منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٥٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وبالجملة : فوجود أحد الضّدّين متوقّف على عدم الآخر ، ولكن عدم أحدهما لا يتوقّف على وجود الآخر ، فلا يلزم الدور.

وملخص تقريبه : منع صلاحية الضّد الموجود ـ كالإزالة ـ لأن يكون مانعا عن وجود الضّد المعدوم ـ كالصلاة ـ ، فلا تمنع عنها ، فلا يكون عدم الصلاة متوقّفا على وجود الإزالة ، فلا دور.

والوجه فيه : أنّ الصلاحيّة المزبورة موقوفة على محال ، وهو : وجود المقتضي لوجود الضّدّ المعدوم ، والمراد بالمقتضي هو الإرادة ، فإنّه يستحيل تعلّقها بإيجاد الضّد المعدوم.

ووجه الاستحالة : امتناع تمشّي إرادتين متضادّتين متعلّقتين بالضّدّين من شخص واحد ، والمعلّق على المحال محال ، فصلاحيّة وجود الضّد ـ لكونه مانعا عن وجود الضّد المعدوم ـ ممتنعة ، فينحصر التوقّف بطرف العدم ، وهو : مقدّميّة عدم أحد الضّدين لوجود الآخر.

وببيان أوضح : مناط صدق القضية الشرطيّة هو ثبوت العلقة ، والملازمة بين المقدّم والتالي واقعا وإن كان طرفاها كاذبين ، كأن يقال للحجر : «ان كان هذا إنسانا كان حيوانا» ، بل مستحيلين ، كقوله تعالى : «لو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا» ، لاستحالة المقدّم ـ وهو : تعدد الآلهة ـ والتالي وهو الفساد.

فنقول في المقام : إنّ القضيّة الشرطيّة المتصوّرة فيما نحن فيه ، وهي : «لو وجد المقتضي والشرط لوجود الضّدّ المعدوم فعلا كان الضد الموجود مانعا عنه» وإن كانت صادقة ، لثبوت الملازمة واقعا بين المقدّم والتالي. إلّا أنّ طرفيها ، وهما : وجود المقتضي للضّدّ المعدوم ، وكون الضّدّ الموجود فعلا مانعا عنه مستحيلان. وحيث استحال الطرفان ثبت عدم صلاحية الضّدّ الموجود للمانعيّة عن الضّدّ المعدوم ، فلا يتوقّف عدم الضّد على وجود ضدّه ، فارتفع محذور الدور.

٤٤١

عن صلوحه لذلك (١) ، بدعوى : أنّ قضيّة كون العدم مستندا إلى وجود الضّدّ لو كان (٢) مجتمعا مع وجود المقتضي وإن كانت صادقة ، إلّا أنّ صدقها لا يقتضي كون الضّدّ صالحا (٣) لذلك (٤) ، لعدم (٥) اقتضاء صدق الشرطيّة صدق طرفيها (٦). مساوق (٧)

______________________________________________________

وبالجملة : صدق الشرطيّة لا يستلزم صدق المقدّم ولا التالي.

(١) يعني : لأن يتوقّف عدم الضّد على وجود ضدّه ، وضمير ـ صلوحه ـ راجع إلى وجود الضّد.

(٢) أي : لو كان وجود الضّد مجتمعا مع وجود المقتضي للضّدّ المعدوم فعلا.

(٣) وهو التالي في القضيّة الشرطيّة المتصوّرة في المقام ، وهي : لو وجد المقتضي كان الضّد الموجود مانعا.

(٤) أي : للمانعيّة ، حتى يكون عدم الضّد مستندا إلى الضّدّ الموجود.

(٥) تعليل لقوله : «إلّا أنّ صدقها لا يقتضى ... إلخ».

يعني : أنّ مناط صدق القضيّة الشرطيّة ـ كما مرّ آنفا ـ هو : ثبوت الملازمة واقعا بين المقدّم والتالي وإن كان طرفاها كاذبين ، بل مستحيلين ، كما في المقام.

فعلى هذا : لا يتوقّف صدق القضيّة على صدق طرفيها ، فلا تثبت صلاحية الضّد الموجود للمانعيّة بمجرّد صدق القضيّة الشرطيّة حتى يكون ملاك استحالة الدور موجبا لارتفاع التوقّف من الطرفين ، بل التوقّف ثابت في طرف الوجود ، بمعنى : مقدّميّة عدم أحد الضّدين لوجود الآخر ـ كما هو المشهور ـ دون العكس.

(٦) يعني : والصلاحية غير ثابتة ، لعدم ترتّبها على صدق الشرطيّة ، بمعنى : ثبوت الملازمة واقعا بين المقدّم والتالي ، وإنّما هي مترتّبة على صدق الطرفين ، والمفروض استحالتهما ، فالصلاحيّة ممنوعة. فتوقّف عدم الضّد على وجود الضّد الموجود ممنوع ، فلا يلزم ملاك الدور.

(٧) خبر لقوله : «والمنع» ، ودفع له ، وحاصله : أنّ منع صلاحية كون وجود الضّد مانعا عن وجود الضّدّ الآخر مساوق لإنكار المانعيّة أصلا ، ولنفي التوقّف

٤٤٢

لمنع (*) مانعيّة الضّد ، وهو يوجب رفع التوقّف رأسا من البين ، ضرورة أنّه لا منشأ لتوهّم توقّف أحد الضدّين على عدم الآخر إلّا توهّم مانعية الضد ، كما أشرنا

______________________________________________________

حتى من طرف الوجود رأسا ، وهو خلاف ما بنى عليه المشهور : من البناء على توقّف وجود أحد الضّدّين على عدم الضدّ الآخر.

توضيحه : أنّ الضّدّ الموجود ـ كالإزالة ـ لو لم يكن صالحا للمنع عن وجود ضدّه المعدوم فعلا ـ كالصلاة ـ مع تحقّق علّته من المقتضي والشرط لوجب وجوده ، لعدم انفكاك المعلول عن علّته ، ولازمه إمكان اجتماع الصلاة والإزالة في الوجود ، إذ المفروض عدم صلاحية الضّد الموجود فعلا ـ وهو الإزالة ـ للمنع عن وجود الصلاة.

