منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٥٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

غير الموقت مع وجوب الفور فيه.

الثالث : أن مجرد بقاء شيء من الملاك لا يستلزم التشريع.

الرابع : أن الاضطرار ليس منوِّعاً كالسفر.

الخامس : أن مورد الإجزاء هو الاضطرار المستوعب ، إلّا إذا قام دليل خاص على الإجزاء في غيره ، ومقتضاه حينئذٍ كفاية الاضطرار غير المستوعب في التنزل عن المبدل الاختياري إلى البدل إلى البدل الاضطراري.

السادس : عدم جواز البدار مع عدم العلم بارتفاع الاضطرار في الوقت ، وإناطة جوازه بالعلم بعدم ارتفاعه فيه ، إلّا في موارد التقية ، فإنّ مقتضى إطلاق أدلتها ، وكذا ما دل على الحث عليها والمداراة معهم هو جواز البدار ، فلاحظ النصوص الواردة في التقية.

السابع : أنّ الإجزاء لا يحتاج إلى دليل ، بل يكفي فيه كون المأمور به الاضطراري تمام الوظيفة ، وهذا يثبت بحكومة دليل الاضطراري على دليل الاختياري فتدبر.

خاتمة

لا يخفى أنّه لمّا كانت مسألة الحج مع العامة تقية من صغريات المأمور به الاضطراري مع كونها من المسائل الابتلائية أحببت أن أتعرض لها تزييناً للكتاب بفرع من فروع علم الفقه الشريف سائلاً منه سبحانه وتعالى التوفيق لتنقيحها ، وتحقيق ما هو الحق فيها ، فنقول وبه نستعين : ينبغي قبل الخوض في المقصود تقديم أُمور :

الأول : أنّ كلًّا من الجزء والشرط يتصور ثبوتاً على نحوين :

أحدهما : أن يكونا مطلقين بمعنى دخلهما في جميع الحالات بحيث يوجب

٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

تعذره سقوط الأمر بالمركّب أو المشروط ، لدخله في قوام ماهية المركّب أو المشروط كقصد القربة في العبادة ، فلا تجري قاعدة الميسور في العبادة التي تعذّر فيها مقوِّمها وهو قصد القربة ، لإناطة جريانها بصدق الميسور عرفاً على الباقي ، ولا يصدق عليه إذا كان المعسور مقوِّماً للماهية ، كما هو واضح.

ثانيهما : أن يكونا مقيّدين بحال التمكن ، وهذا القسم ليس دخيلاً في قوام الماهية ، فتجري فيه قاعدة الميسور ، ولعل وجه عدم العمل بعموم هذه القاعدة وإناطة جريانها في كل مورد بعمل المشهور هو : أنّ عملهم بها في مورد كاشف عن عدم كون المعسور فيه مقوِّماً للماهيّة ، كما أنّ عدم عملهم بها في بعض الموارد يكشف عن كون المعسور فيه مقوِّماً لها ، فعملهم بها في مورد وعدم عملهم بها في آخر كالدليل على أنّ المعسور غير مقوِّم للماهية في الأول ، فتجري فيه القاعدة ، ومقوِّم لها في الثاني ، فلا تجري فيه.

هذا بحسب مرحلة الثبوت ، وأمّا مقام الإثبات فمقتضى إطلاق الدليل هو الجزئية أو الشرطية المطلقة المعبر عنها بالركنية ، فتعذره يوجب خروج فاقده عن مصاديق الطبيعي المأمور به المستلزم لعدم الإجزاءِ ، إذ لا موجب له بعد فرض عدم انطباق المأمور به عليه. هذا إذا كان للدليل إطلاق ، وإلّا كما إذا كان لُبيّا ، فالمرجع الأصل العملي المقتضي لعدم الجزئية أو الشرطية في حال التعذر ، لكون الشك حينئذٍ في ثبوت الحكم لا سقوطه حتى تجري فيه قاعدة الاشتغال ، كما لا يخفى.

الثاني : أنّ إطلاق دليل الحكم لكل من الوضعي والتكليفي محكّم. أما إذا كان أحدهما مسبباً عن الآخر ، كمانعيّة لبس الحرير للرجال في الصلاة ، حيث إنّها مترتبة ظاهراً على حرمة لبسه لهم ، ولذا ترتفع بارتفاع حرمته لضرورة من برد ، أو مرض ، أو حرب ، أو غير ذلك ، إذ لو كانا معلولين لعلة ثالثة لم يكن ارتفاع أحدهما موجباً لارتفاع الآخر ، كما هو واضح ، قال في العروة في شرائط لباس المصلّي :

٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

«المسألة ـ ٣٨ ـ إذا انحصر ثوبه في الحرير ، فان كان مضطراً إلى لبسه لبرد أو غيره فلا بأس بالصلاة فيه» ، أو العكس وهو ترتب التكليف كوجوب الوفاء بالعقد على الوضع كالملكية الحاصلة بالعقد فواضح لكون دليل العلة دليل المعلول ، وبالعكس وهو أقوى من دلالة أحد المتلازمين على الآخر.

وأما إذا لم يكن أحدهما مترتباً على الآخر ، فلعدم مانع من الإطلاق بعد وجود جامع بين الحكمين ، فإنّ المنع لو وجد لشمل كلًّا من التكليفي والوضعي كشمول الجواز والحِلّ لكليهما أيضا ، فإنّ الحِلّ يتعلق بفعل المكلف سواء أكان تصرفاً خارجياً كالأكل والشرب واللبس ، أم اعتبارياً كالبيع ونحوه ، فمعنى حلية الفعل مطلقاً هو عدم المنع عنه ، فكما لا مانع عن حِلّه تكليفاً فكذلك لا مانع عن حِلّه وضعاً ، ولذا يصح التمسك بمثل قوله تعالى : «أحل الله البيع» ، وقوله صلوات الله وسلامه عليه :

«الصلح جائز بين المسلمين» لنفي ما شك في شرطيته شرعاً مع كون الشرطية حكماً وضعياً ، فلا ظهور في الحلية والجواز في خصوص الحلية التكليفية.

