منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٥٩٢

وبقائه (١) على ما هو عليه من المصلحة والغرض لو لا المزاحمة (٢) ، وأنّ (٣) الإتيان به يوجب استحقاق المثوبة ، فيذهب بها (٤) بعض ما استحقّه من العقوبة على مخالفة الأمر بالأهمّ ، لا أنّه (٥) أمر مولوي فعلي كالأمر به (٦) ، فافهم وتأمّل جيّدا.

ثم إنّه (٧) لا أظن أن يلتزم القائل بالترتّب بما هو لازمه من الاستحقاق

______________________________________________________

(١) هذه الضمائر الثلاثة راجعة إلى ـ غير الأهم ـ.

(٢) يعني : أنّ المزاحمة لم تؤثّر في ارتفاع ملاك المهم ، بل هو باق على ما كان عليه قبل المزاحمة مع طلب الأهم ، وإنّما أثّرت في ارتفاع أمره المولوي.

(٣) معطوف على ـ محبوبيّته ـ ، يعني : أنّ الأمر بالمهم إرشاد إلى محبوبيته ، وإلى أنّ الإتيان به يوجب استحقاق المثوبة ، فضمير ـ به ـ راجع إلى المهم.

(٤) أي : بالمثوبة ، يعني : أنّها جابرة لبعض ما يرد عليه من العقوبة على مخالفة أمر الأهم.

(٥) يعني : لا أنّ أمر المهم أمر مولوي فعليّ ـ كالأمر بالأهم ـ حتى يلزم طلبان مولويّان فعليّان متعلّقان بضدّين ـ كما هو المراد من الترتّب ـ حتى يكون اجتماعهما برهانا إنّيّا على وقوع الترتّب ، فضلا عن إمكانه.

(٦) أي : كالأمر بالأهم في المولويّة والفعليّة.

(٧) الضمير للشأن ، وهذا إشكال آخر على الترتّب ، وهو : أنّ لازم فعليّة الخطابين بالضدين في آن واحد هو تعدّد الاستحقاق لعقوبتين في صورة مخالفة كليهما ، مع أنّ ذلك قبيح ، لكونه مؤاخذة على ما لا يقدر عليه العبد ، ضرورة عدم قدرته على الجمع بين الضّدين في آن واحد ، وبطلان اللازم ـ أعني تعدّد العقاب ـ كاشف عن بطلان الملزوم ، وهو الترتّب.

فالمتحصل : أنّه لا يمكن للقائلين بالترتّب الالتزام بلازمه ـ وهو تعدّد استحقاق العقوبة عند ترك الأهم والمهم معا ـ ، لأنّ المؤاخذة على أمر غير مقدور

٤٨١

في صورة مخالفة الأمرين لعقوبتين (١) ، ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد ، ولذا (٢) كان سيّدنا الأستاذ (٣) قدس‌سره لا يلتزم به على ما هو ببالي ، وكنّا نورد به (٤) على الترتّب ، وكان بصدد تصحيحه (٥).

فقد (٦) ظهر : أنّه لا وجه لصحّة العبادة مع مضادّتها لما هو أهمّ منها إلّا ملاك الأمر (*).

______________________________________________________

ممّا هو قبيح على الحكيم ، فقبح تعدّد استحقاق العقوبة كاشف عن عدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما ، وعدم قدرته عليه دليل على عدم تعلّق الخطاب بهما معا على نحو الترتّب ، لأنّ القدرة شرط التكليف.

وعلى هذا ، فلا سبيل إلى الالتزام بالترتّب حتى يمكن تصحيح الضدّ العبادي به ـ بناء على اقتضاء الأمر بالشيء للنّهي عن ضده ـ بل لا بد من تصحيحه بالملاك.

(١) أحدهما على ترك الأهم ، والأخرى على ترك المهم.

(٢) ولأجل قبح العقاب على غير المقدور ، وهو : امتثال كلا الأمرين المتعلقين بالضّدين ، لكونه جمعا بين الضدّين.

(٣) وهو المحقّق الميرزا الكبير الشيرازي (قده).

(٤) هذا الضمير وضمير ـ به ـ في قوله : «لا يلتزم به» راجعان إلى تعدّد العقوبة.

(٥) أي : تصحيح الترتّب ، حيث إنّ قبح تعدّد العقوبة يوجب بطلان الترتّب ، لكشف بطلان اللازم عن بطلان الملزوم ، فيثبت بطلان الترتّب بفساد اللازم.

(٦) هذه نتيجة الإشكالات الواردة على الترتّب. فقد اتّضح من تلك الإشكالات بطلان الترتّب ، وعدم صحة ما فرّعوه عليه : من صحة العبادة المضادّة للأهم ، فينحصر تصحيحها بالملاك من غير حاجة إلى الأمر حتى نلتزم بالترتّب.

__________________

(*) هذا ثالث الوجوه المصحّح بها الضّد العبادي المهم عند ترك الأهم.

وأوّلها : ما ينسب إلى المحقّق الثاني (قده) : من انطباق الطبيعي المهم المضاد للأهم على الفرد المزاحم ، فإنّ فرديّته للطبيعي بما هو هو ، لا بما هو مأمور به ممّا

٤٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

يكون قهريّا ، فلا بد من الإجزاء عقلا. ولعلّنا نتعرّض لتوضيحه فيما بعد.

وثانيها : الترتّب المتقدّم شرحه. ولمّا كان تصحيح الضّد العبادي المهم بالملاك عند المزاحمة للأهم منوطا بوجود الملاك ، ولا طريق إلى إحرازه حال المزاحمة وسقوط الأمر ، فلا محيص عن إثبات الملاك أوّلا حتى تصحّح به العبادة ثانيا.

وتنقيح البحث فيه موقوف على التكلّم في مقامين :

الأول : في استكشاف الملاك بعد سقوط الأمر بالتزاحم.

والثاني : في إثبات الاكتفاء به في عبادية المهم.