ومن المعلوم : أنّ اجتماعهما في زمان واحد يرفع المانعيّة من الطرفين ، لأنّ إمكان اجتماعهما كما يرفع توقّف عدم الضّدّ ـ كالصلاة ـ على وجوب الضّدّ الموجود كالإزالة ، كذلك يرفع توقّف وجود الضّد على عدم الضّدّ الآخر الّذي هو عمدة مستند القائلين باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضّد ، لأنّ منشأ توهّم مقدميّة عدم أحد الضّدّين لوجود الآخر ليس إلّا مانعيّة الضّدّ المعدوم فعلا ، وبعد فرض إمكان اجتماعهما في الوجود لا يتصوّر المانعيّة للضّدّ المعدوم حتى يكون عدمه دخيلا في وجود ضدّه ، لأجل دخل عدم المانع في وجود المقتضى ـ بالفتح ـ.

وإن شئت فقل : إنّ اجتماع الإزالة والصلاة مثلا في الوجود مع وحدة الزمان والمكان أقوى دليل على عدم التّضاد بينهما الموجب لتمانعهما.

__________________

(*) مع أنّ حديث عدم اقتضاء صدق الشرطيّة لصدق طرفيها وإن كان صحيحا ، إلّا أنّ الشرطيّة هاهنا غير صحيحة ، فإنّ وجود المقتضي للضدّ لا يستلزم بوجه استناد عدمه إلى ضدّه ، ولا يكون الاستناد مترتّبا على وجوده ، ضرورة أنّ المقتضي لا يكاد يقتضي وجود ما يمنع عمّا يقتضيه أصلا كما لا يخفى ، فليكن المقتضي لاستناد عدم الضّد إلى وجود ضدّه فعلا عند ثبوت مقتضي وجوده هو الخصوصيّة الّتي فيه

٤٤٣

إليه (١) ، وصلوحه (٢) لها.

إن قلت (٣) : التمانع بين الضدّين كالنار على المنار ، بل كالشمس في رابعة النهار. وكذا (٤) كون عدم المانع مما يتوقف عليه ممّا لا يقبل الإنكار ، فليس (٥) ما ذكر إلّا شبهة في مقابل البداهة.

______________________________________________________

(١) يعني : في صدر البحث ، حيث قال : «إنّ توقّف الشيء على ترك ضدّه ليس إلّا من جهة المضادة والمعاندة بين الوجودين ، وقضيّتهما الممانعة بينهما».

(٢) معطوف على ـ مانعيّة ـ ، يعني : وتوهم صلوح الضّد للمانعيّة.

(٣) غرضه : دفع الإشكال الّذي أورده بقوله : «مساوق لمنع مانعيّة الضد ... إلخ» توضيحه : أنّ هنا أمرين بديهيّين :

أحدهما : التمانع بين الضّدّين ، فإنّه من الوضوح كالنار على المنار ، فإنكاره مساوق لإنكار البديهي.

والآخر : كون عدم المانع من أجزاء العلّة المتقدّمة رتبة على المعلول.

فالتمانع بين الضّدّين ، وكذا كون عدم المانع من أجزاء العلّة ممّا لا مساغ لإنكاره ، ومقتضى هذين الأمرين : كون عدم الضد مقدّمة لوجود الضّدّ الآخر ، ودخيلا في وجوده دخل عدم المانع في وجود المعلول.

(٤) هذه إشارة إلى الأمر الثاني ، كما أنّ قوله : «التمانع بين الضّدّين» إشارة إلى الأمر الأوّل.

(٥) هذه نتيجة الأمرين البديهيّين المتقدّمين ، يعني : فليس ما ذكر «من منع التمانع بين الضّدّين ، ورفع التوقف رأسا من البين» إلّا شبهة في مقابل البداهة.

__________________

الموجبة للمنع عن اقتضاء مقتضية ، كما هو الحال في كلّ مانع ، وليست في الضّدّ تلك الخصوصيّة ، كيف؟ وقد عرفت : أنّه لا يكاد يكون مانعا إلّا على وجه دائر. نعم إنّما المانع عن الضّد هو العلّة التامّة لضدّه ، لاقتضائها ما يعانده وينافيه ، فيكون عدمه كوجود ضدّه مستندا إليها ، فافهم.

٤٤٤

قلت (١) : التمانع بمعنى التنافي والتعاند الموجب لاستحالة الاجتماع ممّا

______________________________________________________

(١) غرضه : دفع الإشكال الّذي ذكره بقوله : «إن قلت : التمانع بين الضّدّين»

توضيحه : أن للتمانع إطلاقين :

أحدهما : التعاند بين شيئين بحيث يمتنع اجتماعهما في الوجود ، كامتناع اجتماع المتناقضين.

والآخر : كون أحدهما مانعا عن الآخر بالمعنى المصطلح عندهم ، بأن يكون عدمه دخيلا في وجود الآخر ، ومتقدّما عليه طبعا تقدّم جزء العلّة على المعلول ، فنقول :

إن أريد بالتمانع المفروض في السؤال : المعنى الأوّل ، فلا إشكال فيه ، ولا شبهة تعتريه ، لكنّه لا يثبت مرام الخصم ـ وهو : مقدّميّة عدم أحد الضدّين لوجود الآخر ـ لأنّ مجرّد التعاند بين وجود شيئين لا يستلزم كون أحدهما مانعا مصطلحا عن الآخر ، لأنّ له ضابطا لا ينطبق على الضّدّين ، كما سيظهر إن شاء الله تعالى.

وإن أريد به : المعنى الثاني ، فهو وإن كان مقتضيا لمقدّميّة عدم أحدهما لوجود الآخر ، لكن التمانع بهذا المعنى غير ثابت في الضّدّين ، بل مقتضى البرهان الآتي خلافه.

وبالجملة : القدر الثابت من التمانع هو : استحالة اجتماعهما في الوجود ، وأمّا مقدّميّة عدم أحدهما للآخر ، فليست بثابتة ، لعدم انطباق ضابط المانع عليه ، إذ محصّل ضابطه هو : أنّ المانع المصطلح عبارة عمّا ينافي ويزاحم المقتضي ـ بالكسر ـ في تأثيره ، وترتّب المقتضى ـ بالفتح ـ عليه ، بحيث يكون عدمه من أجزاء علّة وجود الأثر ، ومتقدّما عليه ، كالتقدّم الطبعي لسائر أجزاء العلّة الناقصة على المعلول.