وبالجملة : فإطلاق دليل الحكم لكل من التكليفي والوضعي محكّم ما لم تقم قرينة على الاختصاص بأحدهما ، كما هو ظاهر.

الثالث : أنّ الإجزاء الموجب لسقوط الأمر إمّا مترتب على كون المأتي به مصداقاً حقيقياً للطبيعي المأمور به وهو واضح ، وإمّا مترتب على كون المأتي به فرداً ادعائياً له بجعل الشارع كالأبدال الاضطرارية من الصلوات العذرية ، والوضوءات الجبيرية وغيرهما ، فينتفي الإجزاء بانتفائهما ، ومع الشك في جعل الشارع فرديته للمأمور به يرجع إلى قاعدة الاشتغال ، لكون الشك في وادي الفراغ ، ومقتضى الشغل اليقيني لزوم تحصيل الفراغ القطعي ، كما لا يخفى.

الرابع : أنّ التقية في الجملة من العناوين الثانوية كالنذر ، والشرط ، والضرر

٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والحرج وغيرها الحاكمة على أدلة أحكام العناوين الأوّلية سواء أكانت تلك الأحكام استقلالية كحُرمة شرب الخمر ، وحرمة التصرف في مال الغير ، أم ضمنية كالجزئية أم غيرية كالشرطية والمانعية ، وسواء أكان الجزء أو الشرط ممّا له دخل مطلق وهو المسمّى بالركن أم لا ، ولحكومتها على تلك الأدلة يحكم بصحة صلاة من يسجد تقية على ما لا يصح السجود عليه عندنا ، مع أنّ السجدتين من كل ركعة ركن ، ومقتضى الركنية بطلان الصلاة بتركه ، أو بالإتيان به فاسداً ، وكذا يحكم بصحة صلاة من توضأ تقية بالنبيذ ، أو مسح كذلك على الخفين ، مع أنّ الطهارة الحدثية من الخمسة التي تعاد الصلاة منها ، إلى غير ذلك من موارد ترك الركن فيها تقية ، فلاحظ.

الخامس : أنّ التقية وإن كان لها إضافات عديدة بالنسبة إلى المتقي ، والمتّقى منه ، والمتّقى به ، لكنها تنقسم بحسب ذاتها إلى قسمين : أحدهما : التقية الخوفية سواء أكان الخوف على النّفس ، أم العرض ، أم المال ، وسواء أكان ذلك على نفس المتّقي أم غيره من أهله ، أو إخوانه المؤمنين ، وسواء أكان الضرر الّذي يخاف منه عاجلاً أم آجلا ، لإطلاق الضرورة والخوف الواردين في أخبار التقية.

ثانيهما : التقية المداراتية (هذا هو المنضبط في كلماتهم ، لكن الأولى ـ المدارية ـ ، لسقوط التاء في النسبة كالمكي والجهيني ونظائرهما ، لكن قيل : غلط مشهور خير من صحيح مهجور ، فتدبر) التي شرعت لجلب المحبة وتأليف القلوب وتوحيد الكلمة ، ومورد البحث في مسألة الحج مع العامة هو القسم الأوّل. إذا عرفت هذه المقدمات ، فاعلم : أنّ الكلام يقع في مقامين : الأوّل : في الدليل الاجتهادي ، والثاني في الأصل العملي.

أما المقام الأول ففيه مبحثان :

الأول : في الأدلة العامة ، والثاني في الأدلة الخاصة.

٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

______________________________________________________

أما المبحث الأوّل ، فحاصله : أنّ ما استدل أو يمكن أن يستدل به على صحة الحج مع العامة في التقية الخوفية وجوه : أحدها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث رفع التسعة عن الأُمة : «وما اضطروا إليه» (١) بتقريب : أنّ الاضطرار إلى ترك الشرط الّذي هو يوم عرفة ، وإيجاد الوقوف في غيره كيوم التروية يرفع شرطية يوم عرفة للوقوف بالنسبة إلى المتّقي الّذي هو من مصاديق المضطر ، فيصير الوقوف للمتّقي مطلقاً غير مشروط بيوم عرفة ، ومقتضى سقوط الشرطية هو الإجزاء ، وعدم وجوب الإعادة ، هذا.

وأورد عليه تارة بأنّ الاضطرار إلى فعل شيءٍ أو تركه لا يقيِّد الواقع حتى يكون المضطر إليه مأموراً به في قبال الواقع كالصلاة السفرية التي هي مأمور بها كالحضرية ، والمفروض أنّ الإجزاء مترتب على التقييد الّذي هو أجنبي عن الاضطرار ، لأنّ شأنه رفع الخطاب بمناط قبح مطالبة العاجز مع بقاء المصلحة الواقعية على حالها ، فلا موجب للاجزاء.

وأخرى : بأنّه بعد تسليم التقييد يختص ذلك بالأجزاء والشروط المقيدة بحال التمكن ، لأنّ ما ثبت دخله المطلق حتى في حال العجز عنه يكون سقوطه موجباً لانتفاء الحكم عن المركّب والمشروط ، والمفروض أنّ للوقت شرطية مطلقة للوقوف ، لما دلّ من النص والإجماع على فوات الحج بعدم إدراك الوقوفين في وقتهما ، فلا مجال للتشبث بحديث الرفع لإجزاء الحج مع العامة ، بل عليه الإعادة في القابل إن بقيت استطاعته إليه أو استطاع سابقاً ، وان كانت استطاعته في هذا العام كشف ذلك عن عدم تشريع وجوب الحج عليه فيه.

وثالثة : بما عن المحقق النائيني (قده) من اختصاص الحديث بالوجوديات ، لأنّ شأنه رفع الموجود اضطراراً أو إكراهاً ، وتنزيله في صقع التشريع منزلة المعدوم ، فالتكتف الواقع في الصلاة تقية ، أو تناول المفطر نسياناً ، أو إكراهاً في الصوم معدوم

__________________

(١) رواه الصدوق في باب التسعة من الخصال ، الحديث ـ ٩ ـ.

٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

شرعاً أي لا حكم له ، فالمانعية الثابتة للتكتف ونحوه في الصلاة ، وكذا الإفطار للصوم مرفوعة في حال الاضطرار ، فالحديث ينزِّل التكتف مثلاً منزلة عدمه في عدم تأثيره في بطلان الصلاة ، وليس شأن الحديث تنزيل المعدوم منزلة الموجود كالمقام ، إذ المفروض كون المضطرّ إليه هو ترك الشرط لا فعله ، فلا ينزل الحديث عدم الوقوف في يوم عرفة منزلة وجوده فيه ، لعدم شمول الرفع للعدميات حتى يستدل به في المقام للإجزاء ، ولذا لا يمكن تصحيح الصلاة الفاقدة لجزء أو شرط نسياناً أو اضطراراً بحديث الرفع بوجه ، ضرورة أنّ جريانه في نسيان السورة مثلا يكون من تنزيل المعدوم منزلة الموجود وهو خلاف ما يقتضيه الحديث من الرفع الّذي مرجعه تنزيل الموجود منزلة المعدوم.

وجريانه في المركّب من السورة وغيرها أعني الصلاة الفاقدة للسورة نسياناً يقتضي تنزيل الموجود وهو الصلاة منزلة المعدوم ، ولازمه الوضع وهو إعادة الصلاة ، ومن المعلوم أنّ شأن الحديث الرفع ، لا الوضع ، مع أنّه لا خلاف الامتنان. وجريانه في نفس الجزئية أو الشرطية في غير محله ، لعدم تعلق النسيان بها كما هو واضح.

وأنت خبير بما في الجميع :

إذ في الأول : أنّ الرفع في الكل إلّا فيما لا يعلمون ، بل فيه أيضا على وجه بوزان واحد ، ومن المعلوم أنّ الرفع فيها واقعي ، فالشرطية في حال الاضطرار مرفوعة واقعاً ، ولازمه الاجزاء ، لصيرورة الفاقد للشرط اضطراراً مأموراً به واقعاً ، فيكون مجزياً. ولا يرد عليه : أنّ لازمه جواز القضاء على حذوِ المضطرّ إليه ، لأنّه فات كذلك كما هو شأن موضوعية العنوان كالمسافر والحاضر ، وذلك لإمكان انحصار المصلحة الاضطرارية بالوقت الأدائي الكاشف عنه وجوب القضاء على النحو الاختياري ، فلا وجه لرفع اليد عن الظهور السياقي في الرفع الواقعي كما لا يخفى.

وفي الثاني أنّ قضية حكومة حديث الرفع على أدلة الأجزاء والشرائط هو

٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ارتفاع شرطية الوقت للوقوفين في حال الاضطرار ، كارتفاع مانعية المسح على الخفين بأدلة التقية ، وما دلّ على فوت الحج بفوات الوقوفين محكوم بحديث الرفع ، لأنّه من أدلة شرطية الوقت للوقوفين ، فالاضطرار يرفع هذه الشرطية ، ومع الغض عن حكومة الحديث والبناء على التعارض يرجع في المجمع إلى أصالة عدم الشرطية كما لا يخفى.

وفي الثالث : أنّ للعناوين المذكورة في الحديث من الإكراه ، والاضطرار ، وغيرهما نحو تقرر وثبوت بحيث يصح إسناد الرفع التشريعي إليها ، بأن يقال : إنّ نفس عنوان الاضطرار مثلاً مرفوع في وعاء التشريع من دون نظر إلى المعنون من كونه وجودياً أو عدمياً ، فالعدمي ان كان ذا أثر شرعي يرتفع بالإكراه ، أو الاضطرار ، كما أنّ الوجوديّ كذلك ، فكما يجري حديث الرفع في الوجوديّ كالتكتف ونحوه من الموانع وينفى أثره وهو المانعية ، فكذلك يجري في العدمي كترك السورة ونحوها من الأجزاء والشرائط ، ويرفع أثر هذا الترك وهو البطلان ، فوزان ترك السورة مثلا اضطراراً من تقية أو غيرها وزان التكتف وقول آمين فيها ، كذلك في صحة إسناد الرفع إليهما ، وفي المقام كذلك ، فإنّ الاضطرار إلى ترك الوقوف في يوم عرفة يرفع أثره أعني البطلان ، فيقع الوقوف في غير يومها صحيحاً ، فلا يعاد.

والحاصل : أنّ حديث الرفع إنّما يرفع أثر المضطر إليه الثابت له لو لا الاضطرار سواء أكان نفس المضطر إليه وجودياً كالتكتف ، وقول آمين ، ونحوهما من الموانع ، أم عدمياً كترك جزء أو شرط ، وأثره المرفوع في الوجوديّ هو المانعية ، وفي العدمي هو نفي الجزئية أو الشرطية المقتضي للإجزاء ، وعدم وجوب الإعادة ، فالاضطرار إلى ترك الوقوف في يوم عرفة يرفع البطلان ، فلا يحتاج إلى إعادته في يومها ، فيثبت صحة الوقوف في غير يوم عرفة اضطراراً من دون توقفه على إثبات

٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الشرط ، وتنزيل المعدوم منزلة الموجود ، حتى يرد عليه : أنّ هذا وضع لا رفع ، وهو خلاف ما يقتضيه الحديث من الرفع وتنزيل الموجود منزلة المعدوم ، كما لا يخفى.

وبالجملة : فالإشكال على جريان الحديث في ترك الجزء أو الشرط من هذه الناحية مندفع.

نعم يمكن الإشكال على جريانه في تركهما من ناحية أُخرى ، وهي : أنّ الرفع لمّا كان تشريعياً ، فلا بد من وروده على ما يكون وضعه ورفعه بيد الشارع ، ومن المعلوم عدم أثر شرعي لترك الجزء أو الشرط حتى يرفعه حديث الرفع ، وإنّما أثره البطلان وهو عدم انطباق المأمور به على الفاقد للجزء أو الشرط ، وليس ذلك أثراً شرعياً ، وكذا وجوب الإعادة ، لأنّه حكم عقليّ مترتب على بقاء الأمر الأول الّذي لم يتحقق امتثاله بفاقد الجزء أو الشرط.

