منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٥٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والوضعي ، وبين كون الإبهام في ناحية الفعل ، أو الفاعل. وعليه : فيصح إنشاء النسبة الطلبيّة بين فعل مبهم ـ كالصوم أو العتق أو الإطعام ـ وفاعل معيّن. فحقيقة الوجوب التخييري : إنشاء النسبة الطلبيّة بين فاعل معيّن ، وبين فعل مبهم» هذا توضيح كلام المحقق المذكور على ما أفاده سيدنا الأستاذ مد ظله في الدرس.

ثم فرّق شيخه الميرزا (قده) بين الإرادة التشريعيّة الّتي هي مورد البحث ، وبين الإرادة التكوينيّة بما حاصله : أنّ الإرادة التكوينيّة محرّكة لعضلات المريد نحو الفعل ، ولا يعقل تحرّكها نحو المردّد ، لأنّ الإرادة التكوينيّة علّة لوجود المراد في الخارج ، ومن البديهي : أنّ الموجود الخارجي فرد معيّن ، ولا يعقل فيه الإبهام أصلا ، فلا تتعلّق الإرادة التكوينيّة بالكلّي ، ولا بالفرد المردّد ، بل بخصوص الفرد المعيّن.

وهذا بخلاف الإرادة التشريعيّة الموجبة لحدوث الداعي للمكلّف نحو الفعل ، فإنّها كما يصح أن تتعلّق بشيء معيّن ـ كالصلاة مثلا ـ كذلك يصحّ أنّ تتعلّق بأمر مردّد بين أمرين أو أمور ، كالصوم أو العتق أو الإطعام.

والحاصل : أنّه لا مانع من تعلّق الإرادة التشريعيّة تارة بكليّ بحذف جميع خصوصيّاته الشخصيّة ـ كما هو الغالب ـ بأن يكون المراد حقيقة نفس الطبيعة وغيرها من لوازم الوجود مرادا تبعا.

وأخرى بجزئي حقيقيّ بحيث تكون لوازم الوجود أيضا مرادة.

وثالثة بأحد أمرين أو أمور ، وهذا معنى الوجوب التخييري.

فقياس الإرادة التشريعيّة بالتكوينيّة حتى يترتّب عليه امتناع تعلّق الإرادة التشريعيّة بالأمر المبهم في غير محلّه.

٥٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وعليه : فلا مانع من تعلّق الإرادة التشريعيّة بالمبهم. وهذا هو الوجوب التخييري ، هذا.

وفيه ما لا يخفى : لأنّ وزان الإرادة التشريعيّة وزان الإرادة التكوينيّة في امتناع التعلّق بالمبهم.

توضيحه : أنّ الخطابات الشرعيّة إن كانت مبرزة لما في نفس المولى من الحب أو الكراهة ، ولم يكن هناك إنشاء أصلا ـ كما هو أحد المباني ـ ، فلا يمكن تعلّق الحب أو الكراهة بشيء غير معيّن. وان كانت إنشاء ، فلمّا كان الإنشاء مترتّبا على تصوّر ما فيه المصلحة أو المفسدة ، فلا يعقل تعلّق التصور والتصديق اللذين يستتبعان الإنشاء بأمر مبهم.

فما في صقع نفس المولى من مركب المصلحة أو المفسدة الموجبتين للحبّ أو البغض لا بد أن يكون معيّنا ، لا مردّدا ، إذ لا يعقل أن يكون شيء مبهم محبوبا أو مبغوضا للمولى ، فيمتنع تعلّق الإرادة التشريعيّة بأمر مردّد بين أمرين أو أمور ، من غير فرق بين كون مفاد صيغة الأمر إنشاء النسبة ـ كما عليه المحقق النائيني ومن تبعه ـ ، وبين كونه إنشاء الطلب ـ كما عليه الجلّ ، وبين كونه إبرازا للحبّ والبغض القائمين بنفس الآمر ، كما ذهب إليه بعض المحققين.

فالمتحصل : أنّه لا فرق بين الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة في امتناع تعلّقهما بالمردّد بين أمرين أو أمور. فما أفاده المحقق المذكور في الوجوب التخييري من إمكان تعلق الإرادة التشريعيّة بالأمر المردّد لا يخلو من غموض.

الثاني : ما أفاده سيّدنا الأستاذ مد ظله في الدرس من : «أنّ الواجب التخييري هو الّذي أنشأ وجوبه عدليّا ، بحيث يكون إنشاء النسبة متعلّقا بكلّ واحد من الأبدال ـ كالصوم والإطعام والعتق ـ ، لكن بنحو العدليّة المدلول عليها بكلمة :

٥٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

«أو» ، ولو لم تكن هذه الكلمة كان كلّ واحد من الأبدال واجبا تعيينيّا ، وليس الإنشاء في شيء منها مشروطا بعدم الآخر حتى يلزم الواجب المشروط ، كما هو أحد الوجوه الآتية الّتي تفصي بها عن الإشكال». هذا ملخّص ما حرّرناه عنه دام ظله في مجلس درسه الشريف.

أقول : ما أفاده مد ظله راجع إلى مقام الإثبات ، بمعنى : أنّ الخطاب التخييري عبارة عن تعلّق إنشاء النسبة بكلّ واحد من الأبدال مع اشتماله على كلمة «أو» ، إذ بدونها يكون ظاهر الخطاب وجوب كل منها تعيينا ، وهذا وإن كان متينا لكنّه أجنبي عن الإشكال الراجع إلى مقام الثبوت ، وتعقّل حقيقة الوجوب التخييري.

وإن كان مرامه مد ظله إمكان تعلّق الإرادة التشريعيّة بالمبهم ، فهو مناف لما أفاده في ردّ كلام شيخه الميرزا النائيني (قده) من مساواة الإرادتين : التكوينيّة والتشريعيّة في امتناع التعلّق بالمبهم ، وعدم إمكان التفكيك بينهما في جواز تعلّق التشريعية بالمبهم ، وعدم جواز تعلّق التكوينية به ، فلاحظ.