وهذا المعنى من المانع لا ينطبق على الضّد ، لكون الضّدّين كالنقيضين في رتبة واحدة ، لوضوح عدم تقدّم وجود السواد على وجود البياض بشيء من أنحاء السبق ، بل هما في رتبة واحدة ، ومع وحدة رتبة العينين لا بدّ أن يكون نقيض كل منهما أيضا في رتبة عين الآخر ، حفظا لمرتبة النقيضين ، فعدم السواد يكون في رتبة وجود

٤٤٥

لا ريب فيه ، ولا شبهة تعتريه ، إلّا أنّه (١) لا يقتضي إلّا امتناع الاجتماع ، وعدم (٢) وجود أحدهما إلّا مع عدم الآخر الّذي (٣) هو بديل (٤) وجوده المعاند (٥) له (٦) ، فيكون (٧) في مرتبته ، لا مقدّما عليه ولو (*) طبعا (٨).

______________________________________________________

البياض ، إذ المفروض كون نفس السواد في رتبة البياض ، ومع اتحاد عدم أحدهما مع عين الآخر رتبة لا يتصوّر المقدّميّة المتقوّمة بالتقدّم الطبعي. فدعوى : مقدّميّة عدم أحدهما لوجود الآخر تستلزم انخرام قاعدة وحدة رتبة النقيضين.

(١) أي : التعاند. حاصله : أن مجرّد التعاند ليس لازما مساويا للمانعيّة المصطلحة.

(٢) معطوف على قوله : «امتناع» ، يعني : أنّ التعاند لا يقتضي إلّا امتناع اجتماع الضّدّين ، وأنّ وجود أحدهما لا يكون إلّا مع عدم الآخر ، فوجود السّواد مثلا ليس إلّا في ظرف عدم البياض الّذي هو بديل وجود البياض المعاند لوجود السواد. وأمّا أنّ عدم أحدهما لا يكون إلّا مع وجود الآخر ـ كما هو محل البحث ـ فلا يقتضيه الامتناع المذكور. فضمير ـ أحدهما ـ راجع إلى الضّدّين.

(٣) صفة لقوله : «عدم» ، وضمير ـ هو ـ راجع إلى ـ عدم ـ.

(٤) أي : نقيض وجوده.

(٥) نعت لقوله : «وجوده» ، فإنّ عدم البياض نقيض وجود البياض الّذي هو معاند لوجود السواد.

(٦) أي : لوجود أحدهما.

(٧) يعني : فيكون عدم الآخر في مرتبة وجود الضدّ ، لا مقدّما عليه في الرتبة.

(٨) التقدّم الطبعي اصطلاحا هو : تقدّم العلّة الناقصة على المعلول ، في قبال التقدّم بالعليّة الّذي هو تقدّم العلّة التامّة على المعلول.

__________________

(*) الظاهر : زيادة كلمة «ولو» ، إذ التقدّم على فرضه ليس في العلّة الناقصة إلّا طبعيّا ، فتدبّر.

٤٤٦

والمانع الّذي يكون موقوفا على عدم (*) الوجود هو ما كان ينافي ويزاحم المقتضي في تأثيره ، لا ما يعاند الشيء ويزاحمه في وجوده (١) (**).

______________________________________________________

(١) يعني : كما في الضّدّين ، فإنّ كلّا منهما يعاند الآخر في وجوده ، ولا يزاحم ما يقتضي وجوده ، فالسّواد المتلوّن به المحل وإن كان يعاند وجود البياض فيه ، إلّا أنّه لا يزاحم مقتضية ، بحيث يمنعه عن تأثيره في المقتضى ـ بالفتح ـ وهو وجود البياض. قال في البدائع : «فإنّ وجود شيء منهما لا يمنع عن تأثير مقتضي الآخر ، بل يرتفع بمجرد مقتضية ، فيكون ارتفاعه ووجود ضدّه مستندين إلى نفس المقتضي ، وهذا يدلّ على أنّ صرف التضاد لا يوجب التمانع ، إذ المانع من شأنه منع تأثير المقتضي ، ومع عدم المنع كيف يكون مانعا».

__________________

(*) الظاهر : سقوط الضمير ، فحقّ العبارة أن تكون هذا : «على عدمه الوجود».

(**) وممّا يشهد بعدم مقدّميّة عدم أحد الضّدّين لوجود الآخر : ما أفاده في البدائع من : «أنّه يجوز أن يكون عدم أحد الضّدين ووجود الآخر معلولي علّة واحدة ، كالحرارة ، والبرودة ، والموت ، والحياة ، والنور ، والظلمة ، والحركة ، والسكون ، فإنّ علّة وجود الحرارة مثلا هو علّة عدم البرودة ، وهكذا. فالضدّيّة شيء ، والمانعيّة شيء آخر لا ملازمة بينهما ، فالحكم بالمانعيّة بمجرّد الضّديّة لا سبيل إليه ، ولا دليل عليه ، سوى أنّهما لا يجتمعان. وقد سبق غير مرّة : أنّ عدم الاجتماع أعم من التمانع».

وجه الشهادة : أنّ عدم الضّد حينئذ يكون في رتبة وجود الضّد الآخر ، إذ المفروض كونهما معلولين لعلّة واحدة ، ووحدة الرتبة بين المعلولات المتعدّدة لعلّة واحدة واضحة ، لأنّ تأثيرها في معلولها المتعدّد على نسق واحد. كوضوح تقدّم رتبة أجزاء العلّة الناقصة ـ الّتي منها عدم المانع ـ على المعلول.

وعليه : فيلزم في الصورة المذكورة عرضيّة أجزاء العلّة للمعلول ، ولا يمكن

٤٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الالتزام بذلك ، فبطلان اللازم يكشف عن بطلان القول بدخل عدم الضّدّ في وجود الضدّ الآخر من باب دخل عدم المانع.

فالمتحصل : أنّه لا وجه لمقدّميّة عدم أحد الضّدّين لوجود الآخر.

كما لا وجه لوجوب مقدّمة الواجب ، كي يقال : إنّ عدم الضّد ـ كالصلاة ـ واجب لكونه مقدّمة للواجب ـ كالإزالة ـ فتحرم الصلاة ، لكونها مانعة عن الواجب ، هذا.

ثم إنّه يترتّب الثمرة على مقدّميّة عدم أحد الضّدّين لوجود الآخر ، وهي : مسألة الوضوء الارتماسي فيما إذا كان بعض أعضاء الوضوء متنجّسا ، كاليد ، ورمسها في الماء قاصدا به الوضوء.

فعلى القول بالمقدّميّة لا يصح الوضوء ، إذ لا بدّ من تقدّم عدم النجاسة على الغسل الوضوئي ، فلا يتحقّق الوضوء ، وطهارة العضو برمس واحد ، لكونهما ـ بعد وضوح معلوليّتهما لهذا الرمس ـ في رتبة واحدة.

