منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٥٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ففي المقام : يتحد زمان الموضوع ـ وهو عصيان الأهم ـ ، وزمان الحكم ـ وهو وجوب المهم ـ ، وزمان الامتثال ـ وهو الإتيان بالمهم ـ. والاختلاف بينها إنما هو في الرّتبة ، فإنّ الموضوع مقدّم رتبة على الحكم ، وهو على الامتثال كذلك.

وأما الزمان ، فهو في الكل واحد ، كاتّحاده في العلّة والمعلول الحقيقيّين.

وكذا الحال في الأهم ، فإنّ زمان موضوعه وخطابه وعصيانه واحد.

أمّا الأولان ، فللزوم اتحاد الموضوع والحكم زمانا ، كما تقدّم في المهم.

وأمّا الأخير ، فلكون الامتثال والعصيان في رتبة واحدة ، لأنّهما مترتّبان على الطلب ، حيث إنّ الأوّل موافقة التكليف ، والآخر مخالفته.

وبالجملة : فالزمان في الثلاثة ـ وهي : الموضوع ، والحكم ، والامتثال ـ في كلّ من الأهم والمهم واحد ، والاختلاف فيها إنّما هو في الرّتبة فقط.

ومقتضى هذا البيان : فعليّة الطلبين المتعلّقين بالأهم والمهم في زمان واحد مع اختلافهما في الرّتبة ، لكون طلب المهم مترتّبا على ترك الأهم ، من دون عكس كما هو قضيّة إطلاق الأهم.

لا يقال : إنّ فعليّة الطلبين توجب طلب الجمع الّذي يمتنع معه الترتّب ، وليس هذا إلّا اعترافا باستحالته.

فانه يقال : إنّ مقتضى ما تقدّم وإن كان هو اجتماع الطلبين في الفعليّة ، لكنّه لا يستلزم الجمع في المطلوبيّة ، بحيث تجتمع مطلوبيّة الضدّين في زمان واحد. بل قد تقدّم : أنّه لو فرض محالا اجتماعهما زمانا ، لا يتّصف بالمطلوبيّة إلّا الأهم ، لما مرّ :

من إناطة مطلوبيّة المهم بترك الأهم ، فمع وجوده يمتنع اتّصاف المهم بالمطلوبيّة.

لا يقال : سلّمنا ذلك ـ أي : عدم لزوم طلب الضدين في آن واحد ـ لكن يرد على الترتّب إشكال آخر ، وهو : أنّ وجود كلّ خطاب حدوثا وبقاء منوط

٥٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بوجود موضوعه كذلك ، وفي المقام لم يحرز بقاء موضوع خطاب المهم ـ وهو ترك الأهم ـ إلى آخر أجزاء المهم ، وبدون الإحراز المزبور لا يتوجّه خطاب المهم أصلا.

فانه يقال : لا اختصاص لهذا الإشكال بالخطاب الترتبي ، لوضوح اعتبار بقاء الموضوع في توجه التكليف في جميع الموارد ، كبقاء الاستطاعة إلى آخر مناسك الحج ، وبقاء فاضل المئونة ، والنصاب إلى آخر العام بالنسبة إلى وجوب الحج ، والخمس ، والزكاة.

وحل الإشكال في الجميع : أنّ موضوع الخطاب موجود واقعي ، لا علمي ، غايته : أنّ قضية موضوعيّته توقف إحراز الخطاب على إحرازه بأيّ محرز ولو تعبّديّا كالاستصحاب القاضي ببقاء الموضوع إلى آخر زمان الامتثال.

لا يقال : إنّ لغويّة طلب المهم توجب امتناع الترتّب.

توضيحه : أن امتثال أمر المهم إذا كان عبادة غير مقدور للعبد ، لعدم القدرة على قصد القربة بعد كون فعل المهم مبغوضا للمولى ، لكونه عصيانا لطلب الأهم ، والمبغوض لا يصير مقرّبا ، فيستحيل امتثال أمر المهم ، ومع استحالته يمتنع تشريع الوجوب له ، فلا وجوب إلّا للأهم ، فأين الترتّب المتوقف على وجوبين فعليّين؟

وبالجملة : امتناع الامتثال دليل على امتناع التشريع المؤدّي إليه ، فلا سبيل إلى إمكان الترتّب ، لكونه كباب اجتماع الأمر والنهي ـ بناء على صغرويّته للتزاحم لا التعارض ـ ، حيث إنّ المجمع ـ لملازمته للحرام ـ يمتنع أن يكون مقرّبا ، كامتناع مقرّبية المهم ، لملازمته للحرام وهو عصيان أمر الأهم.

فانه يقال : بوضوح الفرق بين الترتّب وبين مسألة اجتماع الأمر والنهي ، كما أفاده سيّدنا الأستاذ مدّ ظله في مجلس درسه الشريف.

ومحصل الفرق بينهما ـ على ما حررته عنه ـ : «أنّ الموجود في باب الاجتماع على ما يقتضيه تركّبه الانضمامي المقوّم لصغرويته لكبرى التزاحم وإن كان متعدّدا

٥٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

متباينا ، لتباين المقولات ، وامتناع اتحادها. إلّا أنّهما يوجدان بإيجاد واحد ، كالصلاة في المغصوب ، فإنّ الصلاة والغصب يوجدان بإيجاد واحد ، وإيجاد الغصب لمّا كان مبغوضا ، فلا يتمشى قصد القربة بموجود يوجد بذلك الإيجاد مقارنا للغصب ، فالصلاة حينئذ نظير الماء الصافي البارد الّذي يصبّه العبد في آنية قذرة تسقطه عن قابليّة حصول الامتثال به.

والحاصل : أنّ الموجود في باب الاجتماع وإن كان متعدّدا ـ كالصلاة والغصب ـ إلّا أنّ الإيجاد واحد. وهذا بخلاف الترتّب ، فإنّ الإيجاد فيه كالموجود متعدّد أيضا ، فإنّ ترك الأهم إنّما هو لأجل الصارف ، وفعل المهم لأجل الإرادة ، فالإيجاد كالموجود متعدّد ، فيتمشى قصد القربة بأمر المهم بلا مانع».