كما يُشكل أيضا جريان الحديث في الجزئية ، أو الشرطية ، أو منشئهما الّذي هو من الأحكام الشرعية التي تنالها يد التشريع.

تقريب الإشكال : أنّ المضطرّ إليه هو تركهما ، لا حكمهما حتى يُرفع بالاضطرار ، ولا أثر شرعياً للترك الّذي هو المضطر إليه حتى يرفعه الاضطرار ، فلا يصح أن يقال في ترك القراءة نسياناً أو اضطراراً : إنّ الجزئية مرفوعة ، لما عرفت من عدم ترتب أثر شرعي على نفس الترك الّذي هو مورد الاضطرار.

وعليه فحديث الرفع يجري في وجود المانع ويرفع أثره الشرعي وهو المانعية ، ولا يجري في ترك الجزء أو الشرط ، لعدم أثر شرعي للترك حتى يتعلق به الرفع ، فالتمسك بحديث الرفع لصحة الوقوف وإجزائه مع العامة في غير يوم عرفة غير سديد ، لأنّ المضطر إليه هو ترك شرط الوقوف ، وقد عرفت أنّه ليس لترك الجزء أو الشرط أثر شرعي حتى يرفعه حديث الرفع ، والله العالم.

٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

______________________________________________________

ثانيها : حسنة الفضلاء ، قالوا : «سمعنا أبا جعفر عليه‌السلام يقول : التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له» (١) بتقريب : أنّ الاضطرار رافع للمنع ، وموجب للحلية التي هي أعم من التكليفية والوضعيّة ، فكل تصرف ممنوع تكليفاً ووضعاً جائزٌ وحلالٌ عند الضرورة سواءٌ أكان ذلك التصرف خارجياً كالأكل ، والشرب ، واللبس ، أم اعتبارياً كالبيع ، والهبة ، وغيرهما ، لشيوع استعمال الحِلّ في كل من التكليفي والوضعي ، كقوله تعالى : «أحل الله البيع» ، و «أُحلت لكم بهيمة الأنعام» (٢) ، فإنّه لا إشكال في حليّة البيع وبهيمة الأنعام تكليفاً ووضعاً ، وكقوله صلوات الله عليه في حديث : «الصلح جائز بين المسلمين» (٣) إذ لا ينبغي الإشكال في شمول الجواز لكل من التكليفي والوضعي ، بل هو المراد أيضا في مثل قولهم عليهم‌السلام : «كل شيء لك حلال» ونحوه مما يدل على قاعدة الحل ، فالمائع المردد بين الخمر والخل ونحوه من الشبهات الموضوعية ، أو شرب التتن ونحوه من الشبهات الحكمية حلالٌ أي لا منع عن التصرف فيه بشربه ، أو بيعه ، أو غيرهما من أنحاء التصرفات الخارجية والاعتبارية.

وبالجملة : فلا ينبغي الإشكال في شمول الحل لكل من التكليفي والوضعي وتخصيصه بالتكليفي موقوف على قرينة ، وعليه (فشرب) الخمر ، والتكتف في

__________________

(١) الوسائل ج ١١ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الباب ٢٥ من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما الحديث ـ ٢ ـ ، رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن أذينة عن إسماعيل الجعفي ، ومعمر بن يحيى بن سالم ومحمد بن مسلم وزرارة ، وغير خفي على من راجع تراجم هؤلاء أنهم من الأجلة الذين يعتمد على رواياتهم ، فلاحظ.

(٢) سورة المائدة ، الآية ١.

(٣) الوسائل ج ١٣ كتاب الصلح الباب ٣ الحديث ٢ ص ١٦٤.

٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

______________________________________________________

الصلاة ، وقول : ـ آمين ـ ، ولبس الحرير ، والذهب ، وغير المأكول فيها ، والإفطار عند سقوط الشمس عن دائرة الأُفق ، والوقوف بعرفات والمشعر في غير وقتهما لأجل التقية التي هي من الضرورات (حلال) أي غير ممنوع شرعاً ، ومن المعلوم أنّ الحلّية في بعضها تكليفية كشرب الخمر ، وفي الباقي وضعية ، إذ حلّية التكتف ونحوه من الموانع يراد بها عدم المانعية التي هي من الأحكام الوضعيّة.

فحليّة الوقوف في غير وقته المجعول له أوّلاً عبارة عن جوازه أي عدم المنع عنه شرعاً ، وهو لازم سقوط شرطية يوم عرفة للوقوف في حال التقية ، وتنزيله منزلة الوقوف الواقع في وقته الأوّلي في كونه مصداقاً للوقوف المأمور به ، ومسقطاً للتكليف.

وبهذا البيان يندفع ما قد يتوهم من أنّ الإجزاء عقليٌّ ، فكيف يثبت بمثل قوله عليه‌السلام : «فقد أحلّه الله». توضيح الاندفاع : أنّ المراد بالحلية هو الجواز المترتب على رفع الشرطية ، وتنزيل فاقد الشرط منزلة واجده في كونه مصداقاً للطبيعي المأمور به ، فلا مجال للتوهم المزبور أصلاً.

ثالثها : صحيحة أبي الصبّاح الكناني ، قال : «والله لقد قال لي جعفر بن محمّد ـ عليهما‌السلام : انّ الله علّم نبيّه التنزيل والتأويل ، فعلّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علياً عليه‌السلام. قال : وعلمنا والله ، ثمّ قال : ما صنعتم من شيء أو حلفتم عليه من يمين في تقية فأنتم منه في سعة» (١) ، بتقريب : أنّ الإتيان بالمأمور به فاقداً لجزء ، أو شرط ، أو واجداً لمانع تقية كترك السورة في الصلاة ، أو الوقوف بعرفات في غير يوم عرفة ، أو الإتيان بالصلاة مع التكتف ، وكذا الحلف تقيّة كل ذلك يكون المكلّف منه في السعة المعلوم شمولها

__________________

(١) الوسائل ج ١٦ كتاب الايمان الباب ١٢ ص ١٣٤ الحديث ـ ٢ ـ رواه الكليني عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن سيف بن عميرة عن أبي الصباح ، وهؤلاء كلهم ثقات ، كما لا يخفى على من راجع تراجمهم.

٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

______________________________________________________

ـ خصوصاً بقرينة الحلف ـ للتكليف والوضع ، فإنّ السّعة ترفع الكفارة المترتبة على الحنث ، ومن البديهي كون شغل الذّمّة بالكفارة حكماً وضعيّاً ، لا تكليفياً.

وبالجملة : فوجوب إعادة المأتيِّ به الفاقد لجزء أو شرط أو الواجد لمانع لأجل التقية ضيق على المكلّف ، فلا بد من رفعه عنه بإطلاق السعة ، فوجوب إعادة الوقوف الواقع في غير وقته تقية ضيق على المكلف ، فهو مرفوع عنه ، ولازم رفعه عنه هو إجزاءُ ما أتى به من الوقوف في غير يوم عرفة.

رابعها : حسنة بل صحيحة هشام بن سالم قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول ما عبد الله بشيءٍ أحب إليه من الخباء ، قلت وما الخباء؟ قال : التقية» (١) تقريب الاستدلال بها : انّ أحبَّ العبادات هي العبادة الواقعة على وجه التقية ، ومن البديهي امتناع اجتماع الأحبية مع البطلان ، لكشف الفساد عن عدم المحبوبية ، والمفروض كون العبادة المتّقى بها أحبَّ العبادات ، فلا بد أن تكون صحيحة حتى تتصف بالأحبية ، وإذا كانت صحيحة فهي مجزية لا محالة.

وبعبارة أخرى : المراد بالأحبية هي الأفضلية ، ومن المعلوم أنّ العبادة لا تتصف بالأفضلية إلّا بعد الفراغ عن صحتها ، إذ لا معنى لاتصاف الفاسد بالأفضلية. وعليه فالوقوف الفاقد لشرطه وهو كونه في يوم عرفة تقية يتصف بالأحبية ، وهل يعقل عدم الإجزاء مع هذا الوصف؟

وبالجملة : أفضلية العمل المتّقى به تكشف عن سقوط المتروك تقية من جزءٍ ،

__________________

(١) الوسائل ج ١١ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الباب ٢٤ من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما الحديث ١٤ ، رواه محمد بن علي بن الحسين في معاني الاخبار عن أبيه عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس بن عبد الرحمن عن هشام بن سالم ، وهؤلاء كلهم أجلاء ، كما هو ظاهر لمن راجع كتب الرّجال.

٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

______________________________________________________

أو شرط عن الجزئية أو الشرطية ، وسقوط ما وُجد فيه من الموانع عن المانعية ، فهو حينئذٍ مأمور به على وجهه ، وقد أُتي به كذلك ، فيكون مجزياً عقلا.

فالمتحصل : أن المستفاد من أحبية العبادة المتّقى بها من غيرها هو صحتها ، وأنّ المفقود ليس جزءاً ، أو شرطاً في حال التقية ، وكذا الموجود ليس مانعاً كذلك ، فالعمل حينئذٍ مجز لا محالة ، لكونه مأموراً به على وجهه.

وقد ظهر مما ذكرنا : أنّه لا يُصغى إلى دعوى كون المستفاد من أدلة التقية مجرد الحكم التكليفي وهو وجوب الاتّقاء ، والحفظ عن العدو ، فيكون وجوب العمل المتقى به تكليفاً محضاً ، وأنّ التقية لا توجب صيرورة العمل مأموراً به شرعاً حتى يجزي ، نظير قبح التجري عقلاً ، فإنّ قبحه لا يسري إلى الفعل ، بل هو باقٍ على ما كان عليه من الحكم قبل التجري ، فكما لا يكون التجري من العناوين الثانوية المغيِّرة للأحكام الأولية ، فكذلك التقية ، فلا وجه للإجزاء أصلاً ، وعدم الإجزاء كاشف عن فساد العمل.

وجه عدم السماع هو : أنّ الأحبيّة وهي الأفضلية لا تجتمع مع الفساد ، بل تكشف عن الصحة التي هي من قبيل الموضوع للأفضليّة ، كما عرفت تفصيله.

والحاصل : أنّ أفضلية العبادة المأتيّ بها تقية تدل إنّاً على صحتها ، وأنّها أفضل مصاديق العبادة الصحيحة ، فكيف يمكن التّفوه بعدم الاجزاء.

خامسها : صحيحة معلّى بن خنيس على الأقوى ، قال : «قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : يا معلّى : اكتم أمرنا ، ولا تذعه ، إلى أن قال عليه‌السلام : يا معلّى : انّ التقية ديني ودين آبائي ، ولا دين لمن لا تقية له ، يا معلّى : انّ الله يحبُّ أن يُعبد في السّر كما يحب أن يُعبد في العلانية ، والمذيع لأمرنا كالجاحد له» (١) ، فإنّ الظاهر أنّ المراد بالعبادة سرّاً

__________________

(١) ـ الوسائل ج ١١ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الباب ٢٤ من أبواب

٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

______________________________________________________

هي العبادة الواقعة على نحو التقية ، لأنّها تُسرّ العبادة الأوّلية الاختيارية وتخفيها ، فالعمل المتّقى به عبادة محبوبة ، ويمتنع أن يكون كذلك إلّا إذا كان صحيحاً ، لما مرَّ آنفاً من امتناع اجتماع العبادة المحبوبة مع البطلان ، إذ الباطل هو ما لا ينطبق عليه المأمور به ، فيمتنع أن يكون الباطل عبادة محبوبة للمولى ، لاستلزامه التناقض وهو الانطباق الّذي يُراد به الصحة ، وعدم الانطباق الّذي يراد به البطلان ، فوزان الاستدلال بهذه الصحيحة على الإجزاء وزان الاستدلال بسابقتها عليه ، كما لا يخفى.