وعلى القول بعدم المقدّميّة ، وكون عدم أحد الضّدّين في رتبة وجود الآخر يصح الوضوء ، إذ لا يعتبر تقدّم عدم نجاسة العضو على الغسل الوضوئي ، فلا مانع من تحقّق طهارة العضو والغسل الوضوئي برمس واحد.

وكذا الحال في الغسل الارتماسي في الماء المعتصم مع نجاسة جميع البدن أو بعضه ، فإنّ الغسل صحيح برمس واحد ـ بناء على عدم المقدّميّة ـ ، وباطل بناء عليها ، فلاحظ وتأمّل.

وكذا تظهر الثمرة في جعل الشرطيّة لأحد الضدّين ، كالاستقبال في الصلاة والمانعيّة للآخر ـ كالاستدبار ـ ، فإنّه ـ بناء على مانعيّة أحد الضّدّين للآخر ليكون عدمه دخيلا في وجود الآخر من باب دخل عدم المانع ـ يلغو ، بل يمتنع جعل كلتيهما ، وإنّما الممكن جعل الشرطيّة فقط ، لأنّه ـ بناء على ترتّب أجزاء العلّة ـ يكون الشرط مقدّما على المانع ، فيستند الأثر إليه ، لا إلى المانع.

٤٤٨

نعم (١) العلّة التامّة لأحد الضّدّين ربّما تكون مانعا عن الآخر ، ومزاحما

______________________________________________________

(١) هذا استدراك على ما تقدم : من كون عدم أحد الضّدين دائما مستندا إلى عدم مقتضية ، لا إلى وجود المانع وهو الضّدّ الآخر.

وحاصل الاستدراك : أنّه قد يتّفق أن يكون عدم أحد الضدّين مستندا إلى وجود المانع ، وهو الضّد الآخر ، كما إذا كان المقتضي لكلّ واحد من الضّدّين موجودا ، وكان مقتضي أحدهما أقوى من مقتضي الآخر ، فإنّ الأقوى يؤثّر في مقتضاه ، فيوجد ، ويعدم الآخر ، فلا محالة يستند حينئذ عدم الآخر إلى المانع ، وهو علّة وجود الضدّ الآخر ، لا إلى عدم مقتضية ، إذ المفروض وجوده. كالمثال المذكور في المتن ، فإنّ المقتضي لإنقاذ الأخ ـ وهو الشّفقة ـ موجود ، فعدمه لا محالة يستند إلى المانع ، وهو زيادة الشفقة على الولد ، فليس عدم الضّد دائما مستندا إلى عدم المقتضي ، بل قد يستند إلى وجود المانع ، وهو علّة وجود الضّد الآخر.

__________________

فبطلان الصلاة مثلا يستند إلى فقدان الشرط ـ وهو الاستقبال ـ لا إلى وجود المانع ـ وهو الاستدبار ـ ، فلا أثر لجعل المانعيّة للاستدبار أصلا. وبناء على عدم المانعيّة ، وعدم كون عدم أحد الضدّين مقدّمة لوجود الآخر ، لكون الضّدّين في رتبة واحدة ، لا مانع من جعل كلّ من الشرطيّة والمانعيّة ، إذ ليس عدم أحدهما مقدّمة لوجود الآخر ليكون وجوده مانعا مصطلحا ، وعدمه عدم المانع كذلك ، حتى يجري فيه حديث تقدّم الشرط رتبة على المانع ، ويلزم لغويّة أو امتناع جعل المانعيّة للضد الآخر ، بل لمّا كانا في رتبة واحدة جاز جعل الشرطيّة لأحدهما. والمانعيّة للآخر ، فيستند الأثر إليهما معا ، كالطهارة والحدث ونحوهما ممّا اعتبر في أجزاء المركّب والأكوان المتخلّلة بينها.

أو إلى المانع فقط ، كما إذا فرض كون الاستقبال شرطا في خصوص الأجزاء ، والاستدبار مانعا مطلقا حتى في حال السكوتات ، فالبطلان يستند إلى الاستدبار إذا وقع في غير الأجزاء ، وإذا وقع فيها يستند إلى فقدان الشرط ووجود المانع معا.

٤٤٩

لمقتضيه في تأثيره ، مثلا : يكون شدّة الشفقة على الولد الغريق ، وكثرة المحبة له تمنع عن أن يؤثّر ما في الأخ الغريق من المحبة والشفقة لإرادة إنقاذه مع المزاحمة ، فينقذ الولد دونه (١) ، فتأمل جيّدا.

ومما ذكرنا (٢) ظهر : أنّه لا فرق بين الضدّ الموجود والمعدوم في أنّ

______________________________________________________

(١) أي : الأخ.

(٢) من عدم مقدّميّة عدم أحد الضّدّين لوجود الآخر ، لوجهين :

أحدهما : الوجدان الّذي أشار إليه بقوله : «وذلك لأنّ المعاندة والمنافرة بين الشيئين ... إلخ».

والآخر : البرهان الّذي تعرّض له بقوله : «كيف ولو اقتضى التضاد توقّف وجود الشيء على عدم ضدّه ... إلخ» ، والغرض من هذه العبارة : ردّ التفصيل في المقدّميّة بين الضدّ المعدوم والضدّ الموجود بتسليم المقدّميّة في الضدّ الموجود ، وأنّ عدم الضّد الموجود مقدّمة لوجود الضّدّ الآخر ، دون المعدوم ، وأنّ عدم الضّد المعدوم ليس مقدّمة لوجود الضّد الآخر.

وبعبارة أخرى : وجود أحد الضّدين يتوقّف على عدم الضّد الموجود ، ولا يتوقّف على عدم الضّدّ المعدوم ، وسيأتي توضيحه عن قريب إن شاء الله تعالى ، مثلا : إذا كان الجسم مشغولا بالسواد ، فبياضه موقوف على رفع السواد.

وأمّا إذا لم يكن مشغولا به ، فبياضه غير موقوف على عدم السواد.

وهذا تفصيل بين الرفع والدفع في ترك الضّد ، وأنّ وجود الضّد متوقّف على رفع الضّدّ الآخر ، وليس متوقّفا على دفعه ، فليس ترك الضّد مطلقا مقدّمة لفعل

__________________

أو إلى الشرط فقط ، كما إذا فرض كون الطهارة شرطا مطلقا ، والحدث مانعا في حال الأجزاء ، فالبطلان حين فقدان الطهارة في حال السكوتات يستند إليه ، لا إلى وجود الحدث ، وفي حال الأجزاء يستند إليهما معا.