أما المقام الأول ، فحاصل الكلام فيه : أنّه قد استشكل في وجود الملاك في الضد المهم المزاحم للأهم بما حاصله : أنّ الأمر لمّا كان لإحداث الداعي لإيجاد متعلّقه ، فلا بد أن يكون متعلّقه مقدورا للمكلّف حتى ينبعث عن الأمر نحوه ، ويحصل له الداعي إلى الإتيان به ، فنفس الأمر يقتضي اعتبار مقدوريّة متعلّقه ، فإذا كانت القدرة معتبرة في المتعلّق كانت من قيوده الدخيلة في ملاكه ، فينتفي بانتفائها ، فتكون القدرة كسائر المأخوذة في الموضوع ، كالبلوغ والعقل من الشرائط العامّة ، والاستطاعة ومالكيّة النصاب وغيرهما من الشرائط الخاصة ، فإنّ الشروط بأسرها دخيلة في الملاك ، ومقوّمة له ، بحيث ينتفي بانتفائها.

وعلى هذا ، ففي صورة مزاحمة الواجب المهم للأهم تنتفي القدرة على إيجاد المهم ، فينتفي الملاك أيضا ، فيسقط الأمر ، ومع سقوطه لا مجال لاستكشاف الملاك حتى يمكن تصحيح العبادة به ، هذا.

وأنت خبير بأنّ انتفاء الملاك بالمزاحمة الرافعة للقدرة مبنيّ على كون القدرة من شرائط نفس الخطاب ، كالبلوغ ، والعقل ، والحرّيّة ، وغيرها من الشرائط

٤٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

العامّة والخاصّة المأخوذة في موضوع الخطاب حتى تكون مثلها في الدخل في الملاك أيضا كي ينتفي الملاك بانتفائها ، كانتفاء الخطاب به. والمفروض : أنّ وزان القدرة ليس وزان تلك الشرائط ، وإنّما هي من شرائط حسن الخطاب فقط ، فلا تكون دخيلة في الملاك حتى ينتفي بانتفائها ، كانتفاء نفس الخطاب به ، سواء أكان الحاكم بدخل القدرة في حسن الخطاب هو العقل بمناط قبح مطالبة العاجز ، أم الطلب.

بتقريب : أنّ الطلب بنفسه يقتضي اعتبار القدرة على متعلّقه ، لأنّ الغرض من الأمر إحداث الداعي في نفس المكلّف لإيجاد متعلّقه ، حيث إنّ الملاك قائم به ، فلا يستوفي إلّا بالإتيان بمتعلّق الطلب ، فلو لم يكن مقدورا لم يتعلّق به الأمر ، فاعتبار القدرة على المتعلّق ممّا يقتضيه نفس الخطاب ، فتضيّق دائرة المتعلّق ، وتقيّد بالمقدور ، فلا مصحّح للخطاب في غيره ، إذ لا إطلاق لمتعلّقه حتى يتعلّق به في غير حال القدرة أيضا ، وذلك لأنّ حكم العقل بقبح مطالبة العاجز لا يقتضي إلّا سقوط الطلب عند العجز ، حيث إنّ القبح ناش عن الطلب ، لا عن مجرّد وجود الملاك ولو مع عدم مطالبته ، ضرورة أنّ وجود الملاك غير المطالب لا يوجب قبحا أصلا.

فإطلاق المتعلّق لإطلاق وجود الملاك في كلتا صورتي القدرة على المتعلّق وعدمها محكّم ، إذ لا مقيّد له ، هذا.

وكذا الحال إذا كان الحاكم باعتبار القدرة نفس الطلب ، وذلك لأنّ القيد الناشئ عن الطلب يمتنع أن يكون دخيلا في متعلّقه ، لتأخّره عن المتعلّق برتبتين : إحداهما : تأخّره عن الطلب.

وثانيتهما : تأخّر الطلب عن متعلّقه تأخّر المعلول عن علّته ، فيستحيل دخله في المتعلّق الّذي يقوم به الملاك ، فإطلاق المادّة ثابت بلا إشكال ، فالملاك في الفرد المزاحم موجود ، كوجوده في الأفراد غير المزاحمة.

٤٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وببيان آخر : القيود المأخوذة في الأحكام على أقسام :

منها : ما يكون دخيلا في كلّ من الملاك ، والخطاب ، كالبلوغ ، والعقل ، والوقت ، والاستطاعة ، وغيرها ممّا أخذ في موضوع الخطاب ، لظهورها في توقّف الحكم ومباديه ـ كالملاك ـ عليه ، حيث إنّ الحكم كالمعلول للملاك ، فإذا توقّف على شيء كان التوقّف له ولعلته ، فالملاك والخطاب معا معلّقان عليه ، وتكون هذه القيود منشأ ومولّدة للملاك ، فينتفي بانتفائها ـ فضلا عن الخطاب ـ سواء أكانت بلسان الشرط ، مثل : «إذا زالت الشمس وجبت الصلاة والطهور» ، أو : «وجبت الصلاتان» ، أم بلسان الإخبار ، مثل : «المستطيع يحج».

ومنها : ما يكون دخيلا في الخطاب فقط من دون دخل له في الملاك أصلا كالقدرة ، فإنّها دخيلة في حسن الخطاب ، إذ لو لا القدرة لم يكن أثر للخطاب ، لقصوره حينئذ عن التحريك ، فالقدرة دخيلة في التحرّك والانبعاث عن تحريك المولى وبعثه ، من دون دخل لها في الملاك ، لوضوح وجود الملاك في إنقاذ المؤمن مثلا حتى مع عدم قدرة المكلّف عليه.

ومنها : ما يكون دخيلا في تنجّز الخطاب ، وقطع العذر الجهلي ، كالعلم وغيره ، كالأمارات المعتبرة عقلا أو شرعا على الأحكام ، فإنّ العبد بعد قيام الحجّة على التكليف لا يعذر في المخالفة. وهذا النحو من القيود ليس دخيلا في الملاك ، ولا في الخطاب ، لأنّ الخطاب منوط بوجود موضوعه ، وليس العلم ونحوه ممّا يناط به الخطاب ، وإلّا لزم الدور ، إذ الخطاب أيضا ممّا يناط به العلم.

فقد ظهر مما تقدم : عدم كون القدرة من القيود الدخيلة في الملاك.

هذا في القدرة التكوينية.

وأما القدرة التشريعيّة ، وهي : ما أخذ في لسان الخطاب ، كالاستطاعة

٤٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بالنسبة إلى وجوب الحج ، فهي دخيلة في الملاك أيضا.

فالمتحصل : أنّ القدرة إن لم تؤخذ في الخطاب لم تكن دخيلة في الملاك ، فهو باق بعد انتفائها. وإن كانت تشريعيّة كانت دخيلة فيه ، فينتفي بانتفائها.