ثم إنّ هنا وجوهاً أُخر قد استدل بها على صحة الوقوف مع العامة ، كالروايات الدالة على الأمر باستعمال التقية في الدين (١) ، وكعمومات نفي الحرج في الشريعة ، وكرواية (٢) عبد الأعلى مولى آل سام الآمرة بالمسح على المرارة المتضمنة لقول أبي عبد الله عليه‌السلام : «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله» الّذي يستفاد منه على ما قيل : قاعدة كلية وهي عدم سقوط المشروط بسقوط شرطه ، للحرج ، فيدل على بقاء المشروط على حاله ، فيكون نفس الوقوف مأموراً به ومجزياً ، نظير قاعدة الميسور ونحوها من الأدلة الثانوية الدالة على عدم ارتفاع الحكم عن المشروط بسقوط شرطه ، لكون دخل القيد في المقيّد على نحو تعدد المطلوب ، لكن لقصورها سنداً ، أو دلالة ، أو كليهما

__________________

الأمر والنهي وما يناسبهما الحديث ٢٣ ، رواه سعد بن عبد الله في بصائر الدرجات عن أحمد بن محمد بن عيسى ، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبد الله عن المعلى بن خنيس ، ورجال هذا السند كلهم ثقات كما في ـ جش ـ و ـ ست ـ نعم اختلفوا في وثاقة المعلى ، والّذي ظهر لنا بعد الفحص والتأمل وفاقاً لجماعة وثاقته كما حررنا ذلك في رسالة التقية.

(١) ـ الوسائل ، ج ١١ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الباب ٢٤ من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما.

(٢) الوسائل كتاب الطهارة الباب ٣٩ من أبواب الوضوء ، الحديث الخامس.

٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

______________________________________________________

كما قيل أعرضنا عنها ، هذا تمام الكلام في المبحث الأوّل.

وأما المبحث الثاني ، فيذكر فيه وجوه :

منها : رواية أبي الجارود زياد بن منذر ، قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام : انّا شككنا سنة في عام من تلك الأعوام في الأضحى ، فلما دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام وكان بعض أصحابنا يضحّي ، فقال : الفطر يوم يُفطر الناس ، والأضحى يوم يضحّي الناس ، والصوم يوم يصوم الناس» (١) ولا بد في الاستدلال بها من البحث في جهتين :

الأولى في دلالتها والثانية في سندها.

أما الأولى ، فقيل : إنّها تحتمل وجوهاً ثلاثة :

أحدها : أنّ زمان الصوم والإفطار والتضحية هو ما يجعله الناس لها ، فلا واقع له ، نظير الأحكام على مذهبهم ، لما اشتهر من أنّه لا حكم عندهم لواقعة إلّا ما يؤدي إليه رأي المجتهد ، وعليه فما جعلوه زماناً للتضحية وأخويها هو زمانها حقيقة ، ولازمه الاجزاء.

لكن هذا الاحتمال مما ينبغي القطع بفساده ، لاعتراف العامة أيضا بأنّ للصوم وأخويه زماناً معيّناً بحسب الجعل الشرعي ، وإنّما الاختلاف في الأمارات المحرزة له ، فإنّهم يحكمون بثبوت ذلك بحكم قاضيهم بالهلال ، أو بشهادة فاسق منهم برؤيته ، ونحن لا نقول به ، فالاختلاف إنّما هو في مقام الإثبات ، لا الثبوت ، كما لا يخفى. فعلى هذا الاحتمال لا تكون هذه الرواية دليلاً على الإجزاء في مورد البحث ، لفساد أصل هذا الاحتمال.

ثانيها : تنزيل الزمان الّذي جعله المخالفون يوم التضحية وأخويها منزلة

__________________

(١) الوسائل ج ٧ كتاب الصوم الباب ٥٧ من أبواب ما يمسك عنه الصائم الحديث ـ ٧ ـ ص ٩٥ رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن العباس عن عبد الله بن المغيرة عن أبي الجارود.

٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الزمان الواقعي المجعول لها شرعاً في الآثار الشرعية مع الشك في الموافقة ، بقرينة السؤال ، لوروده مورد الشك ، فالتنزيل ظاهري ، كتنزيل المشكوك منزلة المتيقن في الاستصحاب ، لا واقعي ، كتنزيل الطواف منزلة الصلاة ، فلا تنزيل مع العلم بالخلاف أو الوفاق كما هو شأن كل حكم ظاهري.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق التنزيل هو وجوب متابعتهم ولو لم تكن هناك تقية ، كما لعله ظاهر قوله : «وكان بعض أصحابنا يضحّي» لظهوره في عدم تضحية البعض الآخر من أصحابنا ، فلو كان هناك تقية لضحّى الجميع ، فليتأمل ، فتدل هذه الرواية على حجية حكم القاضي المخالف في الموضوعات بعد التعدي عن المورد إلى غيره ، لإلقاء العرف خصوصية المورد ، كحجية حكم القاضي المؤالف ، فيكون حكم حاكمهم حكماً ظاهرياً ، لأخذ الشك فيه بقوله : «إنا شككنا إلخ» وحجة على الجميع حتى الشيعي ، كما هو مورد الرواية المزبورة ، كحكم حاكمنا ، ومن المقرر في محله عدم إجزاء الحكم الظاهري مع انكشاف خلافه ، كما لا يخفى.

نعم إذا كان التنزيل مختصاً بحال التقية ، وثبت أنّهم قائلون بحجية حكم القاضي حتى مع العلم بالخلاف ، لكون حجيته عندهم على نحو الموضوعية ، كما نُسب إلى جماعة منهم دعوى الإجماع على ذلك ، فلا محيص حينئذٍ عن كون العمل الموافق لهم تقية مجزياً ، لأنّ عدم الاجزاء حينئذٍ مخالفة لهم في المذهب ، وهو غير جائز. وعليه فالوقوف مع المخالفين تقية مجزٍ ولو مع العلم بالخلاف ، وعدم كون زمانه يوم عرفة.