هذا ملخص ما استفدناه من بحثه الشريف.

أقول : ما أفاده مدّ ظله وإن كان في نفسه متينا ، لكنّه لا يفي بدفع الإشكال ، بل لا بدّ من ضم ضميمة إليه ، وهي : عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه ، إذ بدونها لا يندفع الإشكال ، حيث إن لقائل أن يقول : بكفاية عدم القدرة على امتثال أمر المهم ، لأجل صيرورة متعلّقه منهيّا عنه ، من باب اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه ، لا من جهة وحدة الإيجاد ، حتى يدفع ذلك بتعدّده.

لا يقال : إنّ قضيّة فعليّة الخطابين مع ترك امتثالهما هي : تعدّد العقوبة ، وهو قبيح عقلا ، لأنّ مناط حسن العقوبة على ترك شيء هو القدرة على امتثاله ، وهذا غير متحقّق في المقام ، لعدم القدرة على امتثالهما حتى يستحق عقوبتين على تركهما ، وهذا القبح دليل على عدم تعلّق الأمر بالمهم ، وهو كاشف عن بطلان الترتّب ، وامتناع تعلّق طلبين فعليين بضدين في آن واحد.

فانه يقال : إن كان مناط استحقاق تعدّد العقوبة مخالفة الأمر بالجمع بين

٥٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المتعلّقين ، فالأمر كما ذكر من القبح العقلي ، لعدم القدرة على الجمع المزبور.

وإن كان مناطه : الجمع في ترك الضدين ، كما هو المطلوب والمقدور للعبد ، فالمؤاخذة على الجمع في الترك حينئذ لا قبح فيها عقلا ، لأنّها تكون على أمر مقدور.

مضافا إلى : النقض بالواجب الكفائي ، حيث إنّ جميع المكلّفين يعاقبون على تركه مع عدم قدرتهم على الامتثال ، لعدم قابليّة المأمور به للتعدّد ، فلو كان مناط تعدّد العقوبة تعدّد ترك الامتثال لما استحقّ العقوبة جميع المكلفين.

الجهة الخامسة : أنّ ترتّب أحد الخطابين على الآخر يتصور على وجوه :

الأول : ترتّبه على عدم موضوع الخطاب الآخر ، كترتب خطاب التيمّم على فقدان الماء ، أو عدم التمكّن من استعماله.

الثاني : ترتّبه على عدم فعليّة الآخر ، كترتّب وجوب الخمس في الربح على عدم فعليّة خطاب أداء الدين ـ خصوصا إذا كان للمئونة ـ ، فإنّ خطابه إذا صار فعليّا ارتفع به موضوع وجوب الخمس ـ وهو فاضل المئونة ـ ، فوجوب الخمس منوط بعدم فعليّة خطاب أداء الدين ، لأنّ فعليّته بنفسها رافعة لفاضل المئونة.

الثالث : ترتّبه على عدم امتثال الخطاب الآخر ، لا على عدم فعليّته ، بأن كان امتثال أحدهما رافعا لموضوع الخطاب الآخر ، كالدين السابق على عام الربح ، فإنّ نفس الخطاب بأدائه لا يرفع فاضل المئونة الّذي هو موضوع وجوب الخمس ، بل الرافع له هو : امتثاله بصرف الربح في أدائه ، فيتوقّف موضوع وجوب الخمس على عصيان خطاب الأداء ، فيجتمع خطابان فعليّان بأدائه وبإخراج خمس الربح.

وبالجملة : يجتمع مع ترك أداء الدين هذان الخطابان الفعليّان ، وبامتثال خطاب أداء الدين في أثناء سنة الربح يرتفع موضوع وجوب الخمس ، وملاكه.

الرابع : ترتّب أحد الخطابين على عصيان الخطاب الآخر ـ مع بقاء موضوعه

٥٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وملاكه ـ إذا امتثل الخطاب الأوّل ، كترتّب وجوب الصلاة على عصيان خطاب الإزالة مع بقاء موضوعها وملاكها إذا امتثل خطاب الإزالة. فحينئذ : يكون كلّ من وجوبي الإزالة والصلاة فعليّا وواجدا للملاك.

ومن هنا ظهر : الفرق بين الوجه الثالث والرابع ، بعد اشتراكهما في ترتّب أحد الخطابين على عصيان الآخر ، فإنّ الامتثال في الثالث رافع لموضوع الخطاب الآخر ، فيرتفع معه الملاك أيضا. وهذا بخلاف الرابع ، فإنّ الامتثال لا يرفع موضوع الخطاب الآخر ولا ملاكه ، بل يبقيان على حالهما.

وهذا الوجه الرابع هو الترتّب المبحوث عنه في المقام.

والثلاثة المتقدّمة أجنبيّة عنه ، لوضوح عدم اجتماع خطابين فعليّين في أوّلها ، وهو : ترتّب أحد الخطابين على عدم موضوع الخطاب الآخر ، كوجوب التيمّم المترتّب على انتفاء موضوع وجوب الطهارة المائيّة.

كوضوح عدم اجتماعهما في ثانيها ، وهو : ترتّب أحد الخطابين على عدم فعليّة الآخر ، كترتّب وجوب تخميس فاضل المئونة على عدم خطاب أداء دين سنة الربح ، فهذا القسم من الترتّب الّذي لا يجتمع فيه خطابان فعليّان أجنبي أيضا عن الترتّب المبحوث عنه.

كوضوح أجنبيّة ثالثها ـ وهو : ترتّب أحد الخطابين على عصيان الآخر ، كترتّب وجوب الخمس على عصيان خطاب أداء الدين السابق على عام الربح ـ عن الترتّب المبحوث عنه هنا ، وذلك لأنّه حال عصيان هذا الخطاب وإن صار كلّ من خطابي أداء الدين وتخميس الربح فعليّا ، لكنّه مع ذلك غير الترتّب المبحوث عنه أيضا ، لما قد ظهر من مطاوي البحث : من اعتبار بقاء ملاك الخطاب الثاني ـ كموضوعه ـ إذا امتثل الخطاب الأوّل في الترتّب الّذي هو مورد الكلام ، كالصلاة والإزالة ، فإنّ امتثال أمر الأهم

٥٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ـ وهو الإزالة ـ لا يرفع موضوع أمر الصلاة ، ولا ملاكها ، بل كلّ منهما باق على حاله ، غاية الأمر : أنّ القدرة عليها مع صرفها في الإزالة مفقودة ، وقد ثبت في محلّه : عدم دخل القدرة في الملاك ، وأنّها دخيلة في حسن الخطاب ، بمناط قبح مطالبة العاجز.