فإذا نهض دليل على دخل القدرة في الملاك بأن أخذت شرطا للوجوب ، فلا كلام ، وإلّا فمقتضى إطلاق المادة عدم تقيّدها بها ، فلا تكون دخيلة في الملاك ، إذ لو كانت قيدا لوجب على المتكلّم بيانه ، وإلّا لأخلّ بغرضه.

لا يقال : إنّه يمتنع التمسك بالإطلاق في المقام ، لوجود المانع ، وهو القدر المتيقّن في مقام التخاطب أعني به : حكم العقل باختصاص التكليف بالمقدور ، والفرد المزاحم للأهم غير مقدور ، فلا يتوجّه إليه حتى يكشف عن وجود الملاك ، فلا مجال للتمسّك بالإطلاق لإحرازه.

فانه يقال : قد عرفت : أنّ القدرة ما لم تؤخذ في لسان الدليل من قيود موضوع الخطاب لم يكن وجه لدخولها في موضوع الحكم حتى تكون دخيلة في الملاك ، والعقل إنّما يحكم بعدم مطلوبيّة غير المقدور ، لقبح مطالبة العاجز. وقد عرفت : أنّ القدرة التكوينيّة التي يحكم العقل باعتبارها في متعلّق الحكم ليست دخيلة في الملاك ، لعدم كونها شرطا لموضوع الحكم ، بل دخيلة في حسن الخطاب فقط مع تماميّة الملاك بدونها ، فليس هذا المتيقّن في مقام التخاطب الّذي لا يكون القدرة فيه دخيلة في الملاك مانعا عن الإطلاق ، كما لا يكون اعتبار القدرة في المتعلّق بنفس الطلب مانعا عن الإطلاق ، لما تقدّم : من امتناع كونه قيدا للمتعلّق ، حيث إنّه متأخّر عن المتعلق برتبتين ، ويمتنع الإطلاق بعين امتناع التقييد ، بناء على ما أشرنا إليه مرارا من كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة.

فالمتحصل : أن ملاك الضّد العبادي المهم موجود بعد سقوط أمره بالمزاحمة

٤٨٦

نعم (١) فيما إذا كانت موسّعة ، وكانت مزاحمة بالأهم ببعض الوقت ،

______________________________________________________

(١) استدراك على ما أفاده : من انحصار مصحّح العبادة المضادّة للأهم بالملاك. ومحصل الاستدراك : أنه يمكن تصحيح العبادة بالأمر في مورد خاص ، وهو :ما إذا كان المهم ـ كالصلاة ـ موسّعا ، وزوحم في بعض وقته بواجب أهم كإنقاذ غريق ، أو إطفاء حريق.

توضيحه : أنّ للواجب المهم الموسّع أفرادا طوليّة ، ومزاحمة بعض تلك الأفراد للأهم أوجبت خروج ذلك البعض عن حيّز الأمر المتعلّق بطبيعة المهم ، فلا أمر بالنسبة إلى الأفراد المزاحمة ، وإلّا يلزم طلب الجمع بين الضّدين المتقدّم امتناعه ، فيختص الأمر بالأفراد غير المزاحمة ـ وهي : ما يمكن إيقاعه بعد زمان الأهم ـ فإذا عصى الأمر بالأهم ، وأتى في زمانه بالمهم بقصد الأمر المتعلّق بغير

__________________

للأهم ، واستكشاف الملاك حدوثا وإن كان منوطا بالأمر ، لكنّه بقاء ليس منوطا به.

هذا بعض الكلام في المقام الأوّل.

وأما المقام الثاني وهو : جواز الاكتفاء في صحّة العبادة بالملاك فملخّص الكلام فيه : أنّه لم يقم دليل على انحصار القربة في الأمر ، بحيث يتوقّف مقربيّة الفعل إليه سبحانه وتعالى على قصد الأمر ، فلا وجه حينئذ لحصر القربة في قصد الأمر ، بل لا بدّ من التعميم والالتزام بأنّ حقيقة القربة هي : إضافة العمل إليه تعالى شأنه بحيث يقال : إنّه لم يؤت به لغير الله عزوجل فكلّ عمل أتي به كذلك ، فهو عبادة من غير فرق في ذلك بين كون محقّق هذه الإضافة قصد الأمر المتعلّق بذلك العمل ، وبين كونه قصد ملاك العمل الموجب لمحبوبيّته له جلّ وعلا.

فالمتحصل : أنّ مناط قربيّة العمل هو تلك الإضافة ، وعليه : فلا ينبغي الارتياب في حصول القربة المقوّمة للعبادة بقصد الملاك ، كحصولها بقصد الأمر.

فقد اتضح ممّا تقدّم : جواز الاكتفاء في صحّة الضّد العبادي المهم بالملاك عند المزاحمة للأهم.

٤٨٧

لا في تمامه (١) يمكن أن يقال : إنّه حيث كان الأمر بها (٢) على حاله وإن صارت مضيّقة بخروج ما زاحمه الأهم من (٣) أفرادها من تحتها أمكن أن يؤتى بما زوحم منها بداعي ذلك الأمر (٤) ، فإنّه وإن كان خارجا عن تحتها بما هي مأمور بها ، إلّا أنّه (٥) لمّا كان وافيا بغرضها (*) كالباقي تحتها (٦) كان عقلا مثله في الإتيان

______________________________________________________

الأفراد المزاحمة صحّ. فالضّد المهم وإن صار منهيّا عنه بسبب الأمر بالأهم ، لكنه يصح الإتيان به بقصد أمر الأفراد غير المزاحمة.

(١) إذ لو كانت المزاحمة في تمام وقت المهم سقط طلب الطبيعة رأسا ، للمزاحمة.

(٢) أي : بالعبادة الموسّعة.

(٣) بيان ل ـ ما ـ الموصولة ، وضميرا ـ أفرادها ـ و ـ تحتها ـ راجعان إلى العبادة الموسّعة ، يعني : أنّ المزاحمة لم توجب سقوط الأمر عن طبيعة المهم رأسا ، بل أوجبت سقوطه عن الفرد المزاحم بالأهم ، وصيرورة وقت المهم مضيّقا ، لاختصاصه بغير وقت الأهم ، فالأمر بسائر أفراد المهم ـ ممّا لا يزاحم الأهم ـ باق على حاله ، فلا مانع من الإتيان بالمهم ـ كالصلاة في وقت الإنقاذ ـ بداعي الأمر المتعلّق بسائر أفراد الصلاة ممّا ليس في زمان الإنقاذ ، فإنّ الفرد المزاحم وإن كان خارجا عن حيّز الطبيعة بما هي مأمور بها ، لكنّه من أفرادها بما هي هي ، وممّا يفي بغرض المولى. فحينئذ لا يفرق العقل بين هذا الفرد المبتلى بمزاحمة الأهم ، وبين الأفراد غير المزاحمة في الوفاء بالغرض الداعي إلى الأمر الّذي يسقط به ، كسقوطه بغيره من الأفراد الباقية تحت الطبيعة.

