منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٥٩٢

المادة ، إلّا أنّه (١) لا يوجب ترجيحه على إطلاقها ، لأنّه (٢) أيضا كان بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ، غاية الأمر : أنّها (٣) تارة تقتضي العموم الشمولي ، وأخرى

______________________________________________________

ومحصل إشكال المصنّف (قده) عليه : أنّ شموليّة إطلاق الهيئة ما لم تكن بالوضع لا توجب الأقوائيّة من بدليّة إطلاق المادة حتى يرجّح عليه ، والمفروض أنّ كلا من الشموليّة والبدليّة إنّما هي بمقدّمات الحكمة ، لا بالوضع. كالمفرد المحلّى باللام ـ بناء على عدم وضعه للعموم ـ فعمومه إنّما هو ببركة مقدّمات الحكمة ، ولذا يستفاد العموم من البيع في قوله تعالى : «أحلّ الله البيع» الوارد مورد الامتنان. كما أنّه قد يستفاد ببركة مقدّمات الحكمة العموم البدلي من المفرد المنكّر ، كقوله : ـ أكرم عالما ـ كما أنّ تلك المقدّمات قد تقتضي التعيين ، مثل اقتضاء صيغة الأمر لكون الوجوب نفسيا عينيّا تعيينيّا كما تقدّم في محلّه ، فنتيجة مقدّمات الحكمة مختلفة ، فقد تكون العموم الشمولي ، وقد تكون العموم البدلي ، وقد تكون التعيين.

(١) أي : كون مفاد إطلاق الهيئة شموليّا لا يوجب ترجيحه على إطلاق المادة ، فضمير ـ ترجيحه ـ راجع إلى الإطلاق ، وضمير ـ إطلاقها ـ إلى المادة.

(٢) تعليل لقوله : ـ لا يوجب ترجيحه ـ ، وحاصله : أنّ إطلاق الهيئة شموليّا لا يوجب ترجيحه على إطلاق المادّة ، لأنّ إطلاق الهيئة أيضا يكون بمقدّمات الحكمة ، فالإطلاقان في رتبة واحدة ، لكونهما معا بمعونة مقدّمات الحكمة ، فلا مرجّح لأحدهما على الآخر يوجب تقديمه على صاحبه.

(٣) أي : مقدّمات الحكمة. كأنّ غرضه دفع توهم ، وهو : أنّه إذا كان إطلاق كلّ من الهيئة والمادة ناشئا من مقدّمات الحكمة ، فاللّازم أن يكون نتيجة المقدّمات في الهيئة والمادة واحدة ، بأن يكون الإطلاق في كليهما شموليّا ، أو بدليّا ، لا أن يكون في أحدهما شموليّا ، وفي الآخر بدليا.

ودفعه بأنّه لا منافاة بين كون نتيجتها مختلفة في الموارد حسب اقتضاء خصوصيّات تلك الموارد من قبيل الامتنان ، أو تعلّق الطلب بصرف الطبيعة ، أو غير ذلك ، كما يأتي في المطلق والمقيّد إن شاء الله تعالى.

٢٢١

البدلي ، كما ربما يقتضي التعيين أحيانا (١) ، كما لا يخفى.

وترجيح (٢) عموم العام على إطلاق المطلق إنّما هو لأجل كون دلالته بالوضع لا لكونه (٣) شموليّا. بخلاف المطلق ، فإنّه بالحكمة ، فيكون العام أظهر منه ، فيقدّم عليه (٤) ، فلو فرض أنّهما في ذلك (٥)

______________________________________________________

(١) كاقتضاء الصيغة كون الوجوب نفسيا عينيا تعيينيا ، كما عرفت في محلّه ، فإنّ خصوصيّة المورد وهي كون ما ينفي بالمقدّمات أمورا وجودية محتاجة إلى بيان زائد تقتضي فردا خاصّا من الوجوب ، وهو النفسيّ العيني التعييني.

(٢) هذا دفع لما يتوهم من : أنّ العموم الشمولي مقدّم على البدلي عند المعارضة ، كما إذا حرم شرب المسكرات ، ثم ورد ما يدلّ على وجوب شرب دواء لحفظ النّفس واتّفق كونه مسكرا ، فيقدم الأوّل ـ لكونه شموليّا ـ على الثاني ، لكونه بدليّا ، كما إذا قال : ـ لا تكرم الفساق ، وأكرم عالما ـ ، فيرجّح الأوّل على الثاني في المجمع وهو العالم الفاسق. وليكن المقام كذلك ، فيقدم إطلاق الهيئة ـ لكونه شموليّا ـ على إطلاق المادة ـ لكونه بدليّا ـ ، هذا.

وقد دفعه المصنف بقوله : ـ إنّما هو لأجل كون دلالته ... إلخ ـ وحاصله :

أنّ تقديم عموم العام على إطلاق المطلق إنّما هو لأجل كون العموم بالوضع ، والإطلاق البدلي بمقدّمات الحكمة ، وليس تقديمه لمجرّد كونه عموما شموليّا حتى يلزم ترجيح إطلاق الهيئة ـ لكونه شموليّا ـ على إطلاق المادة ـ لكونه بدليّا ـ ، ولذا لو انعكس الأمر ، فكان هناك عام دلّ بالوضع على العموم البدلي ، ومطلق دلّ بمقدّمات الحكمة على الشمولي لكان العام البدلي مقدّما على العامّ الشمولي.

(٣) هذا الضمير وضمير ـ دلالته ـ راجعان إلى العام.

(٤) يعني : فيقدّم العام على المطلق ، وضميرا ـ منه وفإنّه ـ راجعان إلى المطلق.

(٥) غرضه : إقامة الشاهد على أنّ ترجيح العام الشمولي على البدلي إنّما هو بالوضع ، وقد أوضحناه بقولنا : ـ ولو انعكس الأمر ... إلخ ـ. وضمير ـ انّهما ـ راجع إلى العام والمطلق ، والمشار إليه في قوله : ـ ذلك ـ الشمولية والبدليّة.

٢٢٢

على العكس ، فكان (١) عام بالوضع دلّ على العموم البدلي ، ومطلق بإطلاقه دلّ على الشمولي لكان العام يقدّم بلا كلام (*).

______________________________________________________

(١) هذا بيان قوله : ـ على العكس ـ ، وقد مر آنفا تقريبه.