وأنّ مورد الترتّب هو : الطلبان الفعليّان المجتمعان في آن واحد المتعلّقان بالضّدين مع بقاء الملاك في كليهما ، فتدبّر.

الجهة السادسة : قد يتوهّم : أنّ غاية ما يستفاد ممّا تقدم هي : إمكان الترتب في قبال من أحاله ، ومن المعلوم : أنّ مجرّد الإمكان لا يدل على الوقوع.

لكنه فاسد ، لقيام البرهان اللّميّ والإنّيّ عليه.

أمّا الأول ، فبيانه : أنّ تماميّة الملاك في كلّ من الضدّين تقتضي جعل الحكم لهما ، والمفروض عدم دخل القدرة في الملاك ، فلا بد حينئذ من الجعل ، وإلّا يلزم خلاف الحكمة ، وهو قبيح على الحكيم. نعم إطلاق الجعل لكلّ منهما ينافي الحكمة ، لعدم القدرة على الجمع بينهما ، فلا بد من تقييد إطلاق أحد الجعلين أو كليهما ولو كان التقييد بمثل «ترك الآخر» كما في المقام.

وأمّا الثاني ، فتقريبه : أنّه قد وقع في الشرعيّات ما لا يمكن تصحيحه إلّا بالترتب ، ونشير إلى جملة منها :

الأوّل : أنّه إذا حرم قصد إقامة عشرة أيّام على المسافر ، كما إذا كانت الإقامة علّة للحرام ، فخالف ، ونوى الإقامة عاصيا ، فإنّه يجب عليه الصوم والصلاة تماما حينئذ ، لتحقّق موضوعهما ـ وهو المسافر الناوي للإقامة ـ ، فاجتمع الحكمان الفعليّان ، أحدهما : حرمة الإقامة ، والآخر : وجوب الصوم وإتمام الصلاة المترتّب على عصيان الحرمة المزبورة ، ومن المعلوم : أنّ اجتماع هذين الحكمين الفعليّين مبنى على الترتّب.

٥٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الثاني : ترتّب وجوب القصر على تارك الإقامة ، مع فرض وجوبها عليه لجهة من الجهات ، كحفظ نفس محترمة ونحوها ، فإنّ وجوب القصر مترتّب على عصيان وجوب الإقامة. إلى غير ذلك من الفروع الفقهيّة المبنيّة على الترتّب الّتي هي برهان إنّيّ على وقوعه.

الثالث : ما عن الفصول ، وغيره : من ترتّب وجوب الوضوء من ماء مباح ذاتا محرّم استعماله عرضا ـ لكونه في آنية مغصوبة ، أو مصوغة من ذهب ، أو فضّة ـ على عصيان حرمة التصرّف في المغصوب ، أو في آنية الذهب أو الفضة.

وبالجملة : فوجوب الوضوء حينئذ مترتّب على العصيان ، ومشروط به ، هذا.

لكن الحق : عدم تماميّة هذا البرهان الإنّي وإن احتجّ به غير واحد من المحقّقين ، وذلك لخروج تلك الفروع عن الترتّب المبحوث عنه ، حيث إنّ ارتفاع موضوع أحد الخطابين وملاكه بامتثال الخطاب الآخر أجنبي عن الترتّب الّذي لا يرتفع فيه موضوع أحد الخطابين ولا ملاكه بامتثال الآخر ، كالإزالة والصلاة ، فإنّ امتثال أحد خطابيهما لا يرفع موضوع الآخر ، بل هو باق على حاله.

وهذا بخلاف حرمة الإقامة في المثال الأوّل ، فإنّ امتثالها باختيار السفر يرفع موضوع الصوم وملاكه ، إذ لا خطاب ولا ملاك للصوم في السفر إلّا في بعض الموارد.

وكذا في إتمام الصلاة ، فإنّه لا خطاب ولا ملاك فيه للمسافر غير المقيم.

كما أنّ تقصير الصلاة في المثال الثالث لا موضوع ولا ملاك فيه أيضا لقاصد الإقامة. فهذه الأمثلة الفقهيّة وإن كان فيها نحو ترتّب ، لكنه غير الترتّب الّذي نحن فيه.

وأما فرع الوضوء ، فملخّص الكلام فيه : أنّه إذا فرّغ الماء في آنية مباحة ،

٥٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وجب عليه الوضوء مطلقا ، سواء أقلنا باعتبار القدرة الشرعيّة فيه أم لا ، وذلك لصيرورته واجدا للماء ، وكذا يجب الوضوء إذا اغترف غرفة وافية به ، فإنّ وجوبه وإن كان مشروطا بعصيان الحرمة ، لكنّه بعد العصيان لا يجتمع خطابان فعليّان في آن واحد ، لسقوط الحرمة بالعصيان ، فلا خطاب إلّا بالوضوء ، فلا ترتّب في البين.

وإذا اغترف من الآنية تدريجا ، غرفة لغسل الوجه ، وثانية لغسل اليد اليمنى ، وثالثة لغسل اليسرى ، فصحّة الوضوء وفساده مبنيّان على القول باعتبار القدرة الشرعيّة في الوضوء ، وعدمه.

فعلى الأوّل ـ كما عليه الميرزا (قده) ـ لا يصح ، ولا يمكن تصحيحه بالترتّب ، لأنّ مورده تماميّة الملاك في كلّ واحد من المتزاحمين ، وانحصار المانع عن فعليّة الخطابين بعدم القدرة على امتثال كليهما.