(٤) أي : الأمر المتعلّق بالطبيعة وإن خرج عنها الفرد المزاحم.

(٥) هذا الضمير ، وكذا ضمير ـ فإنّه ـ راجعان إلى ـ ما زوحم منها ـ.

(٦) هذا الضمير ، وكذا ضميرا ـ عن تحتها ـ و ـ بغرضها ـ راجعة إلى العبادة.

يعني : أن الفرد المزاحم كغيره من الأفراد الباقية تحتها.

__________________

(*) الأولى : تذكير الضمير ، ليرجع إلى المولى.

٤٨٨

به (١) في مقام الامتثال ، والإتيان (٢) به بداعي ذلك الأمر (٣) بلا تفاوت في نظره (٤) بينهما أصلا.

ودعوى (٥) : أنّ الأمر لا يكاد يدعو إلّا إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها ، وما زوحم منها بالأهم وإن كان من أفراد الطبيعة ، لكنّه ليس من أفرادها بما هي مأمور بها (٦) فاسدة (٧) ،

______________________________________________________

(١) أي : بالباقي ، يعني : أنّه كما يصح الإتيان بالأفراد غير المزاحمة ، لوفائها بغرض المولى ، كذلك يصح الإتيان بالفرد المزاحم بداعي أمر الطبيعة وإن كان خارجا عن دائرة الطبيعة بوصف كونها مأمورا بها.

(٢) معطوف على ـ الإتيان ـ ، وضميرا ـ به ـ و ـ مثله ـ راجعان إلى الباقي.

(٣) أي : الأمر المتعلّق بالطبيعة ، فحال الفرد المزاحم الّذي لم يتعلّق به الأمر كحال سائر الأفراد في الوفاء بغرض المولى ، وفي صحة الإتيان به بداعي ذلك الأمر المتعلّق بالطبيعة.

(٤) أي : في نظر العقل ، يعني : من دون تفاوت في نظر العقل بين الفرد المزاحم بالأهم ، وبين الأفراد غير المزاحمة له في الوفاء بالغرض ، وسقوط الأمر ، وصحّة الإتيان به بدعوة أمر الطبيعة على ما تقدّم آنفا.

(٥) هذا إشكال على الإتيان بالفرد المزاحم للأهم بقصد الأمر المتعلّق بالطبيعة.

تقريبه : أنّ داعويّة الأمر إنّما تختص بما تعلق به ، والمفروض أنّ الفرد المزاحم ليس متعلقا للأمر حين مزاحمته للأهم ، وإن كان من أفراد الطبيعة ، مثل كونه فردا للصلاة الّتي فرضناها مزاحمة للواجب الأهم ، كالإنقاذ. لكن مجرّد كونه من أفراد الطبيعة مع عدم أمر به لا يجدي في صحّته المترتّبة على الأمر ، لاختصاصه بالأفراد غير المزاحمة ، فلا يدعو إلى غير ما اختص به ، وهو الفرد المزاحم.

(٦) يعني : حتى يحصل الامتثال بإيجاد الفرد المزاحم بقصد أمر الطبيعة.

(٧) هذا دفع الإشكال ، وحاصله : أنّ عدم داعويّة الأمر بالطبيعة إلى الفرد

٤٨٩

فإنّه (١) إنّما يوجب ذلك (٢) إذا كان خروجه (٣) عنها بما هي كذلك تخصيصا (٤) ، لا مزاحمة ، فإنّه (٥) معها وإن كان لا تعمّه الطبيعة المأمور بها ، إلّا أنّه ليس لقصور فيه (٦) ، بل لعدم إمكان تعلّق الأمر بما تعمّه عقلا (٧).

______________________________________________________

الخارج عن دائرتها إنّما هو فيما إذا كان الخروج للتخصيص ، دون المزاحمة ، إذ على الأوّل يكون الخروج خطابا وملاكا ، فالفرد الخارج يصير فاقدا للملاك ، وغير محصّل للغرض. وعلى الثاني : يكون الخروج خطابا ، لا ملاكا ، إذ لا قصور في الملاك ، حيث إنّ المحذور يختص بمقام الامتثال ، لعدم القدرة على الجمع بين الضدين.

والحاصل : أنّ بين خروج فرد عن دائرة الطبيعة المأمور بها تخصيصا ، وبين خروجه عنها لأجل التزاحم فرقا واضحا ، وهو : كون الخروج في الأوّل عن الملاك والخطاب معا. بخلاف الثاني ، إذ لا مانع من بقاء الملاك عند مزاحمة الخطابات المباينة لتزاحم الملاكات.

(١) يعني : فإنّ خروج الفرد المزاحم عن دائرة الطبيعة المأمور بها يوجب عدم داعويّة أمر الطبيعة بالنسبة إليه إذا كان الخروج للتخصيص ، دون المزاحمة.

(٢) أي : عدم داعويّة أمر الطبيعة.

(٣) أي : خروج ما زوحم عن الطبيعة ، فقوله : «كذلك» أي : بما هي مأمور بها.

(٤) قد عرفت المراد من التخصيص والمزاحمة.

(٥) يعني : فإنّ الفرد المزاحم ـ مع المزاحمة ـ وإن كان لا تعمّه الطبيعة المأمور بها ـ يعني المهم ـ ، إلّا أنّ عدم شمول الطبيعة له ليس لقصور فيه من حيث فرديّته للطبيعة ، بل لعدم إمكان تعلّق الأمر به عقلا ، لعدم القدرة عليه بسبب مزاحمته للأهم ، فإنّ الأمر به مع المزاحمة طلب للجمع بين الضدين فعلا ، وهو محال عقلا.

(٦) أي : فيما زوحم ، وضمير ـ أنّه ـ راجع إلى ـ عدم الشمول ـ المدلول عليه بقوله : «لا تعمه».