ولعله ـ لما ذكرناه من الإشكال ـ قال دام ظله بعد ذلك : «ولو لم يمكن تسليم هذا الوجه ، فلا محيص عن الالتزام بما أفاده صاحب الكفاية في دفع إشكال الوجوب التخييري».

الثالث : ما عن شيخنا المحقّق العراقي (قده) : «من تعلّق الإرادة بكلّ واحد من الطرفين أو الأطراف ، غاية الأمر : أنّها في كلّ واحد منهما أو منها ناقصة ، بمعنى : أنّ الإرادة في كل واحد لا تسدّ جميع أبواب عدم متعلّقها ، بل تسد أبواب عدمه إلّا باب عدمه المقارن لوجود الآخر ، فلا تحريك لهذه الإرادة في ظرف وجود الطرف الآخر ، كما إذا أراد المولى الصوم مثلا في كلّ حال إلّا في حال وجود العتق.

٥٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والحاصل : أنّ الإرادة تتعلّق بكلّ واحد من الأطراف على الوجه الناقص ولازم هذه الإرادة الناقصة جواز ترك بعض الأطراف في ظرف وجود الآخر ، وحصول العصيان بترك جميع الأطراف.

وأنت خبير بعدم تصوّر نقصان في الإرادة ، لأنّها هي الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات نحو المراد ، فإنّ لم يصل الشوق إلى هذه المرتبة فليس بإرادة.

وعليه : فلا بد من توجيه كلامه (قده) بأن يقال : إنّ إرادة كلّ من الأطراف مقيّدة بعدم الآخر ، ففي ظرف وجوده لا إرادة أصلا بالنسبة إلى غيره ، فيرجع ما أفاده (قده) إلى وجه آخر سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

هذا كلّه مضافا إلى : أنّ لازم تعدّد الإرادة تعدّد العقاب ، لتماميّة الإرادة عند ترك الجميع ، كما لا يخفى.

الرابع : أن يكون وجوب كلّ واحد من الأطراف مشروطا بعدم وجود الآخر.

وفيه أولا : أنّ لازمه وجوب كل من الأطراف تعيينا ، وهو غير الوجوب التخييري.

وثانيا : أنّ ترك الجميع مستلزم لتعدّد العقاب ، لفعليّة الوجوب حينئذ بالنسبة إلى جميع الأطراف ، حيث إنّ شرط وجوب الجميع ـ وهو ترك الكل ـ حاصل ، وهذا كما ترى.

وثالثا : أنّ صحة هذا الوجه منوطة بأمرين : أحدهما : تعدد الملاك بأن يكون لكلّ واحد من الأطراف ملاك يخصّه. ثانيهما : تضاد تلك الملاكات في الوجود بحيث لا يمكن الجمع بينها كذلك ، وإلّا لكان كلّ واحد منها واجبا تعيينيّا ، فلو كان الملاك واحدا لم يصح هذا الوجه ، لخلوّ ما عدا واجده عن ملاك التشريع ، وهو خلاف ما عليه مشهور العدليّة : من تبعيّة الأحكام لما في متعلّقاتها من المصالح والمفاسد.

٥٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وبالجملة : هذا الوجه من قبيل الترتّب المعلوم توقّفه على وجود الملاك في الطرفين.

ورابعا : بعد تسليم تعدّد الملاكات وتزاحمها في الوجود لا يمكن أيضا الالتزام بإناطة وجوب كل من الأطراف بعدم الآخر ، وذلك لأنّ هذه الإناطة إنّما تصح في التزاحم الاتّفاقي ، كإنقاذ الغريقين مع عدم أهميّة أحدهما. وأمّا في التزاحم الدائمي ـ كالمقام ـ حيث إنّ تزاحم ملاكات الأبدال من الصوم والإطعام والعتق دائمي مع عدم عجز المكلف عن الجمع بينها ، فلا محالة يكون أحد الملاكات مؤثّرا في تشريع حكم واحد لأحد الأطراف ، لا أنّ جميعها تؤثّر في تمام الأطراف. فهذا الوجه الرابع غير سديد.

الخامس : إرجاع التخيير الشرعي إلى العقلي ، ببيان : أنّ الغرض من أحد الأمرين أو الأمور واحد ، والمفروض حصوله بأحدهما أو أحدها ، وحيث إنّ المتباينات بما هي متباينات لا تؤثّر في واحد ، فلا بدّ أن يكون هناك جامع يؤثّر في الغرض الواحد ، لئلا يلزم صدور الواحد عن المتعدّد ، فمتعلّق الوجوب حقيقة هو ذلك الجامع ، ولازمه كون التخيير بين الأطراف عقليّا ، لأنّ مطلوبيّة كل منها إنّما هي لمصداقيّته لذلك الجامع ، لا لوقوع كلّ منها بخصوصيّته الشخصيّة موردا للطلب. وإنّما تكون الخصوصيّة الفرديّة من لوازم الوجود ، من دون دخلها في متعلّق الوجوب.

وليس هذا التخيير إلّا عقليّا ، إذ الواجب التخييري الشرعي عبارة عن دخل الخصوصيّات الفرديّة في المطلوب ، وهذا هو الفارق بين التخيير الشرعي والعقلي.

وفيه أولا : أنّ برهان امتناع صدور الواحد عن الكثير غير تامّ في الوحدة النوعيّة ، كالاقتدار على الاستنباط الّذي هو الغرض في علم الأصول ، وإنّما يتمّ

٥٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ذلك في الواحد الشخصي ، فاستكشاف الجامع بين الأطراف ممّا لا سبيل إليه.

وثانيا : ـ بعد تسليم صحة استكشاف الجامع بالبرهان المزبور ـ أنّه لا بدّ أن يكون الجامع الّذي يتعلّق به الإرادة ، ويقع موردا للطلب قريبا عرفيّا يعرفه المكلّف ، ويميّزه حتى يصح إلقاؤه إليه ، كسائر الطبائع الملقاة إليه في كونه فعلا اختياريّا من أفعاله ، كالصلاة ، والصوم ، والحج ، وغيرها ، بداهة أنّ متعلّق التكليف فعل المكلّف ، فلا بدّ من تمييزه ، ومعرفته ، حتى ينبعث عن أمره ، ولا يندرج في التكليف بالمجهول. ولا يصلح البرهان المذكور ـ بعد فرض تماميته ـ حتى في الواحد النّوعي لإثبات وجود مثل هذا الجامع.