وعلى هذا : فلو كان الملاك في أحدهما دون الآخر ، فلا يجري فيه الترتّب أصلا.

والمقام من هذا القبيل ، ضرورة أنّ الوضوء على هذا المبنى ـ وهو اعتبار القدرة شرعا فيه ـ فاقد للملاك ، إذ المفروض دخل القدرة فيه ، فانتفاؤها يوجب ارتفاع الملاك ، فلا يقاس الوضوء بالصلاة ، حيث إنّها غير مشروطة بالقدرة شرعا ، فهي واجدة للملاك حتى حين المزاحمة مع الإزالة. بخلاف الوضوء ، فإنّه ـ لحرمة الاغترافات ـ لا قدرة له عليه شرعا ، فهي واجدة للملاك حتى حين المزاحمة مع الإزالة ، فإنّه ـ لحرمة الاغترافات ـ لا قدرة له عليه شرعا ، فلا ملاك له حتى يجري فيه الترتّب.

وعلى الثاني يصح وضوؤه ، للترتّب ، إذ المفروض كونه واجدا للملاك ، حيث إنّ القدرة غير دخيلة شرعا فيه ، فوجوب الوضوء مشروط بعصيان حرمة التصرف في المغصوب ، أو في آنية الذهب ، أو الفضة ، فإذا عصى الحرمة ، واغترف الماء تدريجا صحّ الوضوء بالأمر الترتّبي ، لانحصار مانع عدم خطاب الوضوء بعدم القدرة عليه ،

٥٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

______________________________________________________

فمع التمكّن منه ـ ولو بعصيان خطاب آخر ـ يصير خطاب الوضوء فعليّا ، إذ القدرة المعتبرة في الوضوء ونحوه من المركبات تدريجيّة تحصل بالاغتراف تدريجا ، فكأنّه قيل : «إن عصيت حرمة التصرف في المغصوب وآنية الذهب أو الفضة ، فتوضّأ» وهكذا يقال له في كل غرفة.

وبالجملة : ففرع الوضوء مترتّب على الترتّب في بعض الصور ، لا مطلقا.

وأمّا غيره من الفروع المتقدّمة ، فلا يترتّب على الترتّب أصلا. فلا يصح جعلها برهانا إنّيّا على وقوع الترتّب. لكن في البرهاني اللمي المتقدّم غنى وكفاية.

ثم إنّ هنا أمورا ينبغي التنبيه عليها.

الأوّل : أنّه قد نسب إلى جماعة من المحقّقين كشيخنا الأعظم الأنصاري وتلميذه المحقق السيد الشيرازي ، وغيرهما قدس الله تعالى أسرارهم : عدم صحّة الوضوء في موارد وجوب التيمّم ، بدعوى : أنّ القدرة دخيلة في ملاك الوضوء استنادا إلى قوله تعالى : «فلم تجدوا ماء فتيمّموا صعيدا طيّبا» (النساء الآية ٤٣ ـ المائدة الآية ٦). بناء على إرادة عدم التمكّن من عدم الوجدان ، ومع فقدان الملاك لا خطاب بالوضوء أيضا ، فلا مورد هنا للترتّب حتى يصح به الوضوء ، بأن يقال : إنّ وجوبه مترتّب على عصيان وجوب التيمّم ، فلا خطاب ولا ملاك للوضوء حتى يمكن تصحيحه بهما ، أو بأحدهما ، هذا.

ولكن فيه ما لا يخفى ، إذ جعل قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً (١) بمعنى : عدم التمكّن تأويل بلا شاهد ، بل الآية المباركة قد دلّت على حكم فقدان الماء ، والروايات قد تضمّنت ارتفاع وجوب الوضوء في موارد الحرج ، والخوف ونحوهما ، وقد قرر في محلّه : أنّ الأحكام الامتنانيّة لا ترفع إلّا الإلزام ، وأمّا المصلحة ، فهي باقية على حالها.

وعليه : فمن تحمّل المشقّة والحرج وتوضّأ صحّ وضوؤه بلا إشكال ، لفرض وجود

__________________

(١) النساء الآية ٤٣ ـ المائدة الآية ٦.

٥٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الماء مع بقاء الملاك الكافي في صحّة العبادة ، كما عليه غير واحد ، كالشيخ الأعظم.

وبالجملة : فيصح الوضوء في هذه الموارد لأجل الملاك ، ودعوى : عدم بقائه ، نظرا إلى أخذ القدرة شرعا في ملاكه غير مسموعة ، لما مرّ.

وقد أفتى بصحّة الوضوء الحرجي جمع من الفقهاء ، منهم السيّد (قده) في الوسيلة ، وسيّدنا الأستاذ مد ظله في منهاجه.

نعم في موارد الضرر يشكل الصحّة ، للمبغوضيّة المنافية للمحبوبيّة.

الأمر الثاني : قد ظهر من مطاوي الأبحاث المتقدّمة : أنّه يعتبر في الترتّب المبحوث عنه أمور.

الأوّل : أن لا يكون ترك الأهم مساوقا لوجود المهم ، إذ يلزم حينئذ لغوية خطاب المهم ، لاستلزامه طلب تحصيل الحاصل المحال.

وعليه : فلا بد من فرض الترتّب في الضدّين اللّذين لهما ثالث ، كالإزالة والصلاة ، دون الضّدين اللذين لا ثالث لهما ، كالحركة والسكون ، فإنّ عصيان الأمر بأحدهما مساوق لوجود الآخر من دون حاجة إلى تعلّق طلب به.

الثاني : أن يكون الخطابان المترتبان منجّزين ، لأنّ الترتب علاج لتزاحم الخطابين المتقوم بتنجّزهما ، فبدونه لا تزاحم ، ولا ترتّب ، فلا يصح فرض الترتب في خطابين لم يتنجّزا ، للجهل ، أو الغفلة ، إذ لا تحريك حينئذ لشيء منهما حتى يدعو كلّ منهما إلى صرف القدرة في امتثاله ، كي يعجز المكلّف عن إجابة دعوة كليهما.

