منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٥٩٢

الأكثر مثل الأقلّ ، وعدلا له ، بل كان فيه اجتماع الواجب وغيره مستحبا كان أو غيره (١) حسب اختلاف الموارد ، فتدبّر جيّدا.

فصل في وجوب الواجب الكفائي

والتحقيق : أنّه سنخ (٢) من الوجوب ، وله تعلّق بكلّ واحد (٣) ، بحيث

______________________________________________________

وعدمه ، لوضوح سقوط الأمر بحصول الغرض القائم بالأقل ، فهو الواجب تعيينا.

(١) حاصله : أنّ الزائد على الواجب إمّا مستحب شرعا ، كما عدا الذّكر الواجب من أذكار الركوع ، والسجود ، وغير ذلك من المستحبّات الّتي ليست دخيلة في الغرض الداعي إلى إيجاب الصلاة. وإمّا غير مستحب من الحرام ، والمكروه ، مثل القرآن بين السورتين ، على القولين من الحرمة والكراهة.

الوجوب الكفائي

(٢) كما أنّ الوجوب التخييري سنخ من الوجوب ، كما تقدّم.

(٣) حاصله : أنّ الوجوب الكفائي يتعلّق بكلّ واحد من المكلّفين بنحو العام الاستغراقي ، لكنّه يفترق عن الوجوب العيني المتعلّق بهم كذلك ، بأنّ الوجوب الكفائي يسقط بفعل بعضهم ، دون العيني ، فإنّه لا يسقط عن كلّ واحد منهم إلّا بفعل نفسه ، ولا يسقط بفعل غيره. ومقتضى تعلّق الوجوب بكلّ واحد هو استحقاق الجميع للعقوبة على تقدير مخالفتهم جميعا.

ويمكن تصوير هذا السنخ من الوجوب بعد وقوع الوجوب الكفائي في الشرعيّات بلا إشكال ، بأن يقال : كما قد يكون الغرض من المأمور به مترتّبا على صرف الوجود منه ، وقد يكون مترتّبا على مطلق وجوده ، كذلك قد يترتّب الغرض على صدور الفعل من صرف الوجود من المكلّف ، وقد يترتّب على صدوره من مطلق وجوده ، وهذا النحو من الوجوب عينيّ ، وما قبله كفائي ، فحينئذ يصحّ ما ذكروه في الوجوب

٥٦١

لو أخلّ بامتثاله الكلّ لعوقبوا على مخالفته جميعا وإن سقط عنهم لو أتى به بعضهم (*) ، وذلك (١) لأنّه قضيّة ما إذا كان هناك غرض واحد حصل بفعل واحد

______________________________________________________

الكفائي : «من سقوطه بفعل البعض ، ومن استحقاق الجميع للعقوبة على تقدير مخالفتهم» ، لأنّهما من مقتضيات تعلّق الوجوب بصرف الوجود من طبيعة المكلّف ، ضرورة أنّ موضوع التكليف صرف الوجود من طبيعة المكلّف ، فبامتثال أحد المكلّفين يتحقّق الفعل من صرف وجود الطبيعة ، فيسقط الغرض الداعي إلى الأمر ، وبسقوطه يسقط الأمر أيضا ، فلا يبقى مجال لامتثال الباقين.

ومنه يظهر أمران :

الأول : وجه استحقاق الجميع للعقوبة لو خالفوا ، وهو وجود المناط أعني : صرف وجود المكلّف الصادق على كلّ واحد منهم ، فكلّ منهم خالف التكليف المتوجّه إليه ، فيستحق العقوبة.

الثاني : استحقاق الجميع للمثوبة إذا امتثلوا جميعا في عرض واحد ، كما إذا صلّوا دفعة على ميّت ، لأنّ الفعل صدر عن كلّ واحد ينطبق عليه صرف الوجود ، فكلّ واحد منهم امتثل الأمر المتوجّه إليه ، فيستحقّ المثوبة.

(١) تعليل لاستحقاق الجميع للعقاب ، وهذا هو الأمر الأوّل الّذي أشرنا إليه بقولنا : «أحدهما وجه استحقاق الجميع للعقوبة ... إلخ».

__________________

(*) لا يخفى : أنّه لا خلاف ولا إشكال في وقوع الوجوب الكفائي في الشريعة المقدّسة ، إلّا أنّ الكلام وقع في تصويره بنحو ينطبق على المقصود : من وجوبه على كلّ واحد من المكلّفين بحيث لو امتثل الجميع استحقّوا المثوبة ، ولو خالفوا كذلك استحقوا العقوبة ، ولو أتى به بعضهم سقط عن الكلّ. وقد ذكروا في تصويره وجوها :

الأول : تعلّق الوجوب بالجميع ، كتعلّق الوجوب العيني به ، بمعنى : تعلّقه بكلّ واحد على نحو العام الاستغراقي ، وسقوطه عن الباقين بفعل البعض. وعليه

٥٦٢

صادر عن الكلّ ، أو البعض.

______________________________________________________

.................................................................................................

______________________________________________________

جميع الإماميّة ، وأكثر العامّة على ما قيل.

الثاني : ما نسب إلى الرازي ، والبيضاوي ، والشافعيّة : من تعلّق الوجوب بالبعض ممّن يكتفي به في أداء الفعل. نظير ما ذكر في الواجب التخييري : من تعلّقه بواحد لا بعينه ، غاية الأمر : أنّ الإبهام هناك في المكلّف به ، وهنا في المكلّف.

وفيه : أنّه لا وجه لتعلّق الوجوب بالبعض ، لأنّه ترجيح بلا مرجّح.

مضافا إلى : أنّه مخالف لظواهر أدلة الواجبات الكفائيّة ، فإنّ قول أبي عبد الله عليه‌السلام في خبر (١) سماعة : «وغسل الميت واجب» بقرينة حذف من يجب عليه ظاهر في العموم. وكذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في خبر (٢) السكوني : «لا تدعوا أحدا من أمّتي بلا صلاة» ظاهر في العموم ، ونحوهما سائر أدلة الواجبات الكفائيّة ، فراجع.

الثالث : ما نسب إلى قطب الدين الشيرازي : من تعلّق الوجوب بالمجموع من حيث هو مجموع ، فإذا تركوه كان العصيان ثابتا بالذات للمجموع ، ولكلّ واحد بالعرض ، وإذا أتى به البعض سقط عن الباقين.