وثالثا : أنّ إرجاع التخيير الشرعي إلى العقلي يستلزم عدم دخل الخصوصيّات الفرديّة في المطلوب ، وكون متعلّق الطلب نفس الطبيعة. وهذا خلاف ظاهر أدلة الواجب التخييري ، لأنّ مثل قوله : «صم ، أو أطعم ، أو أعتق» ظاهر في دخل خصوصيّات هذه الأطراف في المطلوبيّة.

فالمتحصل : أنّ الالتزام بكون هذا الوجه الراجع إلى فرض الجامع الملاكي متعلّقا للوجوب ممّا لا موجب له.

السادس : كون متعلّق الوجوب الجامع الأصيل بحيث يكون الغرض قائما به كسائر الكلّيّات الواقعة في حيّز الطلب ، فالتخيير بين الأطراف لا محالة يكون عقليّا.

وفيه : أنّه إرجاع إلى التخيير العقلي ، وإنكار للتخيير الشرعي.

مضافا إلى ما عرفت : من أنّه يعتبر أن يكون الجامع عرفيّا يميّزه المكلّف وقابلا للإلقاء إليه ، لكونه فعلا اختياريّا له ، فلا بدّ من معرفته حتى ينبعث عن أمره.

السابع : كون متعلّق الوجوب عنوانا انتزاعيّا ، وهو مفهوم «أحدهما» أو

٥٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

«أحدها» ، فمتعلق الوجوب هو هذا العنوان الانتزاعي الصادق على كلّ واحد منهما أو منها.

وفيه أولا : أنّه مع وجود الجامع الأصيل لا تصل النوبة إلى الجامع الانتزاعي.

وثانيا : عدم صلاحية العنوان الانتزاعي لتعلّق الطلب به ، لأنّ متعلّق الإرادة هو ما يقوم به الملاك ، ومن المعلوم : أنّ العناوين الانتزاعيّة الّتي لا وجود لها في الخارج أصلا لا تقوم بها الملاكات ، فلا تتعلّق بها الإرادة والطلب أيضا.

وثالثا : أنّ شيئا من الطرفين أو الأطراف ليس مصداقا للمفهوم المزبور ، لأنّ كلّ واحد معيّن في الخارج ، وليس فردا مردّدا ، ومن المعلوم : عدم قابليّة المفهوم من حيث هو لتعلّق الطلب به.

وملاك هذا الإشكال : امتناع تعلّق الطلب بمفهوم لا مطابق له في الخارج وإن لم يكن من العناوين الانتزاعيّة.

الثامن : كون كلّ واحد من الأطراف واجبا تعيينيّا ، غاية الأمر : أنّ الإتيان بأحدها مسقط للباقي.

وفيه أولا : أنّه خلاف ظاهر أدلّة الواجب التخييري ، حيث إنّ كلمة : «أو» فيها ظاهرة في وجوب كلّ واحد من الأطراف تخييرا.

وثانيا : لزوم تعدّد العقاب عند ترك الجميع ، والظاهر عدم التزام أحد به.

وثالثا : أنّه يرجع إلى الوجه الرابع ، أعني : كون وجوب كلّ من الأطراف مشروطا بعدم الآخر ، إذ لا معنى للسقوط بفعل أحدها إلّا تقييد إرادة كلّ منها بعدم الآخر ، وقد تقدّم الكلام فيه.

التاسع : كون الواجب هو المعيّن عند الله تعالى ، والمجهول عندنا.

وفيه أولا : أنّه خلاف ظاهر الأدلّة ، لظهورها في وجوب كلّ منها ، لا أحدها.

٥٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وثانيا : أن سائر الأطراف إن كان ملاكها تامّا ، فلا بدّ من إيجابها أيضا ، وإلّا يلزم كفّ الفيض عن مستحقه. وإن لم يكن تامّا ، فلا وجه لسقوط الواجب به ، للزوم تفويت الملاك التام بلا موجب ، بل لا بدّ حينئذ من بيان ما هو الواجب عنده سبحانه وتعالى حتى يؤتى به ، ويستوفي ملاكه.

والحاصل : أنّ تفويت الغرض اللازم تحصيله قبيح عقلا ، فكيف يصح للحكيم إبراز الأمر بصورة التخيير المستلزم لفوات الملاك أحيانا.

وثالثا : أنّ مقتضى العلم الإجمالي لزوم الجمع بين الأطراف ، تحصيلا للعلم بوجود الواجب الواقعي المعيّن عنده عزوجل. إلّا أن يقال : بسقوط الواجب بغيره القائم بملاكه.

العاشر : أنّ الواجب هو المجموع من حيث المجموع مع السقوط بإتيان البعض.

وفيه أولا : أنّه خلاف التخيير المستفاد من ظاهر الأدلّة.

وثانيا : عدم تحقّق الامتثال بإتيان البعض.

وثالثا : أنّ لحاظ الاجتماع ثبوتا وإثباتا ممّا يحتاج إلى مئونة زائدة ، لكونه قيدا للمتعلّق ، والإطلاق يدفعه.

ورابعا : أنّ دخل الاجتماع في موضوع الخطاب يوجب ارتباطيّته ، فيصير كلّ واحد من الأطراف جزءا للمأمور به ، فكيف يمكن الاكتفاء ببعضها؟

وبالجملة : ففي جميع الوجوه المذكورة لتعقّل الوجوب التخييري مناقشات قد تعرّضنا لبعضها ، وأو كلنا بعضها الآخر إلى الناظرين.

ولعل الأولى في تصويره أن يقال : إنّه لا نقصان في الإرادة حتى يرد عليه :

أنّ الإرادة هي الشوق المؤكد المستتبع لحركة العضلات ، ولا يتصوّر فيها النقصان ،

٥٤٨

والتحقيق (١) أن يقال : إنّه إن كان الأمر بأحد الشيئين بملاك أنّه هناك

______________________________________________________

ثم إنّ هذين القولين منسوبان إلى طائفتين من المعتزلة (*).