والمعوّل في كيفيّة الشرطيّة والمانعيّة إطلاقا وتقييدا هي أدلّة الشرائط والموانع.

٤٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

ضدّه ، بل إذا كان موجودا ، فرفعه مقدّمة لوجود الآخر.

وأمّا فعل الضّد ، فليس مقدّمة للترك مطلقا.

فهذا القول مركّب من عقدين : إيجابي ، وسلبي.

أما الأول ، فهو : مقدّميّة عدم الضّدّ الموجود ـ كالسواد ـ لوجود الضّدّ المعدوم كالبياض.

وأما الثاني ، فهو : عدم مقدّميّة عدم الضّد المعدوم لوجود الضّدّ الآخر.

وبعبارة أخرى : عدم حدوث الضّد ليس مقدّمة لوجود الضّدّ الآخر. والدليل على الجزء الإيجابي هو دليل المشهور : من كون الضّد مانعا ، وعدم المانع مقدّمة.

والدليل على العقد السلبي يمكن أن يكون أحد أمرين ـ على ما في البدائع ـ : «

أحدهما : أنّ مقدّمة الشيء ما كان مقدّما عليه زمانا ، كما يشعر به عنوان المقدّميّة ، فما كان مقارنا مع الشيء ، فليس هو مقدّمة له وإن كان مفتقرا إليه بالذات ، ولذا لا يعدّون الجزء من المقدّمات ، مع أنّ الافتقار إليه أشد وآكد.

وثانيهما : أنّ عدم الضّد صار مقدّمة للآخر من حيث كون عدم المانع مقدّمة ، وغير الموجود ليس بمانع ، فلا يكون عدمه مقدّمة للضّد الآخر».

ثمّ ضعّف هو (قده) كلا الوجهين ، فراجع.

وكيف كان ، فمحصّل ما أفاده المصنّف (قده) في ردّ هذا التفصيل بقوله : «وممّا ذكرنا ظهر ... إلخ» هو : أنّه اتّضح ممّا تقدّم ـ من وحدة رتبة الضّدين المستلزمة لاتّحاد كلّ من العينين رتبة مع نقيض الآخر ـ : بطلان المقدّميّة المتوقّفة على تعدّد الرّتبة ، وتقدّم المقدّمة على ذيها رتبة ، فإنّ ملائمة وجود كلّ منهما مع عدم الآخر دليل على عرضيّة عدم كلّ منهما مع وجود الآخر ـ على التفصيل المتقدّم ـ ، ومع العرضيّة تمتنع المقدميّة ، فلا فرق في بطلان مقدّمية عدم أحد الضّدين لوجود الآخر بين رفع هذا الضّد فيما إذا كان موجودا ، ودفعه ـ بمعنى المنع عن حدوثه ـ فيما إذا كان معدوما.

٤٥١

عدمه (١) الملائم للشيء المناقض لوجوده المعاند لذلك لا بدّ أن يجامع معه من غير مقتض لسبقه (٢) ،

______________________________________________________

وبعبارة أخرى : لا فرق في بطلان مقدّميّة عدم أحدهما لوجود الآخر بين الرفع والدفع.

(١) أي : عدم الضّد مطلقا ، كعدم البياض الملائم للشيء كوجود السواد المناقض عدم البياض لوجوده بالضرورة المعاند هذا الوجود لذلك الشيء ـ أعني السواد ـ ، لوضوح التّضاد بين السواد والبياض.

وملخصه : أنّه إذا كان عدم البياض مثلا ملائما لوجود السواد ، ومجتمعا معه ، وكان وجود البياض معاندا لوجود السواد ، ومضادّا له ، وفي مرتبته ، فلا بد أن يكون عدم البياض الّذي هو نقيض البياض في مرتبة السواد أيضا ، لوحدة النقيضين رتبة ، فلا وجه لسبق عدم البياض على وجود السواد حتى يكون عدم البياض مقدّمة لوجود السواد.

وبالجملة : لا فرق في عدم مقدّميّة عدم الضّد لوجود الآخر بين الرفع والدفع.

ومما ذكرنا اتّضح مراد المصنف من العبارة ، وأنّ قوليه : ـ الملائم ـ و ـ المناقض ـ نعتان لقوله : ـ عدمه ـ ، والمراد بقوله : ـ للشيء ـ هو : وجود الضد الآخر ، وقوله : ـ لوجوده ـ متعلّق ب ـ المناقض ـ ، وضميره راجع إلى ـ عدمه ـ ، فإنّ عدم البياض مناقض لوجوده ، وقوله : ـ المعاند ـ صفة ل ـ وجوده ـ ، وقوله : ـ لذلك ـ إشارة إلى ـ الشيء ـ المراد به : وجود الضد الآخر ، بداهة معاندة وجود البياض لوجود السواد ، لكونهما متضادّين ، وقوله : ـ لا بد ـ خبر ـ إن عدمه ـ ، وضمير ـ يجامع ـ راجع إلى ـ عدمه ـ ، وضمير ـ معه ـ راجع إلى ـ الشيء ـ المراد به : وجود الضّد ، يعني : أن عدم الضد الملائم ... إلخ لا بدّ أن يجامع مع وجود الضّد من غير مقتض لسبقه على وجود الضّد حتى يكون مقدّمة له.

(٢) أي : سبق عدم الضّدين على وجود الآخر ، وهذا إشارة إلى : مقتضى الوجدان الّذي أشار إليه بقوله : «وذلك لأنّ المعاندة ... إلخ».

٤٥٢

بل (١) قد عرفت (٢) ما يقتضي عدم سبقه.

فانقدح بذلك (٣) : ما في تفصيل بعض الأعلام (٤) ، حيث قال : «بالتوقف على رفع الضدّ الموجود (٥) ، وعدم التوقّف (٦) على عدم الضد المعدوم» ، فتأمّل

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى : برهان الدّور المترتّب على مقدّميّة عدم أحد الضدّين لوجود الآخر.

(٢) حيث قال في أوائل بحث الضد : «كيف ولو اقتضى التضاد توقّف وجود الشيء على عدم ضده ... إلخ».

(٣) أي : بما مرّ من الوجدان ، والبرهان على عدم مقدّميّة عدم أحد الضدّين لوجود الآخر.

(٤) وهو المحقق الخوانساري (قده) على ما في البدائع وغيره.