(٧) قيد لقوله : «لعدم إمكان». فالمتحصل : أنّ الفرد المزاحم من طبيعة الواجب المهم لما كان كغيره من أفراد تلك الطبيعة في الوفاء بالغرض ، وكان

٤٩٠

وعلى كل حال : فالعقل لا يرى تفاوتا في مقام الامتثال ، وإطاعة الأمر بها (١) بين هذا الفرد وسائر الافراد أصلا (٢).

هذا (٣) على القول بكون الأوامر متعلقة بالطبائع.

وأمّا بناء على تعلّقها بالافراد ، فكذلك (٤)

______________________________________________________

المانع عن شمول الطلب الفعلي المتعلق بالطبيعة مزاحمته للأهم صح الإتيان به بداعي الأمر بالطبيعة ، إذ لا فرق بنظر العقل الحاكم بوجوب الإطاعة بين هذا الفرد المزاحم ، وبين غيره من سائر الأفراد في الوفاء بالغرض الداعي إلى الأمر ، وإن لم يتعلّق به الأمر.

نعم لا يتحقّق به الإطاعة إذا كان خروجه عن الطبيعة بالتخصيص ، لا بالمزاحمة ، والمفروض هو الثاني ، دون الأوّل.

(١) أي : الطبيعة.

(٢) لكون الفرد المزاحم كغيره في الفرديّة للطبيعة ، والمحصّليّة للغرض.

(٣) يعني : أنّ داعويّة الأمر بالطبيعة للفرد المزاحم ـ بناء على تعلّق الأوامر بالطبائع ـ واضحة ، لأنّ الفرد المزاحم وإن لم يكن بنفسه متعلّقا للأمر ، إلّا أنّه بلحاظ الطبيعة الكلّيّة المتحقّقة في ضمنه يكون مأمورا به ، إذ المزاحمة الرافعة للأمر الفعلي إنّما وقعت بين الفرد وبين الأهم ، لا بين طبيعة الواجب الموسّع وبين الأهم ، فلم يرتفع بالمزاحمة الأمر المتعلّق بالطبيعة.

وأما بناء على تعلقها بالأفراد ، فكذلك واضح أيضا ، كما سيأتي بيانه قريبا.

(٤) يعني : يصحّ الإتيان بالفرد المزاحم للأهم بدعوة الأمر المتعلق بغيره ـ على القول بتعلق الأوامر بالأفراد أيضا ـ ، وذلك لأنّ المناط ـ وهو : كون المأتيّ به واجدا لملاك الأمر مع عدم كونه مأمورا به ـ متحقق مطلقا ، سواء أقلنا بتعلّق الأوامر بالطبائع أم الأفراد. وإنّما الفارق بين هذين القولين هو : أنّ المأمور به ـ بناء على تعلق الأوامر بالأفراد ـ مباين للفرد المزاحم ، فلا ينطبق عليه أصلا ، بل يقوم مقامه ،

٤٩١

وإن كان جريانه (١) عليه أخفى ، كما لا يخفى ، فتأمّل (٢).

ثم (٣) لا يخفى أنّه ـ بناء على إمكان الترتّب وصحّته ـ لا بد من الالتزام

______________________________________________________

لوفائه بغرض واحد يقوم بكلّ واحد من الأفراد المتباينة. نظير الملاك الواحد القائم بكلّ واحد من أفراد الواجب التخييري. وبناء على تعلّق الأوامر بالطبائع ليس المأمور به مباينا له ، بل يشمله ، لكون الفرد المزاحم من أفراده بما هو هو ، وإن لم يكن من أفراده بما هو مأمور به. وهذا الفارق أوجب كون جريان القول بصحّة الفرد المزاحم ـ بناء على القول بتعلّق الأوامر بالأفراد ـ أخفى من جريانه على القول بتعلّقها بالطبائع.

(١) يعني : جريان ما تقدّم من صحّة الفرد المزاحم بالأمر المتعلّق بغيره.

(٢) لعلّه إشارة إلى : أنّ تصحيح المهم بالأمر المتعلّق بغيره أجنبيّ عن مقالة القائلين باعتبار الأمر الفعلي ، لأنّ ظاهر كلامهم : اعتبار كون المأتيّ به متعلّقا لأمر فعليّ.

وأما فيما إذا تعلّق الأمر بغيره ، فهو كإتيان الصلاة بداعي أمر الصوم ، أو الزكاة مثلا ، فلا أمر فعليّ يتعلّق به.

فالأمر بالتأمّل إشارة إلى : صحّة ما تقدّم من قوله : «ودعوى أنّ الأمر لا يكاد يدعو إلّا إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها ... إلخ» ، أو إشارة إلى : عدم جريان هذا البحث على القول بتعلّق الأوامر بالأفراد ، لمباينة المأمور به للمأتيّ به.

(٣) هذا إشارة إلى : أنّ المهمّ في بحث الترتّب هو إثبات إمكانه. وأمّا وقوعه فلا حاجة إلى البحث عنه ، بل إمكانه مساوق لوقوعه ، إذ المفروض وجود الخطابين المتزاحمين في الشرعيّات ، كالأمر بالصلاة وإنقاذ الغريق المؤمن. والمزاحمة لا تقتضي عقلا إلّا امتناع اجتماع المتزاحمين عرضا ، لا طولا ـ كما هو قضيّة الترتّب ـ فإنّ جعل أحدهما في طول الآخر رافع لهذا المحذور العقلي. فبناء على إناطة صحّة العبادة بالأمر ، وعدم كفاية مجرّد الملاك في صحّتها ـ كما هو مبنى القائلين ببطلان الترتّب

٤٩٢

بوقوعه من دون انتظار دليل آخر (١) عليه ، وذلك لوضوح أنّ المزاحمة على (٢) صحّة الترتب لا تقتضي عقلا إلّا امتناع الاجتماع في عرض واحد ، لا كذلك (٣) ، فلو قيل بلزوم الأمر (٤) في صحة العبادة ولم يكن في الملاك كفاية كانت العبادة مع ترك الأهم صحيحة ، لثبوت الأمر بها في هذا الحال (٥) ، كما إذا لم تكن هناك مضادّة (*).

______________________________________________________

وعدم معقوليّته ـ كانت العبادة مأمورا بها بأمر فعليّ موجب لصحّتها.

(١) يعني : غير الدليل العقلي الدال على إمكان الترتّب.

(٢) يعني : بناء على صحّة الترتّب ، ومعقوليّته.