(١) غرضه : تصوير التخيير الشرعي ، وإرجاعه حقيقة إلى التخيير العقلي ، بتقريب : أنّ الملاك الداعي إلى الأمر بشيئين أو أشياء إن كان واحدا يقوم به كلّ واحد منهما أو منها بحيث يسقط بإتيانه الأمر ، فلا محالة يكون الواجب هو الجامع المنطبق على كلّ واحد منهما ، أو منها ، ويصير التخيير حينئذ عقليّا ، لا شرعيّا ، إذ لا يصدر الغرض الواحد ـ وهو الملاك ـ إلّا من الواحد ، فلا يؤثّر فيه المتباينان أو المتباينات ، للزوم السنخيّة بين العلّة والمعلول ، وهي ممتنعة بين المتباينين

__________________

بل الإرادة التامّة تتعلّق بغرض يحصل بأحد أمور من دون نقصان في شيء من الإرادة والمراد. مثلا : إذا أراد المولى رفع عطشه ، وكان هناك أسباب عديدة لرفعه من الماء ، والرّقي ، والبطيخ ، وماء الرمان ، وغيرها ، فيصح حينئذ أن يأمر عبده برفع عطشه ، فإن علم العبد بما يوجب رفع العطش لا يجب على المولى بيان ذلك ، وإلّا وجب عليه.

وهذا نظير أمر المولى بطمّ حفرة حصلت في الأرض من قطع شجر أو غيره ، فمراده الجدّي ـ وهو الطمّ ـ يحصل بالتّراب ، والآجر ، والحجر ، وغيرها ، فلو لم يصرّح بأسباب الطّم فالعقل يخيّر العبد بينها. وإن صرح بالتخيير بين اثنين ، أو أزيد منهما كان التخيير شرعيّا ، لكشفه عن دخل خصوصيّات الأطراف في الحكم ، كما إذا كان مراده في المثال طمّ الحفر بما لا يوجب صلابة الأرض.

فالتخيير الشرعي تخيير بين محصّلات المراد من دون نقص في نفس الإرادة أو المراد ، ولا يلزم محذور في التخيير بين محصّلات المراد.

وإن نوقش في هذا الوجه أيضا ، فلا يقدح في وقوع الوجوب التخييري الّذي وقع في الشرعيّات والعرفيات بلا ارتياب ، فإنّ عدم تعقّل كنه الوجوب لنا لا يضرّ بوقوعه المسلّم لأنّه إشكال علميّ أمكن لنا دفعه أم لا ، والله الهادي إلى الصواب.

(*) ولكن حكي : أنّ كلّ واحد من المعتزلة والأشاعرة تبرّأ من القول

٥٤٩

غرض واحد يقوم به كلّ واحد منهما بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام الغرض ، ولذا (١) يسقط به الأمر كان الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما ، وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليّا ، لا شرعيّا ، وذلك (٢) لوضوح أنّ الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما اثنان ما لم يكن بينهما جامع في البين ، لاعتبار (٣) نحو من السنخيّة بين العلّة والمعلول. وعليه : فجعلهما متعلّقين للخطاب الشرعي لبيان أنّ الواجب هو الجامع بين هذين الاثنين.

______________________________________________________

بما هما متباينان ، وبين الغرض الواحد القائم بكلّ منهما ، فلا محيص عن كون متعلّق الأمر جامعا بين المتباينين ، كتعلّق الأمر بالصلاة الجامعة بين أفرادها العرضيّة والطوليّة.

ومن المعلوم : أنّ هذا التخيير بين الأفراد عقليّ لا شرعي ، غاية الأمر : أنّه لما لم يكن ذلك الجامع في التخيير الشرعي معلوما لدينا لنطبّقه على أفراده بين الشارع أفراد ذلك الجامع الّذي هو الواجب حقيقة.

(١) أي : ولأجل حصول تمام الغرض يسقط الأمر المترتّب عليه بالإتيان بواحد منهما أو منها.

(٢) هذا برهان وجوب الجامع وكون التخيير عقليّا ، وقد تقدّم تقريبه بقولنا : «إذ لا يصدر الغرض الواحد إلا من الواحد ... إلخ».

(٣) وإلّا لأثّر كلّ شيء في كلّ شيء ، كما قيل.

__________________

الأخير ، وهو : «وجوب المعيّن عند الله تعالى» ، لأنّ المكلّفين إذا اختلفوا ، فاختار بعضهم في الكفّارة : الصوم ، والآخر : الإطعام ، والثالث : العتق ، أو أتى بعضهم بالجميع فلا يتميّز الواجب حينئذ عن غيره.

مضافا إلى : أنّ مقتضى العلم الإجمالي باشتغال الذّمّة بخصوص المعيّن عنده تعالى : لزوم الإتيان بجميع الأبدال ، إلّا أن يقول قائله بسقوط الواجب بغيره.

٥٥٠

وإن (١) كان بملاك أنّه يكون في كلّ واحد منهما غرض لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر بإتيانه ، كان كلّ واحد واجبا بنحو (٢) من الوجوب يستكشف عنه (٣) تبعاته (٤) من عدم جواز تركه إلّا إلى الآخر ، وترتّب (٥)

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «ان كان الأمر بأحد الشيئين ... إلخ».

وحاصله : أنّه إن كان الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء بملاك متعدّد ، بأن يكون في كلّ واحد منهما أو منها ملاك يخصّه ، ولكن امتنع استيفاء الملاكين أو الملاكات ، لما بينهما أو بينها من التضاد المفوّت أحدهما أو أحدها للآخر ، بحيث لو أتى بأحدهما أو أحدها فات ملاك الآخر ، فلا محيص عن كون كلّ منهما أو منها واجبا في ظرف عدم الآخر ، لأنّه مقتضى تبعيّة الوجوب للملاك ، فيكون وجوبهما أو وجوبها تخييريّا لا تعيينيّا ، إذ المفروض امتناع استيفاء كلا الملاكين أو أحدها ، وإمكان استيفاء أحدهما أو أحدها ، فيمتنع وجوب كلّ منهما أو منها تعيينا.