ويظهر من التقريرات : ميل شيخنا الأعظم (قده) أيضا إليه ، حيث قال المقرّر ـ بعد بيان كلام المحقق الخوانساري (قده) ـ ما لفظه : «هذه خلاصة مراده ، وهي خير ما يقال في هذا المقام ، ولذا جنح إليه الأستاذ دام ظله المتعال ، إلّا أنّها مع ذلك لا تخلو عن المناقشة والإشكال من وجوه». وقال في البدائع : «وهذا التفصيل خير الأقوال الّتي عثرتها في مقدّميّة ترك الضّد حتى ركن إليه شيخنا العلّامة (قده)» لكن ركون الشيخ إليه ينافي الإشكالات الّتي أوردها على التفصيل المزبور ، فراجع التقريرات.

(٥) هذا هو الالتزام بالتوقّف في ناحية الرفع الّذي هو نقيض البقاء أعني به : توقّف السواد مثلا على رفع البياض الموجود فعلا.

ووجه الالتزام بالتوقّف من هذه الناحية : أنّه مع عدم ارتفاعه يلزم جواز اجتماع الضّدين ، مثلا : إذا كان البياض شاغلا للمحل ، ولم يكن ارتفاعه مقدّمة لوجود السّواد ، لزم اجتماع البياض والسواد اللّذين هما من الضدّين المعلوم امتناع اجتماعهما ، فلا بد من ارتفاع البياض حتى يمكن طروّ السواد على المحل ، كما لا يخفى.

(٦) هذا هو الالتزام بالتوقّف في ناحية الدفع الّذي هو نقيض الحدوث ، أعني

٤٥٣

في أطراف ما ذكرناه ، فإنّه دقيق ، وبذلك حقيق.

فقد (١) ظهر : عدم حرمة الضدّ من جهة المقدّمية.

وأما (٢) من (*) جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود في

______________________________________________________

به : عدم توقّف السواد مثلا على دفع البياض المعدوم فعلا ، بمعنى المنع عن حدوثه.

ووجه الالتزام بعدم التوقّف من هذه الناحية هو : ما تقدّم في كلام البدائع من أنّ غير الموجود ليس بمانع ، فلا يكون عدمه مقدّمة للضّد الآخر.

(١) هذه نتيجة ما أفاده من منع مقدّميّة عدم الضّد لوجود الآخر.

وحاصله : أنّه ـ بعد منع المقدّميّة ـ اتّضح عدم حرمة الضّد ، حيث إنّها كانت مبنيّة على مقدّميّة ترك الضّد ، بتقريب : أنّ ترك الصلاة واجب ، لكونه مقدّمة للواجب ـ وهو الإزالة ـ فوجود الصلاة حرام ، لكونه ضدّا للواجب أعني : الإزالة.

هذا تمام الكلام في اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه ، لأجل مقدّميّة عدم الضّدّ لوجود الآخر ، وبعد منع المقدّميّة ينهدم ما بني عليها من الاقتضاء المزبور.

(٢) غرضه : تقريب اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضّد من ناحية التلازم بين فعل المأمور به وترك ضدّه ، وتوضيحه : أنّ عدم الضّد إن لم يكن مقدّمة لفعل الآخر ، فلا أقلّ من كونه ملازما له ، كعدم الصلاة الّذي هو ملازم لوجود الواجب ، أعني : الإزالة ، والمتلازمان في الوجود متلازمان في الحكم ، فعدم الصلاة الملازم للواجب ـ كالإزالة ـ واجب ، ووجودها حرام ، ووجوب عدم الصلاة من باب التلازم يقتضي النهي التحريمي عن وجودها ، فالأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ، لأجل التّلازم.

__________________

(*) الفرق بين الاقتضاء المقدّمي والتلازمي هو : أنّ مقتضى الأوّل وجوب ترك الضد غيريّا ، لكون الوجوب ثابتا له لأجل المقدّميّة ، ومقتضى الثاني ـ على تقدير تماميّته ـ هو : كون حكمي المتلازمين من سنخ واحد ، فإذا كان أحدهما واجبا نفسيّا أو غيريّا كان الآخر مثله ، لكونهما عرضيّين ، ومعلولين لعلّة واحدة.

٤٥٤

الحكم (١) ، فغايته (٢) أن لا يكون أحدهما فعلا محكوما بغير ما حكم به الآخر (٣) ، لا أن يكون محكوما بحكمه (٤).

______________________________________________________

(١) متعلّق بقوله : «اختلاف» ، كما أنّ قوله : «في الوجود» متعلق ب : المتلازمين.

(٢) جواب ـ أمّا ـ ، وحاصله : منع اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه من ناحية التلازم ، كمنعه من جهة مقدّميّة عدم الضّد.

وملخص وجه منع الاقتضاء من ناحية التلازم أيضا هو : منع الكبرى ، وهي : لزوم اتّحاد المتلازمين وجودا في الحكم ، وذلك لما تقرر عند مشهور العدليّة : من تبعيّة الأحكام لما في متعلّقاتها من الملاكات الداعية إلى تشريعها ، والتلازم المذكور يوجب ثبوت الحكم للملازم بلا ملاك يدعو إلى تشريعه له ، لوضوح أنّ المفروض عدم الملاك إلّا في متعلّق الحكم ، كالاستقبال الّذي هو واجب ، لمصلحة فيه. وأمّا ملازمه ـ كاستدبار الجدي في بعض الأمكنة ـ فلا ملاك له يقتضي وجوبه. وإثبات الوجوب له للتّلازم بينه وبين الاستقبال الواجب ممّا لا يساعده برهان ، ولا وجدان ـ كما في البدائع ـ. نعم لا بد أن لا يكون الملازم محكوما بحكم فعليّ يوجب عجز المكلّف عن امتثال أمر الملازم الآخر ، كالاستقبال ، فإنّ ملازمه ـ كالاستدبار في بعض الأقطار ـ يمتنع أن يكون محرّما ، لكونه سالبا للقدرة على إطاعة أمر الاستقبال ، ومعجّزا للعبد عن امتثاله.

(٣) يعني : بحيث يكون ذلك الحكم المغاير الفعلي معجّزا للمكلّف عن امتثال التكليف بالملازم الآخر ، كالحرمة بالنسبة إلى الوجوب ، كما تقدّم توضيحه.

(٤) الضمير راجع إلى ـ الآخر ـ ، يعني : لا أن يكون أحد المتلازمين ـ كاستدبار الجدي ـ محكوما بحكم الآخر كالاستقبال.