__________________

(*) بل لا يخلو من كلام ، وهو : أنّ الحق في باب الظهورات تقديم الأظهر مطلقا ـ وإن كان منشأ أظهريّته غير الوضع ـ على غيره وإن كان ظهوره بالوضع ، إذ لا فرق في بناء العقلاء على حجيّة الظواهر ، وتقديم الأظهر على الظاهر عند تعارضهما بين نشوء أصل الظهور أو الأظهرية عن الوضع وغيره ، لأنّهما موضوعا الحجيّة عندهم مع الغض عن منشئهما.

ودعوى : تقييد موضوع الحجية عندهم بنشوئهما عن الوضع غير مسموعة ، لما فيها أولا : من عدم طريق لإحراز الوضع حتى بالأمارات الّتي تقدمت في علائم الحقيقة ، لما مرّ هناك من عدم محرزيّتها للوضع.

وثانيا : بعد تسليم إمكان إحراز الوضع ، من عدم نهوض دليل على تقييد موضوع الحجية عند العقلاء بنشوء الظهور أو الأظهرية عن الوضع.

وثالثا : من استلزام التقييد بالوضع تقديم المعنى الوضعي على المعنى العرفي العامي عند تعارضهما. مع أنّ المسلّم من بناء العقلاء تقديم الثاني على الأوّل ، وليس هذا إلّا لأجل كون المناط عندهم نفس الظهور أو الأظهريّة من دون نظر إلى نشئه عن الوضع ، أو غيره ، فتدبّر.

ومن هنا يظهر : ضعف ما في التقريرات من : تقدم الشمولي مطلقا ولو كان بالحكمة على البدلي مطلقا ولو كان بالوضع.

وضعف ما أفاده المصنف من : تقدّم العموم الوضعي ولو كان بدليّا على الحكمي ولو كان شموليا ، كالبيع في قوله تعالى : «أحل الله البيع».

وذلك لأنّ المناط في الترجيح كما مرّ هو الأظهريّة من دون خصوصيّة لمنشئها من الوضع أو غيره.

٢٢٣

وأما في الثاني (١) ، فلأنّ التقييد (٢) وإن كان خلاف الأصل ، إلّا أنّ العمل الّذي يوجب عدم جريان مقدّمات الحكمة وانتفاء (٣) بعض مقدّماته لا يكون

______________________________________________________

(١) وهو : استلزام تقييد الهيئة لارتكاب خلاف أصلين ، واستلزام تقييد المادّة ارتكاب خلاف أصل واحد.

(٢) هذا ناظر إلى ردّ كلام التقريرات : «ولا فرق في الحقيقة بين تقييد الإطلاق وبين أن يعمل عملا ... إلخ».

ومحصل الرد : عدم استلزام تقييد الهيئة لارتكاب خلاف أصلين ، بل اللازم ارتكاب خلاف أصل واحد ـ وهو تقييد الهيئة ـ من دون لزوم ارتكاب خلاف أصل في ناحية المادّة ، ذلك لأنّ تقييد الإطلاق خلاف الأصل ، ومن المعلوم : عدم لزومه في طرف المادة ، إذ لا يلزم من تقييد الهيئة إلّا وجود المانع عن جريان مقدّمات الحكمة الموجبة لإطلاق المادّة. وليس هذا خلاف الأصل ، لعدم كون إيجاد المانع عن انعقاد الإطلاق كالتقييد في المخالفة للأصل ، وبطلان العمل بالإطلاق ، كما في التقريرات ، إذ المراد بالأصل هنا هو الإطلاق ، ومن المعلوم : عدم انعقاد ظهور للمادّة في الإطلاق حتى يلزم من العمل المبطل لإطلاقه مخالفة الأصل.

(٣) معطوف على قوله : ـ عدم ـ ، وضمير ـ مقدّماته ـ راجع إلى الحكمة ، فتأنيثه أولى.

__________________

وبالجملة : فالعموم سواء أكان شموليّا أم بدليّا ، وسواء أكان وضعيّا أم حكميّا يدور ترجيحه مدار أظهريته الناشئة من الوضع ، أو غيره المختلفة باختلاف المقامات ، فربّ مطلق بدليّ يقدّم على عام وضعيّ شموليّ ، لكن هذا إذا كانا في كلامين.

وأما إذا كانا في كلام واحد ، فدعوى : انعقاد الظهور للوضعي دون الحكمي غير بعيدة وإن كانت غير خالية عن المناقشة أيضا ، والتفصيل موكول إلى محله.

٢٢٤

على خلاف الأصل أصلا ، إذ (١) معه لا يكون هناك إطلاق كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييد الّذي يكون على خلاف الأصل.

وبالجملة : لا معنى لكون التقييد خلاف الأصل إلّا كونه (٢) خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدّمات الحكمة ، ومع انتفاء المقدّمات (٣) لا يكاد ينعقد له هناك (٤) ظهور ليكون ذاك العمل المشارك مع التقييد في الأثر وبطلان العمل بإطلاق المطلق مشاركا معه في خلاف الأصل أيضا.

وكأنه (٥) توهم : أنّ إطلاق المطلق كعموم العام (٦) ثابت ، ورفع اليد

______________________________________________________

(١) تعليل لعدم كونه خلاف الأصل ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : ـ إذ المراد بالأصل ... إلخ ـ ، وضمير ـ معه ـ راجع إلى انتفاء ، وضمير ـ به ـ إلى الإطلاق.

(٢) أي : التقييد ، وقوله : ـ ببركة ـ متعلق ب ـ المنعقد ـ ، وحاصله : أنّ المراد بالأصل هنا الظاهر ، لا سائر معانيه.

(٣) يعني : مجموعها ، لا جميعها ، لكفاية انتفاء إحداها في عدم انعقاد الإطلاق ، وعدم الحاجة إلى انتفاء الجميع.

(٤) أي : مع انتفاء المقدّمات ، وضمير ـ له ـ راجع إلى المطلق ، وتقريبه : أنّ انتفاء المقدّمات الحاصل من تقييد الهيئة يمنع عن انعقاد ظهور للمادّة في الإطلاق ، وهذا المنع مشارك للتقييد اللّحاظي في بطلان العمل بالإطلاق ، وليس مشاركا له في المخالفة للأصل ـ أي الظاهر ـ أيضا ، فالمشاركة مختصّة ببطلان العمل بالإطلاق ، ولا يشارك التقييد في مخالفة الأصل.

(٥) هذا توجيه ما في التقريرات : من كون تقييد الهيئة مستلزما لبطلان العمل بإطلاق المادّة ، وحاصل التوجيه : توهم ثبوت الإطلاق للمادّة ، كثبوت العموم للعام ، فيكون عموم الهيئة شموليّا معارضا لإطلاق المادّة بدليّا.