(٢) مغاير للوجوب التخييري العقلي المستفاد من قوله في الشقّ الأوّل : «ان كان الأمر بأحد الشيئين بملاك أنّه هناك غرض واحد ... إلخ» ، وللوجوب التعييني الموجب للجمع بينهما أو بينها عقلا. والوجه في عدم وجوب كلّ منهما أو منها تعيينا هو : توقّف الوجوب التعييني على ثبوت الغرض في كلّ منهما أو منها مطلقا ، والمفروض عدم ثبوته كذلك ، إذ الغرض يكون في كلّ منهما أو منها في ظرف عدم الآخر.

(٣) أي : عن هذا الطور من الوجوب ، فإنّ آثاره تدل عليه ، وتكشف عنه.

(٤) هذا أحد الآثار الدالّة على وجوب كلّ منهما أو منها بنحو من الوجوب ، وتقريبه : أنّ عدم جواز الترك لا إلى بدل لا معنى له إلّا الوجوب.

(٥) هذا ثاني الآثار الكاشفة عن وجوب كلّ منهما ، وحاصله : أنّ ترتّب الثواب على فعل واحد منهما كاشف إنّا عن الوجوب ، لأنّ الثواب مترتّب على إطاعة الحكم الوجوبيّ. هذا إذا أتي بواحد من الفعلين.

وأمّا إذا أتى بكليهما ، فعلى القول بوجوب كلّ منهما في ظرف عدم الآخر

٥٥١

الثواب على فعل الواحد منهما ، والعقاب على تركهما (١) ، فلا وجه في مثله (٢) للقول بكون الواجب هو (*) أحدهما لا بعينه مصداقا ولا مفهوما ، كما هو

______________________________________________________

ينبغي الالتزام بعدم ترتّب الثواب أصلا ، لعدم وجوب شيء منهما حينئذ ، إذ المفروض مطلوبيّة كلّ منهما في ظرف عدم الآخر ، وهذا القيد مفقود في حال الجمع بينهما.

وعلى القول بكون الواجب خصوص ما يقوم به الغرض ـ سابقا كان أو لا حقا ـ يترتّب الثواب على خصوص ما يترتّب عليه الغرض ، دون الآخر.

(١) هذا ثالث الآثار الدالّة على وجوب كلّ من الفعلين ، ببيان : أنّ تعدّد العقاب يكشف عن وجوب كلّ منهما. والوجه في تعدّده : تفويت كل واحد من الغرضين بسوء الاختيار. وأما وحدة العقاب على التركين ، فلا تدل على وجوبهما.

(٢) أي : في مثل ما يكون التكليف متعلّقا بكلّ واحد من الشيئين بملاك مستقل.

وغرضه من قوله : «فلا وجه في مثله ... إلخ» تزييف الأقوال المبنية على تعدّد الملاك.

وأما القول بكون الواجب أحدهما لا بعينه ، فلما فيه : من أنّ مفهومه لا ينطبق على الخارج ، فيمتنع جعله متعلّقا للتكليف والبعث ، لوضوح قيام المصالح والملاكات الداعية إلى التشريع بالوجودات الخارجيّة.

ومنه يظهر : امتناع جعل الواجب مصداق أحدهما لا بعينه أيضا ، إذ لا مصداق له ، ضرورة كون الفرد الخارجي معيّنا ، لا مردّدا حتى يكون مصداقا للواحد لا بعينه ، فلا يصح جعل مصداق الواحد لا بعينه موضوعا للغرض الداعي إلى الطلب والبعث.

__________________

(*) فإنّه وإن كان ممّا يصح أن يتعلّق به بعض الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة ـ كالعلم ـ فضلا عن الصفات الاعتباريّة المحضة ، كالوجوب ، والحرمة ، وغيرهما ممّا كان من خارج المحمول الّذي ليس بحذائه في الخارج شيء غير ما هو منشأ انتزاعه ، إلّا أنّه لا يكاد يصح البعث حقيقة إليه ، والتحريك نحوه ، كما لا يكاد يتحقّق الداعي لإرادته ، والعزم عليه ما لم يكن مائلا إلى إرادة الجامع ، والتحرّك نحوه ، فتأمّل جيّدا.

٥٥٢

واضح (١). إلّا أن يرجع إلى ما ذكرنا (٢) فيما إذا كان الأمر بأحدهما بالملاك الأوّل من (٣) أنّ الواجب هو الواحد الجامع بينهما. ولا أحدهما معيّنا (٤) مع كون كلّ منهما مثل الآخر (٥) في أنّه واف بالغرض ، ولا (٦) كلّ واحد منهما

______________________________________________________

(١) لما عرفت آنفا : من امتناع تعلّق الطلب بالمفهوم والمصداق.

(٢) لمّا كان القول بوجوب أحدهما لا بعينه واضح الفساد ، صار بصدد توجيهه بإرجاعه إلى ما ذكره : من أنّ الواجب هو الجامع بينهما فيما إذا كان الملاك واحدا.

(٣) بيان ل ـ ما ـ الموصولة في قوله : «ما ذكرنا».

(٤) وأمّا القول بكون الواجب أحدهما المعيّن ـ وهو الّذي أشار إليه بقوله : «ولا أحدهما معيّنا» ـ فلما فيه : من أنّ إيجاب أحدهما معيّنا مع وفاء كلّ منهما بغرض يصلح لتشريع إيجابه يكون ترجيحا بلا مرجح ، فقوله : «ولا أحدهما» معطوف على قوله : «أحدهما لا بعينه» ، يعني : ولا وجه للقول بكون الواجب أحدهما معيّنا.

(٥) هذا إشارة إلى وجه الضعف ، وهو : لزوم الترجيح بلا مرجح ، وبيان لقوله : «فلا وجه» ، وقد عرفت تقريبه آنفا.