كما لا يصح فرضه في خطابين تنجّز أحدهما دون الآخر ، للجهل ونحوه أيضا ، إذ لا بعث ولا تحريك حينئذ إلّا لأحدهما ـ وهو المنجّز ـ دون الآخر ، فيبقى المنجّز بلا مزاحم ، لأنّه الوحيد في دعوة المكلّف إلى صرف قدرته في امتثاله ، فلا تزاحم

٥١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بينهما حينئذ حتى يعالج بالترتّب.

الثالث : أنّه لا بدّ في الترتّب المبحوث عنه من اجتماع خطابين فعليّين في آن واحد مع اختلافهما في الرّتبة ، فيخرج عن الترتّب ما إذا كانت فعليّة أحد الخطابين رافعة للآخر ، لأنّ قوام الترتّب باجتماعهما ، كما مرّ مفصّلا.

إذا عرفت هذه الأمور : اتّضح عدم صحّة الترتّب في مسألة الجهر والإخفات كما عن كاشف الغطاء (قده) ، بتقريب : أنّ الجهر في الصلوات الجهريّة واجب مطلقا ، والإخفات واجب فيها على تقدير عصيان خطاب الجهر. وكذا الحال في وجوب الإخفات في الصّلوات الإخفاتيّة.

ودفع هو (قده) إشكال الجمع بين صحّة الصلاة مع الإخفات في موضع الجهر ، وبالعكس ، وبين استحقاق العقوبة على ترك المأمور به ـ وهو الجهر بالقراءة أو إخفاتها ـ بالترتّب ، حيث إنّه يوجب صيرورة الصلاة الكذائيّة مأمورا بها ، فتصح حينئذ. وكون استحقاق المؤاخذة بسب عصيان الأمر الأوّل.

توضيح وجه أجنبيّة الترتّب عن هذه المسألة : لزوم اللغويّة ، ضرورة أنّ ترك الجهر الواجب مساوق لوجود الضّد ـ وهو الإخفات ـ فجعل الوجوب له لغو.

وكذا الحال في ترك الإخفات الواجب ، لكونه مساوقا لوجوب الجهر ، فجعل الوجوب له من قبيل طلب الحاصل المحال.

مضافا إلى : أنّ العلم بالواجب المطلق الأوّلي رافع لملاك الواجب الثانوي ، فإنّ العلم بوجوب الجهر مثلا رافع لملاك وجوب الإخفات ، وقد عرفت : اعتبار وجود الملاك في كلّ من الواجبين المتزاحمين ، فقوام الترتّب ـ وهو الملاك ، وتنجّز الخطابين ـ مفقود في مسألة الجهر والإخفات.

والإشكال بالجمع بين الصحّة ، وبين استحقاق العقوبة يندفع بوجوه أخر

٥١١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مذكورة في محلها.

الأمر الثالث : أنّه لا يعقل الترتّب بين المتزاحمين الطوليّين ، بمعنى : تعاقبهما في الامتثال ، كالقيام الواجب في الركعتين ، فلا يصح أن يقال : «إن عصيت وجوب القيام في الرّكعة الثانية ، فقم في الرّكعة الأولى» ، وذلك لأنّه مع أهميّة القيام في الرّكعة الثانية لا يعصى هذا الخطاب إلّا بعد مجيء زمان امتثاله ، فصرف الزمان في الرّكعة الأولى ليس عصيانا لخطاب الأهم ، لأنّه خطاب مستقل قد امتثل في زمان لا بدّ منه في امتثاله. نعم هو عصيان لخطابه المتمّم الحافظ له من باب المقدّمة المفوّتة ، وهو وجوب حفظ القدرة بعدم صرف الزمان في الرّكعة الأولى ، وهذا الوجوب موجود حين الشروع في الصلاة ، وبعصيانه ـ أعني به عدم حفظ القدرة ـ لا يمكن تصحيح الرّكعة الأولى بالترتّب ، لأنّه حين العصيان إمّا يصرف القدرة في قيام الركعة الأولى ، وإمّا يصرفها في غيره ، كحمل ثقيل من مكان إلى آخر.

ومن المعلوم : أنّه على الأوّل يلزم طلب تحصيل الحاصل ، لأنّه بمنزلة قوله : «إن عصيت خطاب احفظ القدرة بالقيام في الرّكعة الأولى ، فقم فيها» ، فيصير متعلّق خطاب المهم ـ وهو القيام في الركعة الأولى ـ موضوعا لنفس هذا الخطاب. نظير أن يقال : «إن صلّيت ، فصلّ».

والحاصل : أنّ وجه امتناع الترتّب حينئذ هو لزوم طلب الحاصل ، وصيرورة وجود متعلّق الخطاب شرطا لنفس الخطاب.

وعلى الثاني ـ وهو : صرف القدرة في غير الرّكعة الأولى ، كحمل ثقيل ـ يلزم سقوط كلا الخطابين ، وهما : الأهم والمهم ، لعدم القدرة على شيء منهما.

فالترتّب لا يعقل في الخطابين المتزاحمين اللذين يكون زمان امتثال أحدهما

٥١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مقدّما على الآخر. هذا مع فرض أهميّة الثاني.

وأما مع عدم أهميّة أحدهما من الآخر ، فلا بدّ من صرف القدرة في الأوّل ، لأنّ الخطاب بالنسبة إليه فعلي ، فيجب عقلا امتثاله بصرف القدرة فيه.

ومن المعلوم : أنّ امتثاله موجب لعجز المكلّف عن امتثاله الخطاب الثاني.

بخلاف الخطاب الثاني ، لأنّ فعليّته منوطة بمجيء زمان امتثاله.

وبالجملة : فالعقل يحكم في صورة عدم أهميّة أحدهما من الآخر بلزوم صرف القدرة في الأوّل تعيينا ، ولا يحكم بالتخيير أصلا.

الأمر الرابع : أنّه لا يكاد يتوهّم جريان الترتّب في باب اجتماع الأمر والنهي بناء على كون التركيب بين متعلقي الأمر والنهي انضماميّا ليندرج في باب التزاحم ، لا اتحاديّا ليندرج في باب التعارض ، ويصير صغرى لمسألة النهي في العبادة.