(٣) أي : لا بنحو الترتّب ، يعني : أنّ العقل لا يحكم بامتناع الاجتماع على نحو الترتّب والطوليّة ، بل إنّما يحكم بامتناع الاجتماع على نحو العرضيّة.

(٤) كما نسب إلى القدماء ، واختاره غير واحد من متأخّري المتأخّرين.

(٥) أي : حال ترك الأهم ـ بناء على القول بالترتّب ـ ، فإنّ الأمر في هذه الصورة متحقّق ، كثبوته في حال انفراده ، وعدم ابتلائه بالمزاحمة للضّدّ الأهم.

هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بشرح كلمات المصنّف (قده) في الترتّب ، والحمد لله كما هو أهله.

__________________

(*) لا يخفى : أنّه لمّا كان التحقيق صحّة الترتّب ، فينبغي التعرّض لشطر من الكلام فيه ، فنقول وبه تعالى نستعين وبوليّه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين نتوسل ونستجير : إنّه لا بد أوّلا من تحرير محلّ النزاع في الترتّب ثم التكلّم في إمكانه أو عدمه ، فاعلم :

أنّ مورده الضّدان الواجبان المطلقان الواجدان للملاك حتى مع المزاحمة ، وهو : فيما إذا لم يكن كلاهما أو أحدهما مشروطا بالقدرة الشرعيّة ، كالصلاة والإزالة ، دون ما إذا كان كلّ منهما أو أحدهما مشروطا بها ، لانتفاء ملاك المشروط بها منهما حينئذ بالتزاحم الرافع لها ، كالصلاة والحج ، فإنّ التزاحم بينهما يرفع

٤٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

القدرة الشرعيّة عن الحج ، فينتفي ملاكه ، فيرتفع التزاحم ، ولا تصل النوبة إلى الترتّب.

وبالجملة : فمورد الترتّب الضّدان غير المشروط شيء منهما شرعا بالقدرة.

ثم إنّ الضّدين المشروطين بالقدرة العقليّة إن كانا متساويين في الملاك ، فالعقل يحكم بالتخيير بينهما ، وإلّا فيقدّم الأهم على المهم بلا كلام ولا إشكال. إنّما الكلام في أنّ أمر المهم هل يسقط رأسا ، أم يسقط إطلاقه فقط ويبقى مقيّدا؟ فيقيّد وجوب المهم بترك متعلّق الأهم ، ويصير إطلاق خطاب المهم مشروطا بترك متعلّق الأهم مع بقاء خطابه على إطلاقه. فيه خلاف عظيم ، ذهب جمع من الأساطين كالشيخ الأعظم ، والمصنّف وغيرهما (قدس‌سرهم) إلى الأوّل ، وجمع آخر منهم كالمحقق الثاني ، وسيّد الأساطين الميرزا الكبير الشيرازي ، والسيد المدقق السيد محمّد الأصفهانيّ (قدس‌سرهم) إلى الثاني.

وهذا هو الّذي يقتضيه التحقيق ، وتوضيحه منوط بالإشارة إلى جهات :

الأولى : أنّ عمدة محذور الترتّب لزوم طلب الجمع بين الضّدين ، والغرض من تمهيد هذا الأمر هو دفع هذا المحذور ، بتقريب : أنّ طلب الجمع إنّما يلزم فيما إذا كان الطلبان المتعلّقان بالضدين عرضيّين ، كقوله : «صلّ وأزل».

وأما إذا كانا طوليّين ، فلا يلزم أصلا ، كما إذا قال : «أزل النجاسة ، وإن تركتها فصلّ» ، فمطلوبيّة الصلاة حينئذ ليست في عرض مطلوبيّة الإزالة ، بل في ظرف تركها ، فلو فرض محالا : قدرة العبد على الجمع بين الإزالة والصلاة في آن واحد لا تتّصف الصلاة بالمطلوبيّة ، لعدم حصول شرط طلبها وهو ترك الإزالة.

ومن هنا يظهر : مناط الطوليّة المانعة عن لزوم طلب الجمع أيضا ، وأنّه ليس مطلق طوليّة أحد الطلبين للآخر ، وترتّبه عليه مانعا عن لزوم طلب الجمع ، وذلك لإمكان الترتّب المزبور مع لزوم طلب الجمع ، كما إذا قال : «إن أمرت بدخول المسجد فاقرأ القرآن» ، فإنّ طلب القراءة مترتّب على الأمر بدخول المسجد ، وفي طوله.

٤٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ولكن مع ذلك يقتضي هذا الترتّب طلب الجمع بين دخول المسجد وقراءة القرآن. فالطوليّة المانعة عن لزوم طلب الجمع عبارة عن إناطة أحد الطلبين بترك متعلّق الآخر ، سواء أكان المتعلّقان متضادّين كالصلاة والإزالة ، أم لا كالقراءة ودخول المسجد ، فإنّه لا ريب في عدم لزوم طلب الجمع بهذا النحو من الطوليّة. بل هذه الطوليّة تقتضي امتناعه ، لما عرفت آنفا : من أنّه لو فرض محالا قدرة المكلّف على الإتيان بكلا الضّدّين اللّذين تعلّق بهما الطلب طولا سواء أكانا ضدّين كالإزالة والصلاة ، أم لا كدخول المسجد والقراءة لما اتّصف بالمطلوبيّة إلّا الأهم.

وأمّا المهم ، فلا يتّصف بها ، لعدم تحقّق شرط مطلوبيّته ، وهو ترك الأهم.

نعم يلزم اجتماع الطلبين في آن واحد مع اختلافهما في الاقتضاء ، وهذا غير طلب الجمع المستلزم لمطلوبيّة متعلقي الطلبين في آن واحد ، كما هو ظاهر.