وفيه أوّلا : أنّ أخذ قيد المجموع في ناحية المكلّف لا مأخذ له بعد كون الوجوب الكفائي كالعيني من حيث التوجّه إلى المكلّفين ، فإنّه قيد زائد يحتاج ثبوتا وإثباتا إلى مئونة زائدة ، وينفي عند الشكّ فيه بإطلاق الدليل.

وثانيا : أنّه لا وجه للسقوط بفعل البعض ، إذ المفروض عدم صدوره عن المكلّف أعني : المجموع الّذي هو مناط السقوط.

إلّا أن يقال : إنّ السقوط حينئذ إنّما هو لأجل انتفاء الموضوع ، حيث إنّ الموضوع لوجوب الغسل وغيره كفاية هو الميّت الّذي لم يغسّل ، أو لم يصلّ

__________________

(١) الوسائل ، الباب الأول من أبواب غسل الميت ، الحديث ١.

(٢) الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب صلاة الجنازة ، الحديث ٣.

٥٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عليه ، أو لم يكفّن ، أو لم يدفن ، فإذا تحقّقت هذه الأمور على وجه صحيح سقط وجوبها وإن لم تصدر من مكلّف ، كما إذا صدرت من صبيّ مميّز بناء على شرعيّة عباداته.

الرابع : أن يكون الوجوب بالنسبة إلى كلّ أحد مشروطا بترك الآخر ، فلا يجب على مكلّف إلّا مع ترك صاحبه ، فإذا ترك الكلّ عوقبوا جميعا ، لحصول شرط الوجوب ـ وهو الترك ـ لجميعهم. وإذا فعله واحد منهم لا يجب على غيره ، لعدم تحقّق شرط الوجوب بالنسبة إليه ، لا أنّه يسقط عنه ، لأنّ السقوط فرع الثبوت وإذا أتى به كلّهم لا يتّصف الفعل بالوجوب أصلا ، لعدم تحقّق شرط الوجوب وهو ترك البعض.

والحاصل : أنّ مفاد هذا الوجه هو الوجوب العيني عند ترك البعض.

وفيه ما لا يخفى : ضرورة أنّ عدم اتّصاف الفعل بالوجوب عند إتيان الجميع في آن واحد خلاف البداهة.

مضافا إلى : أنّ إتيان البعض به مانع عن ثبوت الوجوب على غيره ، لا مسقط عنه.

وإلى : أنّه مع الشك في قيام الغير به تجري البراءة في حقّ الشاك ، وهو كما ترى.

وإلى : أنّ لسان أدلة الوجوب الكفائي والعيني واحد ، فجعل الترك في الأوّل شرطا للوجوب في حقّ الغير تصرّف في الأدلّة بلا موجب.

وإلى : أنّ إرجاع الوجوب الكفائي إلى العيني المشروط إنكار للوجوب الكفائي ، لا توجيه له.

وإلى : أنّ اشتراط خطاب كلّ بترك الآخر ، أو البناء على الترك أجنبيّ عن المقام ، لأنّ مورده تعدّد الملاك وامتناع استيفاء الجميع ، للتزاحم في مقام الفعليّة كإنقاذ الغريقين ، فلا محيص حينئذ عن تقييد إطلاق وجوب إنقاذ كلّ منهما

٥٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بترك الآخر. فيصير الوجوب في كلّ منهما مشروطا.

وليس الواجب الكفائي كذلك ، لوحدة الملاك فيه ، فجميع الخطابات الكفائيّة لا تحكي عن ملاكات عديدة ، بل عن ملاك واحد ، فلا يتمشّى فيها الاشتراط المزبور.

الخامس : أن يكون الوجوب بالنسبة إلى كلّ واحد مشروطا بعدم بناء الآخر على الإتيان بالفعل ، فإذا علم واحد من المكلّفين ببناء غيره على الترك وجب ، فمع العلم بالبناء على الفعل لا يجب على الغير ، وكذا مع الشّك في العزم على الإتيان به لأنّه شكّ في التكليف ، فتجري فيه البراءة.

والحاصل : أنّ الوجوب منوط بإحراز بناء الغير على الترك ، فما لم يحرز هذا البناء الّذي هو شرط الوجوب لا يحكم به ، هذا.

وفيه أوّلا : ما تقدّم من : أنّه إنكار للوجوب الكفائي ، لرجوعه إلى الوجوب العيني المشروط.

ومن : أنّه لا يتّصف الفعل من أحد منهم بالوجوب إذا بنى الجميع على الإتيان به ، لعدم تحقّق شرط وجوبه ، وهو البناء على الترك.

وثانيا : أنّ لازمه سقوط الوجوب عن الباقين بمجرّد بناء بعض على الإتيان به ، بل عدم ثبوته في حقّ الباقين بمجرّد بناء غيرهم على الفعل ولو لم يشرع بعد فيه فضلا عن إتمامه. وهذا خلاف ما ذكروه في الواجبات الكفائيّة : من أنّ سقوطها منوط بالإتيان بتمام الواجب ، أو الشروع فيه.

وأما مجرّد البناء على الفعل ، فلم يدلّ دليل على مسقطيّته عن الغير.

فالحق هو الوجه الأوّل ، أعني : تعلّق الوجوب الكفائي بكلّ واحد من المكلّفين على سبيل العموم الاستغراقي ، كتعلّق الوجوب العيني بهم ، بأن يقال : إنّ الوجوب سنخ واحد سواء أكان عينيّا ، أم كفائيّا ، أم تخييريّا أم تعيينيّا ، فإنّ تعلّقه بواحد مبهم غير معقول ، لامتناع التحريك والبحث نحوه ، وتعلّقه بمعيّن

٥٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ترجيح بلا مرجّح ، فلا بدّ من أن يتعلّق بالجميع كالوجوب العيني ، ولا فرق بينهما من هذه الحيثيّة. فالتكليف كالمكلف به متعدّد في كلّ من الوجوب العيني والكفائي ، فكما يتعلّق الوجوب العيني المتوجّه إلى كلّ واحد من المكلّفين بفعل نفسه لا بفعل غيره ، فكذلك الوجوب الكفائي ، فإذا امتثل الكلّ استحقّوا الثواب ، وإذا عصوا استحقّوا العقاب ، بمعنى : استحقاق كلّ واحد منهم عقابا مستقلّا ، كما في الواجبات العينيّة.