ثالثها : اختصاص التنزيل المزبور بحال التقية ، فلا يشمل حال الاختيار ، كما لا يتعدى عن مورد التنزيل وهو التضحية والفطر والصوم إلى المقام أعني الوقوف الّذي هو من أركان الحج ، بخلاف التضحية التي هي من مناسك منى ، وليست من الأركان ، فإنّها مشمولة للرواية ، فعلى هذا الاحتمال لا تدل أيضا على إجزاء

٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الوقوف معهم ، لعدم الدليل على جواز التعدي عن موردها إلى محل البحث وهو الوقوف.

إذا عرفت هذه الاحتمالات ، فاعلم : أنّ الاستدلال بهذه الرواية مبنيٌّ علي مقدمتين :

إحداهما : كون الرواية واردة مورد التقية حتى تسقط لأجلها شرطية يوم عرفة للوقوف ، إذ لو لم تكن واردة موردها لسقطت عن الاعتبار بالاعراض ، لعدم التزام أحد بوجوب متابعتهم مع عدم التقية.

ثانيتهما : إلقاءُ خصوصية المورد وهي التضحية وأخواها ، ليتعدى إلى الوقوف الّذي هو مورد البحث.

أما المقدمة الأُولى ، فثبوتها غير بعيد خصوصاً بقرينة قول السائل : «من تلك الأعوام» ، فإنّ الظاهر أنّ مراده الأعوام التي كانت التقية فيها شديدة ، فتدبّر.

وأما الثانية ، فهي في غاية الإشكال ، حيث إنّ التعدي منوط بأحد أمرين :

الأول : القطع بوجود المناط في غير مورد الرواية أيضا.

الثاني : كون الكلام من العلة المنصوصة ، وكلاهما مفقود كما هو واضح ، فلا وجه للاستدلال برواية أبي الجارود على صحة الوقوف مع العامة تقية. هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.

وأما الجهة الثانية ، وهي سند الرواية ، فملخص الكلام فيها : أنّ إسناد الشيخ (ره) إلى محمّد بن محبوب وان كان صحيحاً ، كما «أنّ محمّد بن علي بن محبوب شيخ القميين في زمانه ثقة ، عين ، فقيه ، صحيح المذهب» على ما في جش ، وكما «أنّ العباس بن معروف أبا الفضل مولى جعفر بن عبد الله الأشعري قمي ثقة» على ما في جش ، وكما «أنّ عبد الله بن المغيرة البجلي كوفي ، ثقة ، ثقة ، لا يعدل به أحد من جلالته ، ودينه ، وورعه» علي ما في جش ، لكن الإشكال يقع في جهات ثلاث :

٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الأولى : اشتراك العباس بين الثقة والضعيف مع اتحاد الطبقة ، ودعوى انصراف الإطلاق إلى ابن معروف خالية عن البيّنة ، وان قال في محكي مشرق الشمسين : «العباس الّذي يروي عنه محمّد بن علي بن محبوب فإنّه كثيراً ما يقع مطلقاً غير مقرون بفصل مميّز ، ولكنه ابن معروف الثقة» ، وربما يظهر ذلك أيضا من التفرشي (ره).

الثانية : اشتراك عبد الله بن المغيرة بين البجلي الجليل الثقة ، وبين الخزّاز المجهول مع اتحاد الطبقة ، لكون كليهما من أصحاب الكاظم والرضا عليهما‌السلام ، ولكن يندفع هذا بما في رجال المامقاني (قده) من «أنّ أساطين الفن نصّوا على أنّ المراد به عند الإطلاق هو الثقة الجليل بلا تأمل ولا ريب» هذا ، وعن المشتركاتين «تمييز الثقة الجليل برواية أيوب بن نوح ، والحسن بن علي بن عبد الله بن المغيرة عن جده ، والحسن بن علي بن فضال عنه».

الثالثة : كون أبي الجارود ضعيفاً ، قال جش : «كان من أصحاب أبي جعفر ، وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وتغيّر لمّا خرج زيد رضي‌الله‌عنه» ، «زيدي المذهب وإليه تنسب الزيدية الجارودية» ست ، «زيدي أعمى ، وإليه تنسب الجاروديّة منهم» جخ ، ومجرد التغيّر عند خروج زيد (رض) لا يقدح في اعتبار روايته إذا كانت قبل التغيّر ، إلّا أن لا يثبت كونها قبله ، فحينئذٍ لا يشمله دليل حجية الخبر.

ودعوى : عدم قدح ضعف أبي الجارود في الوثوق بصدور الرواية والاعتماد عليها بعد كون الراوي عنه ثقة وهو ابن المغيرة البجلي ، فابن الجارود وان كان ضعيفا إلّا أنّه كان عند ابن المغيرة قرائن على صحة هذه الرواية بالخصوص من روايات أبي الجارود ، فأخذها عنه ، واعتمد عليها ، ولم يعتمد على سائر رواياته ، لعدم شاهد على صدقها ، فلا بأس بسند هذه الرواية ، (غير مسموعة) لأنّه إن أُريد إثبات وثاقة أبي الجارود بمجرد نقل ابن المغيرة عنه ، ففيه : أنّه مبنيٌّ على كون رواية

٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ثقة عن شخص توثيقاً للمروي عنه ، وهذا بمكان من الوهن والسقوط ، لما نشاهده كثيراً من رواية الثقات عن الضعاف ، وإن أُريد اعتبار هذه الرواية بالخصوص ، لقرائن تدل على صحتها ، ففيه : أنّه مجرد احتمال لم يقم عليه برهان ، فلم يثبت كون نقل ابن المغيرة عن أبي الجارود على وجه الاعتماد حتى يدلّ إنّاً على وجود قرائن الصدق ، ولا أقل من الشك في ذلك ، وهو كافٍ في عدم الحجية ، كما لا يخفى.

فالمتحصل : قصور رواية أبي الجارود سنداً ودلالة عن الاعتبار ، فلا مجال للاستدلال بها على صحة الوقوف مع العامة ، والله العالم.

