهم من دون عكس ، ولكن مع ذلك نقول باستحالة الترتّب ، لأنّ أمر الأهم يطرد طلب المهم على كلّ حال سواء أتى بالأهم أم تركه ، إذ المفروض كون أمره فعليّا مطلقا من دون اشتراطه بشيء ، والطرد من طرف واحد كاف في استحالة طلب الضدّين ، لعدم قدرة المكلّف على امتثال الأمرين معا. فاستحالة طلب الضدّين ليست منوطة بالمطاردة من الطرفين حتى يقال : إنّ طلب المهم لا يطرد طلب الأهم ، فلا مطاردة بينهما كي يحكم بالاستحالة.

(٢) الضمير للشأن.

(٣) يعني : فإنّ الأمر بالأهم على هذا الحال ـ وهو عصيان أمره ـ طارد لطلب الضد ، كما كان طاردا له في غير حال العصيان ، لما عرفت من إطلاق طلب الأهم ، وعدم إناطة فعليّته بشيء. فالمراد بالحال في المقامين هو العصيان.

وبالجملة : أمر الأهم طارد مع عرضيّة الطلبين وطوليّتهما.

(٤) يعني : فلا يكون لطلب المهم مع طلب الأهم مجال ، لكفاية طرد الأهم فقط في الاستحالة من غير توقّفها على طرد المهم للأهم ، أي : المطاردة من الطرفين.

(٥) الغرض من هذا الكلام : تصحيح الترتّب بما استدل به القائلون به من البرهان الإنّي ، وهو : وقوعه في العرفيّات ، ومن المعلوم : أنّ الوقوع أدلّ دليل على الإمكان ، ومعه لا سبيل إلى إنكار الترتّب والالتزام باستحالته.

توضيح ذلك : أنّه وقع الأمر بالضّدين على نحو الترتّب في العرفيّات كثيرا ،

٤٧٩

فما الحيلة فيما وقع كذلك (١) من (٢) طلب الضّدين في العرفيّات.

قلت (٣) : لا يخلو إمّا أن يكون الأمر بغير الأهمّ بعد التجاوز (٤) عن الأمر به ، وطلبه (٥) حقيقة ، وإمّا (٦) أن يكون الأمر به إرشادا إلى محبوبيّته ،

______________________________________________________

كقول شخص لولده : «اذهب إلى المكتب ، وإلّا فاقرأ القرآن ، أو صلّ صلاة جعفر ، أو اذهب إلى المسجد» ، إلى غير ذلك من موارد الأمر بالضدّين طوليّا ، ووقوع ذلك في الأمثلة العرفيّة أقوى دليل على إمكانه.

(١) أي : على نحو الترتّب.

(٢) بيان ل ـ ما ـ الموصولة في قوله : «فيما وقع».

(٣) هذا ردّ الدليل الإنّي المزبور ، وحاصله : أنّ ما وقع في العرفيّات لا يدلّ على وقوع الترتّب في الشرعيّات ، لأنّه يحتمل في الأمثلة العرفية أحد وجهين :

الأوّل : صدور الأمر بالمهم بعد الإغماض ورفع اليد عن أمر الأهم ، ففي صورة عدم الإتيان بالأهم لا أمر إلّا أمر المهم ، فليس هنا أمران بالضّدين حتى يصح اجتماعهما على نحو الترتّب. وهذا أجنبي عن الترتّب المبحوث عنه ، وهو : اجتماع طلبين فعليّين طوليّين متعلّقين بضدّين في آن واحد.

الثاني : عدم كون الأمر في هذه الموارد مولويّا ، بل هو إرشادي ، بأن يكون إرشادا إلى محبوبيّة متعلّقه ـ وهو المهم ـ ، وبقائه ـ بعد عصيان الأمر بالأهم ـ على ما كان عليه من المصلحة ، فالأمر المولوي متعلّق بالأهم. وأمّا المهم ، فأمره إرشادي ، فليس هنا أمران مولويّان فعليّان متعلّقان بالضدين.

والإتيان بالمهم يوجب ـ لأجل محبوبيّته ـ استحقاق المثوبة التي يذهب بها بعض ما استحقّه من العقوبة على ترك الأهم.

(٤) أي : الإعراض ، ورفع اليد.

(٥) هذا الضمير ، وضمير ـ به ـ راجعان إلى الأهم.

(٦) هذا إشارة إلى : الوجه الثاني المتقدّم بقولنا : «الثاني : عدم ... إلخ».

٤٨٠