أما تقريب توهم جريان الترتّب في باب الاجتماع ـ بناء على كونه من صغريات التزاحم ـ فهو أن يقال : إنّ شرط وجوب الصلاة مثلا عصيان حرمة الغصب ، فكأنّه قيل : «إن عصيت حرمة الغصب ، فصلّ» على حدّ قوله : «إن تركت الإزالة ، فصلّ».

وأما وجه عدم جريان الترتّب في باب الاجتماع ، فهو : أنّ عصيان حرمة الغصب إن كان بالتصرّف الصلاتي لزم منه المحال ، إذ لازمه كون ما يقتضيه خطاب حرمة الغصب ـ أعني وجود متعلّقه ـ شرطا لخطاب الصلاة ، لأنّه بمنزلة أن يقال :

«إن عصيت حرمة التصرف في مال الغير ، وتصرفت فيه بالصلاة ، فصلّ» ، فوجود الصلاة يصير شرطا لوجوبها ، ومن المعلوم : أنّه من طلب الحاصل المحال.

وإن كان بالتصرّف غير الصلاتي ، كالمشي ، والنوم ، وغيرهما من التصرّفات المضادّة للصلاة لزم الامتناع أيضا ، للزوم بقاء موضوع حرمة الغصب إلى آخر جزء

٥١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

من متعلّق النهي ، ومن المعلوم : امتناع اجتماع الصلاة مع النوم ، والمشي ، ونحوهما من التصرّفات المضادّة لها.

فتلخص مما ذكرنا : امتناع الترتّب في مسألة اجتماع الأمر والنهي.

الأمر الخامس : قد ظهر من بعض المباحث المتقدّمة : امتناع الترتّب في المتزاحمين المتلازمين وجودا اتفاقا ، كاستقبال القبلة واستدبار الجدي في بعض نقاط العراق ، حيث إنّهما متلازمان وجودا في تلك النقاط ، فإذا وجب الاستقبال وحرم استدبار الجدي كان عصيان أحدهما ملازما لامتثال الآخر. نظير الجهر والإخفات المتقدّمين.

وكلّ ما كان كذلك لا يتأتّى فيه الترتّب ، لأنّ وجود أحدهما بعصيان الآخر قهريّ ، فالأمر به يكون طلبا للحاصل ، كما هو واضح.

الأمر السادس : في جريان الترتّب في المقدّمة المحرّمة.

توضيحه : أنّه إذا كان هناك واجب ، وتوقّف وجوده على ارتكاب محرّم ، كما إذا توقّف إنقاذ مؤمن على التصرف في أرض مغصوبة يقع التزاحم بين وجوب الإنقاذ وحرمة التصرّف في مال الغير ، لعدم إمكان الجمع بينهما في الامتثال ، فان كان وجوب ذي المقدّمة ـ كإنقاذ المؤمن ـ أهمّ من الحرمة جرى فيه الترتّب بأن يقال : «إن عصيت وجوب الإنقاذ ، فلا تغصب» ، فيجتمع طلبان فعليّان أحدهما :

وجوب الإنقاذ مطلقا ، والآخر : حرمة الغصب مشروطة بترك الإنقاذ. نظير ترتب التضاد ، كترتّب وجوب الصلاة على ترك الإزالة ، فكما يجتمع في ظرف عصيان خطاب الإزالة طلبان فعليّان بالإزالة والصلاة ، فكذلك في المقدمة المحرّمة.

هذا ملخص الكلام في جريان الترتب في المقدّمة المحرّمة ، وتفصيله يطلب من المطولات.

وقد ظهر من جميع ما ذكرنا : اعتبار أمور في الترتب المبحوث عنه :

٥١٤

فصل

لا يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه (١)

خلافا لما نسب إلى أكثر مخالفينا (٢) ، ضرورة (٣) أنّه لا يكاد يكون

______________________________________________________

أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

(١) مراد المصنّف (قده) بمرجع هذا الضمير هو ـ الأمر ـ ، بقرينة الاستدراك الآتي في كلامه.

ومحصل مرامه حينئذ : أنّه هل يجوز عقلا أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرط الأمر ـ أي الوجوب ـ كما إذا كان وجوب الحج مشروطا بالاستطاعة ، وعلم الآمر بعدم تحقّقها ، أم لا يجوز؟ ، فليس له أن يأمر غير المستطيع بالحج.

ولا بدّ من القول بعدم الجواز ، لأنّ المراد بالأمر هو البعث الفعليّ إلى متعلّقه ، ومن المعلوم : أنّ فعليّة البعث منوطة بعلّتها التامّة الّتي من أجزائها الشرط ، فمع العلم بانتفائه لا يتحقّق إنشاء البعث الفعلي ، فالقصور من ناحية المقتضي ـ وهو العلّة ـ إذ القول بالجواز حينئذ مساوق لجواز وجود المعلول بلا علّة ، وهو كما ترى.

(٢) لكن عن جماعة منهم : «الاتّفاق على عدم الجواز».

(٣) تعليل لقوله : «لا يجوز» ، وقد عرفت توضيحه ، ومحصله : أنّ القول

__________________

أحدهما : وجود خطابين نفسيّين مع اشتمالهما على ملاك تامّ ، فلو كان الملاك في أحدهما دون الآخر ، كاعتبار القدرة الشرعية في أحدهما لخرجا عن الترتب المقصود.

ثانيها : أن لا يكون ترك الأهم مثلا عين وجود متعلق المهم ، كما في الجهر والإخفات ، والحركة والسكون ، ونحوهما من الضدّين اللّذين لا ثالث لهما.

وإلى ذلك يرجع ما قيل : من اعتبار القدرة في متعلّق المهم حين ترك الأهم ، حيث إنّ مقتضى القدرة إمكان ترك متعلّقهما ، وليس كذلك الضّدّان اللّذان لا ثالث لهما إذا ترك أحدهما ـ كالأهم في المقام ـ ، لامتناع ترك الآخر حينئذ ، فهو غير مقدور له.