(٦) المراد بالعامّ هنا هو الهيئة ، وبالمطلق هو المادة.

٢٢٥

عن العمل به (١) تارة لأجل التقييد ، وأخرى بالعمل المبطل (٢) للعمل به.

وهو (٣) فاسد ، لأنّه (٤) لا يكون إطلاق إلّا فيما جرت هناك المقدّمات.

نعم (٥) إذا كان التقييد بمنفصل ، ودار الأمر بين الرجوع إلى المادّة أو الهيئة كان لهذا التوهم (٦)

______________________________________________________

(١) أي : إطلاق المطلق أعني المادّة.

(٢) وهو في المقام تقييد الهيئة ، وضمير ـ به ـ راجع إلى الإطلاق.

(٣) يعني : والتوهّم المزبور فاسد ، توضيح وجه الفساد : أنّه لا إطلاق للمادّة حتى يكون تقييد الهيئة مبطلا له ، وذلك لتوقّفه على جريان مقدّمات الحكمة ، والمفروض عدم جريانها ، حيث إنّ تقييد الهيئة مانع عنه ، لكونه بيانا للمادّة ، ومضيّقا لدائرتها ، فتقييد الهيئة يكون كقرينة على عدم الإطلاق في المادة ، وقد قرر في محله : عدم جريان مقدّمات الحكمة مع وجود ما يصلح للقرينية.

وعليه : فلا إطلاق للمادّة حينئذ حتى يكون تقييد الهيئة مبطلا له.

(٤) الضمير للشأن ، والمراد بقوله : ـ المقدمات ـ مقدّمات الحكمة.

(٥) هذا استدراك على قوله : ـ وهو فاسد ـ ، وحاصله : أنّ لهذا التوهّم مجالا في صورة انفصال القيد ، ودوران أمره بين الرجوع إلى الهيئة وبين الرجوع إلى المادّة ، حيث إن الإطلاق حينئذ ثابت لكلّ من الهيئة والمادّة ، لجريان مقدّمات الحكمة في المادّة بلا مانع ، إذ المفروض انفصال القيد ، وعدم منعه من انعقاد الإطلاق في كلّ من الهيئة والمادة.

وبالجملة : فلتوهّم ثبوت الإطلاق في كلّ من الهيئة والمادة مجال مع انفصال القيد ، دون اتّصاله.

(٦) وهو : ثبوت الإطلاق في الهيئة والمادّة معا ، كما إذا قال المولى لعبده : ـ صلّ ـ ثم قال : ـ صلّ في المسجد ـ ولم يقم قرينة على قيديّة المسجد للوجوب أو الواجب.

٢٢٦

مجال ، حيث (١) انعقد للمطلق إطلاق (*) ، وقد استقرّ له ظهور ولو بقرينة

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : ـ كان لهذا التوهّم مجال ـ ، وحاصل التعليل : أنّه لا مانع من انعقاد الإطلاق للمادّة بمقدّمات الحكمة مع عدم بيان متّصل في الكلام مانع عن جريانها ، إذ المفروض انفصال القيد.

__________________

(*) التحقيق أن يقال : إنّ القيد إمّا متّصل ، وإمّا منفصل ، فإن كان متصلا ، فلا ينعقد إطلاق لا للهيئة ولا للمادّة ، وذلك لاحتفافهما بما يصلح للقرينية.

وقد قرّر في محله ـ كما سيأتي إن شاء الله في مبحث المطلق والمقيد ـ : أنّ البيان ، وكذا ما يصلح للبيانيّة مانع عن جريان مقدمات الحكمة.

وعليه : فيكون الإطلاق في كلّ من الهيئة والمادة مجرّد فرض لا واقع له.

وإن كان منفصلا ، فانعقاد الظهور في كلّ منهما وإن كان مسلّما ، لكن هذا الظهور ليس بحجة ، للعلم الإجمالي بتقييد أحد الإطلاقين ، ومعه لا يجري أصالة الإطلاق في شيء منهما ، لأجل التعارض. نظير العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين الموجب لعدم جريان الأصل من استصحاب الطهارة ، وقاعدتها في واحد منهما ، إذ لا فرق في مانعيّة التعارض لجريان الأصول بين كون الأصول لفظيّة ، وعمليّة ، كما ثبت في محله.

وبالجملة : ففي القيد المتّصل لا ينعقد ظهور ، وفي المنفصل ينعقد ظهور ، ولكن لا عبرة به ، فوجوده كعدمه.

إلّا أن يقال : بانحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، حيث إنّ تقيّد المادّة ثابت على كل تقدير وإن كان القيد راجعا إلى الهيئة ، لما مرّ من استلزام تقيّد الهيئة لتقيّد المادّة ، فالشك متمحّض في تقيّد الهيئة ، فيرجع فيه إلى أصالة الإطلاق بلا مانع ، لما عرفت سابقا من عدم استلزام تقيّد المادّة

٢٢٧

الحكمة ، فتأمّل. (١)

ومنها : (٢) تقسيمه إلى النفسيّ والغيري ، وحيث (٣) كان طلب شيء وإيجابه

______________________________________________________

(١) لعلّه إشارة إلى : عدم صحّة هذا التوجيه ، وهو فرض انفصال القيد الموجب لثبوت الإطلاق في كلّ من الهيئة والمادّة.

وجه عدم صحته : أنّ عدم البيان الّذي هو من مقدّمات الإطلاق إن أريد به عدم البيان في مقام التخاطب ، فهو متين ، لكنّه ليس كذلك ، إذ المنسوب إلى شيخنا الأعظم (قده) هو عدم البيان الجدّي ، كالبيان في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، لا البيان في مقابل الإهمال. فلو ورد بعد حين دليل على التقييد كشف ذلك عن عدم إطلاق من أوّل الأمر. وعليه : فلا فرق في عدم انعقاد الإطلاق بين اتّصال القيد وانفصاله. فتوجيه كلام الشيخ (قده) وهو ثبوت الإطلاق في كلّ من الهيئة والمادة بفرض القيد منفصلا غير وجيه على مبناه ، ووجيه على مبنى المشهور.

أو إشارة إلى وجوه أخرى.

٣ ـ النفسيّ والغيري

(٢) أي : ومن تقسيمات الواجب : تقسيمه إلى النفسيّ والغيري.

(٣) غرضه : بيان الوجه الّذي انقسم الواجب لأجله إلى هذين القسمين.