فالفرق بين العيني والكفائي هو : أنّه إذا بادر أحدهم إلى الامتثال سقط عن الباقين في الكفائي ، دون العيني. ومنشأ هذا الفرق هو : ارتفاع موضوع التكليف بهذه المبادرة في الواجب الكفائي ، حيث إنّ موضوع وجوب التجهيز مثلا : الميّت الّذي لم يجهّز ، فتجهيزه مرّة واحدة يخرجه عن هذا الموضوع ، وإلّا فليس اختلاف في حقيقة الوجوب حتى يفرّق فيه بين العيني والكفائي ، بل الاختلاف إنّما هو في متعلّق الوجوب ، لخصوصيّة أخذت فيه ، لما عرفت : من أنّ متعلّق الوجوب الكفائي متخصّص بخصوصيّة ترتفع بمبادرة واحد منهم إلى الامتثال ، وليس متعلّق الوجوب العيني كذلك ، هذا.

ويمكن أن يفرّق بينهما أيضا من جهة أخرى ، وهي : أنّ الغرض من الواجب الكفائي واحد ، ولذا يسقط بفعل واحد منهم. بخلاف العيني ، فإنّ الغرض منه متعدّد ، ولذا لا يسقط بذلك ، ومن المقرّر : أنّ وحدة الملاك لا تقتضي تعدّد الخطاب ، بل وحدته ، إذ يلزم من تعدّده اللغويّة ، للزوم خلوّ بعض الخطابات حينئذ عن المصلحة ، ولمّا كان الملاك في الواجب العيني متعدّدا بحيث يكون لكلّ فعل من كل مكلف ملاك يخصّه ، فلا محالة يتعدّد الخطاب ، ويكون لكلّ مكلّف خطاب يختص به. بخلاف الواجب الكفائي ، فإنّ وحدة ملاكه توجب وحدة خطابه ، فلا وجه لأن يقال : إنّ الوجوب الكفائي يتعلّق بكل واحد من المكلفين على حذو تعلّق العيني به.

٥٦٦

كما أنّ الظاهر (١) هو : امتثال الجميع لو أتوا به دفعة ، واستحقاقهم للمثوبة ، وسقوط (٢) الغرض بفعل الكل ، كما هو (٣) قضيّة توارد العلل المتعدّدة على معلول واحد.

فصل

لا يخفى : أنّه وإن كان الزمان ممّا لا بدّ منه عقلا (٤) في الواجب ،

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى الأمر الثاني المذكور بقولنا : «ثانيهما : استحقاق ... إلخ».

(٢) هذا وقوله : «واستحقاقهم» معطوفان على ـ امتثال ـ.

(٣) أي : سقوط الغرض بفعل الكل مقتضى توارد العلل المتعدّدة على معلول واحد ، فإنّ المقام من تواردها ، ضرورة أنّه بعد كون الغرض الموجب للأمر واحدا ، فلا محالة يكون المؤثّر في حصوله فعلا واحد ، ومع تعدّده يكون المؤثّر في حصوله الجامع بين الأفعال المتعدّدة ، لبرهان امتناع استناد الأثر الواحد إلى المتعدّد ، فعند فعل الجميع يكون الأثر مستندا إلى الجامع بين أفعالهم.

الموقت

(٤) لكون الواجب ـ وهو الفعل الصادر من المكلّف ـ زمانيّا يحتاج إلى زمان يقع فيه ، كما يحتاج إلى مكان ، لكونه مكانيّا.

__________________

فالأولى أن يقال : إنّ الوجوب الكفائيّ ما يتعلّق بصرف وجود المكلّف المنطبق على كلّ واحد من المكلّفين على البدل ، كما هو المتداول عند العرف ، فإذا أمر المولى أحد عبيده ، أو الوالد أحد أولاده بشيء ، كشراء لحم ، أو خبز ، أو غير ذلك ، فليس المأمور واحدا معيّنا ، بل صرف الوجود منهم الصادق على كلّ واحد منهم ، ولذا لو تركوا عصى الجميع ، واستحقّ كلّ واحد منهم عقابا مستقلّا ، لانطباق صرف الوجود عليه ، ولو امتثلوا استحقّ الجميع ثوابا كذلك.

٥٦٧

إلّا أنّه (١) تارة ممّا له دخل فيه شرعا (٢) ، فيكون موقّتا ، وأخرى لا دخل له فيه أصلا (*) ، فهو غير موقت. والموقّت إمّا أن يكون الزمان المأخوذ فيه بقدره (٣) فمضيّق (**) ، وإمّا أنّ يكون أوسع منه (٤) فموسّع.

______________________________________________________

(١) أي : الزمان تارة يكون ممّا جعله الشارع دخيلا وقيدا في الواجب ، كالزمان الّذي أخذ في الدليل قيدا للصلوات اليوميّة ، فهذا يسمّى بالموقّت ، وهو على قسمين : موسع ، ومضيّق ، لأنّ الزمان إن كان بقدره ومساويا له ، فهو مضيّق ، وإن كان أوسع منه ـ كالزمان في الصلوات اليوميّة ـ فموسّع.

وأخرى لا يكون للزمان في لسان الدليل دخل في الواجب شرعا ، فهو غير موقّت ، كصلاة الزلزلة ، سواء أوجب فيه الفور كالحج بالنسبة إلى عام الاستطاعة ، أم لا كقضاء الفوائت بناء على المواسعة.

(٢) يعني : فيكون الزمان ـ مضافا إلى ظرفيّته للواجب ـ قيدا من قيوده الشرعيّة ، لدخله في المصلحة والملاك.

(٣) كصوم شهر رمضان.

(٤) كالصلوات اليوميّة أداء وقضاء ـ بناء على المواسعة ـ وحجّة الإسلام وإن وجب فيها الفور ، لكنّه غير التضييق ، كما لا يخفى.

__________________

(*) الأولى : تبديله بقوله : «شرعا» ، لأنّ «أصلا» ظاهر في عدم الدخل ولو بنحو الظرفيّة ، وهو كما ترى.