(٦) وأمّا القول بكون الواجب كلّ واحد منهما تعيينا مع السقوط بفعل أحدهما ـ وهو الّذي أشار إليه بقوله : «ولا كلّ واحد منهما تعيينا» ـ فلما فيه : من أنّه مع إمكان استيفاء غرض كلّ واحد من الشيئين أو الأشياء لا وجه للسقوط بفعل واحد منهما ، إذ المفروض عدم التّضاد بين الغرضين ، وكون كلّ منهما لازم الاستيفاء ، وإلّا لم يكن داع إلى إيجاب ما يقوم به. ومع عدم إمكان استيفائه لا وجه لإيجاب كلّ من الشيئين تعيينا ، لعدم القدرة عليه الموجب لقبح الإيجاب.

والحاصل : أنّه مع إمكان الاستيفاء لا وجه للسقوط ، ومع عدمه لا وجه لإيجاب كلّ واحد منهما تعيينا ، كما هو واضح. وقوله : «ولا كل واحد منهما تعيينا» معطوف أيضا على قوله : «أحدهما لا بعينه» ، يعني : ولا وجه للقول بكون الواجب كل واحد منهما معيّنا مع السقوط بفعل أحدهما.

٥٥٣

تعيينا مع السقوط بفعل أحدهما ، بداهة (١) عدم السقوط مع إمكان استيفاء ما في كلّ منهما من الغرض ، وعدم (٢) جواز الإيجاب كذلك (٣) مع عدم إمكانه (٤) ، فتدبّر (٥)

بقي الكلام في أنّه هل يمكن التخيير عقلا (٦) أو شرعا (٧) بين الأقلّ والأكثر ، أو لا؟ ربما يقال : «بأنّه محال ، فإنّ (٨) الأقل إذا وجد كان هو الواجب لا محالة ولو كان في ضمن الأكثر ، لحصول (٩) الغرض به ، وكان الزائد عليه (١٠)

______________________________________________________

(١) هذا بيان عدم الوجه لوجوب كلّ منهما معيّنا ، وقد مرّ توضيحه بقولنا : «فلما فيه من أنّه مع إمكان استيفاء ... إلخ».

(٢) معطوف على «عدم السقوط» أي : بداهة عدم جواز الإيجاب.

(٣) أي : تعيينا.

(٤) أي : إمكان الاستيفاء.

(٥) لعلّه إشارة إلى : أنّ مرجع هذا القول إلى الوجوبين التعيينيّين المشروط كلّ منهما بترك الآخر ، فكلاهما واجبان تعيينيّان مشروطا وجوب كلّ منهما بترك الآخر.

(٦) كما في الصورة الأولى ، وهي : وحدة الغرض ، وكون متعلق الوجوب الجامع بين الفعلين ، فإنّ التخيير فيها عقليّ ، كما تقدم.

(٧) كما هو مقتضى تعدّد الملاك على بعض الأقوال المتقدّمة.

(٨) هذا تقريب وجه الاستحالة ، وحاصله : أنّ الأقلّ يوجد لا محالة قبل وجود الأكثر ، ولوفائه بالغرض ينطبق عليه الواجب ، ويسقط به الأمر ، فلا يكون الزائد على الأقل من أجزاء الواجب ، فلا يتصف الأكثر بالوجوب أصلا ، مع أنّ قضيّة الوجوب التخييري بين الأقل والأكثر هي اتصاف الأكثر بالوجوب أيضا.

(٩) تعليل لكون الواجب هو الأقل ، تقريبه : أنّ الوجوب تابع لما في متعلّقه من الغرض ، فإذا فرض حصوله بالأقل ، فلا محالة يكون هو الواجب.

(١٠) هذا الضمير ، وضمير ـ به ـ راجعان إلى الأقل.

٥٥٤

من أجزاء الأكثر زائدا على الواجب (١)» ، لكنه ليس كذلك ، فإنّه (٢) إذا فرض أنّ المحصّل للغرض فيما إذا وجد الأكثر هو الأكثر ، لا الأقلّ الّذي في ضمنه (٣) بمعنى (٤) أن يكون لجميع أجزائه حينئذ (٥) دخل في حصوله (٦) وإن كان الأقل لو لم يكن في ضمنه (٧) كان وافيا به (٨) أيضا (٩) ، فلا محيص (١٠) عن التخيير

______________________________________________________

(١) وهو الأقل ، والغرض من قوله : «زائدا على الواجب» أنّ الزائد على الأقل المفروض وجوبه ليس جزءا من الواجب ، حتى يقال : إنّ الواجب تمام الأكثر ، كما هو معنى التخيير بين الأقل والأكثر.

(٢) هذا تقريب عدم استحالة التخيير بين الأقل والأكثر ، وتوضيحه : مغايرة الأقل للأكثر ، لكون الأكثر مشروطا بشيء ـ وهو الزيادة ـ والأقل مشروطا بعدمها ، فيرجع التخيير بينهما إلى التخيير بين المتباينين ، لتباين الماهيّة بشرط لا للماهيّة بشرط شيء ، فلا يمتنع التخيير بين الأقل والأكثر.

(٣) يفهم من هذه العبارة : كون الأكثر القائم به الغرض هو الأقل المشروط بانضمام الأكثر إليه ، لا ذات الأقل الموجود في ضمن الأكثر.

(٤) هذا تفسير لمحصّليّة الأكثر للغرض ، فإنّ الأكثر إذا كان محصّلا للغرض فلا محالة تتصف جميع أجزائه بالوجوب ، إذ المفروض دخل جميعها في الغرض الداعي إلى التشريع ، وهذا معنى وجوب الأكثر.

(٥) أي : حين محصّليّة الأكثر للغرض.

(٦) أي : حصول الغرض.

(٧) أي : في ضمن الأكثر ، يعني : وإن كان الأقل في صورة كونه بشرط لا عن الأكثر وافيا بالغرض أيضا.

ومن هنا يظهر : إناطة محصّليّة الأقل للغرض ، بأن يكون بشرط لا عن الأكثر.

(٨) أي : بالغرض.

(٩) أي : كوفاء الأكثر بالغرض.

(١٠) هذا جواب قوله : «إذا فرض».