__________________

لتقيّد الهيئة.

لكن فيه : أنّه بناء على امتناع تقييد الهيئة ، وكون القيد راجعا إلى المادة بأحد النحوين يصير المقام أجنبيّا عن الدوران بين تقييد إطلاقين حتى يدّعى العلم التفصيليّ بتقييد أحدهما ، والشك البدوي في تقييد الآخر ، بداهة أنّه لم يقيّد إلّا إطلاق واحد ، وهو إطلاق المادة.

غاية الأمر : أنّه مجهول الكيفية ، من وجوب تحصيل القيد وعدمه ، ولا مسرح لدعوى الانحلال هنا ، كما لا مرجّح لأحدهما في مقام الإثبات ، فلا محيص حينئذ عن الرجوع إلى الأصول العملية ، فتدبّر.

٢٢٨

لا يكاد يكون بلا داع ، فان كان الداعي فيه التوصل به إلى واجب لا يكاد [يمكن] التوصّل بدونه إليه (١) ، لتوقّفه عليه ، فالواجب غيري ، وإلّا فهو نفسي سواء كان

______________________________________________________

(١) أي : إلى واجب ، وضمائر بدونه وبه وإيجابه ـ ترجع إلى ـ شيء ـ ، وضمير ـ فيه ـ راجع إلى ـ طلب ـ ، وقوله : ـ لا يكاد ـ نعت ل ـ واجب ـ.

وملخص مرامه (قده) : أنّ هذا التقسيم يكون باعتبار دواعي الطلب ، فان كان الدّاعي إلى طلب شيء التوصّل به إلى واجب لا يمكن إيجاده إلّا بإيجاد ذلك الشيء كان وجوب ذلك الشيء غيريّا ، كالمسير إلى الحجّ ، فإنّه مطلوب للتوصّل إلى الحجّ الّذي لا يوجد إلّا بالمسير. وإن لم يكن الدّاعي إلى طلب شيء التوصّل به إلى واجب كان ذلك وجوبا نفسيّا ، كوجوب الحج ، فإنّ طلبه ليس لأجل التوصّل إلى واجب.

واعلم : أنّ جلّ الأصوليّين عرّفوا الواجب النفسيّ بـ «ما أمر به لنفسه».

والغيري بـ «ما أمر به لأجل غيره». وأورد عليه كما في التقريرات بـ «أنّه يلزم أن يكون جميع الواجبات الشرعية أو أكثرها من الواجبات الغيريّة ، إذا المطلوب النّفسي قلّما يوجد في الأوامر ، فإنّ جلّها مطلوبات لأجل الغايات الّتي هي خارجة عن حقيقتها ، فيكون أحدهما غير منعكس ، ويلزمه أن يكون الآخر غير مطّرد ، لانتفاء الواسطة» انتهى موضع الحاجة من كلام التقريرات. وحاصله : الاعتراض على التعريف المذكور بعدم كونه جامعا للأفراد ، لأنّ أكثر الواجبات النفسيّة وجبت للغايات المترتّبة عليها ، فهي واجبة لأجل تلك الغايات ، فتخرج عن الواجب النفسيّ ، وتندرج في الواجب الغيري.

وبالجملة : التعريف المزبور بالنسبة إلى الواجب النّفسي غير منعكس ، وبالإضافة إلى الواجب الغيري غير مطّرد ، لدخول أكثر الواجبات النفسيّة في الواجب الغيري ، لما عرفت : من أنّها واجبة لأجل الغايات المترتّبة عليها ، ولذا عدل المصنّف عن هذا التعريف إلى ما في التقريرات من قوله : «فالأولى في تحديدهما

٢٢٩

الداعي محبوبيّة الواجب بنفسه ، كالمعرفة بالله تعالى (١) (*) ، أو محبوبيّته (٢) بماله من فائدة مترتّبة عليه ، كأكثر الواجبات (٣) من العبادات والتوصّليّات ، هذا.

لكنه لا يخفى : أنّ الداعي لو كان هو محبوبيّته كذلك ـ أي بما له من الفائدة المرتّبة عليه ـ كان الواجب (٤) في الحقيقة واجبا غيريّا ،

______________________________________________________

أن يقال : إنّ الواجب الغيري ما أمر به للتوصّل إلى واجب آخر ، والنفسيّ ما لم يكن كذلك ، فيتم العكس والطرد».

(١) غرضه : تعميم الواجب النّفسي إلى ما إذا كان مطلوبا لمحبوبيّته بنفسه كالمعرفة بالله تعالى ، وإلى ما إذا كان مطلوبا لما يترتّب عليه من الفائدة ، كأكثر الواجبات من العباديّة كالصلاة ، والصوم ، والحج ، وغيرها ، والتوصليّة كتكفين الميّت ، ودفنه ، وغيرهما من الواجبات التوصّليّة.

وبالجملة : فللواجب النفسيّ قسمان : أحدهما : ما يكون واجبا بنفسه.

والآخر : ما يكون واجبا لما يترتّب عليه من الفائدة ، كأكثر الواجبات ، ولذا قيل : إنّ الواجبات السمعيّة ألطاف في الواجبات العقليّة.

(٢) معطوف على قوله : ـ محبوبيّة الواجب ـ ، والضمائر في ـ محبوبيّته وله وعليه ـ راجعة إلى الواجب.

(٣) احتراز عمّا لا يكون فيه فائدة إلّا الامتحان ونحوه ، إلّا ان يقال : إنّ الامتحان أيضا فائدة ، فيندرج فيما يكون محبوبيّته لما يترتّب عليه من الفائدة ، فالظاهر أنّ مقابل الأكثر هو ما يكون الدّاعي إلى إيجابه محبوبيّته بنفسه كالمعرفة بالله تعالى.

(٤) أي : القسم الثاني من الواجب النفسيّ ، وهو : كونه واجبا لما فيه من الفائدة ، وغرضه من قوله : ـ لكنه لا يخفى ... إلخ ـ الإشكال على تعريف الواجب الغيري بما ذكر من كون وجوبه لأجل الوصلة إلى واجب آخر.

__________________

(*) إن لم يكن حسن المعرفة لأجل كونها شكرا له تعالى ، وإلّا فهو كأكثر الواجبات المحبوبة لأجل ما يترتّب عليها من الفائدة ، فتدبر.