ومنها : النبويات الآمرة بالحج في الزمان الّذي يحج فيه الناس ، تقريب الاستدلال بها : أنّ ظاهرها تنزيل الوقت الّذي يحج فيه الناس منزلة الوقت المجعول للحج بحسب التشريع الأوّلي ، ومقتضى إطلاق التنزيل هو ترتيب جميع الآثار الشرعية الثابتة للمنزّل عليه على المنزّل التي منها شرطية اليوم الّذي يقفون فيه للوقوف ، كشرطية يوم عرفة له ، فلا محيص حينئذٍ عن الاجزاء.

فدعوى : أنّ ظاهرها كون وقت الحج هو الزمان الّذي تداول فيه الحج أعني يوم عرفة ، وذلك أجنبي عمّا نحن بصدده من كون الوقوف في غير يوم عرفة مع العامة تقية مجزياً غير مسموعة :

أولا : بأنّه لا يصح التعبير عن الواقع بما لا يكون مصيباً إليه غالباً ، بداهة مخالفتهم له كثيراً بعد بنائهم على اعتماد قاضيهم على شهادة الفاقد لشرائط قبول الشهادة ، وكون ثبوت الهلال عندهم على غير الوجه المشروع عندنا ، ولا أقل من مخالفته للاستصحاب.

وثانياً : بعدم الحاجة إلى هذا النحو من البيان بعد تعيين زمان الحج بالنصوص البيانية القوليّة والفعلية.

٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وثالثاً : بابتناء صحة هذه الدعوى على صرف لفظ «الناس» عن معناه المصطلح أعني العامة إلى معناه اللغوي ، وهو خلاف ظاهر سياق تلك النبويات ، بل نفس هذا التعبير قرينة على صحة التنزيل المذكور ، وأنّ المراد بالزمان ما يجعلونه زماناً لحجّهم كما لا يخفى ، فلا بدّ من كون النبويات المشار إليها في مقام التنزيل ، وجعل الحج مع المخالفين ولو في غير وقته الحقيقي صحيحاً.

وظاهر إطلاق التنزيل وإن كان صحة الحج معهم مطلقاً ولو بدون التقية ، إلّا أنّ مقتضى الأدلة الأوّليّة بطلان العمل الفاقد لجزء ، أو شرط ، أو الواجد لمانع ، كما لا خلاف ولا إشكال في ذلك أيضا إلّا مع التقية ، فيقيّد إطلاق التنزيل بذلك ، ويختص الإجزاء بصورة التقية.

نعم قضية إطلاق التنزيل عموم الحكم لصورة العلم بالخلاف أيضا من دون دليل على التقييد بصورة الشك ، فيكون مؤدّاه حكماً واقعيّا ثانويّاً مجزياً عن الحكم الواقعي الأوَّلي المجعول للحج حتى مع انكشاف الخلاف.

فدعوى : اختصاص التنزيل بحال الشك ، ليكون مؤدّاه حكماً ظاهرياً غير مجزٍ مع انكشاف الخلاف مجازفة ، إذ ليس في النبويات المشار إليها من الشك الّذي هو موضوع الحكم الظاهري عين ولا أثر ، فكيف يصح دعوى أنّ وجوب متابعة العامة في الحج من الأحكام الظاهرية غير المجزية عن الواقع.

والحاصل : أنّه لا ينبغي الارتياب في كون ظاهر النبويات تنزيل الزمان الّذي يحج فيه الناس منزلة الزمان الواقعي الأوّلي المجعول للحج المستلزم للإجزاء.

فالإنصاف أنّه لا قصور في دلالة النبويات على إجزاء الوقوف مع العامة في غير زمانه الواقعي تقيّة.

نعم الإشكال كله في سندها ، وعدم انجباره حتى يصح الركون إليها ، والشك

٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

كافٍ في عدم الاعتبار كما هو واضح ، فلا تصلح تلك النبويات حجة على إجزاء الوقوف مع العامة في غير وقته تقية ، ولكن فيما ذكرناه من روايات المبحث الأوّل عدا حديث الرفع غنى وكفاية.

ويؤيِّد الإجزاء لو لم يدل عليه : أنّ الأئمة الأطهار عليهم صلوات الله الملك الغفار ، وأصحابهم الأخيار كانوا من بعد خلافة مولانا أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين إلى زمان الغيبة في شدة التقية من العامة ، وحجّوا معهم في تلك المدة المديدة المتجاوزة عن مائتي سنة مع كون أمر الحج وقوفاً وإفاضة بأيدي أُمراء الحج المنصوبين من قبل الخلفاء الأُمويين والعباسيين ، ومن المعلوم تحقق الشبهة في ثبوت الهلال في بعض تلك السنين ، بل القطع بالخلاف عادة في بعضها ، ومع ذلك لم ينبّه إمام على وجوب الإعادة ، أو تعدد الوقوف مع الإمكان ، ولم يتنبّه أحد أيضا من الشيعة في تلك الأزمنة المتمادية للسؤال عن صحة الحج مع العامة ، إذ لو كان لبان ، فعدم بيان المعصوم عليه‌السلام لعدم الاجزاء دليل على الصحة ، لأنّ عدم الوجدان في أمثال المقام يدلّ على عدم الوجود.

إيقاظ : لا يخفى أنّ الإجزاء مما ذهب إليه جماعة من الأجلة ، كالعلّامة الطباطبائي على ما نسبه إليه في الجواهر ، حيث قال قبل بيان أحكام الوقوف بأسطر بعد نفي البُعد عن القول بالاجزاء ما لفظه : «وقد عثرت على الحكم بذلك منسوباً للعلامة الطباطبائي» ، وكالعلامة الكني (قده) قال في محكي قضائه : «إنّ قضاء المخالف تقية نافذ يترتب عليه الآثار» ، وكسيدنا الفقيه الأصفهاني صاحب الوسيلة (قده) في أجوبة الاستفتاءات ، وكثير من أجلة المعاصرين ، فلاحظ.

وبالجملة : فالقول بالاجزاء ليس من الشواذ التي لا يُعبأ بها ، هذا تمام الكلام في المقام الأول.

٦٠