٥٥٥

بينهما (*) ، إذ تخصيص الأقلّ بالوجوب حينئذ كان بلا مخصّص (١) ، فإنّ

______________________________________________________

(١) أي : بلا وجه صحيح ، إذ المفروض وفاء كلّ من الأقلّ والأكثر بالغرض ، فيكون تخصيص الوجوب حينئذ بالأقل بلا وجه.

__________________

(*) نعم هذا التخيير وإن كان صحيحا ، لكنّه أجنبي عن التخيير المبحوث عنه ، وهو الأقل والأكثر ، ومندرج في التخيير بين المتباينين ، لمباينة الماهيّة بشرط شيء للماهيّة بشرط لا.

ولازم هذا الكلام من المصنف (قده) الاعتراف بما ذكره بقوله : «ربما يقال : بأنه محال ... إلخ» من الاستحالة ، وعدم معقوليّة التخيير بين الأقل والأكثر ، ضرورة أنّ الأقل بشرط لا يباين الأكثر الّذي هو الأقل بشرط شيء ، فيخرجان عن الأقل والأكثر ، ويندرجان في المتباينين ، فأخرج التخيير بينهما عن التخيير بين الأقل والأكثر ، وأدرجه في التخيير بين المتباينين.

وهذا إخراج موضوعي خارج عن محل البحث. ومع ذلك لا يجدي ، لأنّ التباين الناشئ عن جعل شيء بشرط لا وبشرط شيء عقليّ ، لا خارجي ، ولا يرتفع الإشكال إلّا بالتباين الخارجي.

ومع الغض عن ذلك لم يثبت أولويّة التصرف في الأدلّة التي ظاهرها التخيير كذلك بتقييد الأقل «بشرط لا» من التصرّف في الهيئة في جانب الأكثر بحمل أمره على الاستحباب.

لكن التصرّف في الهيئة لا يلائم جميع الموارد ، فإنّه لا يظن من أحد أن يلتزم باستحباب الرّكعتين الأخيرتين في الصلوات الرباعيّة في مواطن التخيير ، لأنّه بعد التسليم على الأوليين يسقط الأمر ، ضرورة أنّ الأقل فرد للطبيعة المأمور بها ، والمفروض وفاؤه بالغرض كوفاء الأكثر به ، فلو فرض حينئذ استحباب الرّكعتين الأخيرتين

٥٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

كانتا صلاة مستقلّة مندوبة بأمر على حدة ، إذ المفروض سقوط الأمر الوجوبيّ المتعلّق بالطبيعة ، فلا يصدق الأكثر على الأخيرتين. وقبل التسليم لا يسقط الأمر ، لعدم فرديّة ذات الأقل للطبيعي المأمور به ، بداهة توقّف فرديّته له على التسليم ، فيكون الأكثر بتمامه متّصفا بالوجوب.

فحمل الأمر بالأكثر على الندب لا يطّرد في جميع الموارد ، بل فيما إذا كان ذات الأقل فردا للطبيعيّ المأمور به ، كالتسبيحة الواحدة ، فإنّها بنفسها مصداق لطبيعة التسبيحة ، فالأمر بالأكثر حينئذ لا بدّ من أن يحمل على الندب ، لدلالة الاقتضاء على ذلك ، ضرورة أنّه بعد فرديّة الأقل للطبيعة يسقط الأمر الوجوبيّ لا محالة ، وعليه : فلو لم يحمل الأمر بالأكثر على الندب يلزم لغويّته.

فالمتحصل : أنّ مورد حمل الأمر بالأكثر على الاستحباب إنّما هو فيما إذا كان الأقلّ بنفسه فردا للطبيعة ، حيث إنّ الأمر بالأكثر لو لم يحمل على الندب لزم أن يكون لغوا ، لأنّ التسبيحة الواحدة بنفسها فرد لطبيعة التسبيحة ، ووافية بالغرض المترتّب على صرف الوجود من الطبيعة الّذي هو المطلوب ، فيسقط أمرها الوجوبيّ ، فلا محيص حينئذ عن حمل الأمر بالزائد عليها على الاستحباب.

وأمّا إذا لم يكن الأقل بذاته مصداقا للطبيعة ، بأن كانت فرديّته لها منوطة بمئونة زائدة ، كتوقّف فرديّة الرّكعتين الأوليين لطبيعة الصلاة المأمور بها على التسليم في الثانية ، فيصح حينئذ أن يقال بالتخيير بين الأقل والأكثر ، فإن أتى بالتسليم سقط الأمر الوجوبيّ ، لوجود الأقل المنطبق عليه الواجب ، ولا مجال لاستحباب الأكثر حينئذ إلّا مع نهوض دليل خاص عليه ، وإن لم يأت به ، فالواجب تعيينا هو الأكثر.

٥٥٧

الأكثر بحدّه يكون مثله (١) على الفرض (٢) ، مثل (٣) أن يكون الغرض الحاصل من رسم الخطّ مترتّبا على الطويل إذا رسم بما له من الحدّ ، لا على القصير في ضمنه ، ومعه (٤) كيف يجوز تخصيصه بما لا يعمّه. ومن الواضح : كون هذا الفرض (٥) بمكان من الإمكان.

إن قلت (٦) : هبه في مثل ما إذا كان للأكثر وجود واحد لم يكن للأقلّ في

______________________________________________________

(١) أي : مثل الأقل في الوفاء بالغرض.

(٢) وهو : فرض التخيير بين الأقل والأكثر.

(٣) هذا مثال لقيام الغرض بالأكثر ، لا الأقل المتحقق في ضمنه وإن فرض كونه محصّلا للغرض إذا رسم بحدّه.

توضيحه : أنّه إذا أمر المولى برسم خطّ طويل دفعة بدون تخلّل سكون في البين ، فلا يحصل غرضه بالخطّ القصير المتحقّق في ضمنه وإن فرض حصوله به إذا رسم بحدّه.

(٤) أي : ومع حصول الغرض بالأكثر كيف يجوز تخصيص الوجوب بما لا يعم الأكثر؟ وهو الأقل ، وعليه : فيكون الأكثر أيضا عدلا للواجب التخييري.