٢٣٠

فإنّه (١) لو لم يكن وجود هذه الفائدة لازما لما دعا (٢) إلى إيجاب ذي الفائدة. فان قلت (٣) (*) : نعم وإن كان وجودها محبوبا لزوما ،

______________________________________________________

ومحصل الإشكال : أنّه يلزم على هذا التعريف اندراج القسم الثاني من الواجب النّفسي في الواجب الغيري ، لصدق حدّه على الواجب النفسيّ ، حيث إنّ الفوائد المترتّبة على القسم الثاني من الواجبات النفسيّة كالصلاة ، والصوم ، والحج ، ونحوها لو لم تكن مطلوبة وواجبة التحصيل لما دعت إلى إيجابها ، فمطلوبيّة تلك الواجبات إنّما هي لأجل التوصّل إلى فوائدها ، فيصدق على تلك الواجبات : أنّها وجبت للتوصّل إلى واجب آخر ، وهذا حدّ الواجب الغيري.

(١) الضمير للشأن ، وهذا تقريب اندراج النّفسي في الغيري ، وقد عرفته.

(٢) يعني : لما دعا وجود هذه الفائدة إلى إيجاب الشيء المشتمل على تلك الفائدة.

(٣) غرض هذا القائل : دفع الإشكال المزبور ، وحاصل الدفع : أنّ الفوائد المترتّبة على الواجبات وإن كانت محبوبة ، ولذا دعت إلى إيجاب الأفعال المحصّلة لها ، لكنّها ليست متعلّقة للوجوب ، لعدم قدرة المكلّف عليها ، فإنّ الفائدة المترتّبة على الصلاة مثل : «معراج المؤمن» ، و: «قربان كلّ تقي» خارجة عن حيّز قدرة المكلّف الّتي هي شرط صحة التكليف ، فالفوائد المترتّبة على الواجبات لا يتعلّق الوجوب بها ، فلا يصدق حدّ الواجب الغيري ـ وهو كونه واجبا للتوصّل إلى واجب آخر ـ على القسم الثاني من الواجبات النفسيّة.

__________________

(*) هذا إشارة إلى أحد قسمي الواجب الغيري اللّذين ذكرهما في التقريرات ، قال بعد تقسيم متعلق الطلب إلى : ما يكون مطلوبا في ذاته كالمعرفة بالله تعالى ، وإلى : ما يكون أمرا يترتّب عليه فائدة خارجة عن حقيقة المطلوب ما لفظه : «وهذا يتصور على وجهين : أحدهما : أن يكون ما يترتب عليه أمرا لا يكون متعلقا لطلب

٢٣١

إلّا أنّه (١) حيث كانت من الخواصّ المرتّبة على الأفعال الّتي ليست داخلة تحت قدرة المكلّف لما كاد يتعلّق [بها] بهذا (٢) الإيجاب.

قلت (٣) : بل هي داخلة تحت القدرة ، لدخول أسبابها تحتها ، والقدرة على

______________________________________________________

(١) الضمير للشأن ، وضمير ـ وجودها ـ راجع إلى الفائدة.

(٢) المشار إليه قوله : ـ وجودها ـ ، إذ لو كان نفس الفائدة ، فاللازم التأنيث بأن يقال : ـ بهذه ـ ، أو ـ بها ـ ، وقوله : ـ الإيجاب ـ فاعل ـ يتعلّق ـ.

(٣) هذا دفع الإشكال المزبور ، وحاصله : منع خروج تلك الفوائد عن حيّز القدرة ، بل هي مقدورة للمكلّف ، فلا مانع من تعلّق التكليف بها.

توضيحه : أنّ المقدور على قسمين :

أحدهما : تسبيبيّ ، كالإحراق المترتّب على الإلقاء في النار.

والآخر : مباشريٌّ كالإلقاء في النار. والمقدور بكلا القسمين يصح تعلّق التكليف به ، فإنّ الأمور الاعتبارية كالملكيّة ، والزوجيّة ، والعتق ، والطلاق ،

__________________

في الظاهر ، فيكون من قبيل الخواصّ المترتّبة على الأفعال الّتي ليست داخلة تحت مقدرة المكلّف حتى يتعلّق الأمر بها بنفسها. وثانيهما : أن يكون الغاية الملحوظة فيه تمكن المكلّف من فعل واجب آخر ، فالغاية فيه هو الوصول إلى واجب آخر بالأخرة وإن كانت الغاية الأوّلية هو التمكن المذكور» انتهى موضع الحاجة من كلام المقرر (ره).

وحاصله : انقسام المطلوب للغير إلى قسمين :

أحدهما : أن لا يكون ذلك الغير متعلّقا للطلب ، لعدم القدرة عليه ، نظير الخواصّ المترتبة على الواجبات النفسيّة.

والآخر : أن يكون ذلك الغير متعلّقا للطلب ، لكونه مقدورا ، كالصلاة مع الوضوء ، والمصنف (قده) أورد القسم الأول بقوله : ـ فإن قلت نعم ... إلخ ـ.

٢٣٢

السبب قدرة على المسبّب ، وهو واضح ، وإلّا لما صحّ وقوع مثل التطهير ، والتمليك ، والتزويج ، والطلاق ، والعتاق ، إلى غير ذلك من المسبّبات موردا لحكم من الأحكام التكليفيّة (١).

فالأولى (*) أن يقال : إنّ الأثر

______________________________________________________

وغير ذلك من المسبّبات التوليديّة المقدورة لأجل القدرة على أسبابها يصحّ التكليف بها.

والفوائد المترتّبة على الواجبات النفسيّة من هذا القبيل ، لانطباق ضابط المسبّب التّوليدي عليها ، فلم يندفع إشكال اندراج الواجبات النفسيّة في الواجبات الغيريّة ، ولذا تصدّى المصنّف (قده) لدفع هذا الإشكال بوجه آخر ، وهو ما أشار إليه بقوله : ـ فالأولى أن يقال ... إلخ ـ ، وسيأتي بيانه.

(١) كالأمر بالنكاح ، والعتاق ، والتطهير الحدثي الحاصل بالغسل ، أو الوضوء مثلا بناء على استحباب نفس الطهارة الحدثيّة.

__________________

(*) والفارق بينه ، وبين التعريف المتقدّم ـ أعني تحديد النفسيّ ب : «ما وجب لا لأجل واجب آخر» ، والغيري ب : «ما وجب لواجب آخر» ـ هو : اعتبار الحسن الذاتي في الواجب النفسيّ وإن اشتمل على مصلحة وفائدة ، وعدمه في الواجب الغيري ، فالمناط في النفسيّة عند المصنّف (قده) هو الحسن الذاتي.