مضافا إلى : أنّ المقابلة تقتضي عدم الدخل شرعا ، لا أصلا حتى ظرفا ، فلو أبدل قوله : «أصلا» ب : «كذلك» أو «شرعا» كان أليق.

(**) قد يستشكل في الواجب المضيّق كالصوم بما حاصله : أنّه يلزم فيه أحد المحذورين : تقدّم المعلول على العلّة ، أو تأخّره عن العلّة زمانا.

توضيحه : أنّ الانبعاث لا بدّ وأن يتأخّر عن البعث ، لترتّبه عليه ، ففي

٥٦٨

ولا يذهب عليك (١) : أن الموسّع كلّيّ كما كان له أفراد دفعيّة (٢)

______________________________________________________

(١) هذا تمهيد لدفع توهّم كون التخيير بين أفراد الواجب الموسّع شرعيّا.

تقريب التوهم : أنّه لمّا امتنع تطبيق الواجب على الزمان الموسّع ، لأوسعيّته من الواجب ، فلا محالة يكون تقييد الواجب به عبارة عن تقييده بكلّ جزء من أجزاء ذلك الزمان على البدل ، فيراد من قوله : «صل من الدلوك إلى الغروب» مثلا : صلّ في أوّله ، أو آخره ، أو وسطه. نظير قوله : «صلّ ، أو صم ، أو أعتق» ، فيكون التخيير بين أفراد الواجب الموسّع الطوليّة شرعيّا.

(٢) كالصلاة في أوّل الوقت في البيت ، أو المسجد ، أو الحسينيّة ، أو غيرها.

__________________

الصوم الّذي يكون وجوبه مشروطا بآن طلوع الفجر إذا فرض تقدّم الوجوب عليه لزم تقدّم المعلول والمشروط على العلّة والشرط ـ أعني آن الطّلوع ـ ، وهو محال ، إذ المفروض توقّف الوجوب على الطلوع ، وهذا التقدّم بديهي البطلان.

وإذا فرض تأخر الوجوب عن الطلوع لزم خلوّ آن من آنات النهار عن الصوم ، وهو خلف. ولزم تأخّر المعلول عن العلّة زمانا.

وإن شئت فقل : إنّه يلزم تأخّر الحكم عن موضوعه زمانا ، وقد قيل : إنّ الحكم بالنسبة إلى موضوعه كالمعلول بالنسبة إلى علّته في اتحادهما زمانا واختلافهما رتبة ، فإذا تمّ الموضوع ترتّب عليه الحكم بلا مهلة ، وإن لم يترتّب عليه لم يكن ذلك بموضوع ، وهذا خلف.

ويندفع هذا الإشكال ب : عدم لزوم شيء من هذين المحذورين ، وذلك لاتحاد زمان الوجوب والواجب والانبعاث ، فآن الطلوع زمان البعث والانبعاث والواجب وهو واحد ، وتأخّر الانبعاث عن البعث رتبيّ ، لا زماني. نعم يتوقّف الانبعاث على العلم بالبعث قبل الطلوع ، وهو غير تأخّر الانبعاث زمانا عن صدور البعث من المولى.

والحاصل : أنّه لا بدّ في انبعاث المكلّف عن بعث المولى من علمه قبل الطلوع بوجوب الصوم حين الطلوع حتى يتمكّن من الانبعاث فيه.

٥٦٩

كان له أفراد تدريجيّة (١) يكون التخيير بينها كالتخيير بين أفرادها الدفعيّة عقليّا.

ولا وجه (٢) لتوهم (٣) أن يكون التخيير بينها شرعيّا ، ضرورة أنّ نسبتها (٤) إلى الواجب نسبة أفراد الطبائع إليها (*) ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) منطبقة على الزمان ، كالصلاة في أوّل الوقت ، وآخره ، ووسطه.

ومحصل دفع التوهّم المزبور الّذي أشار إليه بقوله : «ولا يذهب عليك» : أنّ الغرض القائم بطبيعة ذات أفراد طوليّة وعرضيّة يقتضي كون التخيير بين أفرادها عقليّا ، كما تقدّم في الواجب التخييري من أنّ الأمر بشيئين أو أشياء إذا كان بملاك واحد ، كان التخيير بينهما أو بينها عقليّا ، لقيام الغرض بالجامع الّذي يكون انطباقه على أفراده عقليّا. ففي المقام : يكون الواجب الموسّع كلّيّا ذا أفراد طوليّة وعرضيّة وانطباقه عليها عقليّ ، ولا مجال للتخيير الشرعي المنوط بتعدّد الغرض غير المحرز هنا.

(٢) لما عرفت آنفا من قولنا : «ومحصل دفع التوهم».

(٣) المتوهّم ـ كما قيل ـ : العلامة وجماعة.

(٤) أي : نسبة الأفراد إلى الواجب الموسّع نسبة أفراد الطبائع إلى طبائعها ، يعني : فيكون التخيير بين أفراد الموسّع عقليّا ، لكون الواجب نفس الطبيعة ، لا خصوصيّة جزئيّ من جزئيّاتها حتى يكون التخيير بين الأفراد شرعيّا.

__________________

ولعل المستشكل خلط بين تقدّم العلم على الانبعاث ، وبين تقدّم البعث عليه ، فتخيّل لزوم تقدّم البعث زمانا عن الانبعاث. وليس الأمر كذلك ، بل العبرة بتقدّم زمان العلم بالبعث على زمان الانبعاث ، ضرورة موضوعيّة العلم بالبعث عقلا للانبعاث ، وعدم موضوعيّة نفس البعث بوجوده الواقعي له ، كما ثبت في محله.

(*) لا يخفى أنّ كون التخيير بين أفراد الموسّع عقليّا منوط بأن يكون الواقع في حيّز التكليف عنوانا مقيّدا بالوقوع بين حدّي الزمان الموسّع ، كالصلاة بين الزوال والغروب ، كأن يقول الشارع : «صلّ صلاة واقعة بينهما» حيث إنّ

٥٧٠

ووقوع (١) الموسّع فضلا عن إمكانه ممّا لا ريب فيه ، ولا شبهة تعتريه ، ولا اعتناء ببعض التسويلات (٢) كما يظهر من المطولات.