ثم إنّ الطوليّة المانعة عن لزوم طلب الجمع منوطة بكون الشروط العامّة والخاصّة الاختياريّة كالاستطاعة ، وتملّك النصاب الزكوي ، ونحوهما ، وغير الاختياريّة ، كالبلوغ ، والعقل ، والوقت من الجهات التقييديّة الدخيلة في الموضوع حتّى يكون موضوعا الطلبين طوليّين ، وطلبهما أيضا طوليّين ، إذ لو لم ترجع إلى الموضوع ، وكانت من الجهات التعليليّة الدخيلة في الملاك المؤثّر بوجوده العلمي ـ لا الخارجي ـ في التشريع ، وفعليّته ، لزم من ذلك عرضيّة طلبي الأهم والمهم ، لكون موضوعيهما حينئذ عرضيّين ، حيث إنّ ذات الإزالة والصلاة في المثال المزبور موضوعان للحكم ، إذ المفروض رجوع الشروط ـ الّتي منها ترك متعلّق الأهم ، كالإزالة ـ إلى الملاك الّذي هو أجنبيّ عن الموضوع ، فالموضوع نفس الصلاة والإزالة ، ومن المعلوم : أنّه لا طوليّة بينهما حينئذ ، فيلزم عرضيّة الطلبين المتعلّقين بهما أيضا.

وهذا خلاف ما فرضناه في الترتّب من طوليّة الخطابين رتبة. وقد ثبت في محلّه :

٤٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

كون القضايا الشرعيّة من القضايا الحقيقيّة ، لا الخارجيّة حتى تكون الشروط من الجهات التعليليّة ، فلاحظ.

فقد اتضح من الجهة الأولى أمران :

الأول : ارتفاع لزوم طلب الجمع بطوليّة الطلبين رتبة.

الثاني : المراد بالطوليّة ، وأنّها تتوقّف على رجوع الشرط إلى الموضوع ، لكون القضايا الشرعيّة من القضايا الحقيقيّة. وإلّا امتنع الترتب ، لتوقفه على طوليّة الخطابين المنوطة بكون القضايا الشرعيّة من القضايا الحقيقيّة ، لا الخارجيّة.

الجهة الثانية : أنّ إطلاق الخطاب بالنسبة إلى شيء عبارة عن عدم دخل وجود ذلك الشيء وعدمه في الخطاب ، وكون وجوده وعدمه على حد سواء. واشتراط الخطاب بشيء عبارة عن دخل ذلك الشيء وجودا أو عدما في الخطاب ، ومن المعلوم : أنّ الاشتراط لا يقتضي إطلاق الخطاب بعد حصول الشرط ، إذ مرجعه إلى ارتفاع دخله في الخطاب ، لما عرفت : من أنّ الاشتراط عبارة عن دخل شيء فيه ، والإطلاق عبارة عن عدم دخله فيه ، وهما متناقضان ، فيمتنع رجوع المشروط بعد حصول شرطه إلى المطلق.

لا يقال : إنّ خطاب المهم بعد حصول شرطه ـ وهو عصيان خطاب الأهم ـ ينقلب مطلقا ، فيعود محذور لزوم طلب الجمع الناشئ عن إطلاق الخطابين ، مثلا : إذا ترك متعلّق الأهم ـ كالإزالة ـ صار خطاب المهم ـ كالصلاة المشروط بترك الإزالة ـ مطلقا كإطلاق خطاب الإزالة ، فاجتمع خطابان مطلقان ، ومن المعلوم : أنّ طلب الجمع ينشأ من إطلاق الخطابين ، حيث إنّ طلب الإزالة يقتضي مطلوبيّتها مطلقا ، سواء أوجبت الصلاة أم لا ، وكذا طلب الصلاة ، ومقتضى هذين الإطلاقين : وجوب الإزالة والصلاة معا ، وهذا معنى عرضيّة الخطابين الموجبة لاستحالة الترتّب.

٤٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فانه يقال : إنّ خطاب المهم بعد حصول شرطه لا ينقلب عن الاشتراط إلى الإطلاق ، بل هو باق على ما كان عليه من الاشتراط ، إذ لازم الانقلاب لغويّة الشرط وإطلاق الخطاب بالنسبة إليه ، وهو خلاف فرض الاشتراط ، فوجوب المهم ـ كالصلاة ـ بعد حصول شرطه ـ كترك الإزالة ـ لا يصير مطلقا ، بل المولى يقول حينئذ أيضا : «إن تركت الإزالة ، فصلّ».

فاتضح مما ذكرنا : عدم لزوم عرضيّة الطلبين حين حصول شرط المهم ، وفساد توهم انقلاب الواجبات المشروطة بعد تحقق شرائطها مطلقة ، لاختلاف المطلق والمشروط سنخا ، ولبرهان الخلف ، حيث إنّ المفروض كون الوجوب مشروطا ، فصيرورته مطلقا خلاف الفرض ، كما لا يخفى.

الجهة الثالثة : أنّ المفروض في الترتّب لمّا كان اجتماع خطابين فعليّين زمانا ، وطوليّين رتبة ، فلا محيص عن جعل شرط خطاب المهم ترك الاشتغال بالأهم لا عصيان خطابه ، ولا العزم على تركه.

أما الأول ، فلكون العصيان ـ كذهاب الموضوع ـ مسقطا لخطاب الأهم رأسا ، ومعه يمتنع الترتّب المتقوّم باجتماع طلبين فعليّين زمانا طوليّين رتبة ، إذ المفروض سقوط طلب الأهم بالعصيان ، وبقاء طلب المهم وحده ، فلا اجتماع للطلبين.

نظير ترتب وجوب التيمّم على سقوط وجوب الوضوء ـ على ما قيل ـ ، لكنه ليس من الترتّب المبحوث عنه في شيء ، كما لا يخفى.

وأما الثاني ، فلاستلزامه عرضيّة الطلبين ، وارتفاع الطوليّة الرّتبيّة المانعة عن لزوم طلب الجمع ، لوضوح فعليّة الخطابين في رتبة العزم على ترك الأهم.

أمّا فعليّة الأهم ، فظاهر.

وأمّا فعليّة المهم ، فلتحقق شرطها وهو العزم على ترك الأهم.

٤٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وبالجملة : فشرط فعليّة المهم هو ترك متعلّق طلب الأهم ، لا العصيان ، ولا العزم عليه ، لكون الأوّل موجبا لسقوط خطاب الأهم ، فلا يجتمع طلبان فعليّان زمانا ، ولكون الثاني سببا لعرضيّة الطلبين الموجبة لطلب الجمع.

وأمّا التعبير عن الترك بالعصيان في كلمات بعضهم ـ كالمصنّف في عباراته المتقدّمة ـ فللتنبيه على : أنّ مورد الترتّب هو العلم بالخطابين ، وتنجّزهما ، لكون الترتّب من صغريات كبرى التزاحم المنوط بتنجّز الخطابين ، ضرورة أنّ التزاحم الامتثالي المأموري ليس إلّا في مقام البعث الفعلي المتوقّف على التنجّز ، لما تقرّر في محلّه : من قصور الخطابات بوجوداتها الواقعيّة عن التحريك الفعلي ، وبدون هذا التحريك لا تدافع بين الحكمين في مقام الإطاعة.