والحاصل : أنّ مبنى اعتبار وحدة المتلازمين وجودا في الحكم ممنوع جدّاً ، إذ لا دليل على لزوم اشتراكهما في الحكم ، كما عن الكعبي القائل بلزوم اتّحادهما فيه.

٤٥٥

وعدم (١) خلوّ الواقعة عن الحكم [فهو] إنّما (٢) يكون بحسب الحكم الواقعي ، لا الفعلي (*) ، فلا حرمة (٣) للضّد من هذه الجهة (٤)

______________________________________________________

(١) إشارة إلى توهّم ، وهو : أنّه ـ بناء على ما ذكر من عدم محكوميّة أحد المتلازمين فعلا بحكم الملازم الآخر ـ يلزم إشكال لا تلتزم به الخاصة ، وهو : خلوّ الواقعة عن الحكم ، إذ المفروض أنّ استدبار الجدي مثلا الملازم للاستقبال الواجب ليس واجبا فعلا ، لعدم ملاك فيه يدعو إلى تشريع الوجوب له.

(٢) هذا دفع لتوهّم لزوم خلوّ الواقعة عن الحكم.

وملخص دفعه : أنّ حديث عدم خلوّ واقعة عن حكم أجنبيّ عن الحكم الفعلي ، لأنّ مورده هو الحكم الواقعي الإنشائيّ ، دون الحكم الفعلي ، فعدم الصلاة مثلا الملازم لوجود الواجب ـ كالإزالة ـ لا يخلو عن حكم واقعيّ إنشائيّ ـ كالحرمة مثلا ـ ، ولا يوجب ذلك أن يصير فعليّا ، لملازمته مع وجود واجب.

وبالجملة : الحكم الواقعي المجعول لملازم الواجب إنشائيّ غير فعليّ ، فلا يلزم من نفي فعليّة الحكم الملازم نفي الحكم الواقعي الإنشائيّ حتى يلزم محذور خلوّه عن الحكم الواقعي.

(٣) هذه نتيجة ما ذكره من التلازم ، يعني : أنّ الأمر بأحد الضّدّين لا يقتضي النهي عن ضده من ناحية التلازم.

(٤) أي : من جهة التلازم.

__________________

(*) هذا مبنيّ على ما يراه المصنّف (قده) : من تعدّد مراتب الحكم.

ثم إنّ المحقّق المشكيني (قده) قال في حاشيته ما لفظه : «ويشهد لما ذكرنا من أنّ عدم الخلوّ إنّما هو في الأحكام الواقعيّة ، لا الفعليّة : ما نقل (١) عن سيد الموحّدين عليه‌السلام : انّ الله تعالى سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا ، الخبر ، فإنّ السكوت عنها كناية عن عدم بلوغها إلى مرتبة الفعليّة».

__________________

(١) الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٦.

٤٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أقول : دلالة الحديث على ذلك منوطة بإرادة عدم البيان من السكوت ، لأنّ المعنى حينئذ هو : «أنّ لله تعالى أحكاما واقعيّة قد أنشأها ، لكنّه لم يبلّغها ولم يبيّنها نسيانا». بخلاف ما إذا أريد من السكوت : عدم التشريع مع اقتضاء المصالح والمفاسد له ، كما هو الظاهر بقرينة قوله عليه‌السلام : «انّ الله حدّ حدودا ، فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تنقصوها ، وسكت عن أشياء» الحديث ، فإنّ مقابلة السكوت لتحديد الحدود ، وفرض الفرائض تقتضي السكوت عن التشريع والإنشاء ، في قبال تشريع الحدود والفرائض.

فالمراد من الحديث ـ والله العالم ـ هو : أنّ جملة من الأشياء كانت مشتملة على ملاكات مقتضية لتشريع أحكام إلزاميّة ، لكنه تعالى شأنه لم يشرّع تلك الأحكام لا لأجل الغفلة والنسيان ، بل للرحمة والامتنان ، فمصلحة التسهيل صارت مانعة عن جعل تلك الأحكام الإلزاميّة ، وإنشائها.

ومن المعلوم : أنّ هذا المعنى أجنبيّ عمّا أرادوا إثباته بالحديث المزبور ، من جعل الأحكام وإنشائها ، وعدم بلوغها إلى مرتبة الفعليّة.

وبالجملة : فظاهر هذه الرواية عدم الإنشاء ، لا عدم الفعليّة.

نعم لا بأس بالاستدلال على عدم الفعليّة بما دلّ على تفويض بيان جملة من الأحكام إلى الإمام الثاني عشر عجل الله تعالى فرجه لأنّه صلوات الله عليه يبلّغ الأحكام الّتي أنشأها الله عزوجل ولم تقتض المصلحة تبليغها إلى العباد ، فإنّ تلك الأحكام واقعيّة إنشائيّة ، لا فعليّة.

أما كونها منشأة ، فلأنّ الإمام عليه‌السلام مبلّغ للأحكام ، لا مشرّع لها.

وأما عدم فعليّتها ، فلأنّ المفروض عدم بلوغها إلى العباد ، كما لا يخفى.

٤٥٧

أيضا (١) ، بل (٢) على ما هو عليه لو لا (*) الابتلاء بالمضادّة للواجب الفعلي من (٣) الحكم الواقعي.

______________________________________________________

(١) يعني : كعدم ثبوت حرمة الضّدّ من ناحية المقدّميّة.

وغرضه : أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه ، لا من جهة المقدّميّة.

لما تقدّم : من منع الصغرى أعني المقدّميّة. ولا من جهة التلازم ، لما مرّ آنفا : من منع الكبرى ، وهي : ترشّح الحكم من الملازم على ملازمه.

(٢) يعني : أنّ الضّد لا يصير حراما للأمر بضدّه ، بل هو باق على ما كان عليه من الحكم الواقعي ، فالصلاة إذا كان حكمها الواقعي الوجوب ، وكان فعليّا لا يتغيّر بمضادّتها للإزالة ، بل يبقى على الوجوب ، غاية الأمر : أنّ فعليّته تتبدّل بالإنشائيّة.

(٣) بيان ل ـ ما ـ الموصلة في قوله : «بل على ما هو عليه».

__________________

(*) ظاهره : بقاء الحكم الواقعي لو لا الابتلاء بالضّد الواجب ، فمع الابتلاء به يرتفع الحكم الواقعي ، فيعود محذور خلوّ الواقعة عن الحكم.