ثم إنّه (٣) لا دلالة للأمر بالموقّت بوجه على الأمر به في خارج

______________________________________________________

(١) هذا تمهيد لدفع توهّم استحالة الموسّع.

تقريب التوهم : أنّ تشريع الواجب الموسّع مستلزم لاجتماع النقيضين ، ضرورة أنّ جواز ترك الواجب في بعض أجزاء الزمان الموسّع ينافي الوجوب الّذي هو عدم جواز الترك.

ومن المعلوم : أنّ الجواز وعدمه متناقضان.

وقد دفعه بقوله : «ووقوع الموسّع ... إلخ» توضيحه : أنّ الوقوع أدل دليل على الإمكان ، ولا إشكال ولا خلاف في وقوعه في الشريعة المقدّسة.

مضافا إلى : أنّ جواز الترك إنما ينافي الوجوب إذا لم يكن إلى بدل.

وأمّا إذا كان معه ، فلا ينافي الوجوب أصلا ، كالوجوب التخييري.

(٢) الّتي منها توهّم استحالة الموسّع بالتقريب المزبور.

(٣) الضمير للشأن ، يعني : لا دلالة للأمر بالموقّت بوجه من وجوه الدلالة لا لغة ، ولا عرفا. والغرض منه : تنقيح البحث في مقام الإثبات.

توضيحه : أنّ التوقيت تارة يكون بدليل متّصل ، كأن يقول : «صلّ فيما بين دلوك الشمس وغروبها» ، وأخرى يكون بدليل منفصل ، كأن يقول : «اغتسل» ثم ورد دليل على وجوب الغسل أو استحبابه يوم الجمعة.

__________________

هذا العنوان كلّيّ يصدق على جميع ما يقع بين الحدّين من أفراد الصلاة.

وأما إذا كان مفاد دليل التوقيت : إيجاب الصلاة من الزوال إلى الغروب ، فدعوى ظهوره في تعلّق الأمر بذوات الجزئيّات المتصوّرة بين الحدّين ـ لا بنفس الجامع ـ غير بعيدة. وحينئذ يكون التخيير بين الأفراد الواقعة بين الحدّين شرعيّا ، إلّا إذا قامت قرينة على عدم وجوب الجميع تعيينا ، فيكون التخيير حينئذ عقليّا.

٥٧١

الوقت (١) بعد فوته في الوقت لو لم نقل بدلالته (٢) على عدم الأمر به.

______________________________________________________

فعلى الأول : لا دلالة للتوقيت على الوجوب بعد خروج الوقت ، إذ لا يدل على كيفيّة دخل الوقت في المصلحة من كونه دخيلا في جميع مراتبها حتى لا يجب بعد الوقت لانتفاء تمامها بخروج الوقت ، فلا مصلحة تقتضي الوجوب بعده ، أو دخيلا في بعض مراتبها حتى يبقى منها مرتبة توجب تشريع الوجوب أو الاستحباب بعد الوقت ، فيشك في الوجوب بعده ، والأصل يقتضي عدمه إن لم يقم دليل على الوجوب ، وإلّا فهو المتّبع. هذا إذا لم نقل بمفهوم الوصف ، وإلّا فيدل التوقيت على عدم الوجوب بعد الوقت.

(١) هذا إشارة إلى التقييد بالمتصل ، كما أنّ قوله : «نعم» إشارة إلى التقييد بالمنفصل ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

(٢) هذا إشارة إلى النزاع في مفهوم الوصف ، كما عرفت.

وعلى الثاني : وهو كون التقييد بدليل منفصل لا يخلو الحال عن صور أربع :

الأولى : ثبوت الإطلاق لكلّ من دليلي الواجب والتقييد ، ومعنى إطلاق دليل الواجب وجوبه في الوقت وخارجه ، فيكون من باب تعدّد المطلوب. ومعنى إطلاق دليل التوقيت : دخل الوقت في جميع مراتب المصلحة ، ومقتضاه الوجوب في الوقت فقط دون خارجه ، لفرض انتفاء المصلحة الداعية إلى الإيجاب بخروج الوقت ، فيكون من باب وحدة المطلوب. ولا بدّ في هذه الصورة من الأخذ بإطلاق دليل التقييد ، لحكومته على إطلاق دليل الواجب ، ومقتضاه الحكم بعدم وجوبه بعد الوقت.

الثانية : عدم إطلاق لشيء من الدليلين بأن كانا مهملين ، والمرجع في هذه الصورة الأصل العملي ، وهو أصل البراءة عن وجوب القضاء.

الثالثة : إطلاق دليل الواجب ، وإهمال دليل التوقيت.

الرابعة : عكس هذه الصورة ، بأن يكون دليل التوقيت مطلقا ودليل الواجب مهملا ، والمرجع في هاتين الصورتين : الإطلاق ، ففي الأولى يحكم بالوجوب بعد خروج الوقت ، وفي الثانية بعدم الوجوب بعده ، لاقتضاء إطلاق دليل التوقيت انتفاء

٥٧٢

نعم (*) لو كان التوقيت بدليل منفصل لم يكن له إطلاق على التّقييد

______________________________________________________

المصلحة رأسا ، فلا موجب لوجوبه بعد الوقت.

__________________

(*) ربما يكون ما أفاده هنا ـ من أنّ إهمال الدليل المنفصل يوجب صحّة التمسّك بإطلاق دليل الواجب لإثبات الوجوب بعد انقضاء الوقت ـ منافيا لما أفاده (قده) في النسخ : من عدم دلالة دليل المنسوخ على الاستحباب ـ بعد رفع اليد عن ظهوره في الوجوب بدليل الناسخ ـ مع أنّ نسبة الاستحباب إلى الوجوب كنسبة أصل الوجوب إلى الوجوب الأكيد ، ولا وجه للتفكيك بين المقامين ، فإنّ الالتزام ببقاء مرتبة من الوجوب بعد خروج الوقت ، وذهاب المرتبة الأكيدة منه الثابتة في الوقت ينافي عدم الالتزام ببقاء مرتبة الاستحباب بعد النسخ وارتفاع الوجوب ، فكما لا يصح هناك التمسّك بدليل المنسوخ على بقاء مقدار من الرّجحان المساوق للاستحباب ، فكذلك هنا لا يصح التمسّك بدليل الواجب ، وإثبات مرتبة من الوجوب بعد الوقت به.