والحاصل : أنّ الترتّب المتقوّم باجتماع طلبين فعليّين زمانا وطوليّين رتبة متوقّف على كون شرط فعليّة خطاب المهم ترك متعلّق الأهم ، لا عصيانه ، ولا العزم على تركه.

الجهة الرابعة : أنّه لا يلزم في الترتب الشرط المتأخّر ، ولا الوجوب التعليقي.

أمّا تقريب لزومها ، فهو : أنّه قد توهّم في الخطابات المضيّقة : لزوم تقدير الخطاب آناً ما قبل زمان المتعلّق ، إذ بدونه يلزم إمّا طلب الحاصل ، وإمّا امتناع الانبعاث عن البعث.

توضيحه : أنّ المكلّف بالصوم في الآن المقارن لطلوع الفجر إمّا متلبّس بالصوم ، وإمّا غير متلبّس به ، فعلى الأوّل يلزم طلب الحاصل.

وعلى الثاني : يستحيل الانبعاث عن هذا البعث ، لامتناع إعادة الآن الأوّل حتى ينبعث عن الخطاب بالإمساك فيه.

وببيان أوضح : إن كان الخطاب مقارنا لآن الطلوع ، ولم يكن متقدّما

٤٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عليه لزم أحد المحذورين : إمّا طلب الحاصل ، وإمّا إعادة المعدوم.

وهذا البرهان يقتضي إمّا الالتزام بالواجب المعلّق ، لأنّ المفروض تقدّم الوجوب على موضوعه ـ وهو الوقت ـ فيكون الوجوب فعليّا ، والواجب استقباليّا.

أو الالتزام بالشرط المتأخّر ، لكون المشروط ـ وهو الوجوب ـ حاصلا قبل شرطه ـ أعني الوقت ـ مع استحالة كلّ من الواجب المعلّق والشرط المتأخّر ، على ما ثبت في محله.

والمفروض لزومهما في الترتّب ، حيث إنّ خطاب المهم ـ بعد فرض اشتراطه بعصيان الأهم ـ يتقدّم لا محالة على موضوعه ـ وهو ترك الأهم ـ. نظير تقدم خطاب الصوم آناً ما على الطلوع ، كما تقدّم ، وذلك لأنّ ترك الأهم يتوقّف على امتثال المهم ، وامتثال المهم يتوقّف على الخطاب به ، فيكون الخطاب به متقدّما على ترك الأهم وهو الموضوع لخطاب المهم ، فيجتمع حينئذ خطابان فعليّان في رتبة سابقة على العصيان.

أما خطاب المهم ، فللزوم فرض تقدّمه على العصيان ، كلزوم تقدّم خطاب الصوم على الطلوع من باب الوجوب التعليقي ، أو الشرط المتأخّر.

وأما خطاب الأهم ، فالمفروض فعليّته على كلّ تقدير ، فاجتمع خطابا الأهم والمهم في الرتبة السابقة على العصيان مع فعليّتهما ، ولازمه طلب الجمع المستحيل المستلزم لاستحالة الترتّب.

وبالجملة : يلزم من تقدم طلب المهم على موضوعه تعليقا أو شرطا متأخرا طلب الجمع الموجب لامتناع الترتّب ، هذا.

وأما تقريب دفع لزومهما ، أعني : الوجوب التعليقي ، أو الشرط المتأخّر فهو : أنّه ـ بعد النقض بالواجبات الموسعة ، وعدم اختصاص الإشكال وهو طلب الحاصل ، أو إعادة المعدوم الموجب للالتزام بالتعليقي ، أو الشرط المتأخّر في الواجبات

٤٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المضيّقة فيما إذا أريد امتثال الواجبات الموسّعة في أوّل أوقاتها ، إذ لا محيص حينئذ عن تقدير الوجوب آناً ما قبل زمان الواجب حتى يمكن الانبعاث عنه في أوّل أزمنته ، مع عدم التزامهم بلزوم تقدّم زمان البعث على زمان الانبعاث في الواجبات الموسّعة أصلا ـ ، لا وجه لتقدّم زمان البعث على زمان الانبعاث أصلا ، إذ لا محذور في اتحاد زمان الخطاب والامتثال ، بل لا محيص عنه ، لأنّهما كالعلّة والمعلول في الوحدة زمانا ، والتعدّد رتبة ، غاية الأمر : أنّه لمّا كان الخطاب بوجوده الواقعي قاصرا عن التحريك ، فلا بد في تتميم هذا القصور من العلم به قبل وقته ، حتى يتمكّن العبد من الانبعاث عنه في أوّل أزمنته ، ومن البديهي : أنّه بعد العلم به يقدر على امتثاله في أوّل آنات توجّهه إليه بلا محذور أصلا ، فإذا علم المكلف في الليل مثلا بوجوب الصوم عليه مقارنا لطلوع الفجر الصادق امتثل ذلك الوجوب ، من دون توقّفه على سبق الوجوب على الطلوع.

فالبرهان المتقدّم ـ وهو : طلب الحاصل ، أو : إعادة المعدوم ـ لا يقتضي تقدير الطلب قبل زمان الواجب في المضيّقات أصلا ، بل حالها حال الموسّعات في عدم الحاجة إلى التقدير المزبور.

ومنه يظهر : ما في كلام المصنف (قده) في مبحث الواجب المعلّق في مقام دفع إشكاله من قوله : «مع أنّه لا يكاد يتعلّق البعث إلّا بأمر متأخّر عن زمان البعث» من الغموض ، حيث إنّ ظاهره : امتناع اتّحاد زمان الانبعاث والبعث ، ولزوم تأخّر الأوّل عن الثاني ، وقد عرفت ما فيه.

فالمتحصل : أنّه لا موجب لتقديم زمان البعث على زمان الانبعاث ، بل وزانهما وزان العلّة والمعلول في اتّحادهما زمانا ، واختلافهما رتبة ، فزمان الأمر والامتثال واحد ، كوحدة زماني الطلب والموضوع ، لما تقرّر في محلّه : من كون الموضوع بمنزلة العلّة ، والحكم بمنزلة المعلول ، وإلّا يلزم الخلف والمناقضة.

٥٠٠