وهذا الظاهر خلاف مراده (قده) ، لأنّ الغرض ارتفاع الفعليّة بسبب الابتلاء بالضّد الواجب ، لا ارتفاع نفسه ، وإلّا عاد محذور خلوّ الواقعة عن الحكم.

فلا تخلو العبارة عن القصور ، فينبغي أن تكون هكذا : «بل على ما هو عليه من فعليّة الحكم الواقعي لو لا الابتلاء بالضد الواجب ، ومعه ينقلب إلى الإنشائيّة».

ثم إنّه ـ بناء على تضادّ الأحكام الخمسة في مقام الجعل ـ لا بد أن لا يكون ملازم الضّد الواجب محكوما بشيء من الأحكام الأربعة الباقية ، لأنّ كلّا منها يضادّ الوجوب ، فيمتنع أن يكون حكم أحد المتلازمين ـ كالإزالة ـ الوجوب ، وحكم الآخر ـ كترك الصلاة ـ الحرمة ، أو الكراهة ، أو الندب ، أو الإباحة.

بل لا بد حينئذ من الالتزام ببقاء الملازم ـ كالصلاة ـ على ما كانت عليه قبل التشريع من الإباحة الأصليّة ، فتأمّل جيّدا.

٤٥٨

الأمر الثالث (١) : أنّه قيل بدلالة الأمر بالشيء بالتضمّن على النهي عن الضّدّ العام بمعنى الترك (٢) ، حيث إنّه (٣) يدلّ على الوجوب المركّب من طلب الفعل والمنع عن الترك.

والتحقيق (٤) :

______________________________________________________

(١) الغرض من عقد هذا الأمر : بيان عدم الاقتضاء بنحو التضمّن والعينيّة ، إذ من الأقوال : اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه تضمّنا ، كما أنّ منها : اقتضاؤه له عينا.

أما تقريب الأوّل ، فهو : أنّ الوجوب عبارة عن طلب الفعل مع المنع من الترك ، فالنهي عن الضّدّ العام ـ وهو الترك ـ جزء مدلول الوجوب ، فيكون اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عنه بالتضمّن ، ولا ينبغي الإشكال في ذلك بناء على تركّب الوجوب من طلب الفعل والمنع عن تركه.

(٢) لا بمعنى : أحد الأضداد الوجوديّة لا بعينه ـ كما هو أحد إطلاقات الضّد ـ لأنّه بهذا المعنى يرجع إلى الضّد الخاصّ.

(٣) أي : الأمر ، وهذا تقريب الاقتضاء التضمّني الّذي عرفته آنفا.

(٤) غرضه : المناقشة في الاقتضاء التضمّني المزبور بما يرجع إلى عدم تسليم تركّب الوجوب.

وحاصله : أنّ الوجوب بسيط ، حيث إنّه عبارة عن مرتبة أكيدة من الطلب يعبّر عنها بالطلب الشديد ، كما أنّ الندب هو الطلب الضعيف.

وعليه : فلا تركّب في الوجوب. وتعريف جلّ الأصوليّين له ب : «طلب الفعل مع المنع من الترك» تعريف له بلازمه ، ضرورة أنّ لازم المرتبة الشديدة من الطلب هو المنع من الترك ، لا أنّ للوجوب جنسا وفصلا حتّى يكون مركّبا.

وعليه : فليس المنع من الترك جزءا من مدلول الوجوب حتّى يقتضي النهي عن الضّدّ العام بمعنى الترك تضمّنا. فدعوى : الاقتضاء التضمّني ساقطة من أصلها لابتنائها على تركّب الوجوب الّذي أنكره المصنّف والتزم ببساطته.

٤٥٩

أنّه لا يكون الوجوب إلّا طلبا بسيطا (١) ، ومرتبة وحيدة أكيدة (٢) من الطلب ، لا مركّبا من طلبين (٣).

نعم (٤) : في مقام تحديد تلك المرتبة وتعيينها ربما يقال : الوجوب يكون

______________________________________________________

(١) وجه بساطته ـ بناء على أنّه إرادة نفسانيّة ـ هو : كونه حينئذ من الأعراض الّتي هي من البسائط الخارجيّة. وبناء على كونه أمرا اعتباريّا عقلائيّا منتزعا من الإنشاء بداعي البعث والتحريك هو : كون الاعتباريّات أشدّ بساطة من الأعراض ، إذ ليس لها جنس وفصل عقلي أيضا ، بخلاف الأعراض.

(٢) بناء على كونه إرادة نفسانيّة ، لأنّ الوجوب حينئذ من الكيفيّات النفسانيّة المتّصفة بالتأكّد. وقد قيل : إنّ الوجوب والاستحباب مرتبتان من الإرادة متفاوتتان بالشدّة والضعف ، فالوجوب حينئذ مرتبة شديدة من الطلب النفسانيّ.

وأما بناء على كون الوجوب أمرا منتزعا عن مقام إبراز الإرادة ، فلا يكون حينئذ من الطلب النفسانيّ الّذي له مراتب. نعم منشأ انتزاعه ـ وهو الإرادة ـ ذو مراتب باختلاف مراتب الشوق إلى المراد الناشئ من اختلاف الجهات المشوّقة ، لكنّه أجنبيّ عن الأمر المنتزع منها ، فلا يتّصف الوجوب حينئذ بالتأكّد.

(٣) يعني : ليس الوجوب مركّبا من طلبين : أحدهما : طلب الفعل ، والآخر :

طلب عدم تركه ، حتّى تصحّ دعوى الاقتضاء التضمّني المذكور.

(٤) استدراك على البساطة ، وحاصله : أنّ تحديدهم للوجوب بـ «طلب الفعل مع المنع من الترك» ينافي البساطة. ثمّ اعتذر عن تحديدهم له بما هو ظاهر في التركّب بما حاصله : أنّ التحديد المزبور ليس حقيقيّا حتّى ينافي ما ادّعيناه من البساطة ، بل غرضهم تعريف تلك المرتبة الأكيدة من الطلب المسمّاة بالوجوب بلوازمها وخواصّها الّتي منها المنع من الترك. وهذا التحديد أوجب توهّم التركّب ، وكون المنع من الترك جزءا مقوّما للوجوب ، وفصلا منوّعا للطلب. وليس الأمر كما توهّم ، إذ يلزم حينئذ قيام الوجوب بالوجود والعدم ، مع بداهة قيامه بالوجود فقط.

٤٦٠