٥١٥

الشيء (١) مع عدم علّته كما هو المفروض (*) هاهنا (٢) ، فإنّ (٣) الشرط من أجزائها (٤) ،

______________________________________________________

بالجواز يرجع إلى ما لا يمكن الالتزام به من وجود شيء بدون علّة.

(١) يعني : يوجد الشيء ، والمراد بالشيء هنا : «الأمر» المقصود به البعث الفعلي الّذي ينتفي بانتفاء شرطه.

وبالجملة : الأمر الّذي هو من أفعال الآمر لا يتحقّق بدون شرطه.

(٢) يعني : في هذا البحث.

(٣) تعليل لكون المفروض هنا من وجود الشيء بدون علّته ، وحاصله : أنّ الشرط المفروض عدمه هنا من أجزاء العلّة ، فيلزم من جواز الأمر مع عدم شرطه وجود المعلول بدون العلّة ، إذ لا فرق في وجوده بدونها بين عدم جميع أجزائها ، وبين عدم بعضها ، كالشرط الّذي هو مفروض البحث.

(٤) أي : العلة.

__________________

وبالجملة : يعتبر القدرة هنا ، كاعتبارها في كل خطاب على ما قرّر في محله.

ثالثها : تنجّز الخطابين ، إذ بدونه لا تزاحم بينهما ، حتى يكون كلّ منهما معجّز للآخر ، بداهة توقّف التعجيز على المحرّكية المتوقفة على التنجّز ، كما لا يخفى.

إلى هنا انتهى ما أردنا إيراده من المباحث المتعلّقة بالترتّب ، والحمد لله كما هو أهله والصلاة والسلام على نبيّه وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم إلى يوم الدين.

(*) لكنّه لا ينبغي أن يكون موردا للنزاع المعقول ، إذ لا يعقل النزاع في أنّه هل يجوز وجود المعلول بلا علة ، أم لا؟

كما لا ينبغي أن يجعل النزاع في جواز الأمر الفعلي مع عدم فعليّة موضوعه.

أو يجعل في أنّه هل يجوز الأمر الفعلي مع علم الآمر بانتفاء فعليّة موضوعه؟

فإنّ النزاع على هذه الوجوه غير معقول ، لرجوعها إلى وجود المعلول بدون العلّة ، وإلى الخلف.

فما في بعض الكلمات : «من إرجاع النزاع إلى : أنّه هل يجوز أمر الآمر

٥١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بشيء مع العلم بانتفاء شرط ذلك الشيء ، بمعنى : أنّ المأمور به مشتمل على شرط لا يمكن للمكلّف تحصيله ، على أن يكون مرجع البحث إلى : أنّه هل يجوز تكليف العاجز ، أم لا» لا يخلو من غموض ، لأنّه يرجع إلى بعث فعليّ نحو شيء غير مقدور للعبد. وقد عرفت امتناع فعليّة الحكم مع انتفاء فعليّة موضوعه ، فلاحظ وتدبر.

فالّذي يمكن أن يكون موردا للنزاع المعقول هو : «أنّه هل يجوز الأمر ـ أي أصل الإنشاء ـ بداعي بعث العبد عن ذلك الأمر مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليّته في الخارج ، أم لا».

والحاصل : أنّه هل يجوز الإنشاء بالداعي الّذي يترقّب منه فعليّة الدّعوة ، مع علم الحاكم بانتفاء شرط فعليّتها حين الأمر ، أم لا؟ وهذا نزاع معقول ، غايته : أنّ الأمر بهذا الداعي لغو وإن لم يكن لغوا إذا كان بداع آخر كالامتحان.

ومما ذكرنا ظهر : أنّ المراد بالجواز في عنوان البحث هو : عدم القبح العقلي ، لا الإمكان الذّاتي في مقابل الامتناع الذاتي ـ كاجتماع النقيضين والضدين ـ ولا الإمكان الوقوعي في مقابل الامتناع الوقوعي ـ وهو : ما يلزم من وقوعه المحال ـ إذ لا يلزم من مجرّد الإنشاء المزبور محال كاجتماع النقيضين ، بل غاية ما يلزم منه القبح العقلي.

والّذي يشهد له : ما أخذ في عنوان البحث من العلم بانتفاء الشرط ، لا انتفائه واقعا الّذي هو المعيار في عدم الجواز في الاحتمالين الآخرين ، هذا.

مضافا إلى : انّ البحث عن الجواز بذينك المعنيين ليس من شأن الأصولي ، بل من شأن الحكيم.

وأما الشرط ، فيطلق تارة على شرط الواجب ، وأخرى على شرط الوجوب الّذي له معان ثلاثة :

٥١٧

وانحلال المركّب بانحلال بعض أجزائه (١) ممّا (٢) لا يخفى.

وكون (٣) الجواز في العنوان بمعنى الإمكان الذاتي بعيد (٤) عن محل

______________________________________________________

(١) أي : المركب ، والمراد ب ـ بعض أجزائه ـ هو الشرط.

(٢) خبر ـ وانحلال ـ.

(٣) إشارة إلى توهّم ، وملخصه : كون المراد بالجواز في العنوان هو الإمكان الذاتي ، حيث إنّ امتناع الأمر مع العلم بانتفاء شرطه وان كان بديهيّا ، إلّا أنّ هذا الامتناع لمّا كان بالغير ـ أي بالعرض ـ لنشوه عن عدم علّته ، ولم يكن بالذات فلا ينافي الإمكان الذاتي ، لما قرّر في محلّه : من عدم التنافي بين الإمكان الذاتي ، وبين الامتناع بالغير. فالمراد بالجواز في العنوان هو الإمكان الذاتي ، وحينئذ نقول : هل يمكن ذاتا أمر الآمر بشيء مع علمه بانتفاء شرطه ، أم لا؟ (٤) خبر ـ كون ـ ودفع للتوهّم المزبور ، وحاصله : أنّ جعل الجواز في العنوان بمعنى الإمكان الذّاتي في غاية البعد ، إذ لا ينبغي الارتياب في إمكان وجود الأمر ذاتا بدون شرطه ، فلا وجه لأن يجعل موردا للخلاف والنزاع ، ويقال :

هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه أم لا؟ فلا بد أن يراد بالإمكان : الإمكان الوقوعي ، لا الذاتي.