(٥) أي : فرض دخل الأكثر في الغرض بحيث يتقوّم به المأمور به ، فإنّ هذا الفرض بمكان من الإمكان.

والحاصل : أنّه مع إمكان استيفاء الغرض بما هو بشرط شيء ، وبما هو بشرط لا لا بدّ من وجوب أحدهما تخييرا ، إذ الإيجاب التعييني حينئذ ترجيح بلا مرجح.

(٦) حاصل هذا الإشكال : أنّ محصّلية الأكثر للغرض الداعي إلى وجوبه تختص ببعض موارد الأقل والأكثر ، وهو : ما إذا وجد الأكثر دفعة ، بحيث لا يكون للأقل في ضمنه وجود مستقل ، كالخط الطويل المتحقق دفعة ، فإنّه ليس للخط القصير الموجود في ضمنه وجود كذلك. دون ما إذا كان للأقل وجود على حدة قبل تحقّق ، الأكثر كالتسبيحة ، فإنّها توجد بوجود مستقل قبل حصول التسبيحتين الأخيرتين ، فلا وجه حينئذ لوجوب التسبيحات الثلاث ، إذ المفروض فرديّة الأقل ـ أعني التسبيحة الواحدة ـ

٥٥٨

ضمنه (١) وجود على حدة ، كالخطّ الطويل الّذي رسم دفعة بلا تخلّل سكون في البين ، لكنّه ممنوع فيما كان له في ضمنه وجود ، كتسبيحة في ضمن تسبيحات ثلاث ، أو خطّ طويل رسم مع تخلّل العدم في رسمه ، فإنّ الأقلّ قد وجد بحدّه (٢) ، وبه يحصل الغرض على الفرض (٣) ، ومعه (٤) لا محالة يكون الزائد عليه ممّا لا دخل له في حصوله ، فيكون زائدا على الواجب ، لا من أجزائه (٥).

قلت (٦) :

______________________________________________________

للطبيعي المأمور به ، ووفاؤه بالغرض.

فالمتحصل : أنّه لا يتصوّر التخيير بين الأقل والأكثر مطلقا ، إذ في صورة دفعيّة الأكثر يتعيّن هو في الوجوب ، وفي صورة تدريجيّته يتعيّن الأقل في الوجوب ، لفرديّته للمأمور به ، ووفائه بالغرض الداعي إلى تشريع الوجوب.

(١) أي : ضمن الأكثر ، مقصوده : أنّ محصّليّة الأكثر للغرض إنّما هي مختصّة بما إذا لم يكن الأكثر عبارة عن وجودات متعدّدة متباينة ، لأنّ الواجب يصدق حينئذ على الأقل الّذي له وجود خاص ، فيسقط به الأمر.

(٢) يعني : فيكون فردا للمأمور به وافيا بالغرض ، فيسقط الأمر.

(٣) وهو : وجوب الأقل تخييرا.

(٤) أي : ومع حصول الغرض بالأقل المفروض وجوبه تخييرا ، لا محالة يكون الزائد على الأقل ممّا لا دخل له في حصول الغرض الداعي إلى الإيجاب ، فيكون زائدا على الواجب ، لا من أجزائه ، لفرض تحقّق الواجب بالأقل.

(٥) أي : من أجزاء الواجب حتى يكون الأكثر هو الواجب.

(٦) هذا دفع الإشكال ، وحاصله : أنّ مجرّد دفعيّة الوجود وتدريجيّته ليس مناطا في اتّصاف الأكثر بالوجوب ، وعدمه ، حتى يقال : إنّ الأكثر لا يتصف بالوجوب إلّا إذا لم يكن للأقل وجود مستقل ، كتسبيحة في ضمن التسبيحات. بل المناط في ذلك هو : اشتراط محصّليّة شيء للغرض بوجود أمر ، أو بعدمه ، فإن كان مشروطا

٥٥٩

لا يكاد يختلف الحال بذلك (١) ، فإنّه (٢) مع الفرض (٣) لا يكاد يترتب الغرض على الأقلّ في ضمن الأكثر ، وإنّما يترتّب عليه بشرط عدم الانضمام (٤) ، ومعه كان مترتّبا على الأكثر بالتّمام (٥).

وبالجملة : إذا كان كلّ واحد من الأقل والأكثر بحدّه (٦) ممّا يترتّب عليه الغرض ، فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما ، وكان التخيير بينهما عقليا إن كان هناك غرض واحد ، وتخييرا شرعيّا فيما كان هناك غرضان ، على ما عرفت (٧).

نعم (٨) لو كان الغرض مترتّبا على الأقلّ من دون دخل للزائد ، لما كان

______________________________________________________

بالانضمام فهو الأكثر وإن وجد تدريجا ، وإن كان مشروطا بعدمه ، فهو الأقل كذلك.

(١) أي : بحسب تدريجيّة الوجود ودفعيّته.

(٢) هذا تقريب لعدم اختلاف الحال بالدفعيّة والتدريجيّة.

(٣) أي : الفرض المذكور سابقا : من إمكان تحصيل الغرض إمّا بما هو مشروط بشيء وهو الأكثر ، وإمّا بما هو مشروط بشرط لا ـ وهو الأقل ـ لا يكاد يترتب الغرض ... إلخ.

(٤) حتى يكون الواجب هو الأقل.

(٥) يعني : بجميع أجزائه ، ليكون الواجب المحصّل للغرض هو الأكثر ، لا الأقل المندرج فيه.

(٦) فإنّ حدّ الأقل هو وجوده مجرّدا عن الانضمام ، وحدّ الأكثر خلافه.

(٧) من الأمر بأحد شيئين أو أشياء إن كان بملاك واحد ، فالتخيير بينهما أو بينها عقليّ. وإن كان بملاكين أو ملاكات ، فالتخيير بينهما أو بينها شرعي.

(٨) استدراك من التخيير بين الأقل والأكثر ، وحاصله : أنّه لا مجال للتخيير بينهما فيما إذا ترتّب الغرض على الأقل مطلقا ، من غير فرق بين انضمام الأكثر إليه ،

٥٦٠