ويمكن أن يتمسّك بإطلاق دليل الواجب ـ كما في بعض حواشي المتن ـ بوجه آخر ، وهو : «أنّ دليل التقييد إذا كان بلسان التكليف والأمر بإتيان الواجب في الوقت ، اختصّ وجوبه بالتمكّن من الإتيان به في الوقت. أمّا العاجز عن ذلك ، فإطلاق دليل الواجب بالنسبة إليه يكون سالما عن التقييد ، فيتمسك بإطلاقه في خارج الوقت ، ويحكم بوجوبه ، ثم يلحق به المتمكّن العاصي في الوقت بعدم الفصل».

لكن فيه : أنّ المقرّر في محله : كون الأوامر والنواهي المتعلقة بالمركّبات ظاهرة في الإرشاد إلى الجزئيّة ، أو الشرطيّة ، أو المانعيّة ، فلا فرق بين أن يقول : «اقرأ في الصلاة فاتحة الكتاب» ، أو «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» وهكذا ، فظهورها الأوّلي في الوجوب والحرمة ينقلب إلى ظهور ثانوي إرشادي ، فينهدم أساس ما أفاده من التفصيل المزبور ، لأنّ أساسه انحفاظ الظهور الأوّلي للأوامر والنواهي ، وقد عرفت سقوطه في بيان المركّبات ، فلاحظ وتدبّر.

٥٧٣

بالوقت ، وكان لدليل الواجب إطلاق لكان قضيّة إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت (١) ، وكون (٢) التقييد به بحسب تمام المطلوب ، لا أصله (٣) (*).

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى الصورة الثالثة المتقدّمة.

(٢) معطوف على ـ ثبوت ـ ، يعني : إذا كان لدليل الواجب إطلاق ، فقضيّته ثبوت الوجوب بعد الوقت ، وكون التقييد بالوقت بنحو تعدّد المطلوب لا وحدته ، فإنّ مقتضى تعدّد المطلوب هو مطلوبيّة نفس الواجب سواء أكان في الوقت أم بعده ، فمطلوبيّته في خصوص الوقت زائدة على مطلوبيّة أصل الواجب ، ففوت المصلحة الوقتيّة لا يستلزم فوات مطلوبيّة نفس الطبيعة ، لأنّ التقييد يكون لبعض مراتب المصلحة ، لا أصلها ، فيؤتى بالواجب بعد الوقت. فقوله (قده) : «بحسب تمام المطلوب» أي : المطلوب الأقصى ، والمراد به : تعدّد المطلوب.

(٣) أي : أصل المطلوب حتى لا يجب بعد خروج الوقت ، والمقصود به وحدة المطلوب ، فالمراد بقوله : «تمام المطلوب» هو المطلوب الأقصى.

__________________

(*) لا يخفى أنّ المصنف (قده) لم يتعرض لمقام الثبوت ، ولا بأس بالتعرّض له ، فنقول وبه نستعين : إنّ الزمان المأخوذ قيدا في لسان الدليل الشرعي قد يكون دخيلا في جميع مراتب المصلحة ، بحيث يفوت تمامها بخروج الوقت ، ولا يبقى منها شيء بعد الوقت ، ويعبّر عن هذا ب : «وحدة المطلوب» ، وقد يكون دخيلا في بعض مراتب المصلحة ، بحيث يبقى منها بعضها الآخر ، فيستوفى بإتيان الواجب بعد الوقت ، ويعبّر عنه بـ «تعدد المطلوب».

ففي الأوّل لا يجب القضاء بعد الوقت ، لعدم مصلحة تقتضي الوجوب ، ولو نهض حينئذ دليل على الوجوب كان من قبيل الجبران والتدارك لما فات ، كوجوب بعض الكفّارات المترتبة على ترك بعض الواجبات خطأ.

وفي الثاني يجب الفعل بعد الوقت إن كان ما بقي من المصلحة لازم التدارك ، ويستحب إن لم يلزم تداركه.

٥٧٤

وبالجملة : التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب ، كذلك ربما يكون بنحو تعدّد المطلوب ، بحيث كان أصل الفعل ولو في خارج الوقت مطلوبا في الجملة وإن لم يكن بتمام المطلوب (١) ، إلّا أنّه لا بدّ في إثبات أنّه (٢) بهذا النحو (٣) من دلالة (٤) ، ولا يكفي الدليل على الوقت إلّا (*) فيما عرفت (٥).

______________________________________________________

(١) أي : المطلوب الأكمل ، لأنّه إنّما يكون بإتيان الواجب في الوقت.

(٢) أي : التقييد.

(٣) أي : تعدّد المطلوب ، يعني : أنّ ظاهر دليل التوقيت كسائر أدلّة التقييدات هو : كون القيد دخيلا في جميع مراتب المصلحة ، فبانتفائه تنتفي المصلحة بتمام مراتبها ، فيكون التوقيت من باب وحدة المطلوب ، فدخل الوقت في بعض مراتب المصلحة حتى يكون من باب تعدّد المطلوب خلاف ظاهر دليل التوقيت ، فلا بد في الدلالة عليه من التماس دليل آخر غير دليل التوقيت ، لما عرفت من ظهوره في وحدة المطلوب.

(٤) أي : من دليل مستقل.

(٥) من قوله : «نعم لو كان التوقيت» إلى قوله : «وكان لدليل الواجب إطلاق».

__________________

(*) ظاهره : الاستثناء من نفس دليل التوقيت ، يعني : أنّه لا يدلّ على تعدّد المطلوب المستلزم لوجوب القضاء بعد الوقت إلّا فيما عرفت. مع أنّه (قده) لم يذكر قبل ذلك دلالة التوقيت على وجوب القضاء حتى يشير إليه بقوله : «إلّا فيما عرفت» ، لأنّ دليل التوقيت إمّا مطلق ينفي وجوب القضاء ، وإمّا مهمل لا يدل على شيء من الوجوب وعدمه ، فقوله : «إلّا فيما عرفت» مستدرك.