وأورد عليه المحقق النائيني (قده) ب : أنّ الحسن إن كان ناشئا من مقدّميته لما فيه من المصلحة ، فهو عين الالتزام بالوجوب الغيري. وإن كان ناشئا من ذاته مع الغضّ عن المصلحة المترتبة عليه ، فلازمه أن لا يكون الوجوب المتعلّق بها متمحّضا في النفسيّة ، ولا في الغيريّة ، لثبوت ملاكهما حينئذ ، كما في غالب مناسك الحج ، فإنّ المتقدّم منها واجب لنفسه ، ومقدّمة للمتأخّر ، فلا يكون مجال للتقسيم أصلا ، هذا.

لكن المصنّف (قده) تفطّن لهذا الإشكال وأجاب عنه بعدم منافاة بين إيجابه

٢٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

النفسيّ الناشئ عن حسنه الذاتي ، وبين كونه مقدّمة لواجب نفسي ، إذ لا دخل لحسنه الذاتي في إيجابه الغيري ، فإنّ الملحوظ في أحد الوجوبين غير الملحوظ في الآخر.

وكيف كان ، فقد عدل المحققان النائيني والعراقي (قدس‌سرهما) عن تعريف المصنف (قده) ، فقال الأول على ما في بعض التقريرات المنسوبة إليه : «فالأولى أن يقال : إنّ الوجوب النفسيّ ما كان وجوبه ابتدائيّا ، وغير مترشّح من وجوب آخر ، بخلاف الوجوب الغيري ، فإنّه المترشّح من وجوب آخر» ، وقال الثاني في مقالاته :

«ومرجع الوجوب النفسيّ إلى الإيجاب الصادر عن المولى بدوا بلا تبعيته لإيجاب آخر ، بخلاف الوجوب الغيري ، فإنّه إيجاب ناش عن إيجاب آخر ، فتخرج المقدّمات المفوّتة عن الواجب الغيري ، لعدم كون وجوبها مترشّحا من وجوب آخر ، بل من تماميّة الملاك بناء على امتناع الواجب المعلّق».

ولا يخفى أنّ المستشكل يلتزم بصحة هذا التعريف ، لكنّه يدّعي : أنّ المصالح هي الواجبات حقيقة ، ومتعلّقات الخطابات في ظواهر الأدلّة كالصلاة والصوم مقدمات لإيجاد تلك المصالح ، فإيجابها غيري أي مترشّح من وجوب المصالح المترتبة عليها ، فلا بد أوّلا من إبطال تعلق الإيجاب بالفوائد الناشئة عن الأفعال من الصلاة ، ونحوها حتى يثبت أنّ إيجاب الأفعال نفسيّ ، لا غيريّ ، ولذا لو قيل :

«إنّ الواجب النفسيّ ما وجب لمصلحة في نفسه ، والغيري ما وجب للتمكّن من إيجاد واجب آخر سواء أكان مقدمة وجوديّة لذات الواجب كالسلّم الّذي هو مقدّمة لوجود الكون على السطح ، أم لوصفه كالوضوء الّذي هو مقدمة لوجود الصلاة عن طهارة» كان حسنا ، ولعلّ ما أفاده الميرزا (قده) يرجع إلى هذا التعريف.

إلّا أن يقال : إنّ هذا التعريف يوجب خروج الواجب التهيّئي عن النفسيّ

٢٣٤

المترتّب عليه (١) وان كان لازما ،

______________________________________________________

(١) أي : الواجب ، والمراد بالأثر المترتّب على الواجب الدّاعي إلى تشريع الوجوب هو الفائدة المترتّبة عليه ، وقوله : ـ فالأولى أن يقال ـ جواب عن الإشكال المتقدّم ، ومحصله : أنّ الواجب النفسيّ عبارة عن الفعل المتّصف ذاتا بالحسن ، بحيث يستقل العقل بمدح فاعله ، وذمّ تاركه وإن لم يلتفت إلى ما يترتّب عليه من الفائدة ، فنفسيّة الواجب إنّما هي باعتبار حسنه الذاتي سواء ترتّب عليه فائدة كالصلاة والحج وغيرهما من الواجبات النفسيّة ، أم لا كالمعرفة بالله تعالى على ما مثل بها المصنف ، فتأمّل.

__________________

واندراجه في الواجب الغيري ، مع اتّفاقهم ظاهرا على كونه من الواجب النفسيّ ، فالصواب حينئذ ما أفاده المحقق النائيني (قده) من كون الواجب النفسيّ هو : «ما يكون وجوبه ابتدائيّا غير مترشح من وجوب آخر» ، وذلك لانطباق هذا الحدّ على الواجب التهيّئي.

ولعل هذا التعريف مأخوذ ممّا في البدائع من تعريف الواجب النفسيّ ب :

«ما لا يكون وجوبه مسببا عن وجوب الغير ، والغيري بخلافه» ، فالواجب النفسيّ كما يستفاد من البدائع قسمان :

أحدهما : ما هو واجب بنفسه ولنفسه كالصلاة ، والصوم ، والحج ، والزكاة.

ثانيهما : ما هو واجب بنفسه لغيره ، كالواجب التهيّئي ، فإنّه واجب بنفسه بمعنى : عدم تسبب وجوبه عن وجوب الغير ، فالواجب التهيّئي مندرج في النفسيّ ، لصدق حدّه عليه ، هذا.

وأما الإشكال على تعلق التكليف بالملاكات بأنّه يستلزم انسداد باب البراءة ، لكون الشكّ حينئذ في المحصّل الّذي تجري فيه قاعدة الاشتغال ، لا البراءة ، فليس بمهم ، لعدم الحاجة إلى البراءة مع وجود الإطلاقات المقاميّة ، نعم نحتاج إلى البراءة في الشبهات الموضوعيّة ، كاللّباس المشكوك فيه.

٢٣٥

إلّا أنّ ذا الأثر لمّا كان معنونا بعنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله ، بل وبذمّ تاركه صار متعلّقا للإيجاب بما هو كذلك (١) ، ولا ينافيه (٢) كونه مقدّمة لأمر

______________________________________________________

وعلى هذا التفسير للواجب لا تندرج الواجبات النفسيّة في الغيريّة ، إذ الواجب الغيري حينئذ هو الفعل الّذي لا يكون تعلّق الوجوب به لحسنه الذاتي ، بل باعتبار مقدّميّته للغير الّذي هو حسن ذاتا.