__________________

الأول : شرط تحقّق الأمر في نفس المولى. والشرط بهذا المعنى يكون من أجزاء علّة وجود الممكن.

الثاني : شرط حسن الأمر ، وعدم قبحه عقلا ، وهي الشرائط العامّة للتكليف من العقل ، والقدرة.

الثالث : الشرط الّذي يعلّق عليه الأمر شرعا ، كالاستطاعة في الحج ، ومضيّ الحول في الزكاة ، ونحوهما. ولفظ «الشرط» ظاهر في الأعمّ من شرط حسن التكليف عقلا ، ومما علّق عليه الخطاب شرعا ، فمع نشوء الخطاب عن الملاك ـ كما عليه العدليّة ـ يقبح الأمر عقلا بما لا غرض ولا مصلحة فيه عند انتفاء الشرط المعلّق عليه الخطاب عقلا وشرعا.

٥١٨

الخلاف بين الأعلام. نعم (١) لو كان المراد (*) من لفظ الأمر (٢) الأمر ببعض (٣)

______________________________________________________

(١) استدراك على قوله : «لا يجوز أمر الآمر ... إلخ» ، ومحصله : أنّه يمكن الالتزام بجواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه فيما إذا أريد من لفظ الأمر بعض مراتبه ـ وهو الإنشاء ـ ومن ضمير ـ شرطه ـ الراجع إليه : بعض مراتبه الآخر وهي الفعليّة ، فإنّ محلّ النزاع حينئذ هو : أنّه هل يجوز للآمر الأمر الإنشائيّ مع علمه بعدم وجود شرط فعليّته ، أم لا؟ فإنّ تحرير محلّ النزاع على هذا النحو لا بأس به ، لأنّه قابل للنزاع في جوازه وعدمه. والحق حينئذ : جوازه ، إذ لا محذور في نفس الإنشاء مع عدم شرط فعليّته ، كقوله : «حجّ إن استطعت» ، حيث إنّه ليس بداعي البعث الجدّي حتى يقبح ذلك على الحكيم ، أو يمتنع ، للزوم وجود المعلول بدون تماميّة أجزاء علّته ، لأنّ ذلك إنّما يلزم إذا أريد بالأمر البعث الفعلي.

وأما إذا أريد به مجرّد الإنشاء ، فلا محذور فيه أصلا ، لكثرة الأغراض الداعية إلى الإنشاء ، وعدم انحصار الغرض منه في كونه بداعي الجدّ ، وإن كان ذلك هو الغالب في أوامر الموالي ، ولذا ينصرف إليه إطلاق ، الأمر ، لكنّه أجنبيّ عن مقام الثبوت المبحوث عنه ، إذ التمسّك بالإطلاق إنّما هو في مقام الإثبات.

(٢) في قولهم : «لا يجوز أمر الآمر ... إلخ».

(٣) وهي : مرتبة الإنشاء.

__________________

(*) وكذا لو أريد من «الأمر» ما يعم الأمر المشروط ، لا ما يخصّ المطلق ، ومن «الشرط» شرط الوجوب ، كأن يقول المولى مع علمه بعدم الاستطاعة : «حجّ إن استطعت» إذ لا ينبغي الإشكال في جواز هذا الأمر.

فالمتحصل : أنّه يمكن تصوير النزاع على وجوه ثلاثة :

الأول : أنّه هل يجوز التكليف بغير المقدور ، أم لا؟ وهو الّذي اختلف فيه العدليّة والأشاعرة ، ولعلّ صدر عنوان البحث ناظر إلى هذا الوجه ، بقرينة التعليل بقوله : «ضرورة أنّه ... إلخ» ، فيكون المراد : أن أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

٥١٩

مراتبه ، ومن الضمير الراجع إليه (١) بعض مراتبه الأخر (٢) ، بأن يكون النزاع في أنّ أمر الآمر يجوز إنشاؤه [إنشاء] مع علمه بانتفاء شرطه بمرتبة فعليّته.

وبعبارة أخرى : كان النزاع في جواز إنشائه مع العلم بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعليّة ، لعدم (٣) شرطه لكان (٤) جائزا.

______________________________________________________

(١) في قولهم : «بانتفاء شرطه».

(٢) وهي : مرتبة الفعليّة.

(٣) تعليل لعدم بلوغ الأمر إلى مرتبة الفعليّة.

(٤) جواب ـ لو كان المراد ـ.

__________________

كقدرة العبد ـ التي هي شرط للأمر والمأمور به ـ هل يجوز أم لا؟

الثاني : أنّه هل يجوز الأمر ـ أي : إنشاؤه مع علم الآمر بعدم شرط فعليته أم لا؟ وقد أشار إليه المصنف بقوله : «نعم لو كان المراد ... إلخ».

الثالث : أنه هل يجوز إنشاء الأمر وإن لم يكن الغرض منه إتيان المأمور به ، بل مصلحة أخرى من امتحان أو غيره ، أم لا؟ وقد أشار إليه المصنف بقوله : «وقد عرفت سابقا : أنّ داعي إنشاء الطلب ... إلخ» ، لكن مرجعه إلى الوجه الثاني ، ولذا لم يجعله المصنّف وجها مستقلا. إلّا أنّ الحقّ سقوط هذا البحث عن الاعتبار ـ بناء على ما هو الحق من كون الأحكام الشرعيّة من القضايا الحقيقيّة ـ ، لأنّه بعد فرض رجوع جميع الشرائط إلى الموضوع سواء أكانت شرعيّة كالبلوغ من الشرائط العامّة ، والاستطاعة ونحوها من الشرائط الخاصّة ، أم عقليّة ، كالقدرة لا يتوجه أمر إلى عاجز حتى ينازع في صحته وعدمها. نعم لهذا البحث مجال ـ بناء على كون الأحكام الشرعيّة من القضايا الخارجية ـ ، لأنّه حينئذ يصحّ أن يقال : هل يجوز أمر العاجز عن إيجاد شيء بالإتيان به ، أم لا؟

٥٢٠