وحق العبارة أن تكون هكذا : «إلّا أنّه لا بدّ في إثبات أنّ التوقيت بنحو تعدّد المطلوب من دلالة ولو كانت إطلاق دليل الواجب ، كما عرفت. ولا يكفي نفس الدليل على الوقت» ، ولو قال : «ولا يكفي دليل الواجب في إثبات تعدّد المطلوب إلّا فيما عرفت من إطلاقه ، وإهمال دليل التوقيت» كان سليما عن الإشكال.

٥٧٥

ومع عدم (*) الدلالة ، فقضية أصالة البراءة عدم وجوبها (١) في خارج الوقت.

ولا مجال (٢) لاستصحاب وجوب الموقت بعد انقضاء الوقت (**) فتدبّر جيّدا.

______________________________________________________

(١) إذ مع عدم الدليل على تعدّد المطلوب يشكّ في وجوبه بعد الوقت ، فتجري فيه البراءة ، لكونه من الشك في التكليف.

فتحصل مما تقدم : أنّ الأصل مرجع إذا لم يكن هناك دليل على كون التقييد بنحو تعدّد المطلوب ، ومعه كما إذا كان لدليل الواجب إطلاق ، وكان دليل التوقيت مهملا ، فيرجع إلى الإطلاق القاضي بوجوب القضاء في خارج الوقت ، كما لا يخفى.

(٢) أما تقريب جريان الاستصحاب ، فهو أن يقال : إنّ وجوب صلاة الظهر مثلا كان قبل غروب الشمس معلوما ، فيستصحب وجوبها بعد غروبها ، فهذا الاستصحاب الحكمي يثبت وجوبها بعد الوقت ، ومعه لا تجري البراءة ، لحكومته عليها.

وأمّا عدم المجال لجريان الاستصحاب هنا ، فوجهه : انتفاء الموضوع وهو الوجوب المقيّد بالوقت ، ولا أقلّ من الشك في بقائه المانع عن جريان الاستصحاب ، فإنّ التمسّك بدليل الاستصحاب مع الشكّ في بقاء الموضوع تشبّث بالدليل في الشبهة الموضوعيّة ، وهو غير جائز على المشهور المنصور.

__________________

(*) مجرّد عدم الدلالة على تعدّد المطلوب لا يكفي في الرجوع إلى الأصل ، بل لا بدّ من عدم الدلالة على وحدة المطلوب أيضا ، لأنّه مع الدلالة عليها لا مجال للرجوع إلى أصالة البراءة أيضا ، إذ مع الدليل لا تصل النوبة إلى الأصل وإن كان موافقا له ، كما لا يخفى.

فإذا كان دليل الواجب مهملا ودليل التوقيت مطلقا ـ بمعنى : دلالته على دخل الوقت في تمام مراتب المصلحة ـ فلا وجه للرجوع إلى أصل البراءة ، لدلالة دليل التقييد على وحدة المطلوب المستلزمة لعدم وجوب القضاء بعد الوقت.

(**) وقد يقال : بجريان استصحاب الكلّي من قبيل القسم الثالث هنا ، بتقريب : أنّه عند زوال الفرد المعلوم حدوثه ـ وهو الصلاة المقيّدة بالوقت ـ

٥٧٦

فصل

الأمر بالأمر بشيء أمر به لو كان الغرض حصوله ولم يكن له غرض في توسيط أمر الغير به إلّا تبليغ أمره (١) به ، كما هو المتعارف في أمر الرسل بالأمر أو النهي.

______________________________________________________

الأمر بالأمر

(١) أي : أمر الآمر الأوّل بذلك الشيء.

توضيح ما أفاده : أنّ زيدا مثلا إذا أمر عمرا بأن يأمر بكرا بصلاة ، فهل يكون عمرو مبلّغا لأمر زيد إلى عمرو ، فيكون عمرو مأمورا من زيد ، فإذا خالف عدّ مخالفا لزيد ، لا لعمرو؟ أم يكون لأمر عمرو موضوعيّة ، بحيث لو خالف بكر ، كان عاصيا لعمرو لا لزيد.

وبعبارة أخرى : هل يكون الثالث مأمورا من الأوّل ، أم الثاني؟ فيه قولان نسب الأوّل منهما إلى بعض المتأخّرين من أصحابنا ، والثاني إلى المحقّقين. ولا بد من ملاحظة غرض المولى ، فإن تعلق بحصول ذلك الشيء كان الواسطة مبلّغا ، لا آمرا ، وإن تعلق بصرف أمر الواسطة من دون تعلّق غرضه بذلك الشيء ، أو تعلّق غرضه بحصول ذلك الشيء ، لكن بعد تعلّق أمر الواسطة به ، بحيث يكون أمر الواسطة من قبيل شرط الوجوب ، فلا يكون الثالث مأمورا من الأوّل.

__________________

يشكّ في حدوث فرد آخر للوجوب متعلّق بالصلاة في خارج الوقت ، فاستصحاب الكلّي ـ وهو الوجوب ـ باعتبار تعلّقه بطبيعيّ الصلاة يجري ، ومقتضاه وجوب الصلاة بعد خروج الوقت.

لكن فيه ما لا يخفى :

أمّا أولا : فلما قرّر في محله : من عدم جريان الاستصحاب مع تبدّل حال من حالات الموضوع ، وزوال وصف من أوصافه ، لكونه موجبا للشّك في بقاء

٥٧٧

وأما (١) لو كان الغرض من ذلك يحصل بأمره بذلك الشيء من دون تعلّق غرضه به ، أو مع تعلّق غرضه به (٢) لا مطلقا ، بل بعد تعلّق أمره به (٣) ، فلا (٤) يكون أمرا بذلك الشيء ، كما لا يخفى (*).

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى القسم الثاني ، وهو : أن يكون لأمر الواسطة جهة موضوعيّة.

(٢) هذا الضمير ، وضمير ـ به ـ في قوله : «غرضه به» راجعان إلى الشيء.

(٣) أي : أمر الواسطة بذلك الشيء ، بحيث يكون أمره من قبيل شرط الوجوب.

(٤) هذا جواب قوله : «وأمّا لو كان الغرض».

أما عدم كون أمر الآمر الأوّل أمرا بذلك الشيء في الصورة الأولى ، فواضح ، لعدم تعلّق غرضه بالفعل أصلا ، بل تمام موضوع غرضه نفس أمر الغير به.