وبالجملة : فالواجب النفسيّ هو الفعل الّذي يتعلّق به الوجوب باعتبار حسنه الذاتي ، لا باعتبار مقدّميّته لغيره ممّا هو حسن ذاتا. والواجب الغيري هو الفعل الّذي يتعلّق به الوجوب باعتبار مقدّميّته للوصل إلى ما هو حسن ذاتا.

ومنه يظهر : إمكان اجتماع الوجوب النفسيّ والغيري في مورد واحد بلحاظين مختلفين ، لأنّه باعتبار لحاظ حسنه الذاتي في إيجابه واجب نفسيّ ، وباعتبار لحاظ حسنه العرضي واجب غيري. هذا محصّل ما أفاده المصنّف في دفع إشكال اندراج الواجب النفسيّ في الغيري.

(١) يعني : بما أنّه معنون بعنوان حسن ، لا بما أنّه ممّا يترتّب عليه الأثر والفائدة حتى يكون واجبا غيريّا.

(٢) يعني : ولا ينافي إيجابه النفسيّ الناشئ عن حسنه الذاتي كونه مقدّمة لمطلوب واقعا ، وهو الأثر المترتّب عليه ، كمعراج المؤمن المترتّب على الواجب النفسيّ أعني الصلاة. بخلاف الواجب الغيري ، فإنّ كونه مقدّمة لمطلوب واقعا ينافيه إيجابه النفسيّ ، لعدم وجود ملاك الواجب النفسيّ فيه ، وهو كونه معنونا بعنوان حسن في ذاته ، حيث إنّ وجوبه متمحّض في كونه مقدّمة لواجب نفسيّ ، كالوضوء والغسل الواجبين لوجوب الصلاة ، ولكونهما مقدّمة لوجود الصلاة عن طهارة وإن كانا معنونين بعنوان حسن ذاتا ، إلّا أنّ مطلوبيّتهما الذاتيّة ليست لأجل حسنهما الذاتي حتى تتّصفا بالوجوب النفسيّ ، وإنّما هي لكونها مقدّمة لمطلوب آخر ، وهو وقوع الصلاة عن طهارة ، كما تقدّم. فحسنهما الذاتي لم يقتض إيجابهما حتى يكون نفسيا ، وما اقتضاه أجنبيّ عن حسنهما الذاتي ، وإنّما هو كونهما مقدّمة لمطلوب آخر ، فهو

٢٣٦

مطلوب واقعا. بخلاف الواجب الغيري ، لتمحّض وجوبه في أنّه لكونه (١) مقدّمة لواجب نفسيّ ، وهذا (٢) أيضا لا ينافي أن يكون معنونا بعنوان حسن في نفسه ، إلّا أنّه لا دخل له في إيجابه (٣) الغيري (*).

ولعله (٤) مراد من فسّرهما بما أمر به لنفسه ، وما أمر به لأجل غيره ،

______________________________________________________

غيريّ.

وبالجملة : إن كان الموجب لإيجاب الشيء حسنه الذاتي ، فهو نفسيّ ، وإن كان هو كونهما مقدّمة لمطلوب آخر ، فهو غيريّ.

(١) أي : الواجب الغيري ، وهو المرجع أيضا لضميري ـ أنّه ووجوبه ـ.

(٢) أي : التعريف للواجب الغيري بكونه متمحّضا في مقدّميّته لواجب نفسيّ لا ينافي أيضا اتّصاف الواجب الغيري بعنوان حسن في نفسه ، لكنه ليس دخيلا في إيجابه الغيري ، كالوضوء ، والغسل ، على ما تقدّم آنفا.

(٣) أي : الواجب ، وضميرا ـ أنّه وله ـ راجعان إلى عنوان حسن ، ويمكن أن يكون ضمير ـ أنّه ـ للشأن.

(٤) أي : ما ذكرناه من تعريف الواجب النفسيّ بما وجب لحسنه الذاتي ، والغيري بما وجب لمقدّميته لواجب نفسي.

وغرضه من هذه العبارة : دفع الاعتراض المزبور ـ وهو لزوم اندراج جلّ الواجبات النفسيّة في الواجبات الغيرية ـ عمّن فسّر النفسيّ بـ «ما امر به لنفسه» ، والغيري بـ «ما امر به لأجل غيره» بأنّه يحتمل أن يريد من هذا التفسير ما ذكرناه :

من كون الواجب النّفسي ما وجب لحسن نفسه ، والغيري ما وجب لحسن غيره ،

__________________

(*) فتكون النفسيّة والغيريّة كالإطلاق والاشتراط وصفين إضافيّين ، كما أنّ النسبة بينهما على تحديد الميرزا (قده) لهما هي التباين ، لأنّ الوجوب الابتدائي غير المترشح من وجوب غيره مباين للوجوب المترشّح من غيره ، كما لا يخفى.

٢٣٧

فلا يتوجه عليه الاعتراض بأنّ جلّ الواجبات لو لا الكلّ يلزم أن يكون من الواجبات الغيريّة ، فإنّ (١) المطلوب النفسيّ قلّ ما يوجد في الأوامر ، فإنّ جلّها (٢) مطلوبات لأجل الغايات الّتي هي خارجة عن حقيقتها ، فتأمّل (٣).

______________________________________________________

كالمقدّمة. فإن كان كذلك ، فلا يرد عليه الاعتراض المذكور ، لأنّ كون الواجبات النفسيّة مطلوبات للغايات المترتّبة عليها لا ينافي انطباق عنوان حسن عليها موجب لكون طلبها نفسيا.

(١) هذا تقريب الاعتراض ، وهو : اندراج جلّ الواجبات النفسيّة في الواجبات الغيريّة ، حيث إنّ أكثر الواجبات مطلوبات لأجل الغايات المترتّبة عليها ، فيلزم أن تكون واجبات غيريّة. بخلاف ما إذا أريد من التفسير ب : «ما امر به لنفسه» ما ذكرناه : من كون الوجوب عارضا لعنوان حسن في نفس الواجب ، فإنّه لا يرد حينئذ الاعتراض المزبور ، إذ لو أريد من التفسير المتقدّم وجوبه لنفسه ـ أي بدون غاية ـ نظير وجوب المعرفة بالله تعالى على ما مرّ ، لزم اندراج جلّ الواجبات النفسيّة المشتملة على غايات في الواجبات الغيريّة. بخلاف ما إذا أريد به ما يكون وجوبه لحسن ذاته ، فإنّه حيث لا ينافي ذلك كونه مقدمة لغاية مطلوبة ، فيكون واجبا نفسيّا أيضا.