وأما عدم كونه أمرا بذلك الشيء في الصورة الثانية ، فلأنّه مأمور به بشرط أمر الواسطة به ، لا مطلقا.

__________________

الموضوع.

وأما ثانيا : فلعدم جريان الاستصحاب في الكلّي مطلقا ، لعدم وجود للجامع بين الفرد الزائل قطعا والمشكوك حدوثه بدوا حتى يستصحب ، فلو وجد كان وجودا مباينا لوجود الفرد الزائل ، ومع المباينة كيف يصح الاستصحاب ، إذ لا اتحاد بين المتباينين.

فالحق : عدم جريان الاستصحاب في الموقّتات بعد خروج أوقاتها ، فالشّكّ في وجوب الفعل بعد خروج الوقت يكون مجرى أصالة البراءة.

(*) لا يخفى : أنّ الثمرة المترتّبة على هذا البحث ـ على ما قيل ـ هي : شرعيّة عبادات الصبي ، بمثل قول أبي عبد الله عليه‌السلام في حسنة (١) الحلبي أو صحيحته «فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين» ونحوه (٢) ممّا ورد في أمر الولي

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٣ من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، الحديث ٥.

(٢) نفس المصدر.

٥٧٨

وقد انقدح بذلك (١) : أنّه لا دلالة بمجرّد الأمر بالأمر على كونه أمرا به ، ولا بدّ في الدلالة عليه من قرينة عليه (*).

______________________________________________________

(١) أي : بتطرّق الاحتمالين في أمر الواسطة بشيء ، وهذا مقام الإثبات ، وغرضه : أنّه لا دلالة لمجرّد الأمر بالأمر على أحد الاحتمالين المزبورين ، بل لا بدّ في الدلالة عليه من قرينة على ذلك.

__________________

للصبي.

لكنك خبير بأنّه إذا لم يدل دليل على تعيّن كون أمر الشارع للأولياء بأمرهم للصبيان أمرا بنفس ذلك الشيء لم يترتّب عليه هذه الثمرة ، لأنّ ترتّبها عليه منوط بدلالة الأمر بالأمر في مقام الإثبات على كون الواسطة مبلّغا ، لا آمرا ، إذ مع الإجمال وعدم الدلالة لا تترتّب الثمرة المزبورة على هذا البحث ، فتكون عبادات الصبي حينئذ تمرينيّة.

فالأولى : إثبات مشروعيّة عبادات الصبي بعموم أدلّة التشريع ، كقوله تعالى : «كتب عليكم الصيام» و «أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة» ، ونحوها ممّا يعمّ البالغ وغيره.

وحديث : «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم» لا ينافي عموم الأدلّة حتى يخصصه بالبالغ ، لأنّه بقرينة وروده مورد الامتنان يرفع الإلزام الموجب للثقل مع بقاء المصلحة على حالها.

وعلى هذا : فلو أتى بالصلاة في الوقت ، ثم بلغ أجزأت ، ولا تجب الإعادة.

(*) لا يبعد أن يقال : إنّ غلبة ورود الأمر بالأمر في التبليغ ، وكون الغرض متعلقا بنفس الفعل توجب ظهوره فيه ، فتكون الغلبة المزبورة قرينة نوعيّة على المبلّغيّة ، والطريقية ، وكون الثالث مأمورا من الآمر الأوّل ، لا الثاني. وهذه القرينة متّبعة ما لم يقم صارف عنها. وعليه : فلا بأس بترتيب الثمرة المزبورة ـ وهي : شرعيّة عبادات الصبي ـ على هذا البحث ، لعدم قرينة فيها على خلاف الغلبة المزبورة.

٥٧٩

فصل

إذا ورد أمر بشيء بعد الأمر به قبل (*) امتثاله (١) ، فهل يوجب تكرار ذاك الشيء ، أو تأكيد الأمر الأوّل ، والبعث (٢) الحاصل به؟ قضية إطلاق المادّة (٣) هو التأكيد ، فإنّ (٤) الطلب تأسيسا لا يكاد يتعلّق بطبيعة واحدة مرتين من دون أن يجيء تقييد لها في البين ولو (٥) كان بمثل «مرّة أخرى» كي يكون متعلّق

______________________________________________________

الأمر بعد الأمر

(١) يعني : قبل امتثال الأمر الأوّل ، كما إذا قال : «أعتق رقبة» ، وقبل امتثاله ورد أيضا : «أعتق رقبة» ، فهل يكون الثاني تأسيسا حتّى يجب عتق رقبتين امتثالا للأمرين؟ أم يكون تأكيدا للأوّل ، فلا يجب إلّا عتق رقبة واحدة.

(٢) معطوف على قوله : «الأمر» ، وضمير ـ به ـ راجع إلى الأمر.

(٣) توضيحه : أنّ إطلاق مادّة الأمر الثاني ـ كالعتق في المثال المذكور ـ وعدم تقييدها بما ينوّعه ، أو يصنّفه ، أو يشخّصه يقتضي اتّحاد المادّتين مفهوما ، وكون المطلوب بالأمر الثاني عين المطلوب بالأمر الأوّل ، فلا محالة يكون الطلب الثاني تأكيدا له ، إذ لو لا التأكيد يلزم اجتماع المثلين ، وهما الطلبان.

(٤) هذا تقريب محذور اجتماع المثلين ، وقد عرفته.

والحاصل : أنّ حمل الأمر الثاني على التأسيس مستلزم للمحال ، وهو اجتماع المثلين ، ضرورة أنّ صرف الوجود سواء أكان من طبيعة الطلب أم طبيعة المطلوب لا يتثنّى ولا يتكرّر ما لم ينضم إليها ما يكثّرها نوعا ، أو صنفا ، أو شخصا.

(٥) كلمة ـ لو ـ وصليّة ، كأن يقول ـ بعد قوله : «أعتق رقبة» ـ : «أعتق

__________________

وقد بسطنا الكلام في شرعيّة عبادات الصبي في رسالة مستقلة.

(*) وأمّا إذا ورد بعد امتثال الأوّل ، فيكون الأمر الثاني تأسيسا ، إذ لا معنى للتأكيد بعد السقوط ، فيتعيّن كونه تأسيسا ، وإلّا يلزم اللغويّة.

٥٨٠