وبالجملة : فكون كثير من الواجبات غيريّة بلحاظ كونها مطلوبة لأجل الغايات الّتي هي خارجة عن حقيقتها لا ينافي كونها واجبات نفسيّة أيضا ، لحسن في ذاتها ، فلم يلزم اندراج الواجبات النفسيّة في الواجبات الغيريّة.

(٢) أي : الواجبات ، وهذا بيان لكون المطلوب النّفسي قليلا في الأوامر.

(٣) لعلّه إشارة إلى : أنّ تفسير الواجب النفسيّ بـ «ما وجب لعنوان حسن يستقل به العقل» لا يخلو من تكلّف ، إذ لا حسن في بعضها مع كونه واجبا نفسيّا ، بل الوجوب يكون لما في الواجب من الفوائد ، كدفن الميّت ، فإنّ وجوبه ليس لحسنه في نفسه مع الغضّ عن الفوائد المترتّبة عليه ، بل وجوبه إنّما هو لترتب تلك الفوائد من كتم رائحته المؤذية وغيره عليه.

وبالجملة : فتفسير الواجب النفسيّ بما وجب لحسنه العقلي غير وجيه.

٢٣٨

ثم إنّه (١) لا إشكال فيما إذا علم بأحد القسمين (٢). وأمّا إذا شكّ في واجب أنّه نفسيّ أو غيريّ (*) ، فالتحقيق : أنّ الهيئة وإن كانت موضوعة لما يعمّهما ، إلّا أنّ إطلاقها يقتضي كونه (٣) نفسيّا ، فإنّه (٤) لو كان شرطا لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلّم الحكيم.

______________________________________________________

(١) غرضه : التكلّم في مقام الإثبات بعد الفراغ عن مرحلة الثبوت ، وهو : تفسير الواجب النفسيّ والغيري ، ومحصل ما أفاده : أنّه مع العلم بالنفسيّة والغيريّة لا إشكال. وأما مع الشكّ ، وعدم قرينة على إرادة أحدهما بالخصوص ، فالتحقيق : أنّ الهيئة وإن وضعت لجامع الطلب الصادق على النّفسي والغيري ، إلّا أنّ الغيريّة لمّا كانت قيدا زائدا على نفس الطلب وإنشائه ، فلا محالة تحتاج ثبوتا وإثباتا إلى مئونة زائدة ، فمع الشك في الغيريّة يرجع إلى الإطلاق الناشئ عن مقدّمات الحكمة. وهذا بخلاف النفسيّة ، حيث إنّها ليست أمرا زائدا على نفس الطلب ، حتى تنفي بالإطلاق أيضا ، ويقع التعارض بين الإطلاقين ، ويمتنع إثبات شيء من النفسيّة والغيريّة بالإطلاق.

(٢) وهما : الواجب النفسيّ والغيري.

(٣) أي : الواجب ، وضمير ـ إطلاقها ـ راجع إلى الهيئة ، وضمير التّثنية في ـ يعمّهما ـ راجع إلى النّفسي والغيري. والوجه في هذا التعميم : تبادر جامع الطلب المشترك معنويّا بين النفسيّ والغيريّ.

(٤) أي : الواجب ، وهذا تقريب جريان الإطلاق ، فإنّ الواجب لو لم يكن نفسيّا ، بل كان غيريّا ـ بمعنى كونه شرطا لغيره ـ لوجب التنبيه عليه ، لكون شرطيّته قيدا زائدا على نفس الطلب ، كما مرّ بيانه آنفا.

__________________

(*) كصلاة الطواف ، لدوران وجوبها بين النفسيّة ، وبين الشرطية لصحة الطواف. وكمتابعة الإمام في الجماعة الواجبة ، فإنّ وجوبها دائر بين نفسيّته وبين شرطيّته لصحة الائتمام. وقد يعدّ من أمثلة الدوران : وجوب غسل الميّت ، وغسل الجنابة ، لكن الظاهر خلافه ، فتدبّر.

٢٣٩

وأما ما قيل (١) من : «أنّه لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة لدفع الشك المذكور بعد كون مفادها الأفراد التي لا يعقل فيها (٢) التقيد ، نعم (٣) لو كان مفاد الأمر هو مفهوم الطلب صحّ القول بالإطلاق ، لكنّه (٤) بمراحل عن الواقع ، إذ (٥) لا شك في اتّصاف الفعل بالمطلوبيّة بالطلب المستفاد من الأمر ، ولا يعقل (٦) اتّصاف

______________________________________________________

(١) هذا كلام التقريرات ، وحاصل هذا الإشكال الّذي تقدّم في دوران الأمر بين الرجوع إلى المادة وبين الرجوع إلى الهيئة هو : عدم تعقل تقييد معنى الهيئة ، لكونه جزئيّا حقيقيّا بناء منه (قده) على كون الموضوع له في الحروف خاصا.

(٢) أي : الأفراد ، وضمير ـ مفادها ـ راجع إلى الهيئة.

(٣) استدراك على عدم صحة التمسّك بالإطلاق لنفي الشكّ المزبور ، وحاصله : أنّ التشبّث بالإطلاق مبنيّ على كون مفاد الهيئة مفهوم الطلب ، لأنّه كلّي قابل للإطلاق والتقييد ، بخلاف ما إذا كان مفادها جزئيات الطلب ، وأفراده الخارجية.

(٤) يعني : كون مفاد الهيئة مفهوم الطلب وإن كان مسوّغا للتمسك بالإطلاق لدفع الشك المزبور ، لكنّه بعيد عن الواقع بمراحل.

(٥) تعليل لقوله : ـ لكنّه بمراحل عن الواقع ـ وحاصله : أنّ هنا مقدّمتين توجبان كون مفاد الهيئة فرد الطلب ، لا مفهومه.

أولاهما : حكم العقلاء باتّصاف الفعل بالمطلوبيّة بمجرد تعلّق الطلب المنشأ بالصيغة به.

ثانيتهما : أنّ الموجب للاتّصاف المزبور بحكم الوجدان هو مصداق الطلب ، وفرده الخارجي ، لا مفهومه.

فنتيجة هاتين المقدّمتين هي : أنّ مدلول الأمر مصداق الطلب ، لا مفهومه ، إذ لا يتصف شيء بكونه مرادا إلّا بتعلّق واقع الإرادة ومصداقها به ، لا مفهومها ، فقوله : ـ إذ لا شك ـ إشارة إلى المقدّمة الأولى.

(٦) هذا إشارة إلى المقدّمة الثانية.